أختام*
عادل كامل
[19] ديمومة
هل حصلت تغييرات جذرية، بعد ظهور الفلسفات، واختفائها، وانبثاق أنظمة اقل قهرا ً، أو أكثر، لديمومة الحياة، في تحديد معانيها، ومعنى وجود الإنسان...، بوصفهما علاقة صاغتها أسبابها التاريخية، وأسبابها السابقة على مكوناتها، عناصرها المرئية، واللا مرئية، المبنية على تتابع له غاياته، أو بوصفها أنأى من القبض عليها، والتسليم بها، كي تتغير الرؤية، تقلب، تعدل، أو يتم التسليم بذهابها ابعد من مداها التاريخي ـ ومن كل محاولة لوضعها داخل سجلات من الأعراف، والقيود، والمحرمات؟
لا توجد مؤشرات باستطاعتها أن تخترع إيمانا ً لإنسان لم يعد أسير برمجته المادية، من الأرض ـ مرورا ً بالمجموعة الشمسية، إلى المجرة، وباقي مكونات المديات ذات الحافات الأبعد، وقد برهن (الدماغ) انه سيبقى يحث خطاه نحو ما لا يمكن حصره، أو حتى فهمه بوصفه حقيقة راسخة، تامة الشروط، والعلل. فكلما تقدمت العلوم، والأفاق، والبرامج، والأدوات..الخ، بدا إن العالم يتكون من اتساعات، امتدادات، مخفيات، لا تعمل وفق نسق الفلسفة (المبنية على اللغة) أو الرؤية المشيدة بالتصورات، بل على خلع الإنسان وتركه في مواجهة اللا متوقعات، معزولا ً؛ معزولا ً حتى عن وعيه، جسده، ممتلكاته، رموزه، وهو يدرك إن التراتبية، وأي سلم مكون عدد محدد من الدرجات، وليست المثنوية، أو الجدل، ولا الصراعات الجانبية، التي لم تخطر على البال، ستعمل على إعادة صياغة مفهوم يبعث على: الذهول، الخشوع، تارة، وعلى الارتداد والتزمت حد استحالة زحزحته، تارة ثانية.
فإذا كان حكماء الأزمنة السحيقة، بما امتلكوا من سحر، وعلوم سحرية، ومهارات تجريبية مستحدثة، أكثر تقدما ً، صاغوا إضافات لمكتشفات لا وجدود لها إلا بوصفها وجدت توا ً، بحسب البيئة، المعلومات، والمهارات المنبثقة، وفق التقدم أو اللا محتمل، فان الدوافع ـ في عصرنا ـ تجعله يتقدم بثقة لا يمسها الشك، نحو ذروته، وليس لديها ـ هذه المواقف والفلسفات ـ ما تتستر عليه، أو تخفيه.
وليست نزعة اللا انتماء، التي لفت كولن ولسن النظر إليها، في كتابه (اللا منتمي) حديثة، أو مستحدثة، فهناك، منذ البدء، ذلك الهاجس الداخلي لمرهفي الحواس، دفع للسير من المحدود إلى الحافات المتحركة؛ ثمة مجرات لم تكتشف بعد، فيما هناك، في الأعماق، قوى لا مادية غير قابلة للرصد، وعبثا ً جاءت النتائج ووضعتها في اطر، وأشكال، فالكون اللا حافاتي، غدا خلاصة مفاهيم مثل: المطلق، واللا محدود. فثمة صدمات يصعب على الوعي المحدود أن يحافظ على توازنه، وأصوله، مع إن (النمل) البشري، في البرمجة التاريخية، هو النسبة العظمى، وهو الذي يمتلك وقود الحضارات، ورمادها. فهل ثمة ـ بعد بزوغ تطبيقات للمفاهيم العدمية، المدمرة، ولظهور عبادات للموت، والجثث، وعبادات هستيرية تمجد العدم، خطابات فنية، أو معادية للفن، باستطاعتها أن تعدل، وليس أن تقلب، هذا المشهد؟
ليس باستطاعة المحدود، إزاء اللا كل، وغير القابل للمعرفة، وللتعرف، أن يترك حواسه تتطابق مع القوانين التي صاغت منه هذا التنوع، في الاستجابة، ودحضها، كي لا يجد خلاصه، وسكينته، إلا وهو يرى أطيافا ً لا لون لها، ولا أشكال، مثل أثير أو غبار أو أية مادة استحالت إلى نقيضها، كي تغيب المقدمات، مثلما سيعترف باستحالة وضع نهاية لا نهاية لها مادام اللا ـ محدود، لا بالاسم، ولا بالمعنى، ولا بالرمز، يعوض المسار بافتراضات وهمية، وإنما بأصولية تضع الإنسان وكأنه وجد كي يغيب، لعلة، مهما تنوعت الإجابات عليها، ستمتد،وهي تدحض مقدماتها، أو باستكمالها لذاكرة لم تنقش بعد فوقها زوالات لم تتكون بعد. إنها ليست دورات، من الإلكترون إلى غبار المجرات الذي يبدو سديما ً، أو أثيرا ً، أو معتما ً من شدة لمعانه لمرات مضاعفة عن درجة إشعاع شمسنا، بعد أن بدا ً مظلما ً إزاء تلك الأنوار اللا محدودة في توهجها (بل وكأن نجمنا ليس أكثر من لهب قنديل في كهف أو في كوخ)، بل جنونا ً احتفاليا ً، إن كان مهرجانا ً للقتل، والعنف، أو كان ابتهاجا ً، أو فرحا ً حد الغيبوبة، لا معنى له خارج معناه إلا برؤية الأثر يأخذ موقعه في رماد الأبدية، من غير سر، لغز، ومن غير أسف، أو فعل للدفن، إنما على قوة الغواية ـ وديناميتها ـ أن تعمل على اختراع من تغويه، ولا تسمح له إلا أن يكمل تتابعها، وإكمال برنامجها، وما على (الموت) إلا أن ينجب المزيد من المواليد، بضرورة باليات عمله، وعلى المعضلة، كي تبدو بالغة الإتقان، أن تعجن، من الوحل والنار والهواء والماء، عصاة ظرفاء، لا تمنحهم إلا لغز الذهاب ابعد من فتح الأبواب الموصدة، فالذي يأتي، ويتم الاحتفاء به، ليس إلا من الماضي، إنما من المستحيل عزل مصيره عن لا حافاته الأولى، وهي لا تدع مجالا ً إلا للاحتفال بهذا العبور..!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق