بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 7 نوفمبر 2014

في تجربة شوقي الموسوي من النذور إلى الغبار-عادل كامل

في تجربة شوقي الموسوي  
من النذور إلى الغبار
عادل كامل

[1] رؤوس    
     لا تخفي عناية الفنان بأكثر العلامات رمزية، واقصد بها (الرأس)، ومدى تجّذرها، وعمقها في الزمن. فثمة انشغالات اكتسبت العلامات فيها كل ما توارى من استجابة وتحديات، لا للعالم المحيطي أو الخارجي، بمختلف تحدياته فحسب، بل للإنسان ذاته بصفته أكثرها إشكالية.
   فالرأس ـ هنا ـ ليس محض علامة صورية، مرئية، أو وحدة تشكيلية معزولة عن باقي العلامات، بل توغلا ً في تفكيك آليات الإشكالية، ذاتها: إشكالية الاستجابة لوجود أصبح في مواجهة المجهول.
    ومع ان الذاكرة حفظت أقدم آثار هذا التصادم، أي وجود الإنسان، في صراعه مع الضواري، والظلام، وعوامل الطبيعة، من ناحية، وفي صراعه حد الموت مع الإنسان، من ناحية ثانية، بضربات مميتة في الجمجمة، في قرى ترجع إلى مليون عام مضى، فان (الرأس) مكث العلامة المشفرة بملغزات مقاومة الغياب.
    على ان تاريخ الإنسان المحفور، المنقوش، والمرسوم، حافظ على مشهد الصراع كإرادة استجابت لتخطي عوامل الفناء ـ والزوال. فالرأس كان بذاته مظهرا ً ومحركا ً، شكلا ً ودينامية، مرئيا ً ومخفيا ً ..الخ، لهذا المسرح الذي لم يترك نصرا ً كالذي تمثل في الأشياء، كممتلكات معرفية، رمزيا ً في الأقل.
   هذه (الرؤوس) عمليا ً وليدة قرن عشناه لم يشهد وضوحا ً كهذا في التحدي، فمنذ تم تفكيك الإمبراطورية العثمانية، إلى أجزاء، والأجزاء إلى جزئيات، ووحدات منفصلة بعضها عن البعض الآخر، مازال مشهد استهداف (الوعي) مقترنا ً بصراعات اكبر، وأكثر تعقيدا ً، والتباسا ً، وتمويها ً، تارة يأخذ القناع دوره فيها، أي الانشغالات التمويهية بمعانيها الرمزية، وبتحكم القوة فيها تارة أخرى. ولعل ذاكرتنا الحديثة لم تغفل تلال (الرؤوس) التي كومت في مناطق المواجهة، وتحديدا ً في بغداد، في ساحة الميدان الحالية، عند باب المعظم، وهي إشارة لعقود تالية راح ضحيتها (الوعي) في مواجهة التحديات.
     هذه الرؤوس ليست شهادات مرئية بحدود استهداف الإنسان، أو تستعيد الحفر في قرون حصدت آلاف الأرواح فيها، في مناطق شاسعة من العراق فحسب، بل ما تخلفه من دور للمشفرات كإنذارات اختارت الرأس جينا ً مرئيا ً لها.
     إنها تذهب ابعد من معناها، أو تأويلنا له، كوثيقة، أو اثر، وابعد من ان تتوخى جماليات خالصة، في عصر الموت الذي بلغت نهايته ـ وفاتحته ـ بتحول الروح ذاتها إلى سلعة، بحسب هيغل، تمنح الفن مكانة تعيد للغائب ـ عبر انتهاك حضوره ـ استجابة لذات المشفرات التي ما انفكت تعلن عن استجابة لحياة لا ينتهك فيها الوعي، كوجود قائم على الحرية، وليس على المحو.
    هذه الرؤوس إذا ً تعبر من فعل (الموت) نحو تخوم عالم نجهل ما ستؤول إليه نتائج التصادم، إنما، ليس لدى الفنان إلا ان لا يغيب، من غير آثار تجعل المستقبل اقل انتسابا ً للمحو، والغياب. فالأثر هنا مازال محمّلا ً بالمشفرات ذاتها التي لم تُدفن مع أقدم ضحايا العنف، بل بالتي مازالت تبدو كشاخص لرؤوس عنيدة في مواجهة الغياب.
[2] الفجوات: منطق التناثر
    يمتد الأثر من الأرض إلى النص الفني، ليحافظ على الفراغ: عودة الرسم إلى الأرض. انه استرجاع شارد، إنما لم يخف نسقه، للدفن الأول. الانشغال بما حدث: الولادة ـ ومن ثم صدمة الغياب. عمليا ً، صدمة الغائب. إنها قراءة سمحت للاوعيه بالتحرر من الوعي. فإذا كان مهرجان الرسم في العراق، منذ نصف قرن مضى، قد وجد في التجريد ممرات إلى الاحتفال، ومظاهر البذخ، فان عددا ً من التجارب، ستختار عزلتها: عزلة الرسام، ولكن ليس عزلة الرسم.
     فالدفن القديم، وان كتم مبرراته، فانه لم يلغ امتداد نظامه القادم: إن لم تُدفن البذرة، فإنها لن تورق، ولن تنبت. انه النظام ذاته سيلقن دروسه للإنسان: وضع صخرة فوق القلب، وبجواره مجموعة من الأواني، والورود، وأحيانا ً نعثر على قلائد، وخرز، وأساور، إن كان الراحل امرأة. إنها الومضة البكر للفلسفة: هل من حياة بعد الموت ..؟ لأن حدود المنطق لم تسمح بالحديث ابعد من الدورة، ومسافتها: بمعنى ان شرط الموت يكمن في نفيه، وهو ما سيأخذ أسسه في المعتقدات، لا للامساك بالغياب، بل للعثور على حل يوازي واقعية الحدث، وامتداداته. فالتكرار سيرسخ مبدأ ان المسافة (الفجوة) بين المرئيات وما بعدها، ستشّيد أقدم خشبة لأداء الأدوار: المسرح. ذلك لأن ما يحدث ليس هو إلا إعادة تمثيل، تقمص، ونظام التشبث بالغائب ـ وبغيابه ـ عندما تصبح حدود الإشكالية كامنة فيها.
      وعلى خلاف الاتجاهات غير الرمزية، وغير التعبيرية، وغير التشخيصية أساسا ً، في الرسم العراقي، محاكاة للإشكال في قطيعتها مع الأصل ـ ومع ما تعنيه أو تحاول ان تمثله. فالتجريد ـ بتحولاته كافة ـ غدا امتدادا ً لتيارات لا تسرد، ولا ترسخ، وإنما تمر، تعبر، لتغيب. على العكس من هذا وجد الفنان انه إزاء انشغال فرض حضوره: الموت. فتاريخ العراق الحديث ـ بعد 1958 ـ مشحون به، حتى ان ما سيغدو (إرثا ً) راح ينتقل، كوراثة، عبر الأجيال، تاريخا ً للمحو ـ وفي الوقت نفسه، تشبثا ً عنيدا ً بنفيه.
    ولم يغب عن وعي شوقي الموسوي هذا التاريخ، المروي أو المعاش، كي يدرك ان هناك من غادر المسرح، كي ينجو، ولكن كي يرى المشهد عن بعد، وثمة من مكث يقاوم غيابه، وهو في عمق المغطس.
    تجارب في الرسم، وفي الكتابة، لم يعزلها عن المشهد، الواقعي، والذي أصبح، في سنوات الصدمة، يوميا ً. ولأن برنامجه الشخصي توخى ان يمتد من (النائي) أو (اللامرئي) نحو الظاهرة، فانه، عبر الرسم، سيجد نفسه إزاء أسئلة لا تخص الرسم، ولا تخصه  ـ هو ـ كفنان، بل ستقلب المقدمات إلى نهايات، والأخيرة إلى مشاهد موجعة.
    وتحديدا ًن لم يتحايل الرسام في صياغة تصاميم إعلانية للحدث. انه سيترك الرسم يعيد بناء أجزاءه كما كانت الجثث تترك لأيام في العراء لا تجد حتى من يدفنها. إنها نذور العقم، وغير منفصلة عن الأرض اليباب، وتاريخ الغبار، والرماد، وعن سعادات لا وجود لها. موتى يتساءلون أيحدث هذا فعلا ً، بينما ملامحهم وكأنها تخبرنا، كما في قصيدة للشاعر حامد الراوي:
" ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت"*
    فالتاريخ ـ هنا ـ ليس قيد الكتابة، بل قيد التناثر، والمحو. فإذا كان الإنسان قد استمد من الواقع فعل الدفن، ورتّب مشاهده، بأي تصوّر من التصوّرات، فان التاريخ الحديث ـ القائم على آليات فن التدمير ـ غير معني بالدلالة، والمعاني، ولا برموزهما.
    إن شوقي الموسوي، لا يزخرف (الجسد)، ولا يجعل منه إعلانا ً، بل ولا حتى استغاثة، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد قراءته كواقعة تاريخية، قائمة على العنف، من منظور يحافظ فيه على كل ما لم يُدفن، ويتوارى ـ في الماضي ـ فيه، بل كواقعة مازالت في عنفوانها: رؤوس لا علاقة لها بفعل الموت ـ لا واقعيا ً ولا رمزيا ًـ لأنها مازالت تمتلك حضورها الغائب.  فهل غدا الحاضر مرآة وحدها هي التي تكتم استبصاراتها، فينا، وليس العكس، عندما كانت المرآة تدشينا ً لتاريخ اكتشاف الإنسان لنفسه.
    الفنان، هنا، لا يرسم، ولا يؤدي دور الرسام، وإنما الصدمة لم تسمح له إلا ان يعيد القراءة: رؤوس تركت غيابها حاضرا ً، كما بنزول (ديموزي) إلى عالم الموت، ولكنه لم يغب فيه ـ كما في السرد السومري ـ وإنما ليفتتح تاريخ المراثي بعمقها الفلسفي: ما لم يبلغ الحدث النذر فلن يعبر من الظلمات إلى النور، أو يغادر قاع العدم نحو الوجود. لكن الأجساد ـ الرؤوس ـ تحكي رواية تخص زمنا ً لم يعد فيه الإنسان إلا معادلة في حسابات الربح، فلا هو مات كفداء، ولا راح ضحية لقضية، بل وجد نفسه ميتا ًـ ليس لأجل موته، أو ليكون جزءا ً من المشهد، بل كي يصبح إشارة مغايرة لتاريخ وجوده ـ ومصيره معا ً.  فهو لم يعد فائضا ً في نهاية المطاف، بل عتمة من غير إنارة. فالرسام لا يذكرنا بعبثية (الحروب) و (الفتن) و (اللامعقول) الذي طالما ترك أثره في تاريخ الفنون الجميلة، البصرية، بل ما هو بدرجة تجعل الرؤوس تحكي ديمومة غيابها، حيث الموت يتساوى مع الصفر، استذكارا ً لمغزاه كعدم ممتد، وليس دفنا ً لاستكمال الدورة: واقعية الولادة، ورمزيتها.
    وهنا يكون الرسم قد أعاد دورته، في المشهد؛ التقاط ما تناثر في (المرآة) ـمن  الأرض إلى النص الفني ـ ليمنح الفجوة، مرة ثانية، حضورها. فالتشخيص ليس منهجا ً تم استهلاكه، بل تدشينا ً لقراءة تمنح المتلقي سلسلة من الصدمات، استكمالا ً للاستيقاظ، وليس استمتاعا ً لا مباليا ً بالغائبين، أو بالغياب.

* حامد الراوي [هوامش كحل] مجموعة شعرية. دار ميزوبوتاميا ـ بغداد 2013 ص48


[3] الإنسان ـ وأطيافه
    في كرة القدم، بصفتها رياضة شعبية، يصعب إجراء تحول أو تجديد في أسلوب اللعب، ما لم تكن النتائج، معزز بالأهداف! انه العمل وفق النظام ذاته القديم: مقاومة الغياب. ففي الغابة، أو في عالم معاصر تعداد سكانه سبعة مليارات إنسان، لن تُستحدث (المثل) أنساقها ما لم تكن على حساب الطرف الآخر، أيا ً كان هذا الخاسر، ان كان يعيش تحت خط الفقر، أو من غير وعي، أو بصفته واحد من المليارات وكفى، أو كان يقف في أعلى الهرم. لكن التاريخ يمضي بالنسق ذاته: ان العدالة لن تتحقق إلا بالحفاظ على دعاة جدد: تارة تستحوذ المثل عليهم، إن كانت روحية أو جمالية، أو كانوا على شاكلة هولاكو أو نابليون أو هتلر، مصائرهم، أو كانوا من طراز آخر.فمع التحولات التي تبدو جذرية، في (المُثل) والعادات، والأعراف، لا يفقد نظام  (الذي يزول) ديمومته، كما لم يرتد أو يتراجع، أو يفقد جبروته.
    ففي نهاية القرن العشرين، بلغ الرسم في العراق، ذروته في القطيعة مع الواقع، وذلك بازدهار أساليب فنية أكثر جاذبية للآخر. لا لأن (الروحي) أو (الجوهري) قد فقد معناه، بل لأن مفهوم (السلعة) غدا وحده الأكثر اشتغالا ً ومعيارا ً لنجاحات الفنان، ولمعنى الفن.
  ومع هذا الازدهار، في تنوع الأساليب، والاتجاهات، والانشغال بلفت نظر (السائح) أو سماسرة الفن، كانت الرداءة، هي الأخرى، قد بلغت ذروتها: تيارات لم تتخل عن الإنسان، وموضوعاته، فحسب، بل عملت على عزله عنها. فالصدمات كانت تحفر أسسها في المناطق النائية، درجة دفنها، تاركة السطح مسرحا ً لمظاهر البذخ، والفكاهات اليومية للتداول، والاستهلاك، مادامت تحقق ربحا ً لها.
     إنها ليست حالة أحدثتها مرارات الحروب، وأثرها الموجع في المجتمع، نفسيا ً، اقتصاديا ً، وثقافيا ً، في الفن، بل تسللت، باليات محكمة، ولا شعورية، من أزمنة سابقة. فجماليات (البذخ) أو (الترف) أو مشاعر (النُخب)، لم تجد فرصها للازدهار إلا على حساب خسائر في الجانب الآخر.
       فما الذي تركته سنوات الموت، والذعر، في الفن، أكثر من ازدهار أساليب قائمة على نموذج لم تجر عليه إلا مناورات تكنيكية مستمدة من الأصل: التجريد. لكن ليس التجريد بأي معنى من معانيه عدا النموذج الذي تحول إلى ظاهرة: الذي أكد القطيعة لا مع الطبيعة، ولا مع المجتمع، ولا مع الإنسان فحسب، بل مع الفن.*
    في عام 2000، أو في عام 1999، وجدت نفسي ـ قبل ان اصدم بمنعي من الترشيح إلى الهيئة الإدارية لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ـ مسؤولا ً عن اختيار عدد من الفنانين الشباب لجائزة الإبداع السنوية التي تمنحها وزارة الثقافة.  فلم يكن المعيار لدي ّ إلا التفكير في التجارب الأقل انشغالا ً بمظاهر الترف، والقطيعة، والتحايل، والأكثر انحيازا ً لخصائص الهوية الشخصية: ذلك التطلع لمنح الحضور معناه إزاء الغياب: غياب الإنسان.
    فاخترت مجموعة من التجارب، ومنها تجارب شوقي الموسوي، زينب عبد الكريم، عاتكة الخزرجى، والخزافة هايدي، كما أتذكر..
   كان المشترك في تجاربهم يماثل من يتقدم في المجهول بلا تردد. فالأسلوب لا يأتي بعد الموت، على خلاف كلمة بيكاسو، بل يولد في كل لحظة انجاز قائمة على استعادة الواقع ـ وليس سطحه ـ وقد لا يكون (التشخيص)، بأية رؤية، مؤشرا ً أخيرا ً، أو أحاديا ً، فثمة آفاق أخرى للتدشين، قطعا ً ليست قائمة على (الربح)، ولكنها لا تدير قفاها للهزائم، والخسائر، إنما ستبقى أطياف الإنسان، إن غابت، فانا لا اعرف عن أي حياد أو عن أي (أشياء) باستطاعتها ان تلفت النظر..!  فالجسد؛ من الرأس إلى الحركة، ومن الظل إلى الأثر، ومن الطيف إلى الرموز..الخ، يضعنا في المشهد: الديمومة، حتى لو كنا جميعا ً نغلق أبصارنا عندما تتحول اصلب الأشياء  إلى غبار، أو أثير. فالديمومة، هنا، وكأنها لا تؤكد آليات التشبث بالزائل، ولأننا ـ وبعد رحيل شاكر حسن، وهجرة  عدد من الباحثين والفنانين ـ لم نجد من يتحكم بالمصائر، كما تحكمت بها (دكاكين) بيع الفن ـ وبيع الفنانين ـ فان الحوار لم يعد إلا أحاديا ً، شبيها ً بالحديث عن موتى لم يكن لحضورهم إلا ما يفنده.
   كان شوقي الموسوي، يعمل على مفهوم مركب لوحدة النص الفني. فالفنان لم يهبط من كوكب آخر، غير كوكبنا، وإنما أدرك ان ما يحدث ـ أمامه/ وبجواره/ وفي العالم ـ في الأرض، وفي ما تبقى من الثوابت، يُدك، ويتعرض للهدم، والمحو، بعد سنوات كانت الأحداث فيها تتخطى أية وسيلة من وسائل الخطاب الفني/ الثقافي، لأنها كانت تعمل على دمج، وإزالة، ومحو خصائص التفرد، أو الهوية. فالغائب غدا وحده يمتلك أطياف حضوره، تارة، ويتشبث بمن لم يُدشن بعد، تارة ثانية.


* في حوار مع الصحفية منى سعيد  اذكر بما قلته في عام 2001:
ـ [ لقد اعترفت بأنك أضعت زمنك وانك جدا ً آسف حتى في معالجة بعض الأفكار؟
ـ " سبقني بالاعتراف أستاذي شاكر حسن .. وقال انه نادم على نصف ما كتب! أقول أنا: سأعود واكتب ـ كل ما كتبنه ـ  من جديد: سأشّرح كتبي، وافككها، واظهر للقراء، أخطائي، وأسبابها، وذلك لكون العالم يتطور، والمناهج تتجدد. ولكني اعترف أنني كلما اطلعت على معلومات جديدة ازداد ثقة بان جواد سليم كان أكثر من أسطورة، وان هناك مواهب شابة، اليوم، تمتلك قوة الريادة والصدق والأصالة، علينا أن نعترف أن زمن الخيانة قد ولى، في النقد وفي الفن معا ً، فمن يخون، في فنه، وفي كلمته، جدير به أن يصمت، ويشتغل في مكان آخر."] وقلت أيضا ً:
[ ـ"  اشعر انك في مأزق .. حتى يخيل إلي ّ انك تريد التخلي عن الكتابة؟
ـ " لن اصمت، ولكن علي ّ أن أتعلم الصمت الحكيم. لقد كتبت قبل أيام " إننا صنعنا أوثانا ً كثيرة وعلينا اليوم أن نقوم بهدمها." والمثير في الأمر أن هذه العملية شاقة، فإزاحة العملة الرديئة أكثر مشقة من إنتاج عملة جديدة. ومع ذلك ليقل كل منا كلمته ويغادر. فالنقد الجيد يثبت في الرأس كالنبات الجيد.. فالآراء في تغير دائم، والعالم اخذ في التقلص إلى مشاهد صغيرة. حياتنا في فاتحة الألفية الثالثة لها مذاق آخر، ودفاعنا  عن جماليات وخطاب الفن وشخصية المبدع ومكانته الاجتماعية والثقافية كلها ذات صلة بحياتنا ومستقبلنا. فالرؤية الشمولية تعيد التوازن للجميع، لهذا من الصعب التحدث بعيدا ً عن الأسس."] مجلة ألف باء ـ 2001 ـ حوار أجرته منى سعيد.


[4] الديمومة بلغزها
    إنها البذور وقد أينعت، ولكنها أينعت موتا ً، فالرؤوس معزولة، كالأجساد، في العراء، وملقاة بلا أدنى حد للحشمة، وحرمات الميت. فـ (ديموزي) لم يغادر عالمه السفلي إلا كظل لاستكمال دورة غير تامة، مبتورة، إنما يعود، ليولد ميتا ً، ملقى، كأنه اخرج من عالمه عنوة، ليجد الذي هرب منه، أمامه: موته. فهو مصير فضّاح، إزاء الأقنعة، لأن الولادة ليست إلا إجهاضا ً، مثلما الأثر يكون قد بلغ ذروته: انتظار الموت! الموت الآخر لاستكمال قانون الدورة(1)، بمعنى ان الانتظار سيغدو أملا ً مجمّدا ً،مخفيا ً، مستترا ً، سيوكل إلى المتلقي كآخر عليه ان يتلمس رأسه: هل ثمة رأس...ظ فالحصاد جرى على شكل صدمات، لأن الموسم لم يكتمل، وربما لم يبدأ، فالرؤوس لا تحكي شيئا ً عدا أنها أدت دورة أخرى: العبور من الحدث إلى الرسم، والانتقال من النص الفني إلى المتلقي. إنها دورة غير مكتملة، فلا البذرة دفنت، ولا هي رأت النور، إنها بانتظار موتها كديمومة لحياة لم تترك أثرا ً دالا ً عليها.
    ان الفنان يترك لا وعيه طليقا ً، بعد ان حرره من القيود. فهو لا يحتفل، لا بالموت ولا بالولادة، بل يخبرنا بما حدث: الأشياء وقد أعلنت عن حضورها. فالفنان يعيدنا إلى الموضوعات ذاتها التي تحدثت عنها أساطير الشرق الأولى، والسومرية تحديدا ً (أي التي دوّنت مفهوم الإرادة كنظام، أو كقدر، أو كحتمية) حيث المقدمات لم تكتمل، إلا اذا كانت باطلة، كي تبقى النهايات مؤجلة، أو بانتظار نهاية ما تؤدي دور الدفن.
   انه تلخيص آخر للحساسية إزاء الصدمة؛ الصدمة بواقعيتها وقد استحالت مشهدا ً مؤكدا ً لمحنة التردد في قبولها، وفي نفيها على حد سواء. فالبذرة لديها ـ كالإرادة ـ الذي يجعلها ملغزة بهذا الحضور. فالشاهد أصبح يتأمل الموت من غير ان يستسلم له، ولكنه، على حد كلمة لوليم جيمس: هو " الذي يسمع الصوت الضعيف للفعل دون ان يضعف" (2) فسيرسم من غير آسف على مصيره المعلق بالموت، كي يتضمن نفيه. فالفن ـ في هذا الموقف ـ يستعيد إرادة ما لعمل الإرادة، إن كانت عمياء، أو تعمل بآليات لا وعيه، أو كانت متجاوزة، بحثا ً عن مصير مموه للامتداد، وملغز بها.
    وأنا شخصيا ً كنت أنجزت مجموعة من (الرؤوس)، بهذا الهاجس، ترجع إلى فاتحة سبعينيات القرن الماضي، لخصت فيها ما معناه: حدث ما حدث بقوة الحدث، ومحركاته، من غير اختيار ما يحدد احتفالا ً أو إصغاء ً، بل تذمرا ً صامتا ً، سمح لها بالظهور. وهو سياق له ماضيه الغاطس، والمعلن، منذ ترك إنسان المغارات علاماته تحكي ما هو ابعد من الفزع، وقد غدا الأخير، محفزا ً للإرادة، ولكن ليس بدوافع النصر، أو الظفر. وهناك نصوص مماثلة، في الثقافات كافة، تصوّر البذرة في ذروة وجودها، تماثيل (بوذا) وقد تناثرت عبر طريق الحرير، وآلاف الرؤوس فصلت عن أجسادها، وأخرى تم حرقها. فالرأس ليس المركز بمعزل عن آليات مقاومة الغياب حسب، بل محاولة عنيدة للامساك بقناعة ما تشبه النذور، أو الفداء، أو فعل الخلاص، تحكي هذا الذي لم يصبح عدما ً، ولكنه لم يصنع من الوهم أملا ً، بل تتابعاً: الديمومة بدورة لغزها.
  كنت رسمت علامة(×)، ليس بمعنى التحريم؛ أي كحد فاصل بين الرأس والجسد، ولا بمعنى الإلغاء، كمواجهة، بل بمعنى ان الآخر ـ الرأس ـ أصبح فائضا ً، وكأنه يحكي مصير المشاهد: الرسام، أو المتلقي، وهو ينجذب إلى المتاهة، وديمومتها.
   ورأس السيد المسيح، استكمالا ً لمصير ديموزي، ومن ثم الحسين، يفسر كيف يتحول اللامعقول إلى مشاهد مألوفة، والى طقوس: رأس في إناء، أو يرفع بالرمح، أو يوضع فوق صخرة. وفي حاضرنا لم تعد تصدمنا مشاهدة آلاف الصور المماثلة. فالتلفاز سيعمل على صناعة عالم تفقد فيه (الرحمة) حضورها. فالدم المتناثر إشارة للهيجان، وللإثارة، ودفع المشهد نحو مصيره: المواجهات، في حرب: الكل ضد الكل.
    لكن هذا ليس إلا استثناء ً في التجربة، وليس محض ظاهرة. لأن رد الفعل سيدير بصره عن الحدث، وينشغل بالجماليات، وبكل ما يتستر، أو يتجاهل جوهر الحدث. وقد كتب سارتر مقالة قلل فيها من أهمية هذا (الاستثناء) وحصره في تجارب نادرة. وهو حكم يعالج الأشكال وكأنها تعمل بمعزل عن محركاتها. الأمر الذي شكل (إشكالية) في التيارات التقليدية، والأخرى، التي خالفتها. فالتيارات الفنية المتمردة ـ في الأسلوب ـ التي كرست موضوعاتها للمسكوت عليه، لم تغب، منذ رسومات جيروم بوش إلى كرفاجو، ومن غويا إلى مونخ: فنون مهدت لموضوعات الملصق (السياسي) ازدهاره، في عالم: الكل ضد الكل، أو: اذا لم تكن معي فأنت ضدي.
   بمعنى ما فان إعادة رسم (الموت) له سياقه اللاواعي، وله، في الوقت نفسه، مبرراته في الانحياز ـ والاختيار . فهو ليس (استحصال حاصل) كمشهد من مشاهد اللعب، في الفن، أو في الأعراف السائدة، بل هو الصرخة وقد كتمت صوتها، وهو البذرة بصفتها تحمل نظاما ً لا ينغلق عند مفهوم أخير من المفاهيم، ولا عند غاية لها خاتمة أخيرة، مثلما (الوعي) لن يبلغ أعلى درجاته، وهو يصطدم، بتدشينات لم يتحول فيها الموت إلى عدم.
    فلم يكن بصر شوقي الموسوي منشغلا ً بالبساتين، والمباهج، مثلما لم تكن بصيرته (مثالية)، في أي اختيار من اختياراته، وهو يرى آثار (الموت) تتكّوم، كي تتسلل، من الأرض إلى النص الفني. فقد شاهد اللامعقول، في سياقه الواقعي، مثل مسرحية وجدنا أنفسنا لا نشاهدها عن بعد، بل ان نؤدي أدوارنا فيها، حتى لو كانت رؤوسنا لا حضور لها إلا كمسافة بين الحدود: حدود الواقع وحدود اللوحة. فالفنان وجد انه لا يمتلك قدرة اللعب، في التكوين، والتركيب، والتحوير، على مستوى مفهوم الرسم السائد، بل ضمن فعل الفن، فعل النائي، وفعل الغائب، كفعل تضمن خاتمته في الامتداد.
     فإذا كان موت الفن، وصولا ً إلى موت الإنسان، عبر الازدهار المرّوع للرأسمالية، بماضيها المبكر( منذ اقترن الهرم بالسلطة في ذروتها/ الفرعون، والزقورات بالملك، وبملك الملوك، السلطان ..الخ) قد غدا ظاهرة معاصرة، فان هذا الموت، الواقعي، اليومي، لم يفقد تحوله إلى عادة، في الوعي، وفي تطبيقاته المباشرة. فهناك الذي لا يقاوم، وإن لم يصبح اختيارا ً بمعنى التطابق بين الفكر والسلوك، منح الأداء الرمزي كل ما يخص استحالة تعريف: ما الإنسان، إلا عبر هذا الانحياز: رؤيته وهو شبيه ببذور تناثرت بقوة النظام، كي تثبت إستحالات أصبحت مألوفة، ليس في الواقع، ولا عبر وسائل البث، ولا ضمن الفنون، بل سكنا ً يروّض الموت نفسه فيها، وقد غدا واحدا ً من عناصر الرائي، وديمومته.


1 ـ تقدم لنا بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث نستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة. ويذكر فراس السواح: " المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الإلوهية منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الالوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البشر المفتوح على اللانهاية" انظر: فراس السواح [الرحمن والشيطان] دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة. دمشق ـ الطبعة الأولى 2000 ص23
2 ـ أرمان كوفيليه [نصوص فلسفية مختارة] بيت الحكمة. بغداد ـ2006/ ص310

[5] بين علي النجار وشوقي الموسوي

    هل كان استخدام (اليورانيوم)، في الحرب على العراق، يمتلك، في سياق نسق اشتباك الحضارات، مبررا ً، من اجل ديمومة الحياة، إلا كآلية تقسم البشر إلى من في القمة، والى من في القاع..؟ فالبحث عن الشرعية، والمعايير الأخلاقية ـ وبأي معنى من المعاني ـ لهذا الاستخدام، مع الترويع، في نظام الصدمة، وتدمير السلام الروحي للسكان، لم يفض إلا إلى نهايات كان جلجامش، وهو يتأمل مدافن أوروك، قبل خمسة آلاف عام، قد أدرك استحالة العثور على ديمومة للذي رآه يحول الجميع إلى غبار..؟
    ففي الفترة ذاتها التي شغلت علي النجار بشاعة الحرب على العراق، كنزعة تدميرية، وما خلفته من آثار في مصائر الملايين، في حاضرهم، وفي الأتي من الأيام، انشغل شوقي الموسوي برصد ظاهرة أخرى مجاورة للعدوان: القتل المبرمج للسكان العزل، المدنيين، فكانت ثمة احتفالات للقتل، تجري، وقد صوّرت، شبيهة بتلك التي كانت تحدث في الغابات: انتزاع قلب الضحية, فالحدث المعاصر، في فاتحة الألفية الثالثة، وتحت مراقبة فضائيات لا تحصى تقوم بالرصد والتوثيق، تُبعث أقدم النزعات وحشية، وتمنحها حياتها. إن الرؤوس التي صورها الموسوي، لهذا السبب، لم تعامل كنذور، فهي لم تؤد دور البذرة، بل كما في مشروع على النجار، حولت الأجساد إلى ذرات، وذبذبات، ومخلفات.
     معرض علي النجار، الذي أقامه في عاصمة أوروبية، يخاطب الرأي العام، لم يعزل نزعته الإنسانية عن بحثه ـ وخلاصه ـ في الفن. وهذا ما منح شوقي الموسوي قراءة للبشاعة، كجمال مفرغ من الترف. فالعامل المشترك في التجربتين يكمن في استخدام اللا شرعية (اليورانيوم والقتل المنظم) في تدمير المصائر. فالنزعة التعبيرية ـ هنا ـ عملت ضد مفهوم موت (الفن) وتحوله إلى سلعة، بل، وحتى إلى إعلان، أو دعاية، وإنما للحفاظ على عدالة ما مازالت نائية، ولكن يصعب عزلها عن الرهافة، وفصلها عن إرادة الحياة.
     ثمة إشارة حول معرض علي النجار، توثق:
      [ورافق العرض نص مدون, كوثيقة مرافقة تكشف حجم الأضرار التي لحقت بالعراق نتيجة لما تعرض له من القصف بقذائف اليورانيوم ما بين الأعوام(1919 وحتى 2003), نص الوثيقة: " ليس بالإمكان وبكل الأحوال تصديق ادعاءات من أطلق قذائف اليورانيوم المنضب Depleted Uranium Munitions في الحروب الحديثة, وبأية ذريعة. ان" ليس لها" تأثير على البيئة والإنسان. بعد ما كشفه العلم من ماسي أضرارها الرهيبة. ولنا مثل في ما حدث للعراق. كونه الأكثر تضررا من يوغوسلافيا وشمال أفريقا وأفغانستان.

العراق الآن من أكثر مناطق العالم تلوّثا بالإشعاعات والمواد الضارة ، إذ تقدر التقارير العسكرية كمية ذخائر اليورانيوم المنضب التي استخدمت على العراق خلال حربي عام 1991 و 2003 ما بين 2000 و 2000 طناً مترياً بأقل تقدير. علما ان 800 طن من اليورانيوم المنضب يعادل في ذريته 83 قنبلة ذرية مثل التي ألقيت على مدينة ناغازاكي، وقد بلغت كمية الإشعاع- وفقاً لحسابات قائد عسكري حوالي 250 قنبلة نووية.

اثر إشعاع اليورانيوم المنضب والترسبات الناجمة عنه تبقى فاعلة ومؤثرة لأربعة مليارات سنة مقبلة، وتعمل ببطء على تدمير المستقبل الجيني للشعب العراقي والشعوب المجاورة بشكل لا يمكن وقفه أو الحد منه.
الإمراض المتسببة من جراء الحرب وأسلحة اليورانيوم المستخدمة: الأمراض الخبيثة، وفي مقدمتها سرطانات: الدم، الرئة، الغدد اللمفاوية، الثدي،المعدة، الدماغ، العظام،الخ. وتلف الكليتين، والكبد، وجهاز المناعة. والتشوهات الولادية الرهيبة. والولادات الميتة. والاجهاضات ( الإسقاطات) المتكررة (أكثر من مرتين). والعقم، حتى وسط الأسر التي أنجبت قبل الحرب.وعلل عصبية- عضلية غير قابلة للعلاج. وأعراض "صدمة ما بعد الحرب"، حيث يعاني اليوم قرابة الثلثين ممن كانوا أطفالاً، وأكثر من نصف مجموع العراقيين، من أمراض نفسية وعصبية مزمنة. وأمراض غريبة أخرى.
     الخطر الإشعاعي لليورانيوم المنضبDU أصبح يطوق البيئة بعناصرها المادية مثل الهواء والماء والتربة. وان بقيت خشيتنا من ثقب الأزون لا تزال تؤرقنا. فان نفايات قذائف اليورانيوم الحربية أحدثت ثقوبا في كوكبنا لا تقل خطورة عن ذلك. .
هذه المعلومات مأخوذة من الباحث في أضرار اليورانيوم المنضب الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي.
وبالإمكان الاطلاع على الكثير من الوثائق المكتوبة والمصورة وأفلام الفيديو الموجودة على شبكة البحث العالمية على الانترنيت (غوغل). "


    فالفنان يدوّن شكواه وكأنه يعيد كتابة واحدة من أكثر نصوص تشيخوف رمزية: الطفل الذي كتب رسالة إلى جده يروي فيها ما آل إليه مصيره، ولكنه يضع الرسالة في صندوق البريد من غير كتابة العنوان!
     هل ثمة جدوى لتجارب كرسائل تبعث إلى آخر مجهول، رغم ان الفاعل ـ في قصف السكان فاليورانيوم، أو الاحتفال بقطع رؤوس الأبرياء ـ كما في رسالة الصبي، يضعنا في نظامنا البشري ذاته القائم على: حرب الجميع ضد الجميع، ومن اجل حفنة يمسكون بأعلى الهرم، تاركين القاعدة تمتد كقاع زاخر بالظلمات، والتخبط.
      لست أيديولوجيا ً، هنا، ولست على الحياد، وأنا أعيد قراءة نصوص فنية لا تبعث على المسرة، أو البهجة. فهي تستمد دافعها من النزعة ذاتها التي سمحت للفن ان لا يبقى في السطح، فنصوص النجار الفنية ترصد جحيما ً لا يحدث إلا في الجسد البشري، من الرأس إلى القدمين، والموسوي، هو الآخر، يرصد ما هو اشد من الألم، فجيعة، وهو صمت الجسد، فهو الموت الذي لا يدفع بالحياة إلى التجدد، بل تركها كالبذرة في العراء، بانتظار ما هو ابعد من إرادة الاختبار. إنما، في هذا الانشغال، تستعيد الذاكرة علامات لا تحصى منحت هذا المنحى، النسق، الاتجاه، القوة التي لا تلين وهي تغطس في موضوعات (البشاعة): استلاب الآخر، جسده، أحلامه، ومصيره، ولكن الأبواب لن تبقى موصدة، كما قال حكماء سومر، مع ان العثور على مفاتيحها يماثل عودة ديموزي من الظلمات.
[6] وثائق ـ وشهادات
     لم يبق من طفولة الفنان، بالأحرى لم تسمح طفولته له، أن يتوارى، أو ان يتقمص حياة النبات! كان شاكر حسن آل سعيد، قد ذاق الصدمة ذاتها في باريس، أثناء دراسته التي لم ينجزها، فلم يجد ملاذا ً أو خلاصا ً له إلا بالعودة إلى جدران بغداد، ومدافنها، كي يتشبث بالرسم، أو أقنعته. فلم يجد شوقي الموسوي، المتوحد، والمتستر على عزلته الداخلية، إزاء الخراب، إلا البحث عن ملاذ في مشروع طفولته: الرسم، أو أطيافه. على ان الاختيار لن يسمح له بصياغة سلع فنية، أو صالحة للتداول، بعد ازدهار تيارات فنية نخبوية، وفصامية، مع ما يحدث، يوميا ً، في مجتمعه، مما سيمنحه عودة مبررة ـ له في الأقل ـ لعدم إهمال سلسلة من الصدمات، ومنها مراقبته للمرئيات، رغم قسوتها، وليس بما تتركه من جماليات.
     فالأسلوب الفني ذاته، يتعرض للدحض: ينقلب، ويرتد. وكأننا لسنا في فاتحة الألفية الثالثة، وكأن شعارات (الحرية) و (حقوق الإنسان) و (الشفافية) لا تؤدي إلا الدور الذي أدته شعارات الأنظمة القديمة: أقنعة شبيهة بإشارات للتمويه، إنما الجسد (الإنسان) لم  يعد إلا شيئا ً فائضا ً، ومهملا ً كنفاية.
    فالرسام لم يعد يتسلى، أو يلعب. وهو لا ينتج فنه إلى سوق، أو إلى نخبة. فدكاكين الفن أُغلقت، وما تبقى منها لا مهمة لديه إلا للإجهاز على ما تبقى من علامات الفن العراقي، وأداء الدور القديم نفسه: السمسرة. فمعظم تلك الدكاكين، التي أدت دور (الصالة الفنية/ الكلري) مارست دورها في تصفية ما تبقى من العلامات الفنية. أما النخبة، فإنها، عمليا ً، تعرضت لضربات قاصمة، فبدأت بالهجرة، منذ العام 1990، أو تعرضت للتشتت. فبعد العام 2003، لم تعد ثمة نخب إلا بحدود منعزلة عن الوسط الفني/ الثقافي، الذي ـ هو الآخر ـ فقد حضوره.
    فالرسام، وهو يستعيد لذائذ الرسم، وجد انه في ذروة التعبير: القبح ـ: اللا رسم. فلم يعد للرهافة، ولا لموضوعات الجمال، حضور يوازي الانشغال بالإنسان وقد أصبح فائضا ً، كمصير يواكب ـ ويؤكد ـ سلسلة من الإشاعات، حول تقليص سكان العراق، إلى الربع، مما يؤكد ان فعل (القتل/الإبادة) لم يكن عشوائيا ً، أو للأسباب التي روج لها.  ثمة جثث متناثرة، لكثرتها، لم تعد تثير القلق، أو القرف، أو حتى الاستغاثة والاعتراض، إلا بحدود مواكبة القدر وهو يقهر إرادة الحياة. فثمة شعور ما جعل الفجوة بين الحياة والموت أكثر اندماجا ً، وكأنها تتحرك من غير علة. فنظام (الصدمة) مكث يكمل مقدماته، بعد ان تحولت (بغداد) إلى مدينة أشباح. حتى ان مشاهد الجثث، بعد عام 2006، أصبح جزءا ً من تلال النفايات، وشبيه بما دوّن عن الاحتلالات السابقة، لم تترك رجلا ً إلا وتعرض للموت.
      هذه المشاهد ليست بحاجة إلى كينونة، وليست بحاجة إلى اختبار، كي تشغل الفنان، فالكينونة (الجوهر) هو ذاته قد أصبح فائضا ً، مثلما لم يعد للطبيعة، أو موضوعات الفن التقليدية، معنى, لقد ترك الفنان أصابعه توثق، ولا تدفن، أو تتستر على الحدث، الفجيعة، تركها محكومة بغياب حريتها، وليس بانعتاقها، او تمتعها ببراءتها. فالأصابع تشترك، كشاهد، في العبور من الواقع إلى النص الفني، من غير الولع الذي تحدث عنه اريك فروم، حول التدميرية (1)، فالنزعة (النكروفيلية) هي جزء غاطس في الذات لن يظهر إلا كحالات مرضية يصعب ـ في هذا المنحى ـ ان تكون دافعا ً للفن، وإلا فإنها سترجعنا إلى ولع الإنسان بعبادة الموتى، وعبادة الميت، وقلب المعنى، أو تزويره، من مجاله السحري ـ ألتشبيهي ـ التعليمي، إلى نزعة تدميرية متأصلة في الإنسان، وليست مستحدثة حسب، إنما ثمة معالجة نقدية ـ بمعناها التعبيري ـ سمحت لهذا الاختيار ان يرصد الاستثناء، كبشاعة لها فاعلها، وكجريمة تاريخية ذهب ضحيتها آلاف العزل ـ والأبرياء. (2) ربما ما شاهده شوقي الموسوي، لا يخفي ما تجسد في الفعل، لدى هؤلاء الذين مارسوا القتل، بلذات (تدميرية/ نكروفيلية) سمحت لهم بإقامة احتفالات قتل أفصحت عن (عبادة الموتى)، وإلا كيف ظهرت مجموعات أدت هذا الفعل بعيدا ً عن الأعراف ـ والمُثل..؟ فالفعل ذاته جرى ضمن دوافع انفرد بها أشخاص من الصعب تصورهم كائنات (سوية)، ولكن تصوّر الحدث ليس بالضرورة ـ عندما يكون واعيا ً ـ هو جزءا ً مكملا ً له، وإلا فالفن سيفقد أي معنى من معانيه، ليغدو شبيها ً بالإعلانات في صلتها بعمليات الإنتاج ـ الاستهلاك، القائمة على تراكم الأشياء، وزوالها.
     فالمسافة (في هذا النسق التعبيري/ النقدي، بجذوره الواقعية) وضع الفنان إزاء أسئلة لا تخص (الذات) أو (الفن) بمعزل عن: الموقف؛ أي المسافة ذاتها بين  أي اختراع مزدوج الغايات. فالموقف هنا يتقاطع مع أي مفهوم للدعاية، أو للإعلان، بل يستعيد الكثير الذي حاولت الحداثة ـ في معظم تياراتها ـ تدميره، ألا وهو: موت الإنسان ، وموت الفن.
   فهل ثمة نزعة أخرى مغايرة للتدميرية ستستعيد موقعها في الخطاب الفني، بصفته لم يعد نخبويا ً، بصفته لم يعد نخبويا ً، وجزءا ً من عالم قائم على التصادمات، والبراغماتية كبديل لشرعية الأنظمة القائمة على المنافسة، أم إنها، وهي تحفر في المحركات، تؤدي دورها الأخلاقي ـ الجمالي..؟
    تستعيد القراءة، في هذا السياق، تاريخ التعبيرية، بصفتها تتقاطع مع القسوة، قبل ان تظهر لدى روادها المحدثين، من فان كوخ إلى مونخ ونولده، بل تحفر في تاريخ نشأة الرسم، وجذوره الموغلة في القدم. فالتعبيرية تستعيد موقعها طالما ان الإنسان لا يتجه نحو نهايته، بإرادته، فالتعبيرية  ستحافظ على خلق توازن بين حرية الذات والتدميرية كنزعة مستقلة، وشمولية.
    والفنان عندما ترك عاطفته تعمل بقصدية، فان موضوعات (الحرب) وصدماتها، تغدو قضية إنسانية لا فائدة من استبعادها، أو تبريرها، بأساليب مغايرة. فالموقف يعيد للموضوع أهميته في إعادة القراءة: قراءة البشاعة، وما حدث من عنف، ليس كتاريخ فحسب، بل كيف يتحول إلى عبرة ـ وعلامة، لإشكالية لا تخص الرسم، أو الرسام، أو المتلقي، بل تخص البيئة برمتها ـ والتاريخ الإنساني.
      على ان الفن ليس وسيلة (تعليمية) حتى بالمعنى البرختي، أو بأي مفهوم وعظي، أو أيديولوجي، رغم ان التعليم، لم يفقد ـ عمله المشفّر في صياغة توازنات لم يندثر فيها الفن، ولم يتم استبعاد اشتغالاته النائية. وشوقي الموسوي، وهو يتشبث بأحلام عميقة لطفولته، لم يسع التضحية بالموقف (الفني) بدافع الوعظ، أو التحريض، إنما اختياره للتلقائية سمح له ان يحدق طويلا ً في موضوعات (البشاعة) ويمنحها ما لا يمكن استبعاده، كما تم استلاب أرواح آلاف الضحايا، وتركهم في العراء، مع القمامة. فانشغاله بالحدث، أسهم ببلورة الأسلوب، في الحاضر، وليس ان يأتي بعد الموت، كما قصد بيكاسو. فالحاضر في النص الفني، لم ـ ولن يفقد قسوة الفعل، جريمة الاحتفال بالقتل، حتى بعد دفن الضحايا، وبعد ان تستعيد الحياة دورتها. فالنص الصامت يواصل باثاته، حتى وهو يفقد كل ما صاحبه من رعب، وعويل، واستغاثات، كي يتكلم الصمت، بلغة سابقة  على اللغة، وملحقة بها أيضا ً. وهو تاريخ لصيق بالموضوعات المماثلة، التي صوّرت تلك اللحظات بين الكائن بما يمتلك من نفس، وبين تحوله إلى غياب؛ لحظة لم تفقد نزعتها في قراءة ما حدث، لأنه، يحدث، ولأنه لا يجد من يمنع حدوثه على نحو يضع الحياة برمتها إزاء اندثارها ـ وغيابها. فلم يعد الموضوع، في هذه المعالجات، هو قراءة التدميرية، كجزء من إرادة، بل كاستحالة عزلها عن أنظمة تمجدها، وقد تخطت كل ما تأسس من تصوّرات ذات نزعة إنسانية عادلة.
__________________________________________________
 1 ـ يعّرف فروم النكروفيليا بمعناها في علم الطباع عنده بأنها "الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، ومتفسّخ، ومتعّفن، وسقيم، إنها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي؛ وبالتدمير من اجل التدمير؛ والاهتمام ألحصري بما هو ميكانيكي خالص. وهو الشغف بتفكيك كل البنى الحية" اريك فروم [تشريح التدميرية البشرية] الجزء الأول، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي وزارة الثقافة ـ سورية ـ دمشق ـ 2006 ص 15



[7] الأثير مرئيا ً

   لم تترك الأزمنة المضطربة ـ أزمنة التصادمات، والتحولات، إن كانت بحدود داخلية أو خارجية ـ أثرها، وعلاماتها، كما تركته في الجسد، وفي النصف الأعلى منه تحديدا ً. لكن الأزمات، المآزق الكبرى، إن بلغت أعالي درجات الاحتمال، فإنها لا تمحو الأثر الفني، بل صانعه أيضا ً، فيما نجد المجتمعات الأقل اضطرابا ً ، عامة، غير مكترثة للدراما، ولا لموضوعاتها.
     وإذا لم نجد دراسات تسلط الضوء، وتحفر في المخطوطات، والمخلفات، بعد تدمير بغداد عام 1258، حتى سنوات الحرب العالمية الثانية، في التشكيل العراقي، فان أوربا، في حروبها، تركت تاريخا ً فنيا ً يسبق محاكم التفتيش، إبان العصور الوسطى، ويلحق بها أيضا ً، فمفهوم الانعكاس لا يقل أهمية عن مفهوم التعبير، ففي المجال الأول ثمة اقتران المدلولات بدالاتها، وفي المجال الثاني تكون الذات أكثر وضوحا ً في التعبير، ليس في الحدث، بل في أشكاله. إنها إشارة ترجعنا إلى أزمنة الرسم الأولى: الألم المدوّن، بصراحة أو عبر المخفي في الأجساد، كرصد لعمليات الاشتباك والتقاطع، الهدم والاستغاثة.
    والسنوات التي عاشها  شوقي الموسوي، تلميذا ً ومعلما ً للفن، لم تشهد استقرارا ً يذكر. فما ان توشك الحرب على نهايتها، إلا لتولد أخرى. فقد عاش عمليا ً ـ مع جيله ـ حربا ً دائمة، في احتفالاتها وفي انكساراتها، في غليانها وفي ما تركته من رماد.
    ولأن الفنان نشأ في بيئة منغلقة، قياسا ً بالمدن الحدودية، أو التي تعرضت لويلات الحروب، وأثرها. بيئة تركت عطر بساتينها، مثلما تركت عطر أضرحتها عميقا ً فيه، فان الحدث سيشكل صدمة مزدوجة له، صدمة انتقلت من المرئيات إلى وعيه، وأخرى، ستجد تحولها من وعيه إلى النص الفني.
   ومع ان طفولته ستبقى شاردة في لاوعيه السحيق، وفي لا شعوره، إلا أنها لم تتوارى وهو يؤسس مشروعه الفني، مجاورا ً للأساليب السائدة، او في الخروج عليها، والعناية بتقاليده الشخصية. فالعائلة اللونية (السعيد\ة/ الخضراء والزرقاء والحمراء) لم تختف مع معالجته للألوان الحادة، الصريحة، الأكثر عناية بالمتضادات، في الألوان، وفي دراجتها. انه بمثابة تحول معالج بتلقائية وازن فيها بين ما اعتاد عليه، وما سيشكل قسوة في اختيار الموضوع، وفي الأداء، على صعيد التعبير.
      ولكن أجساده، ورؤوسه، ليست بلا تاريخ سابق، مدفون. فهو ـ في هذه المعالجة ـ يلقي الضوء على إشكالية: المحاكاة ـ وعلى إشكالية التناص. فإذا كانت التأثيرات الفنية الأوربية، فلسفة أو فكرا ً، أو على مستوى الأساليب، وقد أسهمت ببناء أصول الفن (الحديث) وليس الحداثة، فان تأثيراتها، لدى الرواد، هي الأخرى، ستجد تنصيصاتها، للاشعور، والمحاكاة، في اختيار موضوعات الحرب، ومآسيها.
   فلا يمكن ان تغيب رسومات (نولده) و (مونخ). فالأول ترك المجال لمناقشة انهيار الرسم التقليدي، من الجسد إلى الرأس، انهيارا ً تجاوز حدود التعبير، الذي عالجه مونخ كاستغاثة، كما في لوحته الشهيرة (الصرخة). فنولده راح يلطخ، كأنه يحافظ على طفولة مهددة بالزوال؛ يلطخ بمعنى انه ترك أصابعه تعبر بصفتها الجسد كاملا ً. بل حتى البورتريه غدا لطخات غائمة ومتداخلة نجدها تلغي المسافات بين الحدود. فالنص الفني لا يفصح عن صرخة، أو عبورا ً، بل عن توغل في الداخل؛ حيث النص الفني  يتحول إلى معالجة حرة وعشوائية للجسد في انهياره. فالنزعة الانتقادية لا تعلن عن محركاتها، أسبابها، بالوضوح الذي عالجه مونخ، مثلا ً، لأنها تكاد تلغي هذا الانشغال، وتدفع بالفن إلى ذروته: اللا فن. فيما حافظ مونخ على مفهوم السرد، وشروطه. فبتعددية أساليبها ـ لا يغدو تأملا ً (انطولوجيا ً) خالصا ً، بل شديد الصلة بالحدث، وبموضوعات الإنسان. على ان تجارب (جورج روو) لم تغب عن رسومات شوقي الموسوي، بصفتها سابقة عن عصر نولده، ومونخ، في اهتماماتها الميتافيزيقية، فالتعبير عن (روو) ذهب أبعد من مفهوم التعبير عند (فان كوخ) بتوغله في المناطق المظلمة للنفس البشرية، فالأول مازالت المرئيات تحكي معالمها الثرية، بينما ازدادت المشاهد المعتمة عند الثاني. ولا نهمل أسماء كبيرة درسها شوقي الموسوي، لحقبة ما بعد الانطباعية، أمثال: ماتس، موريس فلامنك، شيم سوتين، كيرشنر، أوسكار كوكوشكا ..الخ، على ان الانتقال من الانطباعية إلى ما بعدها، لدى الموسوي، ليست بلا تاريخ.
   فيذكر (الآن باونيس)، تمهيدا ً لدراسة التحول من الانطباعية إلى ما بعدها:
" نشأت التعبيرية، سياقا ً فنيا ً، في ألمانيا حوالي عام 1910، وهي محدّدة الآن في الأكثر بفن أواسط أوربا، وليس من السهل تعريفها إلا في حدود علاقتها السلبية بالانطباعية، لكنها في أصول استعمالها الألماني ضمت تحت لوائها ما أطلق عليه روجر فراى، في تلك الفترة بالذات، تسمية "ما بعد الانطباعية" (1)
   فالتحول اظهر مدى الانتقال من الانطباع المباشر للمرئيات نحو الداخل. فكتب فرانز مارك : " نحن اليوم نسعى إلى ما وراء قناع المظاهر الذي تتستر وراءه الأشياء في الطبيعة، إذ تبدو لنا انها أهم من اكتشاف الانطباعيين" (2) وربما وجد شوقي الموسوي ثمة صلة ما بين (روو) و (نولده) حيث المقارنة أشار إليها باونيس بقوله: كان لروو نظيره البروتستانتي أميل نولده، الرسام الألماني الشمالي، الذي أنجز أجود صوره الخاصة بحياة المسيح، وقد جعل منه ومن حواريه قرويين ألمانا ً، لتعادل الرؤية البدائية هذه طريقة بدائية في الرسم أيضا ً. وضع الألوان غير الممزوج على القماشة رأسا ً: التكوين الفظ واللمسة الخشنة غير المهذبة.(3)
   تحيلنا هذه الإشارة إلى ذاكرة بصرية وجدت هوى لدى لشوقي الموسوي: الانتقال من الانطباع ـ المباشر ـ المشغول بمباهج الطبيعة، نحو: التعبير (الغوص في مناطق النفس النائية، حيث الإفصاح غدا يتطلب العثور على ممرات نحو المخفيات، وهي إشكالية لن تتحقق بيسر ما دامت الطفولة شديدة الانتماء إلى أجواء بيئته الهادئة، إلا عبر معالجات لونية لا تخص صراعه في اختيار أسلوب لم يعد تعبيريا ً، بعد ان أجرى عليه سلسلة من التشذيبات، والاختزال.
     على ان التعبيرية لم تظهر، بعد تجارب متفرقة لمحمود صبري، شاكر حسن، رسول علوان، محمد علي شاكر، وسمير الموزاني ..الخ بالوضوح كما في تجربة شوقي الموسوي، وهو يعالج بها موضوعا ً كالحرب ـ بصفتها أصبحت مشهدا ً يوميا ً، وليس حدثا ً يقع خارج المدن.
    انها ليست الحرب بما تمثله من تصادم إرادات، وما خلفته من خراب، بل الحرب وهي تتحول إلى صراع له ماضيه السحيق، كتاريخ، كما في ملحمة ألطف، وله علاقته بالنزعة الإنسانية ذاتها، على صعيد آليات عمل النفس، فضلا ً عن تحول (الحرب) إلى مشاهد تدميرية تجاوزت حدود الواقع، وتركت أثرها العميق في الحياة برمتها.
    فإذا كانت الطبيعة منظومة متكاملة لديه، فان الحرب ستضعه إزاء الجسد ـ الرأس ـ، على نحو مباشر: إنها ليست مخفياتها، بل ظاهرها وقد غدا من غير ستر.
    فها هو يلتقط الأجساد، لرجال في الغالب، مع ظهور ملامح أنثوية، ويعيد تكوينها، داخل مربعات، ومستطيلات، بمنظور مماثل لرؤيته إلى الطبيعة، تارة، أو بتدميرها، كتركيب يلغي المنظور، ليغدو متداخلا ً، وبتلقائية لونية تعيد للذهن رسومات البدائيين، والفطريين، والمتوحشين في حقبة ما بعد التعبيرية، للحفاظ على (الصدمة) وليس (الدهشة)، و (القبح) وليس (الجمال)، ليعمل على إجراء قطيعة مع تيارات فنية طالما سمحت لتداخل جماليات المعالجة بالمأساة، مانحا ً ذاته حرية العناية باختيار حقيقة الانتهاك: الفكر، تارة أخرى. لأن الأجساد ليست محض لقى، ولا حجارة، ولا نفايات، وإنما ستحافظ على وجودها الفريد بين باقي العناصر؛ ربما لأنها مازالت تؤكد أنها لم تفقد لغز نشوئها القديم: النفس. فهي ليست محض تكوينات فيزيائية، لها تاريخها، وسماتها، بل لها فكرها أيضا ً.
     فالرسام يلطخ بتلقائية أفصحت عن موقف الفنان إزاء موضوعاته، فهو مقيد بحرية رسام صعقه الحدث، القتل، ومشهد آلاف الجثث التي تناثرت، وتركت تتعفن، مع نفايات المدن، ومزابلها، تحت الشمس، وفي الهواء، كمشاهد كادت تغدو مألوفة، بعد ان أصبحت عملية الدفن، تهدد حياة من يحاول إنقاذ الموتى، بالموت، كي يبلغ الفن ذروته: تصوير البشاعة وقد بلغت الخاتمة في تدشيناتها: الموتى معنا، أو نحن معهم، وهذه مقدمات لزمن آخر قيد التشّكل. فالوجوه، وقد فقدت بصرها، أصبحت تحدق في الظلمات، لتعيد صياغة (سيكولوجيا) غير مألوفة، ولم تحدث، إلا في أزمنة الغزو، وأزمنة غياب السلطة، وهيمنة اللصوص، وفرق الموت، والقتلة، كمرآة لمجتمع تراكمت داخله سلاسل من الانكسارات. إنها شهادة مغايرة لكلمات الرئيس الأمريكي، بوش، حول حرية العراق، ومن الصعب نفيها، أو التستر عليها، وهي وثيقة دامغة لعصر تنتهك فيه الحريات، بهذا الوضوح، والقسوة، واللامبالاة.
    وجوه لا تخلو من براءة، مع ذلك، كأنها لم تفقد أسئلتها، وطفولتها، لتترك أثرا ً شبيها ً بما تتركه البراكين، أو جثث الموتى عند ضفاف الأنهار. فالمشهد يحافظ على واقعيته ـ ورمزيته، وقد لقى معالجة فنية تحافظ على لغز: الحضور المنبثق من الغياب. وجوه منفصلة، أو بقايا وجوه، قطعت، أحرقت، وكومت، وتوزعت من غير عناية، لتمتلك قدرة ان تنطق بما حدث لها، كي تدوّنها، في الأثر الفني، وما يتوخاه، كوثيقة، لحياة لم تتحول إلى أثير، فالغبار مازال يعيد نسج: ان البذور العنيدة تمتلك قدرة تفكيك اصلب المعادن، حتى لو كانت قد تقمصت إرادة الموت، وفعله.


1 ـ الآن باونيس [الفن الأوربي الحديث[ ترجمة: فخري خليل. دار المأمون ـ بغداد 1990 ص 135
2 ـ المصدر نفسه ـ ص 135
3 ـ المصدر نفسه ـ ص 152

ليست هناك تعليقات: