12 قصة قصيرة جدا
ً
عادل كامل
[1] هستريا
بعد ان انهالت الصواريخ بعيدة
المدى، على المدينة ، ودكتها القاصفات، وبعد ان تم هدم مراكزها الكبرى، وبعد
ان فقدت مقاومتها، ودخلت قوات المشاة إلى
المدينة، ظهر احدهم يصرخ، غير آبه بالحرائق،
ولا بأعمدة الدخان المتصاعدة نحو السماء، ولا بالأنقاض، ولا بأشلاء الجثث المتناثرة:
ـ هذا هو يوم النصر، هذا هو يوم التحرير، آمل ان يكون مناسبة للاحتفال
بالحرية!
اقترب رجل عجوز منه وخاطبه هامسا ً:
ـ تأدب ....، ألا تخجل ان يسمعك أحفادنا ....، هذا إذا كنت لا تكترث لو
سمعك أسلافنا وأجدادنا، وتراب وطنك.
لكن الآخر تابع يهتف بصوت أعلى:
ـ هذا هو يوم الأيام ....، وعيد الأعياد...، واطلب ان يكون عيدا ً وطنيا ً!
الآخر صمت، وبشرود خاطب نفسه:
ـ ليس الغريب ان تجد من يحتفل
بخراب مدينته...، وان يدعوا إلى جعله عيدا ً للحرية، لكن الأغرب ان تجد من يجادل
هذا الذي فقد صوابه، وتطلب منه ان يشعر بقليل من الخجل!
[2] حوار
قالت البعوضة للقملة تبوح لها بهمومها:
ـ ان سبب شقائي أنني تزوجت دبا ً عنيدا ً، بليدا ً وغبيا ً، لا هو مات وأراحنا،
ولا أنا مت وأرحته!
فقالت القملة للبعوضة ساخرة:
ـ نأمل ان لا يتكرر هذا في حياتنا القادمة!
فقالت البعوضة بألم بالغ:
ـ من أخبرك ِ ان حياتنا هذه هي الأولى!
[3] عقوبة
ما ان بلغ الثالثة من عمره حتى
راح يبحث عن سجن المدينة، وما ان عثر على الباب، ودخل، وقابل السيد مدير السجن،
حتى وجد الأخير يقول له:
ـ تفضل... أنا استمع إليك.
فقال الطفل بثقة تامة:
ـ أرجو ان تصدروا أمرا ً بسجني!
ـ لكنك لم تقترف لا جريمة ولا جنحة ولا حتى إساءة إلى احد، فأنت طفل عاقل،
طيب، وديع!
ـ هذا إذا كنت، كما تقول، لم اقترف ذنبا ً كبيرا ً، أو ذنبا ً صغيرا ً....،
لكن ما إدراك إنني لم ارتكبه، في الماضي، وأنني لن ارتكبه في الأيام القادمة...؟
ـ لكن ليس لدينا مادة قانونية تسمح لنا بإلقاء القبض على من لم يرتكب الجريمة،
أو يشرع بارتكابها!
فكر الطفل قليلا ً وقال بثقة
تامة:
ـ الم تقرأ المثل القديم القائل: ما من امرأة قط ولدت ابنا ً بريئا ً!
[4] قراءة
تذكر قصة الألماني إبان الحرب العظمى الثانية
عندما وضع في السجن، لأنه ـ قبيل اندلاعها ـ كان يولول، ثم أعيد إلى السجن ـ بعد
انتهاء الحرب ـ لأنه لم يكف عن القهقهة، فقال يخاطب نفسه، انه أمضى الخمسين عاما ً
الأولى من حياته، يبحث عن أمل، ولم يجده....، وها هو يوشك ان يكمل الخمسين عاما ً
الثانية من عمره، ولم يفلح بالعثور حتى على وهم!
ـ ما الحكمة في هذا أيها العجوز...؟
تمتم ـ مع نفسه ـ وهو يمشي خلف
رجل رآه يمشي خلف آخر:
ـ الناس، في الغالب، لا يقرأون....، وإذا اجبروا على القراءة فإنهم لا
يفهمون....، وإذا فهموا فإنهم لا يحركون ساكنا ً!
[5] طلقاء
عندما ذاع خبر وفاة السيد مدير
السجن، انتشرت أنباء عن إطلاق سراح
السجناء، بعد ان كانوا قد امضوا سنوات طويلة فيه. لكن أحدا ً من السجناء لم
يكترث للشائعات، أو كانت تعنيهم بشيء. حتى إنهم، في اليوم التالي، عندما شاهدوا أبواب
السجن مشرعة، الأبواب الداخلية، وأبواب الممرات، والبوابات الكبرى، لم يلتفتوا للأمر،
فراح كل منهم، كما في الأيام السابقة، يؤدي عمله الذي اعتاد عليه، بهدوء، ومن غير
تذمر، أو شكوى تذكر.
مدير السجن الجديد سأل مساعده:
ـ الم تخبرهم بأنهم أصبحوا أحرارا ً!
ـ نعم، أخبرتهم، سيدي.
ـ لماذا لم يغادروا السحن، بعد ان أصبحوا طلقاء....؟
أجاب المساعد مضطربا ً:
ـ بعد حوار طويل وشاق معهم، قالوا ان وجودهم، هنا، لا علاقة له بالراحل
المبجل، آمر السجن! ولا علاقة له بالمدد الزمنية للعقوبات، فالجميع كانوا قد
انهوها منذ زمن بعيد ...
ـ ماذا إذا ً...؟
ـ قالوا إنهم عندما يخرجون من السجن، فليس لديهم ما يعملونه، أو يفكرون
به...، وقالوا إنهم، لو تركوا السجن، فقد تحدث الفوضى، وتسود الاضطرابات..
فسأل المدير مساعده بحيرة:
ـ ولكن أين سنضع السجناء الجدد...؟
ـ أنا فكرت طويلا ً في الأمر، وقد حصلت على موافقة الجهات العليا ...
ثم أضاف بعد لحظة صمت:
ـ لا معنى لبناء أجنحة جديدة، ما دام لا احد يفكر بالهرب، فالمدينة مازالت
واسعة، وتتسع للجميع!
[6] مشاهد
بشرود، تمتم مع نفسه: كانت
رصاصة واحدة تكفي إنهاء حياة إنسان، أو ....، طائر، أو غزال: رصاصة لا يتجاوز
حجمها نواة التمر، أما اليوم.... متابعا ً بالشرود نفسه: فالمشاهد العادي، في
فترات الاستراحة، أو التسلية، فانه يشاهد، عبر وسائل البث المباشر، بتنوع
تقنياتها، ما لا يحصى من وسائل القتل.....؛ بالكاتم، والمدافع، والهاونات،
والراجمات، والصواريخ بعيدة المدى، وبالكيماوي، وبالسيارات المفخخة، بالخبل أو الذبح بالسيف، بالحرق أو بالرجم، بالصعقات
الكهربائية أو التذويب بالأحماض، بالإشعاعات النووية أو بالبراميل المتفجرة،
بالعبوات، والأحزمة الناسفة أو بالسكاكين ....
قبل ان يفقد وعيه، تساءل، وهو لا
يعرف أأغلق التلفاز أم أغلق رأسه:
ـ فهل المشاهد العادي يستطيع الذهاب إلى النوم وهو قرير العين؟
[7] اختلاف
وجد نفسه يتساءل: كانت وسائل الإعلام،
قبل عقود، تحرص على إخفاء كل ما كان يخدش
الذوق ...، ويؤجج العواطف، ويستفزها، وكل ما كان يثير القلق، والخوف،
والاضطراب.... ثم قال متابعا ً: أما اليوم، فهناك وسائل الاتصال ـ بتنوعها وتقدمها
وجوده البث ودقته وصفاءه ـ فإنها تحرص على النقل المباشر ....، كانت فضائح الماضي تحدث بعيدا ً عن الأنظار،
تجري بسرية، وكتمان، على خلاف ما يتم عرضه، الآن، بسلاسة، وشفافية، للتطور الحاصل
في الأسلحة، ولتتطور الحاصل في وسائل متابعة أكثر البشاعات خفاء ً، وعرضها، أمام
أنظار الملايين، وعلى مدار الساعة.
[8] اختلاف آخر
متابعا ً: كانوا يلتقطوننا من الشوارع، ومن
البيوت، ومن المزارع، ويأخذوننا مقيدين ومعصوبي البصر إلى السراديب، والى الغرف
الموصدة، وهناك كانت تجري حفلات أنزاع الاعترافات ....، بعدها أما يتم إطلاق
سراحنا، بعد دقائق، أو ان تختفي أخبارنا إلى
الأبد، لا كاميرات تصور، ولا مخبر يخبر بما جرى.
اليوم، أضاف بلا مبالاة، يتم
الاحتفال بالقتل، في الهواء الطلق، أمام أنظار الجميع، ومن غير اعتراضات تذكر،
وهذا هو الفارق بين ما كان يجري في ظلمات الغابات، والوديان، وأعماق البحار....،
وبين ما يتم تصويره بأكثر التقنيات تقدما ً: موت صامت، ذهب مع الزمن، وموت آخر،
راح يعيد صياغة الزمن!
[9] مقارنة
عندما أدرك ان مدينته، تتهدم،
تتفكك، وتتوارى، سأل نفسه:
ـ اخبرني كيف تكونت اصلب المعادن، وأكثرها مقاومة للاندثار ...؛ المعادن
التي طالما بدت إنها غير قابلة للزوال، والتلف...؟
أجاب، بلا عاطفة:
ـ العوامل التي كونتها هي ذاتها تضمنت زوالها!
فقال بمرح شارد:
ـ وهكذا إذا ً، عندما تموت مدينتي، أجد مصيري يتهاوى معها!
[10] تذكر
راح يردد مع نفسه: لا تمش خلف
مبصر، حذار ان تفعل ذلك، فانه ـ لا محالة ـ يقودك للمشي في دروب موحشة، قاسية،
قاحلة، تفضي بك إلى الوحدة، والسكن في أقاصي الاعتزال....، امش خلف أعمى يسبقه
أعمى.....، وامش خلف أعرج يهرول خلف أعرج، وتابع اثر من يتابع اثر خسيس....،
فالخروف ما ان يغادر القطيع، لا تتركه أنياب الذئاب طليقا ً.
إنما تذكر أيضا ً، انك عندما
تكون في القطيع، لا تمشي إلا باتجاه بوابات المجازر، كي تخرج منها، معلبا ً،
فالأفواه البشرية بانتظارك، فاختر بينهما، لأنك لا تمتلك إلا ان تخرج محفوظا ً
بأكياس، وعلب، أو يتوزع جسدك بين الضواري.
[11] مشاهد
شاهد، للمرة الآلف، الفلم: هناك
من يتضرع، طالبا ً الرحمة، مستغيثا ً، مستنجدا ً، وطالبا ً العفو ....، وفي الجانب
الآخر، هناك من يطلق النار ..
متابعا ً ـ غير مصدق ما كان يراه ـ
ان الجثث كانت تتكدس، وثمة من لم يمت بعد: والله نحن أبرياء....، لسنا قتلة، ولا
علاقة لنا بهم، لسنا من التكفيريين، ولا من الكفار، لسنا أولاد زنا، ولا متعصبين،
نحن كائنات بشرية ......، ولدنا، وعشنا.....، كالبهائم، بل لم نحصل حتى على حقوق
الحيوان.....، لسنا من الأحرار، ولا من العبيد، ولا من أنصار الله، ولا من أنصار عمر،
ولا من أنصار فرعون....، نحن حيوانات لم يكتمل نموها.....!
كانت الجثث تتكدس، غير مصدق ما
كان يراه، وقد شرد ذهنه، لبرهة، انه لا يرى فلما ً أو عرضا ً مسرحيا ً، بل يرى
صورا ً واقعية، موثقة، وغير مزيفة .....، فاستعاد .....، في لمحة ـ انه في ذات
مرة، ومع زميله الشاعر ـ عاش المشهد ذاته بلا رتوش!
وجد انه لا يرى شيئا ً، عدا
رائحة باردة، لها مذاق العفن، راحت تحاصره من الجهات كافة، مرددا ً: والله نحن
بهائم لم تغادر زرائبها بعد!
[12] امرأة ما
بعد سنوات طويلة من البحث عن امرأة
ان يمضي معها ما تبقى له من العمر، لم يعثر على واحدة تمتلك الشروط التي وضعها نصب
عينيه...، فقرر، أخيرا ً، ان يذهب إلى الماخور، وهو اكبر مبغى في المدينة. التقى
المسؤول وطلب منه ان يرى أجمل سيدة فيه....، حصل الأمر. وما ان شاهدها حتى كف عن
النطق. ابتسمت السيدة وقالت له: أنا لست جميلة فحسب، أيها المحترم، بل جادلني في
ما تشاء من موضوعات الجدل. جادلها، فأفحمته، حتى ود لو أعلن عن أسفه لها انه تأخر
كثيرا ً في التعرف عليها. فقالت له ولم تفارقها ابتسامة ملغزة رقيقة: تريث ...،
أيها الموقر، فانا أود ان تلقي نظرة على هذا الدفتر!
ألقى نظرة دقيقة ليعرف إنها،
في نهاية كل شهر، كانت تتبرع بمبالغ طائلة للأيتام، وللأرامل، وللنساء العفيفات!
فقال يخاطب نفسه بصوت شارد: آن للمشرد ان يفقد سعادته إلى الأبد!
وخاطبها: جميلة، وفيلسوفة، ومؤمنة، لا اصدق!
لكنها قالت له: تريث! لأنها أخبرته إنها اقتنت مساحة من الأرض شيدت فوقها
قبر لها ، تزوره، عند الفجر، ترقد فيه، ثم تعود إلى الكلجية، فهل ـ خاطبته ـ بصوت
رقيق:
ـ أنت مستعد ان تحفر لك قبرا ً، بجوار قبري، وتزوره في فجر كل يوم، لتدرك
ان الدنيا لا تدوم لأحد...؟
شرد ذهنه، وخاطبها، بعد قليل:
ـ أتسمحين لي ان أعلن عن اسمك، وشخصيتك، ووجودك ...؟
ـ تقصد .....، اسم شريكتك في الحياة؟
ـ نعم!
ـ لكنك لو فعلت، يا شريكي، فأنهم سيهدمون المبغى هذا فوق رؤوسنا، وآنذاك ـ
لو فكرت في العثور على شريكة حياة لك ـ فانك لن تجدها، ليس لأنها بلا وجود....، بل
لأنك تكون قد فقدت وجودك!
بغداد:
20/8/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق