صرخة
و قصص قصيرة أخرى
عادل كامل
[يسرد دومينيك كوبا حالات وحشية بحق النساء، تتحقق كهجوم على الامومي. كما هي الحال مع هذه المرأة البوسنية في العام 1996: "في احد الأيام قام الجلاد بعصب نهود امرأة حتى يعرف كم سيستمر رضيعها في الحياة بدون طعام. ستقوم الأم نفسها بقتل ابنها من اجل الحد من آلامه.]
حورية عبد الواحد
[1] صرخة
انفجر الغراب الواقف بجوار حمامة، أمام المستنقع، ضاحكا ً، ذات صباح، متمتما ً:
ـ ذاك يعوي، والآخر يغرد، تلك تنق والأخرى تخور، السبع يزأر والحمار ينهق، ذاك يصهل والعصفور يزقزق...
فقالت الحمامة بلا مبالاة:
ـ هذه هي السيمفونية...!
ولم تكمل كلامها، فصاح الغراب:
ـ الخالدة!
قربت الحمامة رأسها منه، وناحت، فقال لها:
ـ هذا ما كان ينقصنا!
فقالت للغراب:
ـ أيها الحمار....، إذا كان كل هذا الألم لم يؤثر فيك..، فماذا افعل لك...؟
أجاب بهدوء:
ـ لم يكن الألم هو الذي بلغ أقصاه...، وسلب مني مشاعري، بل بحثكم المراوغ عن حياة يعيش فيها الحمل مع الذئب، والنمر مع الغزال...، والإنسان مع الإنسان!
[2] أسئلة
ـ هل تعلمت الدرس...؟
سأل الفار الأرنب:
ـ المشكلة إن الحياة تمنحنا الكثير الذي تسترده مرة بعد أخرى...
ـ أنا طلبت إجابة منك....، ولم اطلب منك إضافة سؤال؟
ـ المشكلة إن الحياة ستسترجع إجاباتها، ولا تترك لنا إلا أن نسأل...، وإن لم نفعل ذلك، تكون إجاباتنا أقسى من الأسئلة...!
[3] محنة
فكر السنجاب مع نفسه: لِم َ سكان هذه الغابة قساة، أجلاف، خالية قلوبهم من الرحمة، وكل منهم يظن انه لم يخرج من المجرى ذاته الذي تخرج منه الفضلات والشوائب...؟
ولأنه كان يحدث نفسه، وحيدا ً، في أعلى الشجرة، جاوب نفسه بسؤال:
ـ ألا تعتقد انك تفوقت عليهم بقسوتك، وعنجهيتك...، ولم تقل: إننا هبطنا من السماء؟!
[4] رغبات
بعد أن تعبت النعجة من الرقص، فوق المسرح، عادت إلى موقعها وجلست بجوار كبير الحمير، قال لها:
ـ حقا ً كل ما فيك يثير الدهشة، والغواية، والرغبات....
نظرت شزرا ً في عينيه الدمويتين:
ـ حمدا ً للرب انك لست من المفترسات...، ولا من البشر...
فصاح:
ـ لا تذكريني بالغابة، فالضواري مازالت تترصد خروجنا من المسرح!
وانخرط يبكي حتى فقد وعيه، فقالت مع نفسها:
ـ الآن عرفت لماذا اخترت الانتساب إلى أقدم مهنة فوق هذه الأرض!
سمعها الحمار، فقال لها هامسا ً:
ـ بعد فن القتل، وسفك الدماء!
[5] لعنة
قال العصفور يخاطب زميله، وهو يتأمل الحرب الدائرة بين الفصائل:
ـ ما هذا الإسراف في القتل....، كأن الجميع لا يدركون إنهم يحفرون قبور أحفادهم، قبل أن يبولوا على قبور أسلافهم!
ـ لا تكترث...، فالحرب لن تقضي على الجميع، لكن من ينجوا ...للأسف سيعيد ويبني الحياة التي نهايتها وضعت....، قبل أن يكون هناك سلام أو حرب!
[6] لغز
ـ اخبرني من آذاك...؟
ـ وأنا احتضر واستعد للموت اسأل نفسي: لِم َ كانت حياتي حزينة، حتى إني لم أصادف مخلوقا ً يبدد لي هذا الشك؟
ـ ولكنك ـ سيدي ـ مكثت تعاقب نفسك حتى فقدتها!
ـ كأنك تقول إنني كنت استثناء ً، أو كنت تقصد: عندما لا تجد من تؤذيه فلا مناص ستعاقب نفسك!
ـ لا! بل كنت أود أن أسألك: كيف نجوت....، لو لم تكن تمتلك دفاعات أنزلت فيهم ألما ً اشد من هذا الذي ستدفنه معك في التراب والى الأبد؟
[7] مسرة
بعد أن اكتشف الثور عقارا ً ما أن يتناوله حتى يتوارى عن الأنظار. سره الاكتشاف، مبتهجا ً، وقد أقام وليمة كبيرة للأبقار، الخيول، الخراف، والبغال...، لكن أحدا ً لم يستجب ويلبي دعوته، لأن أحدا ً لم يستطع أن يراه! لم يحزن، ولم يصدم لعدم الاستجابة له، لأنه ازداد فرحا ً عندما لم يره القصاب، ولا السبع، لا النمر ولا الذئب، لا التمساح ولا القط الوحشي....
إنما في ذات يوم، رأى القصاب يقود جده الأعظم إلى المسلخ، والسبع يطارد جدته، النمر يجري خلف حفيده العجل حديث الولادة...، فصرخ، كي ينقذهم، لكن أحدا ً لم يكترث له، ولا لصوته. فعاط، زمجر، وراح يرفس الأرض، ناح وخار ....، لكن بلا جدوى.
فأدرك إن العقار الذي اخترعه، بعد سنوات طويلة من الشقاء، العناء، والكد سمح له وحده أن يعيش حياة طويلة، لكنها خالية إلا من مسرة أن يرى الجميع يذهبون إلى الموت، عداه!
[8] سؤال
سأل كبير البرغوث ذبابة كانت تقف بجواره وهما يراقبان مهرجان قتل الصغار، والإناث، إبان الفوضى الهدامة:
ـ في تصوّرك ِ...، من هو أقسى مخلوق ظهر في هذه الحديقة، بعد أن نجونا من الطوفان...؟
كفت الذبابة عن الطنين، وأشارت إلى بلبل كان يغرد، بالقرب منهما:
ـ انه ذاك البلبل!
ـ ماذا تقولين أيتها الذبابة العزيزة؟
بعد صمت وجيز، قالت:
ـ أو ... هو ... أنت؟
ـ أنا؟
ـ هو يغرد، وغير مكترث للمجزرة، بينما أنت َ، يا كبير البرغوث، لا تكف عن امتصاص الدماء!
ـ ولكني أعيد عليك السؤال: هو أم أنا..؟
ـ هو سيمكث يغرد، رغم إنهم لم يتركوا له أحدا ً من البلابل، وأنت لن تكف عن أداء عملك حتى بعد أن تنتهي المجزرة.
[9] مفارقة
عندما لجأ الذئب الجريح إلى حقل الأرانب، يبحث عن ملاذ امن له...، لم يجد سوى ثقب حشر فيه جسده حشرا ً...، ليسمع من يسأله:
ـ من أنت..؟
ـ أنا كبير الذئاب...
ـ واآسفاه أن تفطس معنا، نحن معشر الأرانب...، بينما كنا لا نسعى إلا كي نلقى مصارعنا في ساحات الذئاب!
رفع رأسه وشاهد الذئاب تحاصره، بينما كانت أصوات الأرانب تأتيه من داخل الحفرة، فقال بشرود:
ـ عندما لا تعرف من هو عدوك..، ومن هو صديقك، تدرك انك غير مضطر للشعور حتى بالأسف!
[10]نورس
راح النورس يراقب أمواج البحر تحمل جثث الغرقى تلقى بها عند الساحل، في جزيرة نائية، فسأل نفسه: الآن لا اعرف أيهما أكثر قسوة؛ قلب الإنسان أم هذا البحر؟
سمع الريح تقول له:
ـ لا تحزن...، فالسماء مازالت زرقاء أيها النورس الأبيض!
[11] نباح
بعد أن افترس الكلب الحمامة، لم يستطع تجنب تذكر آخر حوار جرى معها:
ـ أتعرف كم أنا سعيدة...، وأنت تجهز علي ّ..
ـ تكلمي، أيتها الحمامة الوديعة...
ـ إنني لن اسمع نباحك، بعد هذا اليوم، لا في الدنيا، ولا في أي مكان آخر!
[12] بحث
ـ صف لي الجحيم؟
سأل العصفور البوم، الواقف بجواره، فلم يجب.
فقال العصفور:
ـ هل تود أن اصف لك الفردوس؟
فلم يجب البوم. لكن العصفور راح يزقزق متندرا ً:
ـ يبدو انك تبحث عن مكان ثالث؟!
قرب البوم رأسه من العصفور، وقال له:
ـ كان الأحرى بك أن تسأل كلبا ً أو هرا ًأو واحدا ً من البشر...؟
لم يتوقف العصفور عن الضحك، والتندر، متمتما ً:
ـ سألت كبير الكلاب فقال لي: اقترب مني... كي أخبرك!
ضحك البوم:
ـ وماذا فعلت؟
ـ عندما رأيت أنيابه صرت استنشقت رائحة جهنم ممتزجة بعطور الفردوس! فقلت مع نفسي: انه لا يمتلك الإجابة، إلا بعد أن يفترسني، آنذاك رحت ابحث عن حكيم آخر، وها أنا جئت أسألك يا سيدي!
ـ ومن أوشى بي، وقد قصد القضاء علي ّ...؟
ـ آ ...، الآن علي ّ أن ابحث عن هذا الحكيم!
[13] كمين
عندما أوقعت الضفادع كبير التماسيح في الكمين، وكبلته بشبكات من الحبال، راحت تعزف نشيد النصر، فرفع كبير تماسيح الحديقة رأسه قليلا ً:
ـ لا اشعر بالأسف إنني لم اقض عليكم، ولم اجتثكم من الوجود...، بل اشعر بالأسف إنني لا امتلك شيئا ً آسف عليه!
فخاطبه عظيم الضفادع:
ـ لو شاركتنا هذا النصر...، لعفونا عنك، واعدناك إلى المستنقع!
هز التمساح رأسه، متندرا ً:
ـ إن أقسى ما في الأمر...، ليس أن تمنحوني رحمتكم، بل لأن قوتي لم تكن إلا وهما ً! إنما، هذه هي الحقيقة: أن أراكم ترقصون على قبري، وأنا لم أمت بعد!
[14] الشر أم الفضيلة
تساءل الثعلب بصوت مسموع: لا اعرف أيهما أجدى: استئصال الشر أم منح الفضيلة فرصة الازدهار... وتبديد الظلمات...؟
رد مساعده بسؤال:
ـ ما الشر...، كي نحدد ما الفضيلة، وكلاهما يتناوبان على ديمومة هذا.... الذي لا يدوم؟!
اطرق الثعلب مفكرا ً مع نفسه: بات مساعدي يفكر كزعيم!
ثم رفع صوته:
ـ مادمت تخلط بينهما، فقد أصبح احدنا فائضا ً!
ـ اجل، سيدي، لكن البدايات لها نهايات واحدة...
صدم الثعلب بالرد، فاصدر امرأ ً بسجنه، فقال المساعد:
ـ أخبرتك، سيدي، كما إن للبدايات نهايات متشابهة، فان للنهايات بدايات متشابهة أيضا ً، وسر هذا الذي لا يدوم، لا يكمن، إلا في ديمومته، فلا احد انتصر على احد، مثلما من المستحيل أن تعّرض احدهما للخسران، إلا بما سيتعرض له الآخر!
[15] مناورة
ـ هل انتصرت...؟
سأل المساعد زعيمه الذئب، بعد رآه يفترس حملا ً وديعا ً، فرد الزعيم:
ـ أنا حذرته، ومكثت احذره، فلم يهرب، بل تجمد في مكانه، وراح يتبول، ويرتجف، فصرخت فيه: اهرب...، اهرب، الأرض واسعة! فانا لا ارغب أن افترس حملا ً متخاذلا ً!
ضحك المساعد:
ـ سيدي، وأين باستطاعته أن يهرب، وأنا كنت أسد عليه طرق الفرار، والنجاة، والهزيمة؟
[16] وداعة
وهو يلفظ آخر أنفاسه، شعر وحيد القرن بقدرة مفاجئة على إكمال وصيته، لأحفاده:
ـ فانا أدركت، منذ البدء، إننا من أكثر المخلوقات قبحا ً في هذا العالم، مع إننا أكثرها وداعة، ورغبة بالوئام..!
ـ أحسنت، يا جدنا، أحسنت..لكن..
وأضاف حفيده يسأله:
ـ ولكن لِم ً ترحل وأنت حزين، وكأنك تشعر بالأسف، والخسران؟
حدق في عيني حفيده بأسى عميق:
ـ لأن أكثر المخلوقات نذالة، شراسة، ومكرا ً أكثرها قسوة!
ـ ولكنك تستطيع أن ترحل بسعادة تامة..، فأحفادك لن يتخلوا عن وداعتهم، ولا عن دعواتهم للوئام.
هز رأسه:
ـ المشكلة إنني لن ادفن القبح معي فقط، بل لأنني ادفن الوداعة معي أيضا ً!
[17] طيران
عندما تعلم الفيل الصغير الطيران، وراح يحّوم في فضاء القفص الحديدي الكبير، ضحكت الطيور، فهمس احد العصافير في آذن الأخر:
ـ تخيّل ... ها هو يسرق منا سر الطيران.... وصار يلفت الأنظار، ويجني الإرباح المخصصة لنا!
رد الآخر بثقة:
ـ لا تحزن...، لن يدوم هذا طويلا ً...، فالجميع سيكتشفون أن أجنحته وهمية!
ـ ولكنها حقيقية...، يا صديقي، وهو مازال يحلق عاليا ً.
ـ لكنه لن يستطيع الذهاب ابعد من ذلك..
ـ تقصد ...، انه ـ مثلنا ـ لن يغادر هذا القفص، إلا بعد أن يكف عن الطيران؟
[18] معرفة
ـ تخيّل...، كم قاسية هذه الحياة حيث لا تسمح لنا أن نتعلم فيها إلا ... هذا القليل... الذي ستسترده منا، لأنه أصلا ً لم يخلق لنا!
ـ ألا يكفي انك عشت كي لا تكسب أكثر من هذا القليل...، الذي تفقده، بدل أن تبحث عن الذي وجدت من اجله!
[19] جحيم
ـ المشكلة، في النهاية، إنها تخترع من ينشغل فيها، ولكن كل من عمل على تجنبها، أو نبذها يجد إنها أغوته بالعثور على حل لها! حد الثمالة، بل حد الموت!
ـ ولهذا ـ سيدي ـ لو انشغلنا جميعا ً بوضع حل لها لكان وجود الجحيم من أكثر الأوهام صلابة!
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت لكان الفردوس من أكثر الحقائق وهما ً!
ـ أكاد افقد عقلي؟
ـ سيدي، لو كان لديك، أو لدي ّ، عقلا ً، لانشغلنا بتجنب هذه المشاكل!
[20] دماغ
ـ لو لم يكن لديك هذا الدماغ ...، بماذا كنت ستفكر؟
ـ سأخترع دماغا ً آخر كي أفكر بالعثور على وسيلة للخلي عنه، غير هذه الوسائل!
ـ وماذا لو تخلى ـ هو ـ عنك؟
ـ لا يكون هو ربح شيئا ً...، ولا أكون أنا خسرت شيئا ً يذكر!
[21] وداعا ً
حدقت الأم في عيون أولادها الثلاثة، ثم بدأت، بشرود، لكن بعزم، بربطهم إليها، وراحت تتأكد من عملها كي لا يفلت أيا ً منهم، كانت تشعر إنهم أصبحوا كتلة واحدة، متماسكة، كي تقبلهم، الواحد بعد الآخر، من غير مشاعر أسى، أو أسف، قبل أن ترمي بالأجساد الأربعة إلى النهر، نهر الفرات. لم ير المشهد إلا عابر سبيل، لم يقدر أن يفعل شيئا ً. صار الحادث متداولا ً بين الناس، حتى رواه احدهم عبر شاشة التلفاز، بكي، وهو يقول إن الأم لم تطق أن ترى أولادها يموتون من الجوع، فقتلتهم، وكف عن الكلام.
أما الكاتب، فكان يراقب ظل أصابعه يتلاشى فوق الورقة...، وثمة عويل شعر أن انه صار مثل يد راحت تكفنه، وتدثر جسده الضامر، داخل فضاء الغرفة، الذي، هو الآخر، راح يضغط عليه، من الجهات كافة، فاستسلم له، من غير لذّة، وتركه يتوحد مع ظله.
أفاق...
فراح يرى سيدة تناول ابنها البكر السم، فتناوله الابن، من غير سؤال، لكنها لم تحتمل أن تفعل الأمر نفسه مع ابنها الثاني...، فطلبت من مساعدتها القيام بالعمل...، وراحت تراقب، حتى تناول السادس السم، وهو يبادل أمه ابتسامة لم تفكر إن كانت علامة حزن، أم سرور بالغ...، لأنها راحت تتخيل الجثث السبع تصعد إلى السماء....، مع إنها كانت تأكد من موت الجميع، كي تتناول ما تبقى من السم، وتحتضنهم، بقوة.
ثم تذكر حادثا ً مماثلا ً حتى كاد يراه يجري أمامه: سيدة تدخل الحمام، مع ابنتيها، لاستنشاق الغاز، لكنها وحدها لم تنج، ورحلت، بعد أن تم إنقاذ البنتين، بأعجوبة.
رفع رأسه قليلا ً...، ليرى أصابعه تغادره، لكنه أحس إن الكلمات صارت تعمل كعمل المدية في القلب...، بحث عن أصابعه فلم يجدها...، شاهد الورقة تحوّم، مثل طيف، ثم رآها تتموج، ليرى سيدة تختفي في الماء، ثم لم يعد يرى إلا فراغات تشغلها ذرات خالية من الأصوات، لا أصداء لها...
وأفاق...
كان يرى جنديا ً يصوب بندقيته ويطلق النار نحو جسد ممد فوق الأرض، بدم بارد، تماما ً...، تكرر المشهد، رآه مرة، وثانية، وثالثة لم يعد يرى إلا بياض الشاشة وقد فقد لونه...، غاب الفراغ، وغاب الفضاء...، آنذاك بحث عن رأسه، فرآه بلا حافات، وعندما حاول التأكد من جسده، وجده، هو الآخر، بلا وجود، فأدرك انه لم يعد يمتلك ما يأسف عليه، وليس لديه القدرة أن يأسف على انه لم فقد رغبته بالأسف...، فلم يعد لحضوره وجدود، إنما لم يعد لغيابه أي اثر يسمح له بتتبع مساراته، كان بلا لون، ولا خطوط، وبلا أصداء، كان يستعيد مشهد الجندي وهو يطلق النار على الأسير الجريح الممدد فوق الأرض...، رآه يتلوى، ورأى الجندي يبتعد عن الأخر، من غير أسف، أو تذمر...، فعاد يرى الأم تربط أولادها إليها وترمي الجميع إلى الماء، رآهم يغرقون، ويرى السيدة تراقب مساعدتها تناول أولادها السم، ورأى سيدة ترحل داخل جدران موصده بجوار ابنتيها ... ، فبحث عن كلمة ينطق بها...، وجدها غابت، كذلك لم يجد أحدا ً يصغي إليه..، فأدرك انه لم يعد يمتلك قدرة فتح فمه، لم يعد يمتلك فما ً، وانه لم يعد يرى أحدا ً يراه.
[22] نظرية المؤامرة
سأل صديق صديقه العجوز الذي لم يهرب من الحرب:
ـ أراك لم تعد تؤمن بنظرية المؤامرة..؟
ـ آ....
تأوه، ولم يجب، فسأله مجددا ً:
ـ إذا كنت لا تؤمن بالنظرية...، ولا تؤمن بالمؤامرة...، فلماذا مكثت معنا ولم تبحث عن مستنقع آخر...؟
رفع رأسه قليلا ً ونظر له شزرا ً، بحيرة:
ـ ما دمنا ـ كلانا ـ وكل من في هذا المستنقع، سيموت...، فأي معنى لوجودنا، هنا، أو في أي مكان آخر؟
ـ ها أنت لم تعد تؤمن حتى انك ولدت...؟
أجاب بلا مبالاة:
ـ المشكلة التي انشغلنا بها، يا صديقي، لم تكن مشكلة نظرية بلا مؤامرة، ولا مؤامرة تنقصها النظرية....، بل مادام موتنا تقرر، قبل ولادتنا، فما فائدة إضاعة الوقت هذا بإثبات صواب النظرية أو دحضها؟!
ـ آ ....، هذه هي نظرية المؤامرة، يا صديقي، بلا زوائد، وبلا نقصان!
[23] اختلاف
اقترب الحمل من قفص الذئب، وقال له بلا سخرية:
ـ لا تقارن ديمقراطيتنا، اليوم، إلا بالفردوس القديم الذي فقدناه!
ابتسم الذئب، بمرارة مكتومة، وأجاب:
ـ تقصد إن فردوسنا القديم الذي فقدناه كان حقيقيا ً!
ـ ولِم َ ينتابني الشك...، مادمنا لا نستطيع نسيانه، أو إغفاله، أو محوه من عقولنا؟
ـ اجل ... أنت على حق، بعد أن تركوك تسرح وتمرح في القفص الكبير...، بينما أنا وضعوني وراء هذه القضبان!
ضحك الحمل:
ـ لا تكترث ...، فلا داعي للحزن، فلا أنت اخترت قيودك، ولا أنا اخترت حريتي...، وهذه هي الديمقراطية ـ الحقيقية ـ يا صاحب السعادة!
[24] إلى الأبد
قال الغراب للحمامة التي تقف بجواره، وهما يراقبان مصورا ً سينمائيا ً يتابع تصوير مجموعة كبيرة من السباع أوقعت غزالا ً وراحت تمزق جسده إلى أشلاء:
ـ لقد انتهى الأمر..!
قالت الحمامة بحزن:
ـ بل الأمر غدا بلا نهاية..، انه بدأ توا ... لأن مليارات البشر ...، سيتلذذون بإعادة مشاهدة السباع وهي تمزق جسد هذا الغزال!
[25] النار
ـ من في اعتقادك...، كان على صواب...، ومن كان على خطأ...؟
نظر الصقر إلى الحقل الذي تحول إلى رماد، وقال بصوت خفيض:
ـ اذهب واسأل النار التي لم تترك شيئا ً.
فقال الآخر حائرا ً:
ـ ولكن لا وجود للنار، فقد توارت!
هز رأسه:
ـ إذا ً لن تحصل على الجواب....، وإن حصلت عليه، لا يكون له معنى، وإن كان له معنى فلن تعرف من كان على خطأ ومن كان على صواب!
ـ كأنك تطلب مني أن أغلق فمي، واصمت إلى الأبد؟
ـ أنا لم اطلب منك أن تتكلم، كي اطلب منك أن تصمت...، ولكن ما دمنا لم نمت بعد، فان النار مازالت تتربص بنا!
22/4/2016
Az4445363@gmail.com
و قصص قصيرة أخرى
عادل كامل
[يسرد دومينيك كوبا حالات وحشية بحق النساء، تتحقق كهجوم على الامومي. كما هي الحال مع هذه المرأة البوسنية في العام 1996: "في احد الأيام قام الجلاد بعصب نهود امرأة حتى يعرف كم سيستمر رضيعها في الحياة بدون طعام. ستقوم الأم نفسها بقتل ابنها من اجل الحد من آلامه.]
حورية عبد الواحد
[1] صرخة
انفجر الغراب الواقف بجوار حمامة، أمام المستنقع، ضاحكا ً، ذات صباح، متمتما ً:
ـ ذاك يعوي، والآخر يغرد، تلك تنق والأخرى تخور، السبع يزأر والحمار ينهق، ذاك يصهل والعصفور يزقزق...
فقالت الحمامة بلا مبالاة:
ـ هذه هي السيمفونية...!
ولم تكمل كلامها، فصاح الغراب:
ـ الخالدة!
قربت الحمامة رأسها منه، وناحت، فقال لها:
ـ هذا ما كان ينقصنا!
فقالت للغراب:
ـ أيها الحمار....، إذا كان كل هذا الألم لم يؤثر فيك..، فماذا افعل لك...؟
أجاب بهدوء:
ـ لم يكن الألم هو الذي بلغ أقصاه...، وسلب مني مشاعري، بل بحثكم المراوغ عن حياة يعيش فيها الحمل مع الذئب، والنمر مع الغزال...، والإنسان مع الإنسان!
[2] أسئلة
ـ هل تعلمت الدرس...؟
سأل الفار الأرنب:
ـ المشكلة إن الحياة تمنحنا الكثير الذي تسترده مرة بعد أخرى...
ـ أنا طلبت إجابة منك....، ولم اطلب منك إضافة سؤال؟
ـ المشكلة إن الحياة ستسترجع إجاباتها، ولا تترك لنا إلا أن نسأل...، وإن لم نفعل ذلك، تكون إجاباتنا أقسى من الأسئلة...!
[3] محنة
فكر السنجاب مع نفسه: لِم َ سكان هذه الغابة قساة، أجلاف، خالية قلوبهم من الرحمة، وكل منهم يظن انه لم يخرج من المجرى ذاته الذي تخرج منه الفضلات والشوائب...؟
ولأنه كان يحدث نفسه، وحيدا ً، في أعلى الشجرة، جاوب نفسه بسؤال:
ـ ألا تعتقد انك تفوقت عليهم بقسوتك، وعنجهيتك...، ولم تقل: إننا هبطنا من السماء؟!
[4] رغبات
بعد أن تعبت النعجة من الرقص، فوق المسرح، عادت إلى موقعها وجلست بجوار كبير الحمير، قال لها:
ـ حقا ً كل ما فيك يثير الدهشة، والغواية، والرغبات....
نظرت شزرا ً في عينيه الدمويتين:
ـ حمدا ً للرب انك لست من المفترسات...، ولا من البشر...
فصاح:
ـ لا تذكريني بالغابة، فالضواري مازالت تترصد خروجنا من المسرح!
وانخرط يبكي حتى فقد وعيه، فقالت مع نفسها:
ـ الآن عرفت لماذا اخترت الانتساب إلى أقدم مهنة فوق هذه الأرض!
سمعها الحمار، فقال لها هامسا ً:
ـ بعد فن القتل، وسفك الدماء!
[5] لعنة
قال العصفور يخاطب زميله، وهو يتأمل الحرب الدائرة بين الفصائل:
ـ ما هذا الإسراف في القتل....، كأن الجميع لا يدركون إنهم يحفرون قبور أحفادهم، قبل أن يبولوا على قبور أسلافهم!
ـ لا تكترث...، فالحرب لن تقضي على الجميع، لكن من ينجوا ...للأسف سيعيد ويبني الحياة التي نهايتها وضعت....، قبل أن يكون هناك سلام أو حرب!
[6] لغز
ـ اخبرني من آذاك...؟
ـ وأنا احتضر واستعد للموت اسأل نفسي: لِم َ كانت حياتي حزينة، حتى إني لم أصادف مخلوقا ً يبدد لي هذا الشك؟
ـ ولكنك ـ سيدي ـ مكثت تعاقب نفسك حتى فقدتها!
ـ كأنك تقول إنني كنت استثناء ً، أو كنت تقصد: عندما لا تجد من تؤذيه فلا مناص ستعاقب نفسك!
ـ لا! بل كنت أود أن أسألك: كيف نجوت....، لو لم تكن تمتلك دفاعات أنزلت فيهم ألما ً اشد من هذا الذي ستدفنه معك في التراب والى الأبد؟
[7] مسرة
بعد أن اكتشف الثور عقارا ً ما أن يتناوله حتى يتوارى عن الأنظار. سره الاكتشاف، مبتهجا ً، وقد أقام وليمة كبيرة للأبقار، الخيول، الخراف، والبغال...، لكن أحدا ً لم يستجب ويلبي دعوته، لأن أحدا ً لم يستطع أن يراه! لم يحزن، ولم يصدم لعدم الاستجابة له، لأنه ازداد فرحا ً عندما لم يره القصاب، ولا السبع، لا النمر ولا الذئب، لا التمساح ولا القط الوحشي....
إنما في ذات يوم، رأى القصاب يقود جده الأعظم إلى المسلخ، والسبع يطارد جدته، النمر يجري خلف حفيده العجل حديث الولادة...، فصرخ، كي ينقذهم، لكن أحدا ً لم يكترث له، ولا لصوته. فعاط، زمجر، وراح يرفس الأرض، ناح وخار ....، لكن بلا جدوى.
فأدرك إن العقار الذي اخترعه، بعد سنوات طويلة من الشقاء، العناء، والكد سمح له وحده أن يعيش حياة طويلة، لكنها خالية إلا من مسرة أن يرى الجميع يذهبون إلى الموت، عداه!
[8] سؤال
سأل كبير البرغوث ذبابة كانت تقف بجواره وهما يراقبان مهرجان قتل الصغار، والإناث، إبان الفوضى الهدامة:
ـ في تصوّرك ِ...، من هو أقسى مخلوق ظهر في هذه الحديقة، بعد أن نجونا من الطوفان...؟
كفت الذبابة عن الطنين، وأشارت إلى بلبل كان يغرد، بالقرب منهما:
ـ انه ذاك البلبل!
ـ ماذا تقولين أيتها الذبابة العزيزة؟
بعد صمت وجيز، قالت:
ـ أو ... هو ... أنت؟
ـ أنا؟
ـ هو يغرد، وغير مكترث للمجزرة، بينما أنت َ، يا كبير البرغوث، لا تكف عن امتصاص الدماء!
ـ ولكني أعيد عليك السؤال: هو أم أنا..؟
ـ هو سيمكث يغرد، رغم إنهم لم يتركوا له أحدا ً من البلابل، وأنت لن تكف عن أداء عملك حتى بعد أن تنتهي المجزرة.
[9] مفارقة
عندما لجأ الذئب الجريح إلى حقل الأرانب، يبحث عن ملاذ امن له...، لم يجد سوى ثقب حشر فيه جسده حشرا ً...، ليسمع من يسأله:
ـ من أنت..؟
ـ أنا كبير الذئاب...
ـ واآسفاه أن تفطس معنا، نحن معشر الأرانب...، بينما كنا لا نسعى إلا كي نلقى مصارعنا في ساحات الذئاب!
رفع رأسه وشاهد الذئاب تحاصره، بينما كانت أصوات الأرانب تأتيه من داخل الحفرة، فقال بشرود:
ـ عندما لا تعرف من هو عدوك..، ومن هو صديقك، تدرك انك غير مضطر للشعور حتى بالأسف!
[10]نورس
راح النورس يراقب أمواج البحر تحمل جثث الغرقى تلقى بها عند الساحل، في جزيرة نائية، فسأل نفسه: الآن لا اعرف أيهما أكثر قسوة؛ قلب الإنسان أم هذا البحر؟
سمع الريح تقول له:
ـ لا تحزن...، فالسماء مازالت زرقاء أيها النورس الأبيض!
[11] نباح
بعد أن افترس الكلب الحمامة، لم يستطع تجنب تذكر آخر حوار جرى معها:
ـ أتعرف كم أنا سعيدة...، وأنت تجهز علي ّ..
ـ تكلمي، أيتها الحمامة الوديعة...
ـ إنني لن اسمع نباحك، بعد هذا اليوم، لا في الدنيا، ولا في أي مكان آخر!
[12] بحث
ـ صف لي الجحيم؟
سأل العصفور البوم، الواقف بجواره، فلم يجب.
فقال العصفور:
ـ هل تود أن اصف لك الفردوس؟
فلم يجب البوم. لكن العصفور راح يزقزق متندرا ً:
ـ يبدو انك تبحث عن مكان ثالث؟!
قرب البوم رأسه من العصفور، وقال له:
ـ كان الأحرى بك أن تسأل كلبا ً أو هرا ًأو واحدا ً من البشر...؟
لم يتوقف العصفور عن الضحك، والتندر، متمتما ً:
ـ سألت كبير الكلاب فقال لي: اقترب مني... كي أخبرك!
ضحك البوم:
ـ وماذا فعلت؟
ـ عندما رأيت أنيابه صرت استنشقت رائحة جهنم ممتزجة بعطور الفردوس! فقلت مع نفسي: انه لا يمتلك الإجابة، إلا بعد أن يفترسني، آنذاك رحت ابحث عن حكيم آخر، وها أنا جئت أسألك يا سيدي!
ـ ومن أوشى بي، وقد قصد القضاء علي ّ...؟
ـ آ ...، الآن علي ّ أن ابحث عن هذا الحكيم!
[13] كمين
عندما أوقعت الضفادع كبير التماسيح في الكمين، وكبلته بشبكات من الحبال، راحت تعزف نشيد النصر، فرفع كبير تماسيح الحديقة رأسه قليلا ً:
ـ لا اشعر بالأسف إنني لم اقض عليكم، ولم اجتثكم من الوجود...، بل اشعر بالأسف إنني لا امتلك شيئا ً آسف عليه!
فخاطبه عظيم الضفادع:
ـ لو شاركتنا هذا النصر...، لعفونا عنك، واعدناك إلى المستنقع!
هز التمساح رأسه، متندرا ً:
ـ إن أقسى ما في الأمر...، ليس أن تمنحوني رحمتكم، بل لأن قوتي لم تكن إلا وهما ً! إنما، هذه هي الحقيقة: أن أراكم ترقصون على قبري، وأنا لم أمت بعد!
[14] الشر أم الفضيلة
تساءل الثعلب بصوت مسموع: لا اعرف أيهما أجدى: استئصال الشر أم منح الفضيلة فرصة الازدهار... وتبديد الظلمات...؟
رد مساعده بسؤال:
ـ ما الشر...، كي نحدد ما الفضيلة، وكلاهما يتناوبان على ديمومة هذا.... الذي لا يدوم؟!
اطرق الثعلب مفكرا ً مع نفسه: بات مساعدي يفكر كزعيم!
ثم رفع صوته:
ـ مادمت تخلط بينهما، فقد أصبح احدنا فائضا ً!
ـ اجل، سيدي، لكن البدايات لها نهايات واحدة...
صدم الثعلب بالرد، فاصدر امرأ ً بسجنه، فقال المساعد:
ـ أخبرتك، سيدي، كما إن للبدايات نهايات متشابهة، فان للنهايات بدايات متشابهة أيضا ً، وسر هذا الذي لا يدوم، لا يكمن، إلا في ديمومته، فلا احد انتصر على احد، مثلما من المستحيل أن تعّرض احدهما للخسران، إلا بما سيتعرض له الآخر!
[15] مناورة
ـ هل انتصرت...؟
سأل المساعد زعيمه الذئب، بعد رآه يفترس حملا ً وديعا ً، فرد الزعيم:
ـ أنا حذرته، ومكثت احذره، فلم يهرب، بل تجمد في مكانه، وراح يتبول، ويرتجف، فصرخت فيه: اهرب...، اهرب، الأرض واسعة! فانا لا ارغب أن افترس حملا ً متخاذلا ً!
ضحك المساعد:
ـ سيدي، وأين باستطاعته أن يهرب، وأنا كنت أسد عليه طرق الفرار، والنجاة، والهزيمة؟
[16] وداعة
وهو يلفظ آخر أنفاسه، شعر وحيد القرن بقدرة مفاجئة على إكمال وصيته، لأحفاده:
ـ فانا أدركت، منذ البدء، إننا من أكثر المخلوقات قبحا ً في هذا العالم، مع إننا أكثرها وداعة، ورغبة بالوئام..!
ـ أحسنت، يا جدنا، أحسنت..لكن..
وأضاف حفيده يسأله:
ـ ولكن لِم ً ترحل وأنت حزين، وكأنك تشعر بالأسف، والخسران؟
حدق في عيني حفيده بأسى عميق:
ـ لأن أكثر المخلوقات نذالة، شراسة، ومكرا ً أكثرها قسوة!
ـ ولكنك تستطيع أن ترحل بسعادة تامة..، فأحفادك لن يتخلوا عن وداعتهم، ولا عن دعواتهم للوئام.
هز رأسه:
ـ المشكلة إنني لن ادفن القبح معي فقط، بل لأنني ادفن الوداعة معي أيضا ً!
[17] طيران
عندما تعلم الفيل الصغير الطيران، وراح يحّوم في فضاء القفص الحديدي الكبير، ضحكت الطيور، فهمس احد العصافير في آذن الأخر:
ـ تخيّل ... ها هو يسرق منا سر الطيران.... وصار يلفت الأنظار، ويجني الإرباح المخصصة لنا!
رد الآخر بثقة:
ـ لا تحزن...، لن يدوم هذا طويلا ً...، فالجميع سيكتشفون أن أجنحته وهمية!
ـ ولكنها حقيقية...، يا صديقي، وهو مازال يحلق عاليا ً.
ـ لكنه لن يستطيع الذهاب ابعد من ذلك..
ـ تقصد ...، انه ـ مثلنا ـ لن يغادر هذا القفص، إلا بعد أن يكف عن الطيران؟
[18] معرفة
ـ تخيّل...، كم قاسية هذه الحياة حيث لا تسمح لنا أن نتعلم فيها إلا ... هذا القليل... الذي ستسترده منا، لأنه أصلا ً لم يخلق لنا!
ـ ألا يكفي انك عشت كي لا تكسب أكثر من هذا القليل...، الذي تفقده، بدل أن تبحث عن الذي وجدت من اجله!
[19] جحيم
ـ المشكلة، في النهاية، إنها تخترع من ينشغل فيها، ولكن كل من عمل على تجنبها، أو نبذها يجد إنها أغوته بالعثور على حل لها! حد الثمالة، بل حد الموت!
ـ ولهذا ـ سيدي ـ لو انشغلنا جميعا ً بوضع حل لها لكان وجود الجحيم من أكثر الأوهام صلابة!
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت لكان الفردوس من أكثر الحقائق وهما ً!
ـ أكاد افقد عقلي؟
ـ سيدي، لو كان لديك، أو لدي ّ، عقلا ً، لانشغلنا بتجنب هذه المشاكل!
[20] دماغ
ـ لو لم يكن لديك هذا الدماغ ...، بماذا كنت ستفكر؟
ـ سأخترع دماغا ً آخر كي أفكر بالعثور على وسيلة للخلي عنه، غير هذه الوسائل!
ـ وماذا لو تخلى ـ هو ـ عنك؟
ـ لا يكون هو ربح شيئا ً...، ولا أكون أنا خسرت شيئا ً يذكر!
[21] وداعا ً
حدقت الأم في عيون أولادها الثلاثة، ثم بدأت، بشرود، لكن بعزم، بربطهم إليها، وراحت تتأكد من عملها كي لا يفلت أيا ً منهم، كانت تشعر إنهم أصبحوا كتلة واحدة، متماسكة، كي تقبلهم، الواحد بعد الآخر، من غير مشاعر أسى، أو أسف، قبل أن ترمي بالأجساد الأربعة إلى النهر، نهر الفرات. لم ير المشهد إلا عابر سبيل، لم يقدر أن يفعل شيئا ً. صار الحادث متداولا ً بين الناس، حتى رواه احدهم عبر شاشة التلفاز، بكي، وهو يقول إن الأم لم تطق أن ترى أولادها يموتون من الجوع، فقتلتهم، وكف عن الكلام.
أما الكاتب، فكان يراقب ظل أصابعه يتلاشى فوق الورقة...، وثمة عويل شعر أن انه صار مثل يد راحت تكفنه، وتدثر جسده الضامر، داخل فضاء الغرفة، الذي، هو الآخر، راح يضغط عليه، من الجهات كافة، فاستسلم له، من غير لذّة، وتركه يتوحد مع ظله.
أفاق...
فراح يرى سيدة تناول ابنها البكر السم، فتناوله الابن، من غير سؤال، لكنها لم تحتمل أن تفعل الأمر نفسه مع ابنها الثاني...، فطلبت من مساعدتها القيام بالعمل...، وراحت تراقب، حتى تناول السادس السم، وهو يبادل أمه ابتسامة لم تفكر إن كانت علامة حزن، أم سرور بالغ...، لأنها راحت تتخيل الجثث السبع تصعد إلى السماء....، مع إنها كانت تأكد من موت الجميع، كي تتناول ما تبقى من السم، وتحتضنهم، بقوة.
ثم تذكر حادثا ً مماثلا ً حتى كاد يراه يجري أمامه: سيدة تدخل الحمام، مع ابنتيها، لاستنشاق الغاز، لكنها وحدها لم تنج، ورحلت، بعد أن تم إنقاذ البنتين، بأعجوبة.
رفع رأسه قليلا ً...، ليرى أصابعه تغادره، لكنه أحس إن الكلمات صارت تعمل كعمل المدية في القلب...، بحث عن أصابعه فلم يجدها...، شاهد الورقة تحوّم، مثل طيف، ثم رآها تتموج، ليرى سيدة تختفي في الماء، ثم لم يعد يرى إلا فراغات تشغلها ذرات خالية من الأصوات، لا أصداء لها...
وأفاق...
كان يرى جنديا ً يصوب بندقيته ويطلق النار نحو جسد ممد فوق الأرض، بدم بارد، تماما ً...، تكرر المشهد، رآه مرة، وثانية، وثالثة لم يعد يرى إلا بياض الشاشة وقد فقد لونه...، غاب الفراغ، وغاب الفضاء...، آنذاك بحث عن رأسه، فرآه بلا حافات، وعندما حاول التأكد من جسده، وجده، هو الآخر، بلا وجود، فأدرك انه لم يعد يمتلك ما يأسف عليه، وليس لديه القدرة أن يأسف على انه لم فقد رغبته بالأسف...، فلم يعد لحضوره وجدود، إنما لم يعد لغيابه أي اثر يسمح له بتتبع مساراته، كان بلا لون، ولا خطوط، وبلا أصداء، كان يستعيد مشهد الجندي وهو يطلق النار على الأسير الجريح الممدد فوق الأرض...، رآه يتلوى، ورأى الجندي يبتعد عن الأخر، من غير أسف، أو تذمر...، فعاد يرى الأم تربط أولادها إليها وترمي الجميع إلى الماء، رآهم يغرقون، ويرى السيدة تراقب مساعدتها تناول أولادها السم، ورأى سيدة ترحل داخل جدران موصده بجوار ابنتيها ... ، فبحث عن كلمة ينطق بها...، وجدها غابت، كذلك لم يجد أحدا ً يصغي إليه..، فأدرك انه لم يعد يمتلك قدرة فتح فمه، لم يعد يمتلك فما ً، وانه لم يعد يرى أحدا ً يراه.
[22] نظرية المؤامرة
سأل صديق صديقه العجوز الذي لم يهرب من الحرب:
ـ أراك لم تعد تؤمن بنظرية المؤامرة..؟
ـ آ....
تأوه، ولم يجب، فسأله مجددا ً:
ـ إذا كنت لا تؤمن بالنظرية...، ولا تؤمن بالمؤامرة...، فلماذا مكثت معنا ولم تبحث عن مستنقع آخر...؟
رفع رأسه قليلا ً ونظر له شزرا ً، بحيرة:
ـ ما دمنا ـ كلانا ـ وكل من في هذا المستنقع، سيموت...، فأي معنى لوجودنا، هنا، أو في أي مكان آخر؟
ـ ها أنت لم تعد تؤمن حتى انك ولدت...؟
أجاب بلا مبالاة:
ـ المشكلة التي انشغلنا بها، يا صديقي، لم تكن مشكلة نظرية بلا مؤامرة، ولا مؤامرة تنقصها النظرية....، بل مادام موتنا تقرر، قبل ولادتنا، فما فائدة إضاعة الوقت هذا بإثبات صواب النظرية أو دحضها؟!
ـ آ ....، هذه هي نظرية المؤامرة، يا صديقي، بلا زوائد، وبلا نقصان!
[23] اختلاف
اقترب الحمل من قفص الذئب، وقال له بلا سخرية:
ـ لا تقارن ديمقراطيتنا، اليوم، إلا بالفردوس القديم الذي فقدناه!
ابتسم الذئب، بمرارة مكتومة، وأجاب:
ـ تقصد إن فردوسنا القديم الذي فقدناه كان حقيقيا ً!
ـ ولِم َ ينتابني الشك...، مادمنا لا نستطيع نسيانه، أو إغفاله، أو محوه من عقولنا؟
ـ اجل ... أنت على حق، بعد أن تركوك تسرح وتمرح في القفص الكبير...، بينما أنا وضعوني وراء هذه القضبان!
ضحك الحمل:
ـ لا تكترث ...، فلا داعي للحزن، فلا أنت اخترت قيودك، ولا أنا اخترت حريتي...، وهذه هي الديمقراطية ـ الحقيقية ـ يا صاحب السعادة!
[24] إلى الأبد
قال الغراب للحمامة التي تقف بجواره، وهما يراقبان مصورا ً سينمائيا ً يتابع تصوير مجموعة كبيرة من السباع أوقعت غزالا ً وراحت تمزق جسده إلى أشلاء:
ـ لقد انتهى الأمر..!
قالت الحمامة بحزن:
ـ بل الأمر غدا بلا نهاية..، انه بدأ توا ... لأن مليارات البشر ...، سيتلذذون بإعادة مشاهدة السباع وهي تمزق جسد هذا الغزال!
[25] النار
ـ من في اعتقادك...، كان على صواب...، ومن كان على خطأ...؟
نظر الصقر إلى الحقل الذي تحول إلى رماد، وقال بصوت خفيض:
ـ اذهب واسأل النار التي لم تترك شيئا ً.
فقال الآخر حائرا ً:
ـ ولكن لا وجود للنار، فقد توارت!
هز رأسه:
ـ إذا ً لن تحصل على الجواب....، وإن حصلت عليه، لا يكون له معنى، وإن كان له معنى فلن تعرف من كان على خطأ ومن كان على صواب!
ـ كأنك تطلب مني أن أغلق فمي، واصمت إلى الأبد؟
ـ أنا لم اطلب منك أن تتكلم، كي اطلب منك أن تصمت...، ولكن ما دمنا لم نمت بعد، فان النار مازالت تتربص بنا!
22/4/2016
Az4445363@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق