الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

في معرض وسام زكو* أسئلة الإنسان وملغزاته- عادل كامل






في معرض وسام زكو*
أسئلة الإنسان وملغزاته





  عادل كامل
   في أحلك الفترات التي عاشها وسام زكو، وهو يتأمل، حد الاكتواء، العوامل التي راحت تحد من مكانة الإبداع في حياتنا، في هذه الفترات ـ وهو الذي عاش حياة المنفي، المخلوع، المهجر، بدءا ً من أرمينيا، مرورا ً بالعراق، نحو الولايات المتحدة الأمريكية ـ لم يفقد استبصاره بان الإبداع الفني تأسس على اعقد علاقة بين (الأعلى) وبين (الأسفل)، ليس وساطة، أو فجوة، بين الله والتراب، ولا بين المعقول واللامعقول، ولا بين المعنى واللا معنى حسب، بل انشغالا ً بمقاومة الرداءة، والاندثار.






   فهذا الإنسان (المتوحد)، المحصن بالذاكرة، ومخفياتها، تعلم كيف يقاوم القبول بالأمر الواقع، واعيا ً بالحتميات وبقانونها اللاذع، القديم قدم رسومات الكهوف، ودمى إنسان المغارات،  والذي يكمن في عملية (التدجين)، أو القهر، أو ما يصطلح عليه اليوم بالاندماج، أو الاحتواء، فلم يرضخ، في أحلك الفترات التي عاشها، داخل وحل البلد الذي ولد فيه، لا الاستسلام للجحيم، ولا الأمل بالحصول على حديقة في السماء. كان وسام زكو قد تعلم ان الحرية لا تدمر إلا بالعشوائية، فليس ثمة عشوائيات خلاقة، وان الإنسان لا يدمر إلا بمحاولة ترويض حماقاته، كي يصدم بالواقع العنيد: ماذا يفعل الإنسان فوق هذه الأرض، وقد تعلم ان (التفكير) لم يكن هبة خالصة، ولا تامة، بل خبرة تشكلت عبر هذا (الأعلى) و(الأسفل)، عبر اللغة، الأداة التي سمحت للأعضاء ـ من الأصابع إلى الرأس ـ ان تحفر في اللغز، لا ان تحوله إلى درب آمن. فالحياة برمتها لم تقل كلمتها ...، وإلا فإنها ستؤكد كم كانت فائضة، وربما قبض ريح، وان ما راود مخيال القدماء، أسلافنا، لم يسع أو يقد الحياة إلا إلى خاتمتها: الربح ـ القائم على التراكم، والهدر، والزوال، بل إلى قهر المسلمات، الشعارات، والصيغ المبنية على القرارات الراسخة، الأبدية...، نحو ذلك الضوء المخبأ في الظلمات، والكامن، رغم القوانين المحكمة، عديمة الرحمة، في مكان ما في الرحلة: في ومضات القلب، وفي ترابط أعالي (المخيال) بالصفر: التراب.






    رسومات وسام زكو تعلن عن وعيها، بدل ان تتحول إلى علامات سلع، في عصر حرية السوق، وفوضاه العنيدة، فهي رسومات لا يمكن عزلها عن أقدم تصوّر لقصة الخلق، في حضارة العراق القديم، ليس تصوّرا ً يرتد من الحاضر إلى ماضيه، ولا يمتد من ماضيه نحونا، بل يضعنا في أتون المحنة وعمقها: التراب، وتحولاته.  فالإنسان لم يخلق خارج المعادلات، وأنظمتها البالغة الإحكام، والجبرية، وقد دوّن كاتب ملحمة "جلجامش" أدق تفاصيلها، فالثلث الأعلى/ الإلهي، يوازيه الثلثين: الإنسان وتاريخه.  لكن هذا التصوّر سيفضي بالإنسان إلى العدم، المتمثل بمقتل (ديموزي/تموز) ونزوله إلى تحت، إلى العالم السفلي، الذي لم نر أحدا ً دخل فيه وخرج منه، لكن الحياة ـ بتصورات وسام زكو ـ لم تقهر الظلمات،  ولم تعّول على السماء، بل أبقت الديمومة قادرة على قهر نهاياتها، بالامتداد.


      لقد أولى وسام زكو (الطين) الأسس ذاتها ـ في فلسفة السومري ومن جاء بعده، برمجة صاغتها العوامل الموضوعية، لكن (الوعي) ليس موضوعيا ً حد عدم تلمس تساؤلات الإنسان في حضوره الملغز، وكأنها عابرة، أو زائدة. فهذا (الإبداع) ـ  المنحدر من اللا عضوي نحو الوافد من عفن السواحل، هو ذاته سمح بقراءات متجددة لمفهوم موت ديموزي ـ وانبعاثه. والسيد المسيح ذاته أكد ان من يريد الحياة إنما عليه ان يموت. فهو امتداد للقانون ذاته: البذرة التي لا تدفن لن تنبت. ووسام زكو لم يصدم بالموضوعية/الجبر، بالقانون الإلهي، كي يقبل بالهزيمة، وبالانخلاع، وبما سنه البشر من تشريعات للقبول بالقهر ـ القهر القائم على المعتقدات، أو الانتماءات الاثنية، أو الثقافية، أو الأيديولوجية ...الخ ـ  بل راح يتشبث بالبحث عن اللغز المخبأ في قلب الإنسان، لكن ليس الإنسان عديم الشفقة، الصانع للأدوات، بل هو هذا الذي رآه يمشي: فوق الماء. تلك النزعة الكامنة في كل ذات وهي تنسج معادلها بين المحدود ـ والأبدية.




    انه يقدم رسومات غزلت بغزل من صنع عذاباته، كذات محكومة بنظام المنافي، لكن ليس طلبا ً بالحصول على خلاص لروحه، وترك الآخرين يذهبون إلى الجحيم، وبالنسق ذاته، لم يهن أو تخمد فيه جذوة البحث كي لا يدع حواسه تخمد وهي تغزل خامات الإبداع ـ المكونة لأجسادنا وعقولنا وعواطفنا ـ علامات لمعنى ما ثمرة هذا الوله، وهذا الانشغال، والقبول بحتمية ان (الحرية) ليست كابوسا ً، أو ورطة، بل مدرجا ً لا يخلو من المصالحة، لكن ليس مع الظلمات ـ التي أبصر داخلها بصيص الأمل ـ بل ما توارى فيها من ومضات انتظرت ان تشكل عنصرا ً ديناميا لها في: التمثيل، الكلمات، الرسومات، وقبلها، في الصائغ نفسه وهو يشق طريقه وحيدا ً في أكثر الدروب وحشة، وعزلة، واغترابا ً.




     فالفترات العصية التي عاشها وسام زكو، وأدرك فيها ان القوى الخلاقة للإنسان تكاد تصاب بالوهن، والانحلال، حولها ـ كما تبلورت أنظمة الإبداع التي ولدت من رحمها، من الأرض، إن كانت في أرمينيا، أو في وادي الرافدين، أو في أي ارض لا تنتهك فيها حقوق المنفيين ـ إلى علامات اندمجت فيها (الأعالي) بالتاريخ، والمطلق بالمقيد، والمجرد بالفنان الذي راح يبني نصوصه الفنية كمن حول منفاه إلى إقامة، لكن ليس بدافع الخلاص، إنما، في الوقت نفسه، لم يتخل عن تلمس رؤية تلك الومضات الكامنة في اشد الظلمات حلكة: الإنسان!
     فالفنان عجن رؤاه اليومية، الآنية، المضطربة بالأصول، كي لا يقيم في مدافنها، وأطلالها، بل كي يشترك معها بالانعتاق، والمغادرة: نصوص فنية تزخر بالمسامير ـ وهي مستمدة من تماثيل الأسس،  وتحاكيها، بوصفها احد مكونات الحروف والأبجدية المسمارية ـ لا تدع الأعلى يستقل بعلوه، بعيدا ًعن الحواس، والحركة، والاشتباك، كما لا تدع المسامير تفقد قدرتها على إثارة الأسئلة، والامتداد، والتشبث بدينامية إن (الدفن) ليس إلا حلقة، لا تجعل من المرئيات إلا مساحة للشهادة، والتجدد، والأمل.

*[ لمناسبة معرض وسام زكو "أسس حضارة الطين" المركز الثقافي العراقي في واشنطن تشرين الثاني 2014 ]

ليست هناك تعليقات: