عملاق آخر تفقده البصرة
كاظم فنجان الحمامي
في اليابان يكرمون العلماء وهم في عنفوان شبابهم، وفي أمريكا يكرمونهم في ربيع العمر، وفي أوربا قبيل إحالتهم إلى التقاعد، وفي البلدان العربية يكرمون العلماء الموتى فقط. أما عندنا في العراق فلن ينالوا التكريم حتى لو سجلوا أعلى الانجازات، وربما يحمدون الله ويشكرونه لو توفرت لهم أدنى ظروف الأمن والأمان والعيش بسلام في خضم هذه التقلبات العنيفة التي عصفت بالعراق منذ عام 1914 وحتى عام 2014.
رحل عنا عملاق من عمالقة الرافدين، وعلمً من أعلام البصرة. هو الأستاذ الدكتور خلف الربيعي. من دون أن تتحدث عنه فضائياتنا المئوية، ولا إذاعاتنا المحلية ولا صحفنا الوطنية. انتقل بهدوء إلى جوار ربه في السابع من أيلول الماضي عن عمر يناهز 84 سنة، بعد رحلة أكاديمية شاقة امتدت لأكثر من خمسين عاماً في مجال التعليم العالي، وفي تأسيس وإدارة متحف التاريخ الطبيعي في البصرة. لم يزره أثناء مرضه إلا عدد قليل من طلابه النجباء. أما الجامعة التي أفنى فيها عمره فلم يتكرم رئيسها ولا عمداؤها بزيارته.
يتمتع العلماء والأساتذة في العالم المتحضر بضمانات صحية واجتماعية تفوق الخيال. أما في العراق فما أن يُحالون إلى التقاعد حتى يكون النسيان من نصيبهم. شأنهم شأن أي مبدع رفع أشرعته في بحار الفنون والآداب. دائماً ما ينتهي بهم قطار العمر في المحطات المهملة، حيث يقفون في الصفوف الأخيرة بينما يقف الفاسدون والغشاشون والوصوليون والمزورون والمشعوذون في الطليعة.
أمضى الراحل سنوات خدمته في قسم علوم الحياة بجامعة البصرة. أسس مختبر الفقريات. نال لقب الأستاذية عام 1992. يُعد من أشهر أساتذة الفقريات في جامعة البصرة. برع بتدريس مادتي التشريح المقارن والحبليات. مارس البحث العلمي في علم الطيور. لكنه كان أول باحث عربي يكتشف ستة أنواع من الحيتان والدلافين في الخليج العربي. أشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه. أسس مجلة المتحف باللغة الانجليزية، والتي بادلها مع حوالي (300) ثلاثمائة معهد ومتحف وجامعة في العالم. أسس محطة دراسات الأهوار في الشافي. مثل العراق في مؤتمرات الطيور المهاجرة في الهند والأمارات واسكتلندة، ومؤتمرات المتاحف الطبيعية العالمية في كوبنهاكن ولينينغراد.
كان رحمه الله عضوا في جمعية الحيتان والدولفينات العالمية (مقرها كندا)، وعضواً في منظمة المتاحف العالمية، وعضواً في المنظمة الإفروأوربية للطيور المائية المهاجرة، وعضواً في جمعية البط البري المهدد بالانقراض (مقرها شتراسبورك)، وعضواً في جمعية خبراء دراسة أنواع البط (مقرها هولندا)، وعضواً في جمعية خبراء دراسة الغزلان العالمية (مقرها سان ديكو).
كان مولعا بفن التحنيط منذ صباه. تعمق في فنون هذه الهواية النادرة حتى أصبح مؤهلا للمشاركة بالمعرض الوطني الذي أقامته وزارة المعارف في بغداد، فأبدى الوزير إعجابه بمحنطاته، وأرسله للالتحاق بإحدى دورات التحنيط في ألمانيا الغربية لمدة سنة. حقق تفوقاً أذهل الألمان أنفسهم، فوجهوا الدعوة لوزير المعارف العراقي لزيارة المعرض الذي أقامه (خلف الربيعي) في ألمانيا عام 1956، فنال أعجاب الوزير الذي وافق على بقاءه في ألمانيا لإكمال دراسته الأولية والعليا.
تفوق (خلف) في تعلم اللغة الألمانية ودراسة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه بمدة زمنية مختزلة. عاد حاملا الدكتوراه في الفقريات عام 1964، وما أن وصل إلى العراق حتى شرع بتأسيس متحف التاريخ الطبيعي عام 1970، وباشر بجمع الأسماك والزواحف والقنافذ والغزلان والأرانب والطيور المائية والبرية من الصحاري والأهوار والأنهار. كان يمضي أوقاته في البحث عن الحيوانات النادرة في هور (الحويزة) ومناطق (الشيب) و(الطيب) بمساعدة أشقائه (الأستاذ سلمان والدكتور داود)، وبمساعدة طلابه الأمناء. نذكر منهم: فاضل الجبوري ونجاح عبود حسين اللذان أكملا دراستهما فيما بعد، فأصبح الأول رئيساً لجامعة بابل وملحقاً ثقافياً في استراليا. بينما حصل الثاني على مرتبة الأستاذية وكان مديراً متميزاً لمركز علوم البحار. ومن طلابه أيضاً الدكتور سلمان داود الذي ترأس جامعة البصرة، فضلا عن الموظفين التقنيين الذين عملوا معه في المتحف كالفنان (عبد الرضا بتّور)، والفنان عبد الأحد الرسام.
يموت المبدعون والمخلصون غرباء في وطني من دون أن يرثيهم أحد، ومن دون أن ينالوا أبسط استحقاقاتهم في الرعاية والعناية. لم يكن رحيل الأستاذ الدكتور (خلف الربيعي) استثناءً بل جاءت نهايته ككل النهايات التي آل إليها غيره من المبدعين الكبار. رحل هذا العالم الكبير بصمت وفي قلبه ألف غصة من تنكر دولته ومسؤوليها لكل ما قدمه لوطنه الذي أفنى حياته رهن إشارته وفي خدمته.
كاظم فنجان الحمامي
في اليابان يكرمون العلماء وهم في عنفوان شبابهم، وفي أمريكا يكرمونهم في ربيع العمر، وفي أوربا قبيل إحالتهم إلى التقاعد، وفي البلدان العربية يكرمون العلماء الموتى فقط. أما عندنا في العراق فلن ينالوا التكريم حتى لو سجلوا أعلى الانجازات، وربما يحمدون الله ويشكرونه لو توفرت لهم أدنى ظروف الأمن والأمان والعيش بسلام في خضم هذه التقلبات العنيفة التي عصفت بالعراق منذ عام 1914 وحتى عام 2014.
رحل عنا عملاق من عمالقة الرافدين، وعلمً من أعلام البصرة. هو الأستاذ الدكتور خلف الربيعي. من دون أن تتحدث عنه فضائياتنا المئوية، ولا إذاعاتنا المحلية ولا صحفنا الوطنية. انتقل بهدوء إلى جوار ربه في السابع من أيلول الماضي عن عمر يناهز 84 سنة، بعد رحلة أكاديمية شاقة امتدت لأكثر من خمسين عاماً في مجال التعليم العالي، وفي تأسيس وإدارة متحف التاريخ الطبيعي في البصرة. لم يزره أثناء مرضه إلا عدد قليل من طلابه النجباء. أما الجامعة التي أفنى فيها عمره فلم يتكرم رئيسها ولا عمداؤها بزيارته.
يتمتع العلماء والأساتذة في العالم المتحضر بضمانات صحية واجتماعية تفوق الخيال. أما في العراق فما أن يُحالون إلى التقاعد حتى يكون النسيان من نصيبهم. شأنهم شأن أي مبدع رفع أشرعته في بحار الفنون والآداب. دائماً ما ينتهي بهم قطار العمر في المحطات المهملة، حيث يقفون في الصفوف الأخيرة بينما يقف الفاسدون والغشاشون والوصوليون والمزورون والمشعوذون في الطليعة.
أمضى الراحل سنوات خدمته في قسم علوم الحياة بجامعة البصرة. أسس مختبر الفقريات. نال لقب الأستاذية عام 1992. يُعد من أشهر أساتذة الفقريات في جامعة البصرة. برع بتدريس مادتي التشريح المقارن والحبليات. مارس البحث العلمي في علم الطيور. لكنه كان أول باحث عربي يكتشف ستة أنواع من الحيتان والدلافين في الخليج العربي. أشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه. أسس مجلة المتحف باللغة الانجليزية، والتي بادلها مع حوالي (300) ثلاثمائة معهد ومتحف وجامعة في العالم. أسس محطة دراسات الأهوار في الشافي. مثل العراق في مؤتمرات الطيور المهاجرة في الهند والأمارات واسكتلندة، ومؤتمرات المتاحف الطبيعية العالمية في كوبنهاكن ولينينغراد.
كان رحمه الله عضوا في جمعية الحيتان والدولفينات العالمية (مقرها كندا)، وعضواً في منظمة المتاحف العالمية، وعضواً في المنظمة الإفروأوربية للطيور المائية المهاجرة، وعضواً في جمعية البط البري المهدد بالانقراض (مقرها شتراسبورك)، وعضواً في جمعية خبراء دراسة أنواع البط (مقرها هولندا)، وعضواً في جمعية خبراء دراسة الغزلان العالمية (مقرها سان ديكو).
كان مولعا بفن التحنيط منذ صباه. تعمق في فنون هذه الهواية النادرة حتى أصبح مؤهلا للمشاركة بالمعرض الوطني الذي أقامته وزارة المعارف في بغداد، فأبدى الوزير إعجابه بمحنطاته، وأرسله للالتحاق بإحدى دورات التحنيط في ألمانيا الغربية لمدة سنة. حقق تفوقاً أذهل الألمان أنفسهم، فوجهوا الدعوة لوزير المعارف العراقي لزيارة المعرض الذي أقامه (خلف الربيعي) في ألمانيا عام 1956، فنال أعجاب الوزير الذي وافق على بقاءه في ألمانيا لإكمال دراسته الأولية والعليا.
تفوق (خلف) في تعلم اللغة الألمانية ودراسة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه بمدة زمنية مختزلة. عاد حاملا الدكتوراه في الفقريات عام 1964، وما أن وصل إلى العراق حتى شرع بتأسيس متحف التاريخ الطبيعي عام 1970، وباشر بجمع الأسماك والزواحف والقنافذ والغزلان والأرانب والطيور المائية والبرية من الصحاري والأهوار والأنهار. كان يمضي أوقاته في البحث عن الحيوانات النادرة في هور (الحويزة) ومناطق (الشيب) و(الطيب) بمساعدة أشقائه (الأستاذ سلمان والدكتور داود)، وبمساعدة طلابه الأمناء. نذكر منهم: فاضل الجبوري ونجاح عبود حسين اللذان أكملا دراستهما فيما بعد، فأصبح الأول رئيساً لجامعة بابل وملحقاً ثقافياً في استراليا. بينما حصل الثاني على مرتبة الأستاذية وكان مديراً متميزاً لمركز علوم البحار. ومن طلابه أيضاً الدكتور سلمان داود الذي ترأس جامعة البصرة، فضلا عن الموظفين التقنيين الذين عملوا معه في المتحف كالفنان (عبد الرضا بتّور)، والفنان عبد الأحد الرسام.
يموت المبدعون والمخلصون غرباء في وطني من دون أن يرثيهم أحد، ومن دون أن ينالوا أبسط استحقاقاتهم في الرعاية والعناية. لم يكن رحيل الأستاذ الدكتور (خلف الربيعي) استثناءً بل جاءت نهايته ككل النهايات التي آل إليها غيره من المبدعين الكبار. رحل هذا العالم الكبير بصمت وفي قلبه ألف غصة من تنكر دولته ومسؤوليها لكل ما قدمه لوطنه الذي أفنى حياته رهن إشارته وفي خدمته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق