الجمعة، 25 مارس 2016

عادل كامل الذي تفوّق على نجيب محفوظ ولم ينل شهرته- وفاء السعيد



عادل كامل الذي تفوّق على نجيب محفوظ ولم ينل شهرته

وفاء السعيد
عادل كامل ينتقد كتب التراث العربي ويقول إنها لا تصلح إلا أن تكون كتبا يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم، مسددا ضربة قوية لكل الموروثات الثابتة.
لا مراء في أن الأديب “العالمي” نجيب محفوظ قد استحق عن جدارة صفة “العالمي” المتبوعة بالأديب، لتعبر عن تلك الشهرة الواسعة التي حظي بها أدبه والتي اتسعت بالقدر الكافي لتتخطى حدود القطر، بل المنطقة العربية والإسلامية بأسرها لتصل به إلى بلدان وثقافات عديدة، إذ ترجمت أعماله لعديد من اللغات الأجنبية. بالإضافة إلى كونه الأديب العربي الوحيد حتى الآن الذي حصل على أرفع جائزة بوسع أيّ أديب أن ينالها، وهي جائزة نوبل في الآداب عام 1988، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن أيّ أديب عربي آخر إلا أن يصل إلى قائمة الترشيحات لتلك الجائزة العالمية. وبذلك أصبحت كتابات محفوظ هي نافذة القارئ الغربي على مجتمعاتنا.
ولا أقابل أحدًا من الباحثين الغربيين أراد أن يتخصص في دراسة ثقافتنا العربية إلا وكانت إحدى روايات محفوظ المترجمة هي سبيله إلى ولوج هذه الثقافة الغريبة عليه، وكثيرًا ما يصطحبون روايات مثل “بين القصرين” أو “زقاق المدق” وغيرها في حقيبة سفرهم وهم قادمون إلينا لاستكشافنا، وفي وعيهم الصورة التي رسمها لهم محفوظ في كتبه، فيقيسون مدى قرب أو بعد الواقع الحالي منها، فأصبح بذلك جزءًا من معيار حكم الآخرين علينا. وربما كان إغراق محفوظ في “محليّته” هي التي أدّت به إلى فضاء العالمية الواسع.
ولكن هل طغى نجم شهرة محفوظ المتوهّج على ما عداه من المبدعين من أبناء جيله فأصاب نجمهم الأفول واعترى سناهم الوهن، فلم يبقوا في ذاكرة القارئ المصري سوى أشباح باهتة لا يُرى منها إلا ظل أو خيال، ولا يصلنا من أعمالهم الإبداعية إلا النزر اليسير بعد أن يقفزوا فجأة لذاكرة إحدى دور النشر، فتعيد طباعة أعمالهم الفذة، فتوقظهم من سباتهم العميق وتعيد جريان الدم في أوصال شهرتهم الواهنة فتعطيها قُبلة حياة وتعيد إحياءهم في الذاكرة من جديد. هل كان هذا خطأ محفوظ أم المبدعين المعاصرين له أم هم المخطئون؟ أم أننا نحن المتلقين لدينا ذاكرة ضعيفة لا تتكبد عناء التنقيب في الماضي؟
المنسي
عادل كامل، أديبٌ مصريّ من مواليد عام 1916، تخرج في كلية الحقوق عام 1936. ليبدأ بنشر أعماله القصصية والمسرحية مبكرًا، وربما كان أسبق في نشرها من عدد من كُتَّاب جيله، فنشر عدة مسرحيات على نفقته الخاصة منها “شبان كهول” عام 1938، و”فئران المركب” ثم مسرحية “ويك عنتر” عام 1941، كما نشر عددًا من القصص القصيرة في مجلة المقتطف في الأربعينات من القرن الماضي، ومن أهم هذه القصص “ضباب ورماد” التي نشرت في يناير 1943.
وكان كامل قد هجر الأدب مبكرًا حوالي العام 1945 بعد أن تشكك في جدواه ليلجأ إلى عمله الأصلي في مهنة المحاماة التي جلبت له الثراء المادي واشتهر بها، إلا أن المخرج توفيق صالح كان يتردد عليه ويزوره في أوقات متباعدة، وقد كشف لنا أن كامل لم يتوقف عن الكتابة بل ظل يكتب دون أن ينشر.
بيان (في تأديب مليم في فنون اللغة والأدب) لعادل كامل يعتبره الناقد شكري عياد باكورة من بواكير الحداثة، والأديب خيري شلبي يقول عنه إنه تأسيس لثقافة جديدة بفكر جديد يتيح أدبا وفنا جديدين كل الجدة، في إحدى يديه معول وفي الآخرى مسطرين، فالهدم والبناء يمضيان في خطوة واحدة في اتساق مذهل
كتب عادل كامل روايتين “الحل والربط” و”مناوشة على الحدود”، وقد قام نجيب محفوظ بنشرهما في مجلد واحد ضمن منشورات “دار الهلال” عام 1993، إلا أنهما لم يُعد طبعهما ولا نجد لهما أثرًا في المكتبات. بيد أن شهرة كامل في الأوساط الأدبية ترجع إلى روايته “ملك من شعاع” التي نشرتها لجنة النشر للجامعيين عام 1941، واستقى موضوعها من التاريخ الفرعوني والتي نالت الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1943، ونال نجيب محفوظ الجائزة الثانية عن روايته “كفاح طيبة” التي كانت تعود أحداثها إلى التاريخ الفرعوني أيضًا.
وقد تميّز كامل بالفعل في روايته التي كانت أشبه بالبحث العلمي في حفريات التاريخ الفرعوني الذي وطّأ لها بتقدمة، ثم ألحق بالنص الروائي قائمة مراجع تظهر شغفه بالبحث، مستخدمًا بذلك الأدب كنوع من التقصي لسبر غور معين تلك الحضارة التي لا تنضب، كما أنه استغل روايته في دعوة للسلام ونبذ الاقتتال والحرب بين الشعوب واستند إلى الحدث التاريخي كي يلقي بظلاله على قضية إنسانية في ظل عالم اجتاحته الحروب العالمية والتطاحن بين الشعوب، فاتخذ من شخص “أخناتون” الذي يؤرخ بأنه أول مَنْ اهتدى في البشرية إلى عقيدة “التوحيد” قبل ظهور الأديان وإرسال الرسل والأنبياء، في زمن الوثنية وتعدد عبادة الآلهة.
ويقول كامل في مقدمة روايته “فغزو الممالك أمر سهل لقربه من الغرائز البشرية في أبسط صورها. ومثله حب الفخار وإظهار العظمة. ولكن المعجز حقًا هو أن يستطيع فرد وحيد أن يقول لشعوب العالم أجمع: أنتم جميعًا مخطئون لأن الحقيقة على هذه الصورة، ولم تكن الحقيقة التي وصل إليها ‘أخناتون’ حقيقة عادية”.
وقد كانت رواية محفوظ “كفاح طيبة” رسالة في جوهرها، بالمقارنة برواية كامل، عادية تُظهِر قصة تلهب الشعور والحماسة الوطنية وتزكي مشاعر رغبة الشعب في التحرر من نير الاستعمار، فاتخذ من شخصية “أحمس” وقصته محورًا، والرواية مملوءة بمشاهد الحروب وتصوير الدماء والاقتتال، فما ميّز كامل هو نبذه أصلًا لفكرة “الحرب” ذاتها وأن تُغير الأمم الأقوى على الأضعف فتسلبها شرفها وحريتها، وأراد أن يرى الجميع العالم من المنظور الرومانسي الأخلاقي الإيماني الذي أراد به “أخناتون” أن يرى العالم وأن يتخذ اجراءات سياسية تحول دون تورطه في إراقة دماء الأبرياء، من أجل أن تزيد مساحة المملكة المصرية وأن تُغير على شعوب الشام الآمنة ليضيف إلى سجلّ آبائه وأجداده مزيدا من البطولات العسكرية الزائفة التي تأتي على حساب ملايين من أنفس الأبرياء ويجني الفرعون شرفًا تخلده التماثيل ويُنقَش على الجدران وتُشيّد لأجله المعابد ويسبّح بحمده الشعب على حساب أرواح البسطاء المساقين لجحيم المعارك، وهو ما لم يستطع له سبيلًا وحاق بمشروعه الفشل الذريع.
وكانت الرواية التاريخية في ذلك الوقت نمطا من الكتابة يغري هذا الجيل الذي تأثر بدعوة “سلامة موسى” للتمسك بالهوية الفرعونية المصرية، وكان سبقهما صديقاهما “علي أحمد باكثير” و”عبد الحميد جودة السّحار” في هذا المضمار.
نجيب محفوظ يصف عادل كامل بالقول إنه “كاتب مبدع، من طليعة كتاب جيلنا بلا جدال”، ويروي محفوظ أن كتاب هذا الجيل كانوا قد تعارفوا في العام 1942 لتضم مجموعتهم عادل كامل، وعبدالحميد جودة السّحار، وعلي أحمد باكثير، ويوسف جوهر، والمخرج توفيق صالح، والشاعر صلاح جاهين وغيرهم. وخلعوا على أنفسهم اسم (الحرافيش)
شلة الحرافيش
قال نجيب محفوظ عن عادل كامل “كاتب مبدع، من طليعة كتاب جيلنا بلا جدال”، ويروي محفوظ أن كتاب هذا الجيل تعارفوا عام 1942. الجيل الذي ضم عادل كامل، وعبدالحميد جودة السّحار، وعلي أحمد باكثير، ويوسف جوهر، والمخرج توفيق صالح، والشاعر صلاح جاهين وغيرهم. وخلعوا على أنفسهم اسم “الحرافيش”.
وكان كامل قد دعا محفوظ للانضمام إليهم. وقتذاك كان الجميع في مستهل حياتهم الأدبية، وكان كامل في طليعة هذا الجيل من حيث الجودة والامتياز كما يقول محفوظ. نستطيع القول إن نوعا من التنافس الخفي والشريف أيضًا كان بين الكاتبيْن
المعاصريْن لبعضهما في ذلك الوقت. ونستطيع أن نقسّم المراحل الروائية لدى الكاتبين ونضعهما سويًا في نفس التصنيف؛ إذا كتبا معًا “الرواية التاريخية” المشار لها آنفًا فضلًا عن أن محفوظ سبق “كفاح طيبة” بروايتين هما “عبث الأقدار” و”رادوبيس”، ثم انتقلا معًا إلى الأدب الواقعي، فقد نشر راويته “مليم الأكبر” وكذلك محفوظ نشر روايته “السراب” في وقت متزامن، وتقدما بها معًا للتسابق لنيل جائزة مجمع اللغة العربية، وقد منيا معًا بخيبة رفض إعطاء الجائزة لأيّ من المتنافسين، وهذا كان السبب وراء هجر كامل للأدب والتشكك في جدواه بعد صدمته. كما أنهما كتبا الرواية التجريبية وإن لم يقبل كامل بعد ذلك على نشر أعماله، فكتب كامل “مناوشة على الحدود”، وكتب محفوظ “اللص والكلاب” وعددًا من الروايات.
غيظ الصديق
أغلب الظن في عودة كامل للكتابة هو فوز محفوظ بجائزة نوبل للآداب. وقد أعلن الكاتب زكي سالم في كتابه المنشور حديثًا عام 2014 بعنوان “نجيب محفوظ .. صداقة ممتدة” أن عادل كامل بعد فوز محفوظ بنوبل كان قد قال “الآن فقط أعلن أنني أخطأت حين توقفت عن إكمال مشروعي الأدبي”. ربما هذا ما ميّز شخصية محفوظ الدؤوبة ما انعكس في غزارة إنتاجه الأدبي واستمراره في الكتابة، وقال محفوظ إن كلام عادل كامل عندما أصيب بالإحباط وبدأ يتشكك في جدوى الكتابة الإبداعية “أخذ كلامه يدور في هذا المعنى، حيث أنه لو أن كلامه أثّر فينا تأثيرًا حاسمًا لكنا جميعًا هجرنا الأدب مثله”. ولكن لا نريد الحكم على موقف كامل بالسلبية ربما أراد أن يسجل موقفه الاحتجاجي من المشهد الثقافي برمته بأن يبتعد عنه وتلك كانت طريقة مبدع حقيقي يحترم نفسه ولا يتخذ من الأدب حرفة أو صناعة كما انتقد هذه التسمية.
على أن صدمة عادل كامل في امتناع مجمع اللغة العربية عن إعطائه الجائزة عن روايته “مليم الأكبر”، حرمتنا من أن يستكمل أديب نابه مشروعه الأدبي والروائي، وأهدتنا نصًا تأسيسيًا بديعًا هو “في تأديب مليم في فنون اللغة والأدب”. اعتبره الناقد شكري عياد باكورة من بواكير الحداثة، والأديب خيري شلبي قال عنه “تأسيس لثقافة جديدة بفكر جديد يتيح أدبًا وفنًا جديدين كل الجدة، في إحدى يديه معول وفي الآخرى مسطرين، فالهدم والبناء يمضيان في خطوة واحدة في اتساق مذهل، فلم يكن غريبًا إذن أن يكون البيان الأم، الذي تولدت منه كل الأفكار والقضايا الحداثية الدائرة الآن في الساحة الثقافية العربية، حتى نستطيع القول وبضمير مستريح إن جميع مقولات الشاعر السوري أدونيس الخاصة باللغة العربية وبالشعر وبالتراث العربي، مأخوذة من هذا البيان الفذ. إن هذا البيان يعتبر أهم بيان حداثي في تاريخ الأدب العربي الحديث”.
شهرة كامل في الأوساط الأدبية ترجع إلى روايته 'ملك من شعاع' التي نشرتها لجنة النشر للجامعيين عام 1941، التي استقى موضوعها من التاريخ الفرعوني ونالت الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1943، بينما نال نجيب محفوظ الجائزة الثانية عن روايته 'كفاح طيبة'
الأدب المصري المنكوب
أعلن كامل في بيانه أن حسبه محاولة إرضاء غيره ولن يرضي بعد اليوم سوى نفسه. إلا أنه أبى أن ينزوي قبل أن يقول كلمته ثم يحمل حقيبته ويرحل إلى داخل نفسه. قدم نقدًا واعيًا لقضايا غاية في الأهمية تؤكد ريادته في هذا المجال. فقام بنقد كتب التراث العربي وأنها لا تصلح إلا أن تكون “كتبًا للفراش” ما يتسلى بها القارئ وتعينه على النوم. كما أنه سدد ضربة قوية لكل الموروثات الثابتة والتي رآها السبب في نكبة الأدب العربي.
وانتقد أسلوب الكتّاب المعاصرين الذين يسيرون على النهج القديم بوصف “الجاحظ” وغيره مقياسا لما يجب أن يكون عليه الكاتب العربي الحق، فأفسد هذا الاعتقاد الأدب العربي قاطبةً وخلّف لنا تراثًا من ألفاظ وكلمات حتى ظن كامل أن الأمة العربية أمة تقتات على اللفظ وتعيش عليه ولا تعرف الأفعال. كما أن الإسراف في استخدام “البلاغة” وحشو النصوص بغريب الألفاظ المترادفة والمسجوعة قد أضعف وأفقر اللغة العربية في آن والتي يفتخر البعض بثرائها للسبب نفسه.
أكد كامل على أن لغتنا الثرية هي في واقع الحال لغة غاية في الفقر لأنها لم تتعدَ كونها لغة الزمان والمكان، فهي لغة بدوية بدائية وما التعقيد في ألفاظها إلا دلالة على أنها لغة ارتبطت بتأدية وظيفة معينة في بيئتها ولا يصح أن يستعمل الكاتب العربي المعاصر نفس تلك اللغة القديمة ولا أساليبها البليغة البالية، بل يجب أن تحدث “ثورة” فكرية ولغوية تمحو القديم وتستبدله بما هو نافع.
فالأمم المترقية عندما تخلت عمّا يثقل لغاتها من أعباء كالإعراب والقواعد النحوية أصبحت لغات طيعة مرنة غير عصية على الأجنبي تعلمها وتسهل للأديب أن يحسن التعبير بها فأفاد منها أقوامها فتطورت بذلك ونضجت حياتهم الفكرية والاجتماعية.
وفي هذا السياق يؤمن كامل بالوظيفة الاجتماعية للأدب ودوره في النهوض بالأمم والشعوب وما تخلفت أمتنا العربية إلا لأنها لم تقم بإصلاح مجال اللغة. وبهذا المعنى بحسب قول كامل ليس للغة العربية آدابٌ بالمعنى المفهوم من الغرض الذي قامت به في الغرب، وفن الراوية المنقول عن الغرب أساسًا، ففي رأيه أن الأدب الغربي هو الأدب الصحيح، وهو الذي يلبي حاجات مجتمعه، وإن أرادت الأمة العربية نهوضًا فعلى الجيل الجديد من كتابها أن يتبنوا الاقتداء بما سبقهم في تحقيقه الغرب.
والجدير بالذكر أن جميع الآراء التي ناقشها كامل في ذلك الوقت كانت تدور في إطار “الحداثة الغربية” وإيمانها بسيادة عقل الإنسان وقدرته على توليد المعنى، وأن الفن محاكاة واستدعاء نظريات أرسطو وأفلاطون في الفن. إلا أن المشهد الثقافي والفكري الحالي قد تبدّل تبدلًا شديدًا حتى أن كل المقولات التي تبناها كامل ودافع عنها واجهت هجومًا شديدًا من قِبل ما بعد الحداثيين، وهذا تطور حادث في الثقافة الغربية منذ عقود قليلة ماضية. ولكن بعد أن ترك كامل كلمته وبحثه الهام في الحداثة الأدبية، علينا أن نتساءل هل حققت اللغة العربية والأدب العربي ما كان يصبو إليه طموحه وقتذاك؟ فمازال الطريق أمامنا شاقًا وطويلًا.

رحل عادل كامل عن عالمنا في عام 2005 بهدوء كما أراد لنفسه دون أن يثير ضجة أو يشعر به أحد وترك لنا نزرا يسيرا من النصوص التي لا تشبع نهم القارئ من موهبته التي نتحسر على عدم استمرارها.

ليست هناك تعليقات: