أختام*
عادل كامل
[20] مرايا ومرايا مؤجلة
لا تستطيع أية فلسفة عدمية، وأية قوة تدميرية، وضمنا ً هذا التيار الجارف للانتحاريين، أن تزعزع ذلك الفاصل بين عصر ما قبل (المرآة)، وما بعدها. ليس لأن الحياة قائمة خارج إرادتنا، وكل إرادة من صنع المتراكمات، التاريخ، أو بفعلها، وإنما لأن الوعي المضاد ذاته سيشكل امتدادا ً لها. وبمعنى ما فان اكتشاف (نرسس) الرمزي، لذاته ـ مع تحديد بؤر الخطر: كل ما هو في الخارج، وصولا ً إلى التدمير الذاتي للذات ـ سيدفع بالوعي إلى ذروته: ألانا على حساب الآخر، مما منح الجميع قدرات أعلى في صياغة مبررات الإرادة: ليس بالعودة للحفاظ على (الذات) وتراكماتها، بل للعثور على مسوغات تتوازن فيها شراسة التصادمات، وعدميتها، لكن ثمة قوة ما ستستعيد انبثاقها، على حساب حيوات ستتوارى، ابعد فابعد، كي تمنح الإرادة صيرورتها: وكل ما لم يدشن بعد.
فهل كان باستطاعتي أن أكوّن قناعة ـ غير مبرمجة بإحكام ـ غير عمياء، لا أتسلى بها، ولا أتقدم في المجهول، لا يكون الاضطراب فيها مدمرا ً، بل متوازنا ً مع هذا الذي يمنح وجودي حده الأدنى من الثبات، والسكينة، ولا يدعني أتستر خلف مرايا وجودها لا يمتلك إلا قوانينه الراسخة: أنا أو الآخر...؟
قبل أن يرى (نرسس) وجهه فوق سطح الماء، لم يخف، انه رآه قيد الزوال، متموجا ً، إنما، في لحظة الاكتشاف، تشبث بما رأى، وسيعمل وفق اكتشافه، لذاته. إنما ثمة مسيرة طويلة تسبق هذا الاكتشاف، ومراحل لاحقة ستجعل من المواجهات حتميات لفهم القانون ذاته، ليس إلا التصادم المرئيات عبر تحولاتها إلى ذرات، والى كتل، يدمر بعضها البعض الأخر، شبيهة بتصادمات الذرات في النار، وشبيهة بتصادمات المجرات، والنجوم، في الفضاء الأكبر.
قبل أن يتعرف نرسس على انه: وجه، ولغة، ودهشة، كان يرى في الآخر، شبيها ً له: فكانت الحياة متوازنة عبر صراعها العنيد. وها هو يكتشف انه يمتلك قوة باستطاعتها أن تقول للآخر: إن لم تكن معي فانا لن ادعك تراني عدوا ً! لكن هذا لن يدوم. فكل الحروب تخمد، مثلما خمدت البراكين التي كونت قاراتنا، كي تعمل المرآة، لا في اكتشاف خفايا النفس، ولا شعورها السحيق، أو في لاوعيها المبرمج بمعزل عنها، بل لاكتشاف حتمية إن الكون، يمتد، ويمتد، متسعا ً، إلى ما لانهاية.
إنها سلسلة تصادمات، إنما لن تقدر أن تضع نهاية لهذا الاشتباك، إلا بالمساومة، كي يأخذ الصلح دوره في ديمومة الاحتفال، وكي يفضي إلى: مرآة شاملة. فعندما لا يوجد منتصر في نهاية المطاف، لا توجد هزيمة أيضا ً. فهل المرآة الشاملة، واقعيا ً، مسارا ً انصهرت فيه الروافد القديمة، أم تحضيرا ً لعصر مداه يقع خارج حدود كوكبنا الأزرق الصغير، والأخير يعالج أفوله بعقارات جميعها شبيهة بالسم الكامن في الغوايات...؟
ها أنا لا أرى إلا ما رآه مدوّن قصة الخلق: العماء! فأمد أصابعي كي اعثر على موطئ قدم، فالعالم الذي لا اعرف عنه شيئا ً، لا يقع داخلي، ولا يقع خارجي، لا لأنه عالم مرايا، وتصوّرات، وصيرورات، حسب، بل لأنه هو كل هذا الذي لا استطيع إلا أن أتوارى فيه، كي أدرك، في نهاية الأمر، إنني أسير غوايات، حتى في عملي المضاد لها.
ويا له من مجد، وانتصارات ظريفة، لكنها، عمليا ً، وبقليل من الحكمة، لم تشيد إلا فوق الضحايا، والخراب، والخواء فحسب، بل لأنني عندما لا انتصر على الآخر، وعندما انتصر على (أناي)، فان الهزيمة وحدها ستمتد، وأنا أرى المرايا تتهشم، الواحدة بعد الأخرى، كي لا أرى إلا لا مرايا، تتجاذب، فاترك أصابعي تصنع أختامها، محاطة بحافات سبقها عدمها، كقوة بلا حدود، في الديمومة.
انه اللا كل وقد منح كل (أنا) إرادة خفية لاجتياز عصر العماء. فاستعيد دور الأعمى، واتمثله، في الحديث عن نجوم لم أرها، حولت إشعاعات الشمس، إلى فحم، داخل حضارات لم يدم صخبها، إلا ومضات داخل هذا اللا كل، عبر تصادم غوايات غابت عنها المرايا، من الخلف أو من الأمام، وقد اخذ اللا زمن موقعه، نائيا ً، في المحو. انه وجود انبثق من العماء، نحو عدمه، عبر حضور مسبوق بشظايا لن يدوم تجمعها إلا بحدود المسافة ذاتها بين الأزل والأبد، فهل تبقى لي رجاء عدا ترك روحي تحّوم برجاء لا علاقة له بي، أو بما رأيته، عبر مسرات الجحيم، والأصح: عبر جحيم المسرات المستحيلة...؟
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق