ملف القصة العراقية : عبد الملك نوري
هذا الملف …
عندما نشرت كتابي الخاص برواد التشكيل الحديث في العراق، عام 1980، وأنا غارق ـ حد الشرود ـ بحقبة لم يعد للعصر (الذهبي) ـ أربعينات القرن الماضي وخمسينياته ـ إلا ان يُدفن، كي تجري سلسلة من (الصدمات)، كل منها اشد أثرا ًمن الأخرى، لا في التأسيس، بل في المحو. كانت ستينيات القرن الماضي فترة تمرد، وعصيان، وتحرر، وإضرابات، وانشطارات، ونزعات تدميرية لم تستقر عند خاتمة حتى يومنا هذا.
فهل كان جيل عبد الملك نوري، ذهبيا ً، مع انه مازال يحمل آثار قرون تركت أثرها عميقا ً في الإنسان، وفي حضارته، وفي مقدمتها: هويته.
وليس لأن الصحافة سمحت لي بالتعرف المباشر على عدد غير قليل من هؤلاء الرواد، أو لانشغالاتي بالمعرفة الموضوعية، ودراسة الظواهر بأسبابها فحسب، بل لأن العدالة ـ ذاتها ـ لا يمكن عزلها عن المجال الجمالي، وبأي كمفهوم من مفاهيمه.
وأنا استعيد الزمن الذي تكوّم لدي ّ، أكاد أدرك لماذا ليس لدينا إلا هذا الولاء للموتى! لدى الشعب، ولدى نخبه أيضا ً. وقد لا تكفي تأملات نصف قرن تجريبية للحديث عن قوانين، أو عن ثوابتها، لكن الآثار التي تراكمت في وادي الرافدين ـ كباقي الحضارات ـ كانت غير غافلة عن: ان مهمات (النخب) السياسية، لابد ان تحافظ على حدودها، مع (الحرية)، كي تأتي النتائج متوازنة في إنتاج الأثر.
الدولة والحرية، وبمعنى آخر: المركز ـ المحيط، وهو الذي لم يسمح لفئة ما ان تعيد تقسيم المجتمع إلى: عبيد وسادة، ضحايا وطغاة.
فهل كان العصر (الذهبي) الذي شهد تكون أساتذة كبار ـ مقارنة بألف عام كاد العراق فيها ان يكون مجهولا ً، وغائبا ً، ولا تاريخيا ً ـ ذهبيا ً حقا ً، كي ينتج ـ في الحقول كافة ـ: من الطب إلى المعمار، ومن التاريخ إلى الآداب، ومن الفكر إلى الفن، ومن اللغة إلى النزعات التقدمية، ومن الصناعات الوطنية إلى النزعة العلمية التجريبية ..الخ، وكأن الدولة (الملكية) قبل ان (تتبخر/ وتسحق) كانت قد أقامت دولة (العدل)..؟!
عبد الملك نوري ـ إلى جانب ريادات في مختلف الحقول ـ كان مراقبا ً أمينا ً للحريات الغائبة، وللفقر، والاستبداد، وللرداءة ..الخ، مما سمح له ان يعتني بالفن، بالتقنيات، كمعادل للرؤى، والبناء كأساس للهدم. فكانت مهمة الرواد، بالدرجة الأولى، الانتقال من زمن (الريادة) ـ كتاريخ ـ إلى زمن: الفن.
والفنان الحديث، عن لم يكن مقيدا ً بحريته، فان (حريته) لن تصبح إلا إرهابا ً!، ليس لأن المباديء العظيمة عليها ان تستبعد مقولة مايكفلي: الغاية تبرر الوسيلة، بل لأن الفنان ـ إن كان حقوقيا ً أو فيزيائيا ً أو مؤرخا ً أو اثاريا ً أو لغويا ً أو تشكيليا ً ..الخ ـ ليس لديه إلا ان يصنع خطابا ً تتوازن فيه الأسئلة بما لا يغلق الدرب، أو ان يصنع أوثانا ً للعبادة، بل حريات تأتي بما لم يدشن بعد، وبما كان مجهولا ً.
وقد يكون مفهوم (التمرد) ـ في يومنا ـ من الماضي، إزاء دماء لطّخت السماء والضمائر، إنما كان عبد الملك نوري، مثل الجيل الذي حمل معّول البناء، لإقامة مبدأ الديمومة، والتواصل، وليس العكس، غذى رهافته بالمعرفة، وغذى ثقافته بالحفر في ايكولوجية الواقع. فالمهمة لم تتوقف عن كتابة (نص)، أو صناعة شهرة، أو الحصول على كل ما هو قيد الغياب، بل مواجهة القدر ـ برمته ـ بالأسئلة ذاتها التي دوّنها كاتب ملحمة (جلجامش): كيف يكون العمل بديلا ً عن الفراغ، ويكون العشق نسقا ً معرفيا ً، ويكون الجمال ضربا ً من التهذيب الذي تعمل به الوراثة كشرط للعبور من الظلمات نحو الانعتاق، ويكون اليقين معادلا ً للوهم، آنذاك يكون الإبداع قد لامس ـ أو اقترب ـ أو غادر قيود اللغة ـ ولكن ليس إلا بها ـ نحو ما يستحق ان يدوّن.
وللمناسبة، لم أجد، لا عند عبد الملك نوري، ولا عند الرواد بصورة عامة، إلا ما يكاد ـ اليوم ـ يشكل نظاما ً للمحو، فقد كان عبد الملك، كفائق حسن، أو طه باقر، أو علي الوردي، أو حقي ألشبلي، أو مدني صالح، أو جواد علي ..الخ، يتمتع بطفولة كافح ان لا يفقدها: براءة حولت (الخامات) إلى قلائد، والغياب إلى حضور.
وهذا الملف ـ هنا ـ إشارة سمح لي موقع (القصة العراقية) بنشرها، ضد تيار يعمل على دفن تقاليدنا، وأعرافنا، وعلاماتنا الإبداعية، كي يأخذ الرائد موقعه في الريادة، والإبداع القصصي العربي الحديث. وكان حواري، وإشارة القاصة ميسلون هادي، وكلمة فؤاد التكرلي، قد نشرت، في ملف خاص، في الصفحات الثقافية لمجلة (ألف باء) البغدادية، عام 1979.
عادل كامل
23/10/2013
****
عبدالملك نوري في سطور :
ـ الولادة: في عام 1921، في مصر وعلى شاطىء قناة السويس.
ـ أكمل دراسته الابتدائية في المأمونية، والمتوسطة في الغربية. وأكمل الدراسة الإعدادية بين بغداد وبيروت.
ـ لم يقبل في الكلية الطبية لهذا درس الحقوق، وتخرج عام 1944 واشتغل مدة 8 سنوات في المحاماة.
ـ سافر إلى باريس، لبنان، تركيا، اليابان، اندنوسيا، براغ، ومدن أخرى ضمن عمله الوظيفي في الدولة.
ـ صدرت له "رسل الإنسانية" عام 1946 و :نشيد الأرض" عام1954 ، الطبعة الثانية عام 1980 . مسرحية " خشب ومخمل" من ثلاثة فصول عام 1972، و"ذيول الخريف" عام 1978 عن دار الشؤون الثقافية العامة. ونشرت اعماله الكاملة، عام 2001ـ بغداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق