بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 25 مارس 2016

20 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

20  قصة قصيرة جدا ً



" لم تلد امرأة ما قط ابنا ً بريئا ً"
مثل سومري
"إن البراءة كلمة باطلة وكل منا مجرم أمام الجميع"
دستويفسكي


عادل كامل

إلى صديقي عدنان المبارك، وهو يكافح من اجل عالم اقل دناءة، وقسوة.
[1]  بغاء
    ليس ـ في حديقتنا ـ باستطاعة احد البت بالأسباب التي أفضت  بالغزال لاختيار مهنة البغاء، مهنة لها، بدل المهن الأخرى المعروفة، في السيرك، أو الملاعب، أو في اختيار المرعى، أو الانزواء بعيدا ً عن الأضواء، والمهرجانات، والاعتكاف في ركن بعيد.
     ولكن احدهم افلح بالتعرف على سرها، وقد أخفاه عنا، حتى بعد أن غابت الغزال عن الوجود، ولكنه لم يفلح بكتمانه، عند لحظات احتضاره، فأعلنه، لي.
    قال انه عرف إن الغزال استأجرت حجرة صغيرة في جناح الملاهي، وملاعب الليل، وإنها اختارته للعمل معها، بوابا ً، مهمته الإشراف على ترتيبات الداخلين ـ والخارجين، من تلك الغرفة، التي كانت تمارس فيها البغاء، لسنوات طويلة.
   قال لي انه سمعها ـ ذات يوم ـ تقول لأحد زبائنها: يا سيدي، إن فعلتها، فستدخل النار! فيسألها الزبون: وإن لم افعلها؟ فتقول له: تبتعد عنها درجة. فيقول: وماذا افعل بهذا المال؟ تقول له: دعه لي.... ، فانا أخذه لأنفقه على الطرائد والمشردين والمستضعفين والنازحين والأيتام والأرامل وكبار السن....، فيسألها: ها أنت لا تسمحين لي بمسك، وأنا جئت اطلب المؤانسة، كما لا تدعيني ارتكب الإثم، ثم تطلبين المال مني، من غير جهد؟ فتقول: ها أنت ابتعدت درجة ثانية عن النار. فيتعجب، مستسلما ً لطلبها، فيعطيها كل ما معه، ويغادر كما دخل. فتقول له: ها أنت  اقتربت درجة من الفردوس.
   وقال البواب لي: والغريب إنها مكثت تعمل في المبغى حتى حانت ساعة وداعها للحياة! فسألتها: ما سرك يا أيتها الغزال؟ فقالت لي: لا سر في الأمر، لأنني كنت ادعوهم إلى عدم ارتكاب الإثم والابتعاد عنه، أما لماذا كان عليهم دفع المال، من غير حق، فكان يقربهم خطوة من الفردوس..!
   وما أن أوشك البواب على الرحيل، حتى استدعاني، ليروي لي هذا السر. ولكنني سألته: لماذا مكثت تعمل معها سنوات طويلة، والمكان مشبوه، ولم تفارقها..؟ فقال: هي لم تتركني؟ فسألته: مهنة البغاء أم الغزال؟ قال: لا المهنة ولا الغزال! بل الحياة! وتركته يسترسل في كلامه، فقال متابعا ً: الحياة  التي كلما سبرت غورا ً من أغوارها ازددت شغفا ً بالتعرف على سر من إسرارها!
ـ وها أنت دعوتني قبيل موتك، فماذا تود أن تقول لي، ولماذا اخترت مكانا ً مشبوها ً للعمل فيه؟
قال:
ـ أنا كنت الشاهد الوحيد على عفة الغزال، وطهارتها. فانا كنت، في كل يوم، أتتبع خطى هؤلاء وهم يغادرون من غير دنس، أو إثم.
   صمت قليلا ً، ثم باح لي بسر آخر ـ قال ـ انه كان قد اقترن بها، وفق شرعيتنا، وإنهما، هو وهي، بعد ذلك وجدا لذّة في قهر تلك اللذات..! قال انه لم يلمسها، ولا هي طلبت منه ذلك أيضا ً.
 بعد ذلك، أنا فضحت السر،  قبيل موتي،  لأنني لم احتمل أن ادفنه معي، ويغيب، كما غابت الغزال، وكما غاب من حفظ سرها. .!

[2] النعجة تفكر!
    مكثت النعجة تتبع خطوات الذئب، حتى توقفت عند باب وكره، فسألها:
ـ ماذا تريدين؟
أجابت بصوت خفيض:
ـ خلصني!
ضحك الذئب وقال لها:
ـ أنا لم أتركك حبا ً بك، ولا حبا ً بمن ستحملين به وتلدينه، ولا حبا ً بالخراف أو الراعي، أو بأي مفهوم من مفاهيم الرحمة...؟!
وسكت. فسألته مذعورة:
ـ لماذا إذا ً تركتني؟
ـ لأنني ـ أنا نفسي ـ ابحث عمن يخلصني...، فإذا كنت انشغلت بإيذائكم، طوال حياتي السابقة، فانا اليوم، أصبحت منشغلا ً بالبحث عن هذا الذي لا يدعني منشغلا ً بأمثالكم!
فقالت بخوف اشد:
ـ  ما اقساك...، حتى وأنت تتوب لم يخل قلبك من الجور؟
فرد بذهن شارد:
ـ  وما شأني أنا...، أيتها النعجة العزيزة، فإذا كنت أنا هو المسؤول، أفلا يعني هذا إني بلغت ذروة الكفر، والمعصية؟
    ضحكت النعجة، وقالت بمرح:
ـ الآن عرفت كم الرحمة ـ من غير قسوة ـ أكثر درجة من الجور!
   فاقترب منها:
ـ اسمعي؛ أنا سأذهب للنوم...، وعندما استيقظ، سأكون جعت...، فانتظريني عند الباب، ولا تبرحي!
قالت:
ـ  وأنا سأنشغل بأكل العشب، والارتواء من ماء النبع، وتنفس الهواء العذب...، وتأمل السماء الزرقاء، كي تجد شيئا ً في ّ يسد جوعك!

[3] غريب
   بعد أن رأى بالتلسكوب العملاق، مجرة تلتهم أخرى، وتبتلعها، خاطب نفسه  بشرود تام:
ـ الغريب أني أمضيت حياتي بالحصول على بيت صغير...، ولم افلح، والأغرب....، من ذلك، إنني كلما جمعت مبلغا ً لشراء قبر لي، سرقوه مني...، بل والأغرب من ذلك إنني كلما حصلت على كفن كي استر به جسدي عند الموت، لم أجد شيئا ً يستحق الدفن....!

[4] نور
ـ من...، من في اعتقادك ارفع درجة: الظلام أم النور...؟
ـ النور!
ـ ولكني ادعوك أن تمحو الظلام....، فماذا سترى؟
ـ لا أرى شيئا ً.
ـ فلماذا تعجلت وأجبت..؟
ـ  وهل تركت لي فرصة لقول كلام آخر؟ آ .... لو كان سؤالك: هل هناك ظلام من غير نور؟


[5] مصائر
    بعد أن وضعت الأتان كرا ً...، سمعت ابنها البغل يفطس من الضحك وهو يتمرغ في الوحل....، فسألته:
ـ ما الذي يضحكك، وأنا ولدت حمارا ً صغيرا ً؟
   رفع رأسه، محدقا ً في عينيها الذابلتين، تارة، وفي عيني شقيقه المتوهجتين، تارة ثانية، فكف عن القهقهة، وصار ينوح بصوت مكظوم عميق الحزن، فسألته:
ـ ما الذي يدعوك إلى البكاء الآن...؟
بعد صمت وجيز أجاب:
ـ في المرة الأولى قلت لنفسي: لا اعرف أأشكر أبي الحصان، أم أشكرك ِ ، لأنكما ولدتماني بغلا ً...، حيث تتوقف عندي سلسلة أحزان الحمير! وفي المرة الثانية، وأنت تضعين ًكرا ً جميلا ً، أدركت إني لن اقدر على تخليص شقيقي من عمر سيمضيه في حمل الأوزار...؟
ـ كأنك تحملني ما لا طاقة على حمله، وأنا غير مذنبة في الحالتين!
 ابتعد خطوة عنها، قائلا ً:
ـ مادامت المصيبة لا تلد إلا مصيبة، فهل باستطاعتي أن أكون سعيدا ً وقد أدركت تماما ً أن هناك سواك، من الاتانات، تلد بغالا ً.....، حتى لو كنت عقيما ً، فالمضحك المبكي، شبيهة بالمبكي المضحك، كلاهما لا يقود إلا للمزيد من المرح المر، فانا لم اختر مصيري، ولو كنت اخترته، فهو اشد مرارة من مصائر الحمير!


[6] سر
ـ هل تود أن أخبرك بالسر؟
ـ أتمزح معي؟
ـ لا!
فضحك حتى سقط أرضا ً:
ـ  لو كنت عرفت السر..، لكنت بعداد الغائبين!
ـ ولكني عرفته، مع إنني أخاطبك...
ـ ها أنت أسرفت بالكلام....، فلو كنت عرفته، فهل كان تركك تتندر بالحديث عنه...، فالسر أما أن يقتل صاحبه، وأما صاحبه سيقوم بدفنه!


[7] جوع
    بعد مطاردة وجيزة، امسك النمر بالثور، وانبت أنيابه في رقبته، فسمع النمر الثور يتمتم بصوت لا يخلو من التندر:
ـ كنت أظن انك تعلمت الرحمة؟
جفل النمر، فسأله:
ـ ماذا تقصد؟
ـ  أن تكون مثل البشر...، تتركني اسمن، ثم تذبحني بالسكين! بدل أن تمزق جسدي بمخالبك وتقطعني بأنيابك!
ـ آ ....، آنذاك سأكون وضعت في القفص...، بانتظار  لحمك يأتيني باردا ً! أو أن لا أجد طعاما ً يقيني من الجوع!


[8] محنة
سأل الحفيد ـ التواق للمجد ـ جده الذي ركل في مكان قصي، في جناح المفترسات:
ـ ما ـ هي ـ أقسى المحن التي اكتويت بها، ولم تنج منها، يا جدي؟
  اضطرب الجد:
ـ المحنة التي أنا فيها!
ـ ولِم َ لم تخبرني بها، كي أخلصك منها؟
بعد صمت طويل قال الجد:
ـ بماذا أخبرك...، وهل ستصدق؟ فإذا أخبرتك: إن محنتي إنني بلا محنة! لأن  الذي وهبها لي، هو لا يريد أن يخلصني منها!، فقد تركني لا انتظر مسرة اسر بها، ولا عذابا ً اكتوي به أو أتوجع....، فبعد أن خبرت أحوال الحدائق، وأحوال الدواب، والبهائم، والأنعام ـ بعد أن عشت في البراري والغابات والمستنقعات والوديان ـ صرت أرى الحياة تمر مر السحاب، فلا هي أخذتني معها، ولا أنا انجذبت إليها! لم احلم بفردوسها، ولم اخف من جحيمها!
   ابتسم الحفيد، وقال لجده:
ـ الآن عرفت لماذا عزلوك!


[9] كلمات
    لم تعد الحمامة الأم إلى عشها، فسأل الصغير شقيقه:
ـ هل ارتكبت إثما ً ...؟
رد بخوف:
ـ انه السؤال ذاته الذي دار ببالي، وقلت: من منا ارتكب الخطيئة، كي نموت جوعا ً، ونحن لم نر في الدنيا إلا هذا القبر الذي اعد لنا قبل الولادة؟
أجابه:
ـ المعضلة انك تعلمت الكلام، قبل أن تتعلم الطيران!
ـ يا أخي... لو كنت تعلمت الطيران، لكان الكلام هو الأداة الوحيدة الأكثر فتكا ً!
ـ ولكن دعنا نسأل أنفسنا، قبل أن نموت: إذا كنت أنت لم تتركب إثما ً، ولا أنا..، فقد تكون أمنا العزيزة ارتكبت الفحشاء، وقامت بعمل أهلكها؟
ـ ربما يكون والدنا؟
   قال الأول بصوت خفيض جدا ً:
ـ ها أنت تدرك إننا ـ أنا وأنت ـ لا نستطيع الحصول على الطعام، ولا نقدر على الطيران، ولكننا بحاجة لمعرفة من منا ارتكب الإثم كي نعاقب  ..؟
ـ ربما لا احد منا، لا أنا ولا أمي، لا أنت ولا أبي، فعل شيئا ً، وهذا ما يدعونا إلى الكلام!
ـ وماذا نفعل والموت يدنو حتى لو كنا أبرياء تماما ً.
ـ آ ...، قد يكون الكلام هو الخطيئة الوحيدة التي نعاقب عليها، فانا ادعوك إلى الصمت، لعلنا نموت من غير ضجة، ومن غير كلمات!

[10] طعام
    قالت الدودة لرفيقتها، وهما يقفان في أعلى الشجرة:
ـ انظري...، ما أوفر الطعام في هذا اليوم...
فردت عليها:
ـ مازال عطر هذه الجثث حادا ً...
ـ لننتظر ... فستتفسخ!
ـ اجل.، إنها لا تستطيع الهرب، فلِم َ العجلة...
ـ لكن... انظري....، هناك الحشرات، وهناك الطيور، وهناك الضباع ....
ـ لا تكترثي، يا عزيزتي....، فالحرب بين الأشرار لم تنته!

[11] مصائر
ـ لم يبقوا مكانا ً لنا، في هذه الزريبة...، فدعنا ـ يا جدي ـ نهرب، ونبحث عن ملاذ...
  لامست نظرات الصقر العجوز قضبان القفص ببصره، بعد أن شاهد الساحات تكتظ بجثث التماسيح، والنمور، وبأشلاء أفراس النهر والفيلة، بالثيران والسباع، وببقايا الحيتان والغزلان، وبأخرى مازالت تتمرغ، تتلوى، وهي تبحث لها عن مخبأ، بعد أن غزت الحديقة مجموعات من الكائنات الغريبة، مجهولة المصدر....
فتمتم الصقر العجوز مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ  ومن ذا يستقبلك...، وسكان الحدائق، والمحميات، والبراري، بلا استثناء، شاركوا بالقضاء عليك، اجتثاثك، ومحوك من الوجود؟
    فصرخ احدهم:
ـ هل نستسلم للموت من غير مقاومة؟
   عاد الجد يتأمل قضبان القفص بنظره الشارد، متندرا ً، وأجاب:
ـ  حتى لو كسرنا قيود هذه الأقفاص، فمن ذا سيحطم قضبان السجون الأخرى...؟

[12] لغز



    افتتح البغل محاضرته حول أسباب العنف، ودوافعه المستترة، والمخفية، والمموهة بأقنعة تتحول من عصر إلى آخر، ويتم استبدالها، وتجديدها، بشعارات مناسبة، شاملة جميع الأنواع التي انقرضت، ومن هي على قيد الانقراض، مؤكدا ً إن في العنف غواية لا تقاوم، وتبدو متجذرة، لكن ...، هذا كله لم يلغ لغز وجودنا، وأضاف البغل بحزن:
ـ يبدو أن موتنا، وخاتمة حياتنا، قد وضعت قبل أن ترى عيوننا النور....، وإلا ....، ما معنى إنفاق هذه الموارد، والثروات، والطاقات، في جعل الموت حقيقة غير قابلة للدحض؟
ثم أضاف بعد برهة صمت:
ـ الأمر الذي يجعلني أتساءل: ماذا لو أنفقنا هذه الموارد، والطاقات، والثروات، ببناء حياتنا من غير غوايات القتل، وسفك الدماء؟
رفع السبع مخالبه وتساءل:
ـ وماذا افعل بهذه المخالب...
وتساءل الذئب:
ـ وماذا افعل بهذه الأنياب...؟
  فقال البغل:
ـ الم ْ اقل لكم ...
قبل أن يكمل عبارته، توزع جسده، بين المفترسات، باحتفال وجيز، وهو يردد:
ـ الم اقل إن العنف وحده كتم لغز ديمومته!


[13] الحمامة والغراب
سألت الحمامة البيضاء، القابعة في قفصها بجوار الغراب الأسود:
ـ  لابد إن حزنت شديد حتى انك لم تستبدل لونك الأسود هذا أبدا ً...؟
فأجاب من غير تفكير:
ـ ولابد إن أفراحك، أيتها الحمامة، لا يناسبها إلا هذا البياض، مع إننا جميعا ً لم نغادر هذا السجن!

[14] عقار
   التقى الديك ابن أوى، في الطريق، فسأله:
ـ لو سألتك أتقول الحق؟
ـ وهل لديك شك أني لا أقول إلا الحق...؟
ـ حسنا ً...، كم مرة أعلنت توبتك؟
   لم ينتظر طويلا ً، ليقول:
ـ بعدد المرات التي أثمت فيها؟!
فسأله الديك، قبل أن يهرب ويتوارى منه:
ـ لكن لِم َ لم تتب مرة واحدة والى الأبد كي تذهب إلى الفردوس؟
ـ الحق أقول لك، إنني حاولت ذلك...، ولكني كلما ارتكبت الإثم اشتقت إلى التوبة، وكلما تبت ازددت شوقا ً للاثم! فهل لديك عقار لا يدعني أتوب كي احن إلى ارتكب الآثام، وهل لديك عقار لا يدعني ارتكب الآثام كي أتوب؟
من بعيد، صاح الديك:
ـ  لو كان لهذا العقار وجود، في هذه الدنيا الموحشة، المقفرة، والكالحة، لكان بني البشر عثروا عليه، وتركونا نموت بهدوء!

[15] المصيبة
ـ انظروا.....، هذا هو من كان يهتف: عاش التمساح الطاغية...
    احتشد قطعان الدواب، المواشي، والزواحف من حوله، يتقدمهم كبير الجرذان،  فقال بصوت خفيض:
ـ رويدكم...
ورفع صوته:
ـ  أنا لا أتنصل، ولا أنكر، ولا اعتذر....، إني هتفت بحياة الطاغية التمساح...
فساد الصمت برهة بدت كالأبدية، ليقول متابعا ً:
ـ  فالسيد كبير الجرذان أفرط في مدح الضباع،  ومساعده كان يعمل بمعيته في الحرس الخاص، والأخر أثنى على زعامة الثعالب،  والسيد آمر جناحنا كان مرشدا ً لقائدنا الفيل، وقد بح صوته في ذكر محاسنه، والثناء على حكمته، ورجاحة عقله....
   امتد الصمت، ولم يرد عليه أحدا ً، فقال يخاطبهم:
ـ فأنت ِ...، يا بومة، الم تشتمي الشمس، وأنت َ يا غراب، الم تمجد الظلمات...، وأنت ِ يا حرباء...، هل اعترضنا على تلونك بحسب الظروف....، وأنت يا نورس الم ترقص عندما غمرنا الطوفان...
    فتقدم منه كبير الجرذان، وسأله:
ـ والآن، في هذا الزمن، ماذا تقول...؟
  اقترب منه وقال هامسا ً:
ـ تبا ً للزمن الذي يدعوني اهتف فيه: عاش الجرذ!
فسأله:
ـ لكنك هتفت بحياتي!
ـ المصيبة أعظم لو إني كنت لعنتك، والأشد منها إني لو كنت صمت!

[16[ الموت
ـ ماذا تريد مني وأنت تتبع ظلي أينما ذهبت؟
أجاب الآخر بسؤال:
ـ وهل لديك ظل كي أتتبعه؟
ـ إذا ً سأتسمر ـ هنا ـ حتى يدركني الموت!
ضحك الآخر، مبتعدا ً عنه، حتى كاد يتوارى، فصرخ يسأله:
ـ هربت ... إلى ... أين؟
ـ سأدعك متسمرا ً وأنت لا تحلم  إلا أن أتيك وأخلصك!
ـ آ ....، الآن...، عرفت من تكون...، فأرجوك لا تتركني، وقد صار الموت خلاصي!

[17] خسارة
ـ أتعرف .... لماذا يذهب البعض إلى الموت، بشوق، حتى تظنه عثر على خلاصه...؟
ـ ربما لأن الحياة سلبت منه، وما عاد يفهمها..، فأصبحت فائضة ولا تعني عنده شيئا ً يذكر...، فراح هؤلاء يبحثون عن مكان آخر...، غير المكان الذي أصبح موحشا ً، وخرابا ً...؟
ـ لكن من سلبهم الحياة؟
ـ ربما من رآها ذات معنى، وفهمها، ليجني مكاسب جراء إنزال الموت في الآخرين!
ـ ولكن ـ يا سيدي ـ الجميع هم بحكم الموتى...، من يدعوا إلى الموت أو من يموت ...؟
ـ ربما أن يأتي الموت متأخرا ً، بعض الوقت،  أفضل من حياة لا معنى لها! وربما الخسارة ذات المعنى خير من الربح المفقود مهما كان كبيرا ً!

[18] مرح
   شاهد الذئب حارس الحديقة يغلق أبواب الأقفاص الحديدية، ويتأكد من إحكام أقفالها، فراح يضحك، ويضحك بصوت جهوري، حتى لفت انتباه الحارس الذي اقترب منه، وسأله:
ـ ما المضحك في الأمر...؟
ـ المضحك انك أصبحت تخاف على نفسك منا، بينما الحقيقة هي علينا أن نخاف منكم!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد ...، لو تركت الأبواب مشرعة، فانك لن تجد أحدا ً منا سيغادر أقفاصه، بعد سنين طويلة أمضيناها فيها، أو يفكر القيام بعمل طائش، بعد الرفاهية التي حصلنا عليها، لأن القضاء عليكم لن يحل المعضلة، بل يسفهها!
ـ ولكن هذا يدعوا للبكاء؟
ـ يكفي إننا بكينا طويلا ً، وآن لنا أن نقضي ما تبقى من أعمارنا مرحين!

[19]  قهر
    للمرة الأولى شاهد النورس، عند ضفاف النهر، دبا ً يصطاد السمك، سمكة بعد أخرى، ولكنه بدل أن يأكلها، كان يمزقها بمخالبه، ويسحقها بأنيابه، ويعيدها إلى الماء... فاقترب النورس منه، شارد الذهن، وسأله:
ـ يبدو انك تلهو ...؟
ـ لا!
ـ ماذا تفعل إذا ً...؟
ـ اعمل!
ـ أقتلك للسمك تدعوه عملا ً...؟
ـ لا!
ـ اشرح لي، أرجوك، فعقلي لا يستوعب ما تقوم به..
ـ أنا أتدرب على الصيد، يا عديم العقل!
وأضاف بزهو:
ـ لأنني لو لم افعل هذا...، فانا ساجد نفسي عاطلا ً عن العمل، أو أصاب بالخمول!
ـ آ ...، الآن فهمت لماذا تدوم الحروب بين بني البشر، لأن من يعمل على قهرها، ُيقهر!

[20] حدائق وسجون
ـ دعنا نهرب، يا صديقي، ونعثر على ملاذ آمن لنا...
ـ ولكن قد نقع في الأسر، ويلقى القبض علينا، أو ربما نقتل...؟
ـ هذا أفضل من انتظار الموت...
فرد عليه بصوت مرح:
ـ أنا لم اطلب منك البقاء بانتظار الموت، معنا، كما لا أمنعك من الهرب، والبحث عن خلاصك، مادام الموت آت على الجميع، اليوم أو غدا ً...؟
ـ ولكني ما أن اذهب بعيدا ً عنكم حتى يتم نسياني، وأصبح كأنني لم أولد ولم أمت؟
ـ يا صديقي...، ليس ثمة مشكلة في الأمر: فعندما تنجو وتجد ملاذا ً آمنا ً لك،  فآنذاك تنسانا، ولا تعرف شيئا ً عنا، وفي الوقت نفسه، نحن أيضا ً لا نعرف شيئا  عنكً!
ـ آ ...، يا صديقي ..فأنت اخترت قفصك ولا ترغب بمغادرته...، أما أنا فسأجازف بالهرب لعلي أنجو...
ـ لا بأس..، فنحن عشنا سنوات طويلة داخل أقفاص هذه الحديقة، وأسوارها، أما أنت، فستعيش داخل قفص بلا حدود...، ولكن هذه الحدود، يا عزيزي، لن تذهب ابعد من أسوار حديقتنا أبدا ً! فنحن اخترنا مصائرنا بإرادتنا، أما أنت فقد اخترت حريتك بمعزل عنا!
ـ هكذا إذا ً سأصبح نسيا ً منسيا ً، واسمي سيزول من ذاكرتكم؟
ـ يا صديقي...؛ إنها المسافة ذاتها، إن حصلت هنا، أو هناك...، فإما أن تعيش في حديقة هذا السجن، أو تعيش سجنك داخل هذه الحديقة! فجدنا الأعظم قال لنا ذات يوم: مسافة العدم واحدة، إن مشيتها وأنت في سجنك، أو مشيتها وأنت خارجه!!
ـ كأنك لا تريد مني أن اهرب، وأنجو...؟
ـ وهل تقدر أن تنجو...، إن هربت أو لم تهرب، مادامت السجون لم تبن إلا وسط الحدائق، ومادامت الحدائق لا وجود لها إلا داخل هذه السجون! فأينما وليت فإما حديقة مسّورة بالجدران، وإما  لا وجود للجدران إلا داخل الحدائق!
23/3/2016
Az4445363@gmail.com







هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

اعتقد ان فكرة الخلاص هي الاصيله في تكوين هذه الخطابات القصصيه الرائعه ... دمت بسلام استاذنا الرائع