كتاب في حلقات
أسماء غرائبية/ 18
أحمد الحلي
ثمة حكايات كثيرة رواها له صديقه خطاط الوحدة العسكرية ، الذي يبدو أن
ذاكرته والوقائع الحياتية التي عاشها أو عايشها إبّان فترة الحرب العراقية الإيرانية تشكل منجماً ثميناً من المرويات والهواجس والهموم الشخصية التي قلما يجدها في مكان
آخر ، وهو اعتاد أن يدوّنها على شكل رؤوس أقلام في دفتر صغير ، من بين ما أفضى به إليه في إحدى المرات ؛
"يضطر من يخدم في الجيش ، ولا سيما أثناء قادسية صدام ، إلى التعرّف
والتعايش مع أساليب حياتية لم يألفها من قبل ، بالإضافة إلى ذلك فإنه يرى نفسه ملزماً
بمسايرة أمزجة وعادات وطبائع مختلفة كلياً عما كان يألفه في محيطه الاجتماعي ، يصبح
جميع هؤلاء زملاء وأصدقاء له شاء ذلك أم أبى ، بحكم التواجد اليومي في ذات الملجأ المخصص
للمبيت والسكن وتناول وجبات الطعام ، وقد يصل عدد أفراد الجنود الذين يعيش معهم في ذات المكان إلى حوالي 8 أفراد يُطلق عليهم تسمية
حظيرة ، وبحكم النظام الصارم المعمول به في الجيش ، لا يستطيع أي فرد من هذه الحظيرة
أن يتميز على رفاقه ، مهما يكن يحمل من مؤهلات دراسية أو موهبة ثقافية أو فنية ، فهو
واحد منهم يقوم بتنفيذ المهام الموكلة إليه أسوة بالآخرين ..."
من بين الأمور التي ربما سيتفاجأ
بها هذا الوافد الجديد ، ولا سيما إذا كان قادماً من المدن الكبيرة ، غرابة الأسماء
التي يحملها بعض المراتب ، وفي أحدى المراحل أتيح له أن يتعرّف على شخص قادم من الأهوار
اسمه "عفن" ، وقيل له أن له أخٌ أكبر منه سناً يخدم في وحدة عسكرية أخرى
اسمه " تبن" .
في إحدى المرات جاء إلى وحدتهم منقولاً من وحدة أخرى شخص اسمه "
مجيد عبد الواحد سمير" ، وقد اعتاد هذا الشخص أن يتبختر مزهوّاً أمام الجنود مدِلّاً
باسمه ولا سيما اسم جده " سمير" حين تتم المناداة عليه في ساحة العرضات على
الرغم من أنه كان قادماً من منطقة نائية في أهوار الجبايش ، وبالإضافة إلى ذلك فقد
كانت سحنته وهيئته والطريقة الفجة التي يتحدث
بها لا تسوّغ أن يكون جدّه حاملاً لهذا الاسم الذي يتضمن شيئاً من الحداثة ، في أحد المرات طلب مساعد الوحدة على عجلٍ أن يمثل مجيد أمامه ،
وحين حضر ، قال له بحدة ، فقط أسالك سؤالاً
واحداً ، وعليك أن تجيبني إجابة صريحة وإلا فسوف يكون مصيرك السجن ؛ هل أن اسم جدَّك
هو سمير أم سْمير ( بميم مفخّمة) ؟؟ طأطأ مجيد رأسه وقد أسقط في يده ، قال ؛ نعم سيدي
إن اسم جدي هو سْمير ... فلم يجرؤ على التبجح بعد ذلك أبداً .
......................
عادت به غرائبية أسماء بعض الجنود ، التي حدثه عنها صديقه إلى واقعة غريبة من ذات النوع حدثت في الحي الشعبي الذي نزل فيه
هو وعائلته الصغيرة مستأجراً بعد هروبه من بغداد ومكائدها إبان فترة الستينات ، فعلى
مقربة من بيتهم العتيق كان ثمة امرأة وزوجها الطاعنان في السن يعيشون في بيت فسيح ينم عن ثراء ونعمة ، وشاء القدر أن لا يرزقهما الله
من الأبناء سوى بابن واحد بعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً على زواجهما ، ومن الطبيعي
أن يعيش هذا الابن مدللاً ، ولاسيما وأن أباه كان ميسور الحال وكذلك أمه وأخواله ، ونما الطفل الذي أسمياه "حمزة" تيمناً
باسم الإمام الذي دأبا على التبرّك بزيارته
في كل أسبوع متضرّعين إليه بأن يهبهما ولداً .
نشأ الصبي الذي كان يتمتع ببنية بدنية رائقة ؛ بشرة بيضاء وعينان زرقاوان
أخذهما من أمه
في بحبوحة قل نظيرها بين أقرانه ، ولاسيما في ذات المنطقة التي تتسم حياة
غالبية قاطنيها بالفقر والعوز ، كان الأب والأم يُحسان بنوازع الحسد والغيرة في عيون
الآباء وكذلك الصبية الذين لم يسمح لهم بالالتقاء
بابنهم إلا في بعض أوقات نادرة .
كان الأب والأم يساورهما قلق كبير بشأن تأخر ابنهما في النطق ، ويوماً
بعد يوم اكتشفا أنه يصعب عليه كثيراً تشكيل جمل مفيدة ، وواظبا على الذهاب إلى
"الحمزة" الذي اتخذاه عرّاباً لابنهما
، وكانا يحرصان في كل زيارة على أن يشتريا خروفاً ويقدماه نذراً لإمامهما ... إلا أنهما
ما لبثا أن أصيبا باليأس والقنوط ، ذلك أن ابنهما لم تتحسن حاله ، بل أنه غالباً ما
كان يصاب بنوبات من الصرع والهلع ، فيأخذ بالصراخ والعويل وينتفض جسده ، وعند ذاك أزجى بعضهم النصيحة للأبوين منكودي الطالع بأن يسمحا
للصبي بأن يقيم بعض الصداقات مع أقرانه من صبيان الحي ، وأن يتم ذلك تحت رعايتهما ،
إلا أن وضع حمزة لم يصب شيئاً من التحسن
في إحدى المرات قدم إلى الحي شخصٌ قيل إنه يجيد قراءة الطالع وكشف المستور
، وقد اعتاد الناس على إطلاق تسمية " فتّاح الفال" على هذا الشخص ، قرر الأبوان
أنها فرصة لا تعوّض لكي يدلو بدلوه ويخبرهما
عن علة ابنهما ، وبعد أن أجرى عليه كشوفاته المعتادة وهو يحوطه بدخان أنواع نادرة من
البخور التي تتطاير من مبخرة فضية يحملها متمتماً
بأدعية وطلاسم لم يسمعا بها من قبل ، وفي نهاية المطاف ، تهلل وجهه وأشرق وأخبرهما
أنه وقع على علّة ابنهما وأن بعض الجن أطلعوه على سبب معاناته وبالتالي معاناتهما ،
تهلل وجه الأبوين بشراً وسروراً وهما يريان أن سفينتهما المنهكة التي تتقاذفها الأمواج
العاتية توشك على الرسو في بر الأمان ، لم يشأ فتّاح الفأل أن يخبر الأبوين في بادئ
الأمر ، وظل يماطل ويسوّف ، وأخيراً علم الأبوان أنه يريد منهما أن ينفحاه مبلغاً طائلاً
من المال حتى يخبرهما بما توصل إليه ، وأخيراً جلبا إليه المال ، فتهلل وجهه وأخبرهما
أن زعيماً من الجن المنسوب إلى إحدى قبائل الجن الموكلة بأسماء البشر تطوّع بإخباره
بأن هناك خطأً فادحاً في اسم ابنهما ، وأنه من أجل أن تجري الأمور على ما يرام بالنسبة
لهذه العائلة فإنه ينبغي لهم أن يقوموا بتغيير اسمه .
شكر الأبوان فتّاح الفال الطيّب وهو يُطلعهما على هذا السر الذي لم يشأ
أحدٌ في السابق أن يفكر فيه ، إلا أنهما توسّلا
إليه أن يتصل بمصدره من أجل أن يعطيهما الاسم البديل ، فطلب منهما أن يتركاه وحيداً
مع ابنهما ومبخرته ، ووقفا إلى جانب الباب يصغيان إلى ولولته وأدعيته ، وأخيراً دعاهما
إلى الدخول وقد أشرق وجهه كرة أخرى ، قال من الآن فصاعداً يتوجب على الجميع أن يأخذوا
بمناداته بـ" صادق" وأن يكفوا عن مناداته بـ " حمزة" ...
وتمر الأيام وتتلوها السنوات ، وحمزة أو صادق لم يزل مرمياً في ذات الحفرة
التي وجد نفسه فيها ، بل وازداد وضعه سوءاً ، وأخيراً وجد نفسه واحداً من نزلاء مستشفى
الشماعية ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق