كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة 17
بلبل لقلق
أحمد الحلي
اعتاد العراقيون، وربما معهم شعوبٌ أخرى، أن يقرنوا شهر شباط ببعض الظواهر البايلوجية مثل تصاعد وتيرة الشبق لدى القطط . وكذلك ظهور أولى البشائر لانكسار حدة فصل الشتاء .
بيد أن هناك أحداثاً أخرى، أكثر جسامةً وإيلاماً وقسوة ما تزال تعشعش في ذاكرة العراقيين تحديداً حول هذا الشهر، وأعني بها أحداث 8 شباط في العام 1963 الكارثية، والتي سُمّيت عنوةً وقسراً فيما بعد وإبان هيمنة سلطة البعث الفاشية على مقدرات بلادنا في العام 1968 وما تلاه بـ (عروس الثورات)، والتي هي وفق كل مقاييس العدالة والإنسانية أعتى جريمة يمكن أن ترتكب بحق شعب من الشعوب .
يستطرد صديقي خطاط الوحدة العسكرية مستذكراً ؛
"ما زالت أتذكر أنني كنت في تلك الأيام الحالكات طفلاً أدرس في مرحلة الثاني الابتدائي، حين وقعت الواقعة .
وبطبيعة الحال، وبحكم عامل السن، فلم نكن نفقه كثيراً في شؤون السياسة ومجريات ما يحدث، ومع ذلك، ما زال بوسعي أن أتذكر، أننا وبالرغم من أعوامنا الغضة القليلة، أن جميع الناس من حولنا كان ينتابهم قدرٌ كبيرٌ من الكدر والقلق والقهر، وهو ناجم بطبيعة الحال عن تأثيرات الوسط العائلي والمجتمعي الذي كان يحوط بنا، حيث كان غالبية الناس من حولنا متعاطفين بالضرورة ومتضامنين شعورياً ولا شعورياً مع زعيمهم عبد الكريم قاسم، لما كان يمثله في أذهانهم ووجدانهم من فرصة ذهبية للخروج من ربقة الفقر والمرض والجهل .
ما زال بوسعي أن أتذكر أنه كان ثمة تمثال للزعيم الراحل وضعته إدارة المدرسة عند مدخلها، وكان الذي قام بنحته على نفقته الخاصة معلم مادة الرسم ذاته، الذي اعتنى به كثيراً حتى يخرجه إلى النور على شكل تحفة فنية، وحتى بدا وكأنه الزعيم بكل أناقته وأبهته ونضارته، وقد تعوّدنا، نحن التلاميذ على إلقاء التحية على زعيمنا من خلال مصافحة يده الممدودة للمصافحة عند دخولنا إلى المدرسة وكذلك عند خروجنا منها .
ما يزال هذا المشهد يحمل طراوته الحميمية في أعماقي، فعند وقوع الواقعة، كان ثمة إحساس بالخوف والوجل كان ينتابنا كلما مررنا بالقرب من التمثال، كنا نخشى الاقتراب منه وفي قلوبنا حسرة ولوعة، كنا نحاول الاقتراب لتأدية الطقوس التي اعتدناها، بيد أننا كنا نحس أن ثمة أعيناً كان تتربص بنا وتتلصص علينا، كنا نستشعر أن ثمة قوى مغرقة في قسوتها ووحشيتها هي التي باتت تهيمن على كل شئ في البلاد، ويزداد المشهد قسوة وإيلاماً، حين يتم يطلب بعض المعلمين من بعض التلاميذ، بل ويأمرونهم بالبصاق على التمثال في دخولهم إلى المدرسة وخروجهم منها، بل كنا نشاهد قلة قليلة من التلاميذ وقد استهوتهم رعونتهم تحت تأثير وتشجيع بعض المعلمين يبادرون إلى مصافحة يد الزعيم بوضع أصابعهم الوسطى في يد الزعيم، وأخيراً رأينا فرّاش المدرسة وهو يهوي بفأسه على رأس التمثال .
مثلما مازال بوسعي أن أتذكر، أن إدارة المدرسة، كانوا يحذروننا من النطق بالأهزوجة المحببة التي كنا ننطق بها بعد قراءتنا لـجملة (بلبل لقلق) في القراءة الخلدونية، حيث كنا نهتف بعدها مباشرة بجذل، (طاحظ عفلق)، وإذا كانت إدارة المدرسة قد استطاعت حرماننا من أداء فروض الواجب تجاه تمثال زعيمنا، فإن أحداً لم يستطع قط منعنا من الهتاف بعد النطق بـ مفردتيْ، ( بلبل لقلق) بالعبارة التي أصبحت أثيرة لدينا حتى ونحن ندخل في طور الشباب وما بعده وإن كانت شفاهنا تنطق بها بصوت خافت، كان يساورنا إحساسٌ آنذاك أن العبارة موجودة داخل كتاب القراءة نفسها، وبعد أن يئسنا من العثور عليها، سألنا معلمنا إن كانت العبارة موجودة داخل كتابنا المدرسي أم لا، فأخبرنا أنها ليست موجودة في الكتاب، ولكنها بكل تأكيد موجودة داخل قلوبنا وأنفسنا .
مرّت سنواتٌ ثلاث بعد فاجعة الثامن من شباط ، وبينما أنا في الطريق إلى مدرستي وكنت قد صرت الآن في الصف الخامس الابتدائي، رأيت وجوه الناس وقد علاها الانشراح وبدت عليها علائم البهجة ، كنت أخمّن أن شيئاً ما كبيراً قد حدث لم أفهم كنهه ، وجدت بعضاً من الصبية ممن هم أكبر سناً مني يشكلون حلقةً حول أحد رجال الشرطة وهم يهتفون بفرح وجذل، "صعد لحم نزل فحم"، لم يفعل الشرطي شيئاً سوى أنه كان يبتسم مشاركاً فرحتهم .
فهمت بعد ذلك أن طائرة الرئيس عبد السلام، خصم زعيمنا اللدود وأحد أبرز قاتليه قد سقطت به أثناء جولة له في المنطقة الجنوبية . وبعد أن كبرت وأتيح لي أن أفهم وأستعيد تفاصيل ومجريات الأحداث الدراماتيكية التي جرت في البلاد ، ولا سيما مقتل زعيمنا الذي أحببناه ، فتلبّسني ذلك الزمن والوحشي ، ووجدت قلمي يخط فوق الورقة ما يشبه المرثية ؛
النداء الأخير
مثلما يتأهب العاشقُ
للقاء حبيبته
بعد غيابٍ طال
وقف عبد الكريم قاسم
أمام المرآة وقفتَه الأخيرة
كان ضوءُ الغرفة خافتاً جداً
إلا أن ثمة ضوءً ساطعاً
كان يندلع من عمق المرآة
ويغمر الأشياءَ من حوله
أمسك الزعيمُ بماكنةِ الحلاقة
وعلى عجلٍ شرع بحلق لحيته
التي طالتْ أكثرَ مما يجب
تأكد من أن هندامَه
وقيافتَه العسكرية
كانتا على ما يرام
أمسك بجهاز راديو الترانسستر
كما لو كان لو كان
يُمسك بقارورةٍ سحرية
خاطب ثلّة الجنودِ الذين كانوا
يتأهبون لأخذه بثقةٍ واحترام ؛
" هيا يا أبنائي، لنذهب إليهِ ،
بوسعي الآنَ
أن ألتقيه " !
همنجواي في الحلة 17
بلبل لقلق
أحمد الحلي
اعتاد العراقيون، وربما معهم شعوبٌ أخرى، أن يقرنوا شهر شباط ببعض الظواهر البايلوجية مثل تصاعد وتيرة الشبق لدى القطط . وكذلك ظهور أولى البشائر لانكسار حدة فصل الشتاء .
بيد أن هناك أحداثاً أخرى، أكثر جسامةً وإيلاماً وقسوة ما تزال تعشعش في ذاكرة العراقيين تحديداً حول هذا الشهر، وأعني بها أحداث 8 شباط في العام 1963 الكارثية، والتي سُمّيت عنوةً وقسراً فيما بعد وإبان هيمنة سلطة البعث الفاشية على مقدرات بلادنا في العام 1968 وما تلاه بـ (عروس الثورات)، والتي هي وفق كل مقاييس العدالة والإنسانية أعتى جريمة يمكن أن ترتكب بحق شعب من الشعوب .
يستطرد صديقي خطاط الوحدة العسكرية مستذكراً ؛
"ما زالت أتذكر أنني كنت في تلك الأيام الحالكات طفلاً أدرس في مرحلة الثاني الابتدائي، حين وقعت الواقعة .
وبطبيعة الحال، وبحكم عامل السن، فلم نكن نفقه كثيراً في شؤون السياسة ومجريات ما يحدث، ومع ذلك، ما زال بوسعي أن أتذكر، أننا وبالرغم من أعوامنا الغضة القليلة، أن جميع الناس من حولنا كان ينتابهم قدرٌ كبيرٌ من الكدر والقلق والقهر، وهو ناجم بطبيعة الحال عن تأثيرات الوسط العائلي والمجتمعي الذي كان يحوط بنا، حيث كان غالبية الناس من حولنا متعاطفين بالضرورة ومتضامنين شعورياً ولا شعورياً مع زعيمهم عبد الكريم قاسم، لما كان يمثله في أذهانهم ووجدانهم من فرصة ذهبية للخروج من ربقة الفقر والمرض والجهل .
ما زال بوسعي أن أتذكر أنه كان ثمة تمثال للزعيم الراحل وضعته إدارة المدرسة عند مدخلها، وكان الذي قام بنحته على نفقته الخاصة معلم مادة الرسم ذاته، الذي اعتنى به كثيراً حتى يخرجه إلى النور على شكل تحفة فنية، وحتى بدا وكأنه الزعيم بكل أناقته وأبهته ونضارته، وقد تعوّدنا، نحن التلاميذ على إلقاء التحية على زعيمنا من خلال مصافحة يده الممدودة للمصافحة عند دخولنا إلى المدرسة وكذلك عند خروجنا منها .
ما يزال هذا المشهد يحمل طراوته الحميمية في أعماقي، فعند وقوع الواقعة، كان ثمة إحساس بالخوف والوجل كان ينتابنا كلما مررنا بالقرب من التمثال، كنا نخشى الاقتراب منه وفي قلوبنا حسرة ولوعة، كنا نحاول الاقتراب لتأدية الطقوس التي اعتدناها، بيد أننا كنا نحس أن ثمة أعيناً كان تتربص بنا وتتلصص علينا، كنا نستشعر أن ثمة قوى مغرقة في قسوتها ووحشيتها هي التي باتت تهيمن على كل شئ في البلاد، ويزداد المشهد قسوة وإيلاماً، حين يتم يطلب بعض المعلمين من بعض التلاميذ، بل ويأمرونهم بالبصاق على التمثال في دخولهم إلى المدرسة وخروجهم منها، بل كنا نشاهد قلة قليلة من التلاميذ وقد استهوتهم رعونتهم تحت تأثير وتشجيع بعض المعلمين يبادرون إلى مصافحة يد الزعيم بوضع أصابعهم الوسطى في يد الزعيم، وأخيراً رأينا فرّاش المدرسة وهو يهوي بفأسه على رأس التمثال .
مثلما مازال بوسعي أن أتذكر، أن إدارة المدرسة، كانوا يحذروننا من النطق بالأهزوجة المحببة التي كنا ننطق بها بعد قراءتنا لـجملة (بلبل لقلق) في القراءة الخلدونية، حيث كنا نهتف بعدها مباشرة بجذل، (طاحظ عفلق)، وإذا كانت إدارة المدرسة قد استطاعت حرماننا من أداء فروض الواجب تجاه تمثال زعيمنا، فإن أحداً لم يستطع قط منعنا من الهتاف بعد النطق بـ مفردتيْ، ( بلبل لقلق) بالعبارة التي أصبحت أثيرة لدينا حتى ونحن ندخل في طور الشباب وما بعده وإن كانت شفاهنا تنطق بها بصوت خافت، كان يساورنا إحساسٌ آنذاك أن العبارة موجودة داخل كتاب القراءة نفسها، وبعد أن يئسنا من العثور عليها، سألنا معلمنا إن كانت العبارة موجودة داخل كتابنا المدرسي أم لا، فأخبرنا أنها ليست موجودة في الكتاب، ولكنها بكل تأكيد موجودة داخل قلوبنا وأنفسنا .
مرّت سنواتٌ ثلاث بعد فاجعة الثامن من شباط ، وبينما أنا في الطريق إلى مدرستي وكنت قد صرت الآن في الصف الخامس الابتدائي، رأيت وجوه الناس وقد علاها الانشراح وبدت عليها علائم البهجة ، كنت أخمّن أن شيئاً ما كبيراً قد حدث لم أفهم كنهه ، وجدت بعضاً من الصبية ممن هم أكبر سناً مني يشكلون حلقةً حول أحد رجال الشرطة وهم يهتفون بفرح وجذل، "صعد لحم نزل فحم"، لم يفعل الشرطي شيئاً سوى أنه كان يبتسم مشاركاً فرحتهم .
فهمت بعد ذلك أن طائرة الرئيس عبد السلام، خصم زعيمنا اللدود وأحد أبرز قاتليه قد سقطت به أثناء جولة له في المنطقة الجنوبية . وبعد أن كبرت وأتيح لي أن أفهم وأستعيد تفاصيل ومجريات الأحداث الدراماتيكية التي جرت في البلاد ، ولا سيما مقتل زعيمنا الذي أحببناه ، فتلبّسني ذلك الزمن والوحشي ، ووجدت قلمي يخط فوق الورقة ما يشبه المرثية ؛
النداء الأخير
مثلما يتأهب العاشقُ
للقاء حبيبته
بعد غيابٍ طال
وقف عبد الكريم قاسم
أمام المرآة وقفتَه الأخيرة
كان ضوءُ الغرفة خافتاً جداً
إلا أن ثمة ضوءً ساطعاً
كان يندلع من عمق المرآة
ويغمر الأشياءَ من حوله
أمسك الزعيمُ بماكنةِ الحلاقة
وعلى عجلٍ شرع بحلق لحيته
التي طالتْ أكثرَ مما يجب
تأكد من أن هندامَه
وقيافتَه العسكرية
كانتا على ما يرام
أمسك بجهاز راديو الترانسستر
كما لو كان لو كان
يُمسك بقارورةٍ سحرية
خاطب ثلّة الجنودِ الذين كانوا
يتأهبون لأخذه بثقةٍ واحترام ؛
" هيا يا أبنائي، لنذهب إليهِ ،
بوسعي الآنَ
أن ألتقيه " !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق