روزماري تونكس.. الشاعرة التي تبخرت في الهواء
* فيء ناصر
لماذا اختفى رامبو عام 1879 وهجر الشعر وأصدقاءه نهائيا ليرحل إلى القرن الأفريقي، ويعمل تاجرا بالسلاح والقطن والأغذية والرقيق؟
ولماذا بعد مائة سنة، تحديدا عام 1979، اختفت الشاعرة الإنجليزية روزماري تونكس Rosemary Tonks، التي وُلدت في لندن في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 1928، وتوفيت في بورنموث في الـ15 من أبريل (نيسان) 2014، والتي تُعد إحدى أبرز الشاعرات البريطانيات في حقبة الستينات بعد أن نشرت مجموعتين شعريتين و6 روايات جعلتها في مركز الحلقات الأدبية الإنجليزية. اختفت روزماري وقطعت كل اتصالاتها الأدبية وصلاتها بأصدقائها ومعارفها وناشريها، ولم تسمح بإعادة نشر رواياتها أو قصائدها، بعد سلسلة من المآسي الشخصية والمصاعب الصحية التي جرفتها إلى السؤال المؤرق عن جدوى الشعر إزاء محن الحياة ومكابداتها، وربما قادها هذا السؤال إلى نوع من جلد الذات بالانغماس بالتطهر الديني. وفي مقابلة لها عام 1967، تحدثت عن تأثرها الشديد برامبو وبودلير وكيف عاشت سنة في باريس تتبع خطاهما، وكيف أنها حين تقرأ شعر رامبو وبودلير تتخدر حواسها وتترنح نشوة؟! تلاشت روزماري وقصائدها ورواياتها فجأة عام 1979، وأمضت بقية حياتها في عزلة قريبة من البحر في مدينة بورنموث الهادئة.
بهذين السؤالين المحيرين واستذكارا للشاعرين المختفيين وإبداعهما الشعري، ابتدأت أمسية «الشاعر المختفي» التي نظمتها مؤسسة «رامبو وفيرلين» الثقافية التي تتخذ من لندن مقرا لها في مركز «الكنغز بليس» (Kings Place) في لندن.
انتهت الأمسية دون إجابة محددة. المحرر والناشر الإنجليزي المعروف لدار نشر «بلوداكس» نيل آستلي Neil Astley الذي كتب عن روزماري عدة مقالات في صحيفة «غارديان»، وكذلك حرر مجموعتها الشعرية التي صدرت عن دار «بلوداكس» هذه السنة بعنوان «البدوية في مساء لندن»، وضمت كل قصائدها مع مختارات من نثرها، علل سبب اختفائها بأنها تبحث عن مخلصها الذاتي الذي فشلت في الوصول إليه بالشعر أو بعيش حياة اعتيادية مع الأهل والأصدقاء، وقال إنه حاول زيارتها قبل 10 سنوات ولم يفلح، وبناء على رغبتها الملحة، احتفظ بعنوانها لنفسه، لكنها رغم عزلتها ظلت قلقة الروح، وفي بحث دائم عن خلاصها.
عرفها جيرانها باسم السيدة لايتباند Lightband حيث احتفظت باسم زوجها بعد طلاقها منه، وانتقلت للعيش بمدينة بورنموث الساحلية، بينما لخص أستاذ الأدب الفرنسي في كلية لندن الجامعة تيم ماثيو Tim Mathews اختفاء رامبو نوعا من الصدق مع الذات ومع الشعر: «أعتقد أن رامبو قال كل ما يريد قوله شعرا، وأُصيب بالإحباط حين لم يستطع تغيير العالم بالشعر، ولم يبقَ له سوى البحث عن سبيل أخرى للعيش».
بدأ غراهام إندرسون المدير التنفيذي لمؤسسة «رامبو وفيرلين» الثقافية بتعريف مختصر بالمؤسسة التي تتخذ من البيت الذي استأجره الشاعران، حين قدما إلى لندن عام 1872 في ضاحية كامدن مقرا لها، وتهدف المؤسسة الثقافية إلى خلق وتعزيز الشغف الشعري وجذب جمهور جديد وشاب إلى الساحة الشعرية، وتنشيط التبادل والترجمة الشعرية بين لندن وباريس، خصوصا أن المؤسسة تقع على بعد 500 متر من محطة قطار سانت بانكراس، التي تربط لندن بباريس.
افتتحت القراءات الشعرية الممثلة لوسي تريكير Lucy Tregear بقصيدة للشاعرة الإنجليزية روزماري تونكس «عاشقا مختارا بالخطأ»:
مجرما، قضمتَ قطعة كبيرة من حياتي،
وأخذتها بذرائع واهية،
تلك القطعة من الوقت
جليّة في تلافيف دماغي
كتب، أفكار، وجبات طعام، أيام وبيوت،
نصف أوروبا، أنفق نفسي مثل أوراق نقدية خشنة،
لقد أخذتها - وتركت وراءك وحلا وكرنبا مجدوعا
مجرم، بحنان بالغ ألعنكَ بسبب كل هذا
وقرأ الممثل الإنجليزي الشاب بن لامبرت Ben Lambert بعد ذلك قراءات لرامبو من فصل في الجحيم: «أفلحتُ في أن أزيل عن فكري كل رجاء إنساني. وفي اتجاه كل فرحٍ، قمتُ كي أخنقه، بالضربة الصامتة للحيوان المفترس.
ناديتُ الجلادين لأعضّ (بينما أهلكُ) أخامص بنادقهم. ناديتُ الآفاتِ لأختنق بالرمل والدم. كان الشقاء إلهي. تمددتُ في الوحل. تنشقتُ في هواء الجريمة. ولعبتُ للجنون ألاعيب».
شارك في أمسية الاحتفاء أيضا كل من الشاعر والمترجم البريطاني المجري الأصل جورج سيرتز George Szirtes بشهادة عن رامبو وروزماري تونكس باعتباره صديقها وأحد مجايليها. وقال إنها بعد اختفائها بسنوات كانت تذهب أحيانا إلى الـ«سبيكر كورنر» (Speaker Corner) في حديقة الـ«هايد بارك» كي تحذر الناس من الذين يتاجرون بالفن ويتخذونه ذريعة للتلاعب والسيطرة على حياة البشر.
توالت بعدها القراءات الشعرية لروزماري ورامبو بالتناوب، جاء في المقطع الأخير من قصيدة روزماري المعنونة «الأرائك والضباب ودور السينما»:
كل هؤلاء الذين يجلسون في المقاهي للاسترخاء
ببساطة يرهقونني بأفكارهم عن الأدب!
تشذيبهم المخبول للمقاطع الشعرية: الروايات، المكتملة الفظاعة
لقد عشتها، وأعرف الكثير جدا
هستيريا المقهى تهشمني
بأنباء سوداء مرهقة
وشهدت الأمسية الاحتفال بإطلاق مجموعة الشاعرة التي صدرت قبل أيام عن دار نشر «بلوداكس» بعنوان «بدوية من مساء لندن»، حضر الأمسية العديد من أقارب الشاعرة وأصدقائها الذين غابت عنهم شعريا وإنسانيا ما يقارب الـ4 عقود.
_________
*الشرق الأوسط
* فيء ناصر
لماذا اختفى رامبو عام 1879 وهجر الشعر وأصدقاءه نهائيا ليرحل إلى القرن الأفريقي، ويعمل تاجرا بالسلاح والقطن والأغذية والرقيق؟
ولماذا بعد مائة سنة، تحديدا عام 1979، اختفت الشاعرة الإنجليزية روزماري تونكس Rosemary Tonks، التي وُلدت في لندن في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 1928، وتوفيت في بورنموث في الـ15 من أبريل (نيسان) 2014، والتي تُعد إحدى أبرز الشاعرات البريطانيات في حقبة الستينات بعد أن نشرت مجموعتين شعريتين و6 روايات جعلتها في مركز الحلقات الأدبية الإنجليزية. اختفت روزماري وقطعت كل اتصالاتها الأدبية وصلاتها بأصدقائها ومعارفها وناشريها، ولم تسمح بإعادة نشر رواياتها أو قصائدها، بعد سلسلة من المآسي الشخصية والمصاعب الصحية التي جرفتها إلى السؤال المؤرق عن جدوى الشعر إزاء محن الحياة ومكابداتها، وربما قادها هذا السؤال إلى نوع من جلد الذات بالانغماس بالتطهر الديني. وفي مقابلة لها عام 1967، تحدثت عن تأثرها الشديد برامبو وبودلير وكيف عاشت سنة في باريس تتبع خطاهما، وكيف أنها حين تقرأ شعر رامبو وبودلير تتخدر حواسها وتترنح نشوة؟! تلاشت روزماري وقصائدها ورواياتها فجأة عام 1979، وأمضت بقية حياتها في عزلة قريبة من البحر في مدينة بورنموث الهادئة.
بهذين السؤالين المحيرين واستذكارا للشاعرين المختفيين وإبداعهما الشعري، ابتدأت أمسية «الشاعر المختفي» التي نظمتها مؤسسة «رامبو وفيرلين» الثقافية التي تتخذ من لندن مقرا لها في مركز «الكنغز بليس» (Kings Place) في لندن.
انتهت الأمسية دون إجابة محددة. المحرر والناشر الإنجليزي المعروف لدار نشر «بلوداكس» نيل آستلي Neil Astley الذي كتب عن روزماري عدة مقالات في صحيفة «غارديان»، وكذلك حرر مجموعتها الشعرية التي صدرت عن دار «بلوداكس» هذه السنة بعنوان «البدوية في مساء لندن»، وضمت كل قصائدها مع مختارات من نثرها، علل سبب اختفائها بأنها تبحث عن مخلصها الذاتي الذي فشلت في الوصول إليه بالشعر أو بعيش حياة اعتيادية مع الأهل والأصدقاء، وقال إنه حاول زيارتها قبل 10 سنوات ولم يفلح، وبناء على رغبتها الملحة، احتفظ بعنوانها لنفسه، لكنها رغم عزلتها ظلت قلقة الروح، وفي بحث دائم عن خلاصها.
عرفها جيرانها باسم السيدة لايتباند Lightband حيث احتفظت باسم زوجها بعد طلاقها منه، وانتقلت للعيش بمدينة بورنموث الساحلية، بينما لخص أستاذ الأدب الفرنسي في كلية لندن الجامعة تيم ماثيو Tim Mathews اختفاء رامبو نوعا من الصدق مع الذات ومع الشعر: «أعتقد أن رامبو قال كل ما يريد قوله شعرا، وأُصيب بالإحباط حين لم يستطع تغيير العالم بالشعر، ولم يبقَ له سوى البحث عن سبيل أخرى للعيش».
بدأ غراهام إندرسون المدير التنفيذي لمؤسسة «رامبو وفيرلين» الثقافية بتعريف مختصر بالمؤسسة التي تتخذ من البيت الذي استأجره الشاعران، حين قدما إلى لندن عام 1872 في ضاحية كامدن مقرا لها، وتهدف المؤسسة الثقافية إلى خلق وتعزيز الشغف الشعري وجذب جمهور جديد وشاب إلى الساحة الشعرية، وتنشيط التبادل والترجمة الشعرية بين لندن وباريس، خصوصا أن المؤسسة تقع على بعد 500 متر من محطة قطار سانت بانكراس، التي تربط لندن بباريس.
افتتحت القراءات الشعرية الممثلة لوسي تريكير Lucy Tregear بقصيدة للشاعرة الإنجليزية روزماري تونكس «عاشقا مختارا بالخطأ»:
مجرما، قضمتَ قطعة كبيرة من حياتي،
وأخذتها بذرائع واهية،
تلك القطعة من الوقت
جليّة في تلافيف دماغي
كتب، أفكار، وجبات طعام، أيام وبيوت،
نصف أوروبا، أنفق نفسي مثل أوراق نقدية خشنة،
لقد أخذتها - وتركت وراءك وحلا وكرنبا مجدوعا
مجرم، بحنان بالغ ألعنكَ بسبب كل هذا
وقرأ الممثل الإنجليزي الشاب بن لامبرت Ben Lambert بعد ذلك قراءات لرامبو من فصل في الجحيم: «أفلحتُ في أن أزيل عن فكري كل رجاء إنساني. وفي اتجاه كل فرحٍ، قمتُ كي أخنقه، بالضربة الصامتة للحيوان المفترس.
ناديتُ الجلادين لأعضّ (بينما أهلكُ) أخامص بنادقهم. ناديتُ الآفاتِ لأختنق بالرمل والدم. كان الشقاء إلهي. تمددتُ في الوحل. تنشقتُ في هواء الجريمة. ولعبتُ للجنون ألاعيب».
شارك في أمسية الاحتفاء أيضا كل من الشاعر والمترجم البريطاني المجري الأصل جورج سيرتز George Szirtes بشهادة عن رامبو وروزماري تونكس باعتباره صديقها وأحد مجايليها. وقال إنها بعد اختفائها بسنوات كانت تذهب أحيانا إلى الـ«سبيكر كورنر» (Speaker Corner) في حديقة الـ«هايد بارك» كي تحذر الناس من الذين يتاجرون بالفن ويتخذونه ذريعة للتلاعب والسيطرة على حياة البشر.
توالت بعدها القراءات الشعرية لروزماري ورامبو بالتناوب، جاء في المقطع الأخير من قصيدة روزماري المعنونة «الأرائك والضباب ودور السينما»:
كل هؤلاء الذين يجلسون في المقاهي للاسترخاء
ببساطة يرهقونني بأفكارهم عن الأدب!
تشذيبهم المخبول للمقاطع الشعرية: الروايات، المكتملة الفظاعة
لقد عشتها، وأعرف الكثير جدا
هستيريا المقهى تهشمني
بأنباء سوداء مرهقة
وشهدت الأمسية الاحتفال بإطلاق مجموعة الشاعرة التي صدرت قبل أيام عن دار نشر «بلوداكس» بعنوان «بدوية من مساء لندن»، حضر الأمسية العديد من أقارب الشاعرة وأصدقائها الذين غابت عنهم شعريا وإنسانيا ما يقارب الـ4 عقود.
_________
*الشرق الأوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق