جواد سليم
في واحد من الإصدارات الفنية اللافتة
عادل كامل يثير أسئلة متجددة ويقدم سردا تاريخيا وفنيا جديدا لنصب الحرية
خليل جليل*
اذا كانت هناك إصدارات من الممكن ان تستعرض لها على نحو سريع وتقدم لها تحليلات نقدية سواء كانت فنية او أدبية او ثقافية تبقى هناك إصدارات أخرى ليس من الممكن ان نتوقف عندها سريعا او نقدم لها بشكل عابر نظرا لما تتميز به هذه الإصدارات من قيم مضمونية لافتة الغاية منها ابراز اوجه ما زالت مختفية عن رؤية النقاد والكتاب خصوصا انها اذا كانت مثيرة للتساؤلات المتجددة ومحفزة لقراءات لاحقة وهذا ما وجدناه في الكتاب الفخم والباذخ للناقد التشكيلي والكاتب اللامع عادل كامل وهو يعزز ويثري مشروعا يسهم في استعادة بصمات فنية متميزة في تاريخ الحركة الفنية التشكيلية في العراق عبر كتابه الجديد الذي حمل عنونا هو الآخر مثيرا للنقاش ويفتح الباب امام سلسلة من الأسئلة والإجابات "نصب الحرية لجواد سليم..ملحمة شعب وذاكرة حضارة".
ومن المعروف ان هذا المشروع الاستعادي الفني الرصين ويأتي هذا الكتاب واحدا من عناوينه المهمة والحيوية يكاد يكون مشروعا وطنيا مهما آثر صناعه للتصدي له بعد ان غاب عن اهتمامات المؤسسات الثقافية
ومما يزيد من اهمية المنجز الجديد لهذا المشروع الفخم انه يتصل بواحد من رموز الحركة التشكيلية العراقية وأحد روادها وبأهم منجز ابداعي له ...انه الفنان التشكيلي الراحل جواد سليم المولود 1921 والمتحدر من عائلة عرفت الفن التشكيلي وارتبطت به عبر اسماء راسخة وقدمت اصغر فنان يحصل على جائزة فضية بعمر 11 سنة بمشاركته في اول معرض للفنون يقام في بغداد عام 1931 عن عمل نحتي شارك به في هذا المعرض وكان ذلك دافعا لكي يكمل دراسته في روما وباريس قبل ان يعمل مدرسا لمادة النحت في معهد الفنون الجميلة في بغداد اثر عودته الى العراق ليواصل رحلة فنية ناضجة وبليغة لكنها توقفت عند عام 1961 انتهت بوفاته أثناء اشتغاله في إقامة نصب الحرية نتيجة نوبة قلبية داهمته أثناء العمل بسبب جسامته والارهاق لكبير الذي تعرض له.
ابتدا الناقد عادل كامل الذي ذاع صيته كاتبا للقصة والنصوص الأدبية والنقديات الفنية التشكيلية منجزه الجديد عن نصب الحرية ورمزيته الوطنية والتاريخية باستهلال تاريخي وفني لهذا العمل اللافت بأيحاءاته المنفردة عبر رؤية فنية تميز بها جواد سليم وانعكاسات وعيه على مساحات ذلك الامتداد الأفقي للنصب ورموزه المنتشرة عليه وعناصره المتقاربة والمتشاركة برمزية الحياة مثلما اشار كامل وكلها تتمحور حول عناصر الحياة المتوهجة فوضعها على هيئة قرص الشمس الى جانب والمقاتل والمرأة والمشعل وغير ذلك من التفاصيل الفنية الاخرى التي تندرج ضمن مفهوم البناء الفني المتواصل بنسقه وتفسيراته وهي تنمو من جزء لآخر حتى تكتمل حدود الحكاية الفنية لعمل عملاق هذه الحكاية التي تتفتح عليها عيون العراقيين صباح كل يوم .
يقول الناقد التشكيلي كامل في مستهل محور خصص كما في عنوانه" ذاكرة النصب" ان كانت تجارب نيازي مولوي بغدادي وهو أقدم مؤلف ونساج دشن مقدمات للفن الحديث في العراق خارج دائرة الاهتمام والأضواء إلا إنها كانت وليدة تحولات سمحت للفنان ان يرتقي بالحرفة الى نحو الفن والفن نحو المجتمع المعرفي وبالذاكرة او الموروث نحو العصر ليؤلف في ما بعد بين الحس اللغوي و التشكيلي وبالتالي ان هذه الريادة وجدت لدى الفنان جواد سليم انموذجها
ويضيف كامل لا مناص من ان جواد سليم عاش زمن نشوء دولة مستقلة بمعنى عاش تدشينات وتحولات شملت الحياة العراقية واخذ يوظف رموزها في عمل فخم مثل نصب الحرية تتداخل فيه الرموز العراقية
المستلهمة من الواقع الحياتي مع العودة إلى الحياة الرافدينية وأشكالها التاريخية
وفي محور آخر من هذا الكتاب الممتع والشائق بأسلوبية الناقد عادل كامل والذي نجح فيه بتأجيج الذاكرة لمراجعة هذا العمل وكأننا نكتشف في هذه القراءة ما هو جديد، يقول كامل في محور" تمرين في الرؤية" الفنان جواد سليم صاغ طريقة ونموذجا خاصا في الرؤية يتمثل بوجود اشتراطية للحرية والعدالة اللتان تشترطا بأن لا تجعل الإنسان معاقبا ومما يبرز في شكل الرؤية للعمل هو ذلك الوعي الممتد والمتكامل للفنان سليم وهو يعي ويدرك أهمية فنية يحقق فيها علاقة مستديمة بين النصب والأجيال التي تمر عليه وهذا يعكس حقيقة واقعية تتمثل بالموهبة الاستثنائية التي تمتع بها سليم وقدرته بالحصول على حلول يصل حلالها إلى منجز فني إبداعي راقي.
وفي هذه الرؤية مثلما يقدمها الكاتب ، نجد التصاعد الملحمي لتفاصيل النصب عبر الرموز التي انتقاها سليم وجعلها مكملة لبعضها البعض فالمرأة والفلاح والجندي والشمس والنهر والعامل كلها رمزيات حياتية تكتمل جميعها بدورة واحدة وكأن النصب يمثل تفكيرا دائما بالحرية لدى الفنان ذاته والحث على مواجهة الاستعباد
"الجذور والتواصل"
لعل أهم محطة أو محور توقف عندها الناقد البارع عادل كامل كانت في الفصل الأول من كتابه تلك التي جاءت تحت عنوان" الجذور والتواصل" اذ حاول ان يقدم أدلة وتفسيرات فنية وتاريخية استند عليها تؤكد مجددا بان هذا العمل الملحمي يبقى يخبئ الكثير من الأسرار ويثير الكثير من الجدل والمناقشة على الرغم من مرور ما يقارب أكثر من نصف قرن على إقامة هذا النصب العملاق ...فعلى الرغم من مرور هذه الحقبة الزمنية فان النصب ما زال يثير الكثير من الأسئلة التي تبحث عن إجابات تفضي إلى أسئلة متلاحقة جديرة بالمناقشة مثلما يرى ذلك هذا الفصل الممتع من الكتاب وهو يتحدث عن نصب مفتوح امام الرؤية باستمرار تصافحه عيون العراقيين يوميا لتتواصل معه وفق جذور فنية وتاريخية رافدينية تنبه اليها الفنان وكرسها في عمله الفخم وهو خلاصة ما يمكن ان يطلق عليه بفن الشعب الذي يرصد ادق التفاصيل الحياتية مما دفع بالفنان جواد سليم ليستحضر كل اشكال الفنون التي كانت تعكس علاقة الانسان بالنظام الذي يحيط به سواء كان غطاؤه سياسيا او اقتصاديا مستفيدا في تنفيذ ذلك من الحداثات الفنية الاوربية التي كانت حافزا له في خوض تجربة او مغامرة فنية تحمل بسببها الكثير ودفع ثمنا باهضا لذلك بوفاته مبكرا اثر انتكاسات صحية رافقته ، فالحرية التي اراد ان يبحث عنها سليم ويكرسها في منجزه الملحمي ليست الا ارادة عمل وارادة بناء تقترب او تتشابه من التنمية البشرية بالمعنى السائد اليوم لا سيما وان هذا النصب استمد ديناميته من هذه التنمية والا لم نجد تلك القراءات المتجددة لهذا العمل التي تذكر بقراءات سابقة تبقي على علاقة مستديمة بين العمل والمتلقي والاخير بالطبع يحفر يوميا بمكونات واجزاء النصب
ومثلما كان للجندي او المقاتل دور بارز في صياغة مفاهيم الحرية والعهد الجديد للدولة العراقية بعد ثورة 1958 ونحن نرى ذلك الدور في احد أجزاء نصب الحرية فان الفنان جواد سليم لم يغفل حقيقة أخرى لا تقل أهمية وهو يقدم المرأة ومشعلها الذي تحمله يقدمها عنوانا مهما اخر من عناوين ورموز الحرية وهذا الاهتمام يأتي في سياق نزعة الفنان في التركيز والاهتمام بعوالم الطفولة والمرأة تلك العوالم والحكايات التي نجدها في الكثير من أعماله إلا انه أعطاها هنا في هذا النصب تأثيرا بليغا وسمح للتعرف على مفاهيم انسانية متدفقة تضطلع بها المراة العراقية فقدمها جزءا أساسيا في أعماله ونصوصه الإبداعية ورمزيات خصب الحياة ليستند بذلك الكاتب والناقد عادل كامل في تقديم كتابه الجديد على مجمل هذه الاشتراطات مثلما يتوقف عندها ويتصدى لها وهو يتحدث عن معادلات فنية متوازنة تبدا من أول جزء إلى آخر جزء من هذا العمل
فإذا كان الفنان جواد سليم وضع المقاتل العراقي في قلب عمله الذي يمتد لمسافة أكثر من خمسين مترا فانه لا يريد ان يقول ان هذا الجندي وحده صاغ ملامح الحرية والخلاص من الاضطهاد حسب ما كان يتصور ذلك إلا انه وضع المرأة بجانبه مانحا إياها دورا رئيسيا في تحقيق تلك الملامح أي انه حاول ان يجرد نصه من اي مضمون سياسي فنجد المرأة ترفع رأسها مع يديها مبتهجة بمشاركتها في صناعة الحدث اي حدث الحرية وهناك امرأة تحمل مشعلا يرمز إلى مساهمتها في صناعة هذه الحرية وامرأة أخرى تنهض وأخرى متكورة تحتضن وليدها وهكذا أصبحت المرأة طرفا مهما في مثل هذا المشهد الملحمي وهذا هو فهم الفنان جواد سليم سواء لعلاقة المرأة بالحياة بل صار هذا الجانب من أهم ركائز تجاربه التي نجد فيها المرأة تارة رمزا للبؤس وتارة أخرى رمزية للابتهاجية الحياتية وقدمها واحدة من رواد الثورات الى جانب الفلاح والطالب والمقاتل والعامل
قراءات مهمة
وإذا كان كتاب الناقد عادل كامل وما قدمه فيه من استعادة لقراءة نصب الحرية من زوايا عديدة قد شكل أهمية استثنائية متجددة فان القراءات التي خصصها لنخبة من نقاد الفن التشكيلي وفنانين تشكيليين وشهاداتهم التي تضمنها هذا الكتاب فأنها ارتقت إلى الأهمية ذاتها وهم يتحدثون عن القيم الفنية والبصرية والتاريخية فكانت هناك قراءة للناقد جبرا إبراهيم جبرا وشاكر حسن والأخير قدم قراءته في كتاب حمل عنوان "جواد سليم الفنان والآخرون" وبالطبع تحدث حسن في كتابه عن تشفيرات نصب الحرية والجوانب المعمارية والنحتية بينما نجد في قراءة اخرى تلخيصا حيويا وبليغا لنصب الحرية عندما يرى الاخرون ان واقعية النصب لخصت احد قوانينها التي تشير الى ان الظلمات لن تدوم طالما هناك توق للحرية والحياة فهذا التوق يشكل ارادة الانسان فالنصب في الأخير ليس معالجة لعلامات دونت مسارها عميقا في ذاكرة الاجيال بدءا بجيل ثورة 14 تموز 1958 فحسب بل ذاكرة تدون مصيرها طالما ان إرادة الشعوب تمتلك قدرتها على قهر عوامل القهر وهذه هي فلسفة الفنان وتفسيراته التي ضمها النصب المتكون من 14 مجموعة برونزية وكل واحدة فيها عدة شخوص تنتشر على مساحة تمتد لأكثر من خمسين مترا في افريز يرتفع عن الأرض مسافة ثمانية أمتار"وثائق وشهادات"كرس الناقد عادل كامل الفصل الثاني لكتابه الممتع والرائع (نصب الحرية لجواد سليم ملحمة شعب وذاكرة حضارة ) لسلسلة من الشهادات والوثائق لعدد من النقاد والفنانين التشكيلين الذين قدموا أفكارا ورؤى فنية حول هذا النصب وما يشكله من علامة مهمة في تاريخ الحركة الفنية التشكيلية في العراق ومساراتها بكونه واحدا من الأعمال اللافتة لواحد من رواد الفن التشكيلي العراقي لكل جزء فيه من أجزائه موضوع لكنها جميعا تميزت بالمحافظة على مضمون وهدفية مشتركة حتى أصبح هذا النصب رمزا لمدينة مكتظة بصفحات الأزمنة والتاريخ أراد الفنان ان يضعها مرة واحدة في هذا الامتداد الأفقي الذي يقترب من الأسطورية ومن تلك الشهادات التي تعود لجبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف وشاكر حسن آل سعيد وإسماعيل الشيخلي وشمس الدين فارس ومحمد صادق رحيم وعدنان المبارك وتيسير عبد الجبار الآلوسي وخالد القصاب وعادل ناجي وشوقي الموسوي و لابد ان نتوقف هنا عند واحدة من أهم الخطوات الفنية التي اخذ أصحابها على عاتقهم مهمة التذكير بمسيرة الفن التشكيلي العراقي والمحافظة على مسارات حركاته واستعادة المنجز الإبداعي لرموز الحركة الفنية التشكيلية العراقية ..تلك الخطوات المتمثلة بسعي دار الأديب للطباعة والنشر التي صدر عنها هذا الكتاب وقبله العشرات من الكتب الفخمة والرائعة تتناول مشوار عدد من الفنانين التشكيليين وما تركوه من بصمات وارث فني جميل متواصل كل جزء من أجزاء النصب له موضوع مستقل لكنها جميعا تميزت بالمحافظة على مضمون وهدفية مشتركة ليصبح هذا النصب رمزية لمدينة مكتظة بصفحات الازمنة والتاريخ اراد الفنان ان يضعها مرة واحدة في هذا الامتداد الأفقي الذي يقترب من الأسطورية
*كاتب وإعلامي من العراق
* صدر الكتاب عن دار الأديب للطباعة والنشر ـ عمان ـ الاردن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق