فیزیاء الجسد و ایقاعه في مسرح مایرهۆڵد
د.فاضل سوداني: يعد كتاب د. فاضل
الجاف (فيزياء الجسد.... مايرهولد ومسرح الحركة والإيقاع) من الكتب المتميزة التي
لا تنقل تجربة وإبداع واحد من أهم المخرجين الروس في القرن العشرين فيسوفولد
مايرهود (1874 ـ 1940) بشكل حرفي، وإنما تطمح إلى تقديم هذه التجربة ممزوجة بوعي
معاصر وبحث مبدع للمؤلف الذي هو مخرج وباحث درس هذه التجربة عن قرب.
انه كتاب يساير التوهج الإبداعي
والموت التراجيدي في أقبية الدكتاتورية الستالينية لفنان ومفكر ومبدع أثر منهجه
المسرحي (البيوميكانيكا) في عمل الممثل في المسرح العالمي عموما. ومازال التأثير
حتى اليوم وخاصة أفكاره وتجاربه في المسرح الشرطي ومفهومه عن المسرح الشعبي، وكذلك
البنائية والمفهوم الجديد للميزانتسين وميتافيزيقيا الفضاء المسرحي ونظريته حول
الجسد وإمكانياته الإبداعية الهائلة. و لهذا فان هذا الكتاب لا يتناول
المايرهولدية من الناحية النظرية فقط وإنما من الناحية التطبيقية والعملية.
وبالتأكيد فان هكذا كتب تحتاجها المكتبة العربية الغاصة بنقل الأفكار النظرية من
مصادرها حرفيا بدون إمعان الفكر بها.
ونتيجة لأهمية مفاهيم مايرهولد فان
تأثير البيوميكانيكا كمنهج معاصر لعمل الممثل لا يكمل منهج ستانسلافسكي الذي يعتبر
من أهم المناهج في المسرح الواقعي فحسب بل يوازيه في القيمة الفنية والفكرية
والجمالية مع النظر إلى الاختلافات الجوهرية بين المنهجين، فإذا كان الممثل لدى
ستانسلافسكي يبدأ تحليله وعمله في خلق الشخصية التي يمثلها من المشاعر والأحاسيس
الداخلية، فان الممثل لدى مايرهولد يبدأ من الحركة وإيقاعها للوصول إلى المشاعر
الداخلية.
وكتاب د. الجاف (وهي أطروحة
للدكتوراه قدمت إلى أكاديمية سان بطرسبورج لفن المسرح) هو من الدراسات الموثقة
الأكثر أهمية وشمولية في بحث فكر مايرهولد المسرحي في مكتبة النشر العربي، لأنه
يعالج منهج هذا المخرج والمربي والمنظـّر بهذه الدقة والموضوعية، ليس فقط من خلال
أهميته وتأثيره في المسرح الروسي وخاصة بعد الثورة أي منذ بدايات القرن العشرين(كما
جاء في القسم الأول من الكتاب)، وإنما دراسته أيضا لكيفية فهم الباحثين الأوربيين
لمنهج مايرهولد والتدريب على تطبيقه في المسرح الأوربي والغربي عموما (كما في
القسم الثاني) .
فكانت العديد من الدراسات أو
الترجمات عن مايرهولد التي تنقل إلى العربية تغفل أهم ما في جوهر المايرهولدية
واعني جانبها التدريبي والعملي والتطبيقي، مما خلق لدينا تراثاً نظرياً أحادي
الجانب، ودائرة مسرحية ومعرفية محصورة بستانسلافسكي ومنهجه الواقعي ـ النفسي، حيث
كانت هذه الترجمات تحذف الجانب العملي وتقتصر على الجانب النظري، مما يخلق نقصا في
التعرف على أي ظاهرة وعدم التكامل المعرفي بها.
إن منهج مايرهولد من وجهة نظر
الدراسات الغربية (والتي لم تكن في متناول رجل المسرح العربي)، تعد نقطة جوهرية،
فقد بذل د.الجاف جهودا واضحة في البحث في الدراسات والتطبيقات العملية التي قام
بها أجانب ناطقين بالانكليزية، أولئك الذين اهتموا بمايرهولد ومنهجه بحثا وترجمة
منذ سبعينات القرن الماضي ، ولكن الجاف يحدثنا بأن اهتمام الأوربيين بمايرهولد بدا
منذ عشرينات القرن الماضي كما سنرى بعد ذلك.
ومن اجل أن يقدم الجاف دراسة شمولية
عن مايرهولد فقد تطرق إلى نشأته وحياته وتطور مسرحه حتى مقتله التراجيدي، ومن ثم
تأثير أفكاره في المسرح المعاصر.
فالمؤلف يكتب عن ذلك الولع المبكر
لدى مايرهولد بالموسيقى حتى كاد أن يصبح موسيقيا كما يصرح هو ذاته، ولكن هذا
الاهتمام يعد من ضرورات ثقافة الفنان ورجل المسرح. وموهبة مايرهولد الشاب حتمت
ترشيحه للعمل في فرقة موسكو الفني بعد تأسيسها مباشرة وهذا طبعا هو اعتراف بقدراته
الفنية أبان دراسته للمسرح كما يؤكد أستاذه نميروفتش دانجنكو.
ولكن وجود مايرهولد لمدة أربعة سنوات
في هذه الفرقة وتعرفه على المنهج الطبيعي ومفهوم ستانسلافسكي ودانجنكو للمنهج
الواقعي في المسرح ، وما كان يملكه من أفكار جديدة أدى الى الخلاف بينه وبين
أساتذته. ولكن هذه السنوات منحته إمكانية تعلم الجوهري في المسرح من ستانلافسكي
وتشيخوف، فقد تعلم من الأول الأداء على خشبة المسرح، ومن الثاني فهم العلاقة بين
الحياة والفن، وتعلم منه أيضا الاقتصاد والمهارة في التعبير على خشبة المسرح واعني
الأسلبة والتكثيف. وبتأثير تشيخوف يعود الفضل إلى مايرهولد في تخليص المسرح الروسي
والمسرح العالمي المعاصر، من ثرثرة المنهج الطبيعي والواقعي وتقنياتهما الخانقة.
فالأسلبة ـ التكثيف والوسائل الأخرى
هي وسائل تمنح حركة وعمل الممثل وعلاقته بالفضاء، تأويلا جديدا غير موجودا في النص
أصلا مما يخلق تمايزا وغنى في الفكر الإخراجي، خاصة عندما تتكثف كل مكونات الأسلوب
والأدوات الإبداعية من سينغرافيا وممثل وغيرها لتأول الفضاء من جديد .
وعندما تطور عمل مايرهولد وتجاربه في
المسرح وخاصة بعد ثورة اكتو بر، واكتشف منهجه الذي يمكن أن نطلق عليه بالمنهج
المايرهولدي،كان دائما لا يجد الوقت الكافي لتحقيق جميع أفكاره التجريبية الغنية
سواء أثناء عمله في مسارح الإمبراطورية سابقا أو مسارح الدولة بعد الثورة أو حتى
في مسرحه الخاص.
البيوميكانيك منهج مايرهولدي معاصر
وتعتبر سنوات العشرينات أهم مرحلة في
حياة وأعمال مايرهولد نتيجة لفسحة الحرية التي منحتها الثورة مما أدى إلى بلورة
منهجه(البيوميكانيك) لتطوير أداء الممثل ونضوج أسلوب البنائية في العرض المسرحي.
وقد طرح مايرهولد من خلال منهج
البيوميكانيك ، ما اسماه بممثل المستقبل كمصطلح لتدريب الممثل وإعداده. وقد تحدث
د. الجاف بالتفصيل عن تطور هذا المنهج منذ تجارب مايرهولد الأولى حتى تبلور منهج
البيوميكانيك وعلاقته بالبنائية والغروتسك مستخدما الكثير من المصادر المتنوعة
لإغناء منهجه كالسيرك، الميوزك هول، الجمناستيك، المسرح الصيني والياباني القديم،
وكذلك العلوم كالتايلرية وخاصة في مجال الحركة والإنتاجية وأهميتها في اقتصاد
الحركة في المسرح ونظرية الانفعالات لعالم النفس وليم جيمس وأفكار بافلوف في
الانفعالات الشرطية مما اوجد الكثير من الأساليب والتمارين المهمة لتدريب الممثل.
واستخدام المنهج بهذا الغنى يحمل
الممثل على الإحساس أوتوماتيكيا بالانفعالات الداخلية، وما يفرضه المنهج في تغير
حركة جسمه بشكل متواصل وتقسيمها إلى حركات صغيرة، يخلق العلاقة بين قدرات الممثل
الجسمانية وأحاسيسه الداخلية. فمنهج البيوميكانيك يكّون المبادئ الأساسية للأداء
التحليلي الدقيق لكل حركة، والتفريق بين الحركات بهدف الوصول إلى الدقة النموذجية.
انه منهج يمتلك الآلية للوصول إلى شعرية الأداء وتطوير القدرات الإبداعية المتنوعة
للممثل.
وبالتأكيد فإن هذا يؤدي إلى تحقيق
التمسرح أو المسرحة في عمل الممثل ووظيفة المتفرج أي إخضاع كل شئ على المسرح إلى
قوانين اللعب المسرحي. فالمسرحة قائمة على الشرطية التي تفرض مبدع رابع هو
المتفرج، والتي تجعله لا ينسى بأنه أمام مسرح وممثلين يمثلون أدوارهم، وتجعل
الممثل يتذكر دائما بأنه واقف على خشبة المسرح وأمام جمهور.
إن هذا المنهج أدى إلى استخدام أشكال
مسرحية أدائية مختلفة كالبانتوميم ومهارة الحركة وغيرها، وكذلك أدى إلى إمكانية
دمج القدرة البدنية بالقدرة الذهنية للممثل واستخدام قواعد الفن التشكيلي الحديث
في العرض المسرحي والسينغرافيا،وهذه نقاط جوهرية أولاها الباحث ما يكفي من الشرح
والإتيان بالأمثلة العملية.
لقد بنى مايرهولد منهجه وعلم ممثليه
بأنهم لا يحتاجون ألإنفعلات في البداية إذ ينبغي توفر الحركة الصحيحة أولا وعندها
يأتي الانفعال والإحساس الدقيق. ومن هذا المنطلق فان مايرهولد يعتبر كل شئ على
المسرح عبارة عن حركة ولكن ليست تلك الحركة المجرة والتجريدية كما يفعل الكثير من
المخرجين غير المتمكنين من أدواتهم الإخراجية، وإنما بالنسبة إلى مايرهولد فان
الانفعالات والكلمات ما هي إلا حركة وهذا هو جوهر البيوميكانيك.
وقد أعطى المؤلف د.الجاف الكثير من
التعريفات للبيوميكانيك والغروتسك وأغنى كتابه بالكثير من التمارين وأفكار
المايرهولدية في أسس المنهج وجذوره وذلك من خلال استعراض ما قام به مايرهولد في
ورشات عمله مع الممثل مما خلق ايتودات (تمارين)معروفة عالميا ومنسوبة إلى مايرهولد،
وقد ثبت هذا صحة المنهج الدراسي للبيوميكانيك والذي نفهم من خلال الكتاب بأنه منهج
جديد للتمثيل والرؤيا الإخراجية باختلاف جذري عن المدرستين الطبيعية
والسايكولوجية، ومازال هذا المنهج يستخدم حتى الآن في مسارح العالم.
إن اعتماد مايرهولد على الغروتسك
وإحياءه من التراث القديم هدفه إغناء لغة الممثل، فالغروتسك عند مايرهولد يعني
الكشف عن ازدواجية الظاهرة، وكذلك الكشف عن بشاعتها وسخفها، لأنه يربط بين
المأساوي والساخر ويمزج بين الواعي والخيالي ويكشف عن النواقص الأخرى. وإدراك هذه
الظاهرة وتحليلها بهذه الدقة يؤدي إلى تعميق المعنى الحقيقي لها وارتباطها بالواقع
والحياة عموما.
ويؤكد المؤلف في كتابه استنادا إلى
المراجع والدراسات الموثقة ببطلان الاعتقاد بأن الغروتسك يعني التباين والتناقض
فقط، إذ أن في الغروتسك يوجد هنالك صراع بين الشكل والمضمون، وعدم الترابط الظاهري
هو نتيجة لأسباب كثير ة. ولهذا فان مايرهولد يعد مخرج غروتسكي يؤمن بان المسرح هو
غروتسك.. و يؤكد دائما بأنه عندما يوجد الغروتسك في الفن المسرحي وفي صراع الشكل
والمضمون يتغلب الأول وعندها تغدو روح المسرح بمثابة روح الغروتسك.
أما أفكار مايرهولد في البنائية فلا
يمكن أن تكون متكاملة بدون تعاون مجموعة من فناني السينوغراف المجددين مما خلق
تنوعا في الأفكار والتجارب واكتشاف المجالات الجديدة لفضاء المسرح وساعد (هذا
التنوع من خلال الديكور والأزياء على تأكيد حقيقة هي، إذا كان ستانسلافسكي قد سعى
لإظهار الحقيقة على المسرح، فان مايرهولد كان مؤمننا بالمسرح كفن بحد ذاته).
وكان الهدف هو إيجاد مسرح جديد يمهد
للانتقال من الطبيعية التي كان ستانسلافسكي يؤسسها إلى الرمزية وخاصة عندما اخرج
مايرهولد مسرحيات مترلنك، أندرييف، بلوك، سولوغوب وهوفمان. ويعتبر مايرهولد الأول
من الذين عملوا على تحقيق المسرح الرمزي في روسيا، وأفكاره أسست أهم الإنجازات
التي تحققت في مجال سينوغرافيا الفضاء الذي تحول من فضاء مسطح إلى فضاء غني
بالممثل الجديد والرموز البنائية الأخرى.
فمايرهولد اكتشف بان الميزانتسين
الطبيعي والواقعي الذي كان يُؤسس في مسرح موسكو الفني بإشراف ستانسلافسكي، غير
مفيد ولا يتناسب مع التحولات الثورية الجديدة في روسيا، ولهذا فانه اعتمد على
فناني السينغراف الجدد،لأنهم بعملهم يقومون بتشكيل العالم من جديد مما ساعد مايرهولد
تقديم عروض مع ممثله الجديد إضافة إلى أغناء فهمه لمبدأ (المسرحة)الواعية المبنية
على الزمان (الإيقاع) والمكان(الميزانتسين).
وقد ساعد مايرهولد استخدامه
للميزانتسين كجزء من أغناء الخطة الإخراجية التي تصبح أكثر وضوحا عند إعطاء أهمية
للضوء كعنصر يغني الميزانتسين، ولهذا تعتبر البنائية اليوم من أهم اكتشافات المسرح
الروسي آنذاك ويعود الفضل إلى مايرهولد. وهذا ما تؤكده عروضه الشهيرة في هذه
الفترة مثل : موت تراكلين، الغابة، الانتداب والمفتش العام،البقة وحمامات الدم.
لكن منذ بداية الثلاثينيات بدأت الستالينية تنظر إلى منهجه في البيوميكانيك على
انه تطرف خاطئ من مايرهولد.
مايرهولد وبرشت
يعتبر مايرهولد هو المخرج الذي وضع
الأرضية الأولى للمسرح السياسي والتحريضي وذلك في عروضه، الفجر، وهبت الأرض،
مستيريا بوف و(د.ي) وغيرها، وهو بهذا قد سبق برشت وبيسكاتور
. حيث أن أفكاره التي سبقت عصره سبقت
أيضا برتولد برشت في طرح مفهوم التغريب في المسرح، أي في عدم اندماج الممثل
بالشخصية وإنما تغريبها وخلق مسافة بينه (الممثل) والدور، من اجل الوصول إلى
المسرحة وبعد ذلك التغريب.
لقد بحث الكثير من الدارسين أهمية
أفكار مايرهولد في تشكيل أسس المسرح السياسي التي اعتمدها كل من بيسكاتور وبرشت
كمصادر لهم وهذا ما تؤكده الباحثة كاترين بليس إيتون بان برشت اخذ الكثير من
المصادر في تكوين مسرحه وخاصة من أفكار مايرهولد ، الذي هو بالذات اكتشف تلك الطرق
والوسائل التي نعزوها اليوم الى بيسكاتور و برشت .
وقد أدى اهتمام برشت بالمسرح الروسي
والسوفيتي، آن يضيف الكثير من مكتشفات مايرهولد ومفرداته الفنية إلى مسرحه الملحمي
والتغريب الذي اشتهر به بدون أن يكون نقلا فوتوغرافيا وإنما عمد إلى تمثلها
واستيعابها ، ومن هنا فان مايرهولد يسبق برشت بعشرة سنوات في هذه التجربة، التي
أكدت على طرق جديدة أسلبت التجربة المسرحية العالمية وخلصت المسرح من الكثير من
الغثاثة والثرثرة الفنية.
وهنالك ملاحظة مهمة يوردها المؤلف عن
ثورية مايرهولد الفنية التي شكلت قلقا وإزعاجا لبيروقراطي الحزب وذلك من كون أن
الثورة انتهت باستلام السلطة من قبل الشيوعيين، ولكن بعد ذلك بدأت تصفية المنادين
بالديمقراطية، ولابد أن تزعجهم أيضا أفكار مايرهولد وتوجهاته الفنية لجذب جماهير
إلى المسرح عبر تقديم عروض شعبية تتناول همومهم الأساسية وخاصة أبان مرحلة عروضه
السياسية، إضافة إلى أن مايرهولد كانت له القدرة على التأثير على الجمهور وعلى
عموم العاملين في المسرح الثوري ـ اليساري آنذاك .
العين الصفراء السرية لستالين
ونتيجة لغنى وتنوع أفكاره كان يحول
أي نص كلاسيكي إلى عرض تجريبي متفرد. من هنا جاء حقد معاصريه عليه لدرجة العمل
وبشكل حثيث لدفع ستالين للتخلص منه بتهم ستالينية مضحكة وجاهزة (كالعمالة للأجنبي،
التجسس لليابان وبريطانيا ولتوانيا والتعاون مع تروتسكي) واتهامات أخرى حاقدة كونه
فنان رمزي أو مثالي وان مسرحه لا ينسجم مع الثورة.... والحقيقة عكس هذا تماما حيث
عندما كانت تقام حفلتهم لقتله، كان الجمهور يتزاحم لحضور عرضه المسرحي (الحفلة
التنكرية) بعد أن عرضت 500 مرة، لأن أفكاره الطليعية تنسجم مع طليعية الثورة آنذاك
وتهم الناس حتى الشعبيين منهم.
إن الفكر الآديولوجي الخانق دائما
يقف بوجه أصحاب الفكر والإبداع الحر كما هو مايرهولد، فكلما كان يبدأ مشروعا مهما
يؤسس فيه فكراً إخراجيا جديداً، كانت توضع أمامه العوائق والعراقيل، لذا فان
مايرهولد دائما يرى نفسه عاطلا عن العمل في مجتمع اشتراكي .
إذن كل هذا لابد أن يقلق أصحاب
القرار الذين أصبحت الديمقراطية عدوهم، وأصبح مايرهولد بعروضه الثورية المتجاوزة
لحاضرها والعابرة الى رؤيا مستقبلية واحد من أعدائهم أيضا.
وبعد اتهام مايرهولد، الغي تراثه
وعروضه المسرحية (التي كانت مستمرة أثناء ذلك). وأغلق مسرحه في 1938 بالرغم من إن
الضغط الشديد على الفنان بدأ منذ عام 1927، وحورب بشدة بعد أن فرضت الستالينية ما
يسمى بالواقعية الاشتراكية كمنهج موحد مفروض على جميع العاملين في المسرح والإبداع
الأدبي والفني.
وعندما حدجته العين السرية لجلاوزة
مخابرات ستالين ووضعته في شبكيتها، لم ينقذ مايرهولد حتى اعترافه بأخطائه ونكرانه
لأعماله العظيمة واعتبارها أخطاء في الفكر ولا تنسجم مع المرحلة الستالينية، وطالب
بما يشبه العطف المذل في السماح له ولأيزنشتاين وشستاكوفيتش(كانوا من الملعونين
أيضا) في مواصلة أعمالهم من اجل تصحيح أخطائهم في المستقبل، وكل هذا أعلنه
مايرهولد في خطبته (كانت كمؤامرة و شرك له) التي ألقاها في مؤتمر المخرجين في
موسكو.
وعندما اعتقل دافعت عنه زوجته
الممثلة زينادا رايخ بكتابة رسالة معنونة إلى ستالين، ولكن رده كان سريعا حيث
دخلوا عليها فقطعوا جسدها بسبعة عشر طعنة سكين، أما شقة مايرهولد فقد استولى عليها
رئس المخابرات بيريا ليقضي فيها لياليه الحمراء مع عشيقاته.وحرمّت أفكار مايرهولد
وحتى ذكر اسمه قرابة نصف قرن عن الذاكرة المسرحية. مع الأسف هذه هي الظروف التي
عمل فيها مخرج عظيم مثل مايرهولد، أما الغرب وأوربا فإنهم كانوا يعدونه مخرج
المستقبل لذا أعطوا أهمية خاصة لدراسة تجاربه.
مايرهولد والغرب
والقيمة المهمة التي سجلها الكتاب هو
أن المؤلف استعرض آراء الباحثين الغربيين المختصين بالمسرح الروسي بعد الثورة
وخاصة مسرح مايرهولد، إضافة إلى آراء أعداءه فيه أيضا.
ومجموع الدراسات والبحوث القديمة
والحديثة هذه تمتلك أهميتها الآن لأنها سهلت الطريق العملي أمام المنهج
المايرهولدي في المسارح الأوربية، والميزة الأساسية لهؤلاء الباحثين، أنهم كانوا
يبحثون تراث مايرهولد وأهميته ضمن تطور العملية المسرحية في العالم، حيث يستلهم الباحث
كارتر من البيوميكانيكا المايرهولدية التأكيد على القضايا المهمة التي يمنحها
المنهج الجديد كتمايز النوعية الجديدة للممثل، أي أداءه لنظام جديد بما فيها تطور
أساليب جديدة، ومنح المسرح فضاء آت جديدة، وتنفيذ مسرحي له تأثيره على الممثلين و
الجمهور.
وهو يقيم مايرهولد على أنه لم يؤسس
مسرحا جديدا فحسب،وإنما أيضا جمهورا مسرحيا جديدا من خلال توحيده بين المصادر
الكلاسيكية للماضي وربطها مع الوعي الجديد للناس .
وقد اهتمت الجامعات الأمريكية
والبريطانية بتراث مايرهولد بشكل كبير حيث ترجم ادوارد براون كتاب (مايرهولد.. في
المسرح)،
أما بول شميدت فكتب كتابه (مايرهولد
أثناء العمل) وركز اهتمامه فيه على عمل مايرهولد بعد الثورة. وقد اصدر جيمس سيمونس
كتابه
(مايرهولد مسرح الغروتسك) وتناول فيه
مسيرة مايرهولد الختامية ونضاله ومعاناته مع الستالينية. أما براون فقد أكد في
كتابه (مسرح مايرهولد ثورة على المسرح الحديث) بان مايرهولد فهم الغروتسك كتعبير
لفلسفة الإنسان المعاصر. ويعرض لنا براون أيضا في كتابه (المخرج والمسرح) الصادر
في 1982 أهمية دور مايرهولد ومكانته بين مخرجي المسرح المعاصر مركزا على أعمال
مايرهولد في مرحلة المسرح السياسي.
فكما يوصف مايرهولد بأنه كان يحارب
الجهل الفني بوضعه أسس جديدة لعمل الممثل وتقديم قيم جمالية للمتفرج، إلا أنه في
ذات الوقت كان عليه أن يتحاشى الملاحقة العلنية من قبل رجالات الحزب والمخابرات
ويحافظ على حياته من الحزبيين الجهلة والفنانين الحاقدين.
ولهذا فان المؤلف د. فاضل الجاف في
كتابه هذا أعطى صورة كاملة لأفكار ومنهج ودواخل ومصير مايرهولد، الإنسان والفنان و
المخرج، إضافة إلى أنه أعطى صورة تاريخية عن حركة وظروف المسرح السوفيتي مابين
1917 وحتى مقتلة مايرهولد في 1940 . وكانت هنالك مساحة كافية وضرورية لشرح
المفردات التي يقوم عليها منهج مايرهولد مثل الغروتسك والبنائية والبيوميكانيكا
وغيرها، والشئ الأكثر أهمية في الكتاب هو تقديم منهج مايرهولد وكذلك البحوث و
التطبيقات العملية والتدريبية المعاصرة على المنهج. ومن ثم البحوث التي تناولت
تأثير مسرح وأفكار مايرهولد في مسرحنا العالمي المعاصر، فأفرد المؤلف ملاحق وضح
فيها أسس البيوميكانيك وكيفية التدريب واللإستفادة منه وخاصة في تجارب مسرح الأودن
ليوجين باربا في الدنمرك و مسرح شهرزاد السويدي، أو التطرق إلى تلك الحوارات عن
تجربة الباحث الانكليزي روبرت ليتش وعلاقته بالمايرهولدية واعتبار البيوميكانيك
كمنهج لإعداد الممثل و العرض المسرحي، فهو يعتبر مسرح مايرهولد جوهر المسرح
الحقيقي المعاصر.
fasoudani6@hotmail.com
ــــــــــ
د. فاضل الجاف، فيزياء الجسد
(مايرهولد... ومسرح الحركة
والإيقاع) إصدارات دائرة الثقافة
والإعلام ـ الشارقة 2006
مصدر المقال: جریدە ایلاف العدد:
٤٥٧٧
٠٢.١٢.٢٠١٣
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق