هل سيستمر مكتب زهاء حديد ؟
د. إحسان فتحي
عندما درست الشابة العراقية زهاء حديد هندسة العمارة في كلية الجمعية المعمارية في لندن من عام 1972 إلى 1977 كانت قد تأثرت بالضرورة بالأفكار الطليعية لعدد من أساتذتها المشهورين ومن بينهم كان الهولندي ريم كولهاس، الالماني ليون كريير، اليوناني زينجيليس، والفرنسي برنارد شومي. بعد تخرجها اشتغلت في مكتب (أوما) لاستاذها كولهاس لثلاث سنوات الا انها اختلفت معهم ولم يعجبها ان تكون خاضعة لتوجيهات تحدد افكارها المتمردة. لذا لجأت الى الاستقلالية المهنية عندما اسست مكتبا خاصا بها عام 1980 في جزء من بناية مدرسة فكتورية قديمة في منطقة (كلاركينويل) في لندن. وعندما فازت بالجائزة الاولى لمسابقة نادي هونج كونج العالمية، والتي شارك بها مئات من اشهر المعماريين في العالم، بدء نجمها يسطع في الاوساط المعمارية وخاصة لان رسوماتها كانت تمثل لوحات فنية ملونة وكبيرة صادمة للمتلقي، وتحتوي على رسومات هندسية كان من الصعب فهمها. كان اسلوب الرسم التفكيكي المتفجر و المتشظي مؤثرا جدا لان الثقافة الغربية تنجذب لما هو غير مألوف وكل ما يكسر بل يحطم التقاليد السائدة ويتناغم مع الفكر الأدبي والثقافي الطليعي الذي كان يقوده آنذاك الفيلسوف ألتفكيكي الفرنسي الجزائري المولد، جاك دريدا.
ولان شهرة زهاء بدأت بالتصاعد بسرعة اصبحت مطلوبة بشدة للتدريس في عدد من اهم الكليات المعمارية في العالم منذ عام 1980 ومنها كانت جامعات هارفرد وشيكاغو واوهايو ووكولومبيا في نيويورك وييل، وكذلك في هامبورغ، ولكن لم تطلبها اي جامعة عربية ! كان من بين طلابها شاب الماني لامع اسمه (باتريك شوماخر- تولد 1961) وصادف ان رغب بالعمل في مكتبها في لندن بعد ان حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة شتوتغارت وساوث بانك في لندن عام 1990. لكنه باشر بالعمل في المكتب عام 1988، اي قبل تخرجه، لكنه حصل على الدكتوراة في الفلسفة ، وليس العمارة، من جامعة (كلاجينفورت) الالمانية. وعلى ما يبدو فأن زهاء شعرت بعمق تفكيره وتنظيرة المعماري المتفرد والجرىء مما جعله مقربا جدا منها بالرغم من الفارق بين عمريهما. لعب باتريك دورا هاما في تحويل الاتجاه التصميمي لمكتب زهاء من التفكيكية التي لم تنجح كثيرا حيث لاقت مقاومة شديدة لدى الاوساط المعمارية الى ما سماه هو ب "العمارة البارامترية" التي تبنت الاشكال المعمارية البايولوجية المنحنياتية. كما ان صدمة زهاء برفض مشروعها الاهم في المملكة المتحدة، وهو دار أوبرا كارديف (عاصمة ويلز) في 1995، بالرغم من فوزها بالجائزة الاولى، سبب لها خيبة امل كبيرة وجعلها تفكر في انطلاقة جديدة. بدأت تصاميم زهاء تلقى استحسانا تدريجيا وشكل فوزها بمسابقة بناية (بييرفيف) في مدينة مونبليية الفرنسية في عام 2002 (نفذ المشروع في 2012)، بداية تحرك نحو اسلوبها الانسيابي الجديد. بعد ذلك توالت المشاريع بسرعة واحدة تلو الاخرى مما اضطرها الى شراء كل بناء المدرسة القديمة وتحويرها الى مكتب استوعب حوالي 400 مهندس وموظف.
ومن بين كل هذه التصاميم المبهرة المنفذة برز بعضها بشكل لفت انظارالنقاد ، المعجب منهم والحاقد، ومنها كان كل من بناية شركة بي ام دبليو للسيارات في ميونخ، والمسابح الاولمبية في لندن، ودار للاوبرا في الصين، ومدرسة اكايمية جريس في لندن، ومركز حيدر علييف للفنون في باكو، اذربيجان، ومتحف ماكسي في روما، ومكتبة لجامعة فيينا، ومتحف في جلاسجو، واستاد رياضي في الدوحة.
وفي عام 2008 وافقت زهاء على ان يصبح باتريك شوماخر شريكا لها في المكتب واصبح في الحقيقة ساعدها الايمن في جميع اعمالها مما خفف كثيرا من اعبائها ومنحها الوقت الكافي للسفر و لتصميم العديد من الاشياء الاخرى غير المعمارية كتصميم الاحذية، والاثاث، واليخوت، والمجوهرات، وحتى الازياء. ونظرا لكثرة المشاريع المحالة لمكتبها قررت ان يكون لها ايضا 6 مدراء عامين اساسيين من جنسيات متنوعة وهم: موزهان مجيدي، جيان لوكا راكانا، جيم هيفيرين، شارلز ووكر، ساتوشي اوهاشي، وتياجو كوريا. وفي عام 2013 قررت زهاء تحويل مكتبها المعماري من شركة الى مؤسسة، وأوصت بجزء كبير من ثروتها الشخصية (قيل انها بلغت حوالي 37 مليون باون استرليني اي حوالي 52 مليون دولار حسب قائمة الصنداي تايمزلاثرياء بريطانيا لعام 2011) الى المكتب لكي يستمر من بعدها.
في زيارتها الاخيرة الى ميامي (فلوريدا) للاطلاع عن كثب لمشروعها (برج سكني) اصيبت زهاء بالتهاب شديد في القصبات تحول بعدها الى مرض ذات الرئة (النيمونيا) وهو مرض خطيرسبب، على ما يبدو، بأحتشاء في عظلات القلب مما ادى الى توقفه ووفاتها. ذكرت التقارير المقتضبة بانها كانت قد نقلت من فندقها الى احدى مستشفيات (ديد كاونتي) بميامي في الساعة السابعة والنصف من فجر الاربعاء 31 أذار(مارس) وتم ادخالها في احدى غرف الطوارىء ولكن دون جدوى. ولم يعلن عن اي تقرير للطبيب العدلي او الطبيب المقيم عن سبب الوفاة المؤكد، وعلى ما يبدو ايضا بانه لم تجراية عملية تشريح (أوتوبسي) للتحقق من سبب الوفاة بشكل حاسم ونهائي. تم نقل جثمانها بعد يومين او ثلاثة الى لندن. وتمت مراسيم الدفن يوم الاربعاء 7-4-2016 بدءا من مراسيم صلاة الميت في جامع لندن المركزي الى نقل الجثمان الى مقبرة (برووكوود) في منطقة ووكنج (سري) حيث دفنت الى جنب والدها واخيها فولاذ وعمها في الجزء الاسلامي من المقبرة الكبيرة.
بعد مراسم الدفن تجمع العاملون في المكتب مع عدد كبير من أصدقاء زهاء في بناية متحف التصميم الذي كانت قد اشترتها في عام 2014 بمبلغ 10 مليون استرليني لكي تحولها الى مركز للبحث والارشفة لمكتبها. القى الشريك باتريك شوماخر كلمة ابدى فيها حزنه العميق لهذا المصاب الجلل لكنه وعد الجميع بأن مكتب زهاء سيستمرفي العمل وهم ملتزمون باكمال ما لايقل عن 60 مشروع متعاقد عليه. وقال باتريك بأنه في طبيعته كان منطويا جدا ولكن عمله مع زهاء حقق له علاقات وصداقات واسعة مع ابرز المنظرين والمعماريين في العالم.
نحن المعماريون العراقيون، وكل عراقي وعربي، نتمنى ان ينجح شوماخر والعاملون معه في مكتب الفقيدة الغالية زهاء في المحافظة على حيويته وابداعه الطليعي وتنفيذ كل هذه التصاميم المتفق عليها. الا ان التجربة العالمية لمكاتب مشاهير المعماريين في العالم تشير الى صعوبة، بل حتى استحالة، استمرار المكتب بعد وفاة صاحبه المشهورلاكثر من عدة سنوات. ذلك ان غياب شخصية عملاقة ومؤثرة مثل زهاء حديد سيفقد المكتب احد اهم اركانه واساس طاقته والشعلة التي كانت تحركه. وبالتالي فأن شوماخر قد يستطيع تجنيد الطاقات العاملة حاليا لسنوات قليلة قادمة ولكنه لن يتمكن من الاستمرارلاكثر من سنوات قليلة. لقد شاهدت له عدة محاضرات حاول فيها تفسير "العمارة البارامترية" ورفضه لفكرة المدن الصغيرة المتراصة وترويجه الشديد للمدن العملاقة العمودية (ميجا سيتيز)، اضافة الى اصراره بأن دور المعماري هوالبحث عن الشكل وليس الوظيفة. لم تكن شخصيته مؤثرة مثل زهاء ابدا. كان ضعيف الاداء بالرغم من قوة الافكار التي كان يطرحها ولغته الانجليزية التي يجيدها بشىء من الصعوبة ولكنته الالمانية!
ببساطة، ان زهاء حديد، بشكلها، بعقلها، بشخصيتها،بحضورها، بطريقة كلامها، بعبقريتها، سوف لن تتكرر ابدا. كانت شهابة مدوية سطعت في سماء العمارة ثم اختفت بسرعة. توارت عنا بلحظة قاسية ولكننا سنراها في تصاميمها وهي آثارها التي ستبقى تلهمنا لفترة طويلة من الزمن.
*معماري ومخطط مدن
جمعية المعماريين العراقيين
16 نيسان 2016
(ملاحظة: إن اسمها هو زهاء وليس زها، كما جاء بهوية الأحوال المدنية العراقية الخاصة بها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق