بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 2 أبريل 2016

عولمة الثقافة وثقافة التصنيع- د.إبراهيم الحيدري


عولمة الثقافة وثقافة التصنيع



د.إبراهيم الحيدري

     
صدر خلال العقود الأخيرة عدد من الكتب التي تعالج العولمة والحداثة وما بعد الحداثة والهوية الثقافية. وكان يورغن هابرماس في كتابه" العلم والتقنية كأيديولوجيا" الذي صدر عام 1969 قد سبق غيره في تناول الخصوصيات الثقافية التي تفككت والنظام الاستراتيجي التي يقف ورائها بدلالاته الفلسفية-الانثروبولوجية وكذلك السياسية. كما كتب هومي بابا " موقع الثقافة "في النظام الدولي الجديد، تناول فيه المشاكل المتعلقة بالهوية والخصوصية الثقافية لمجتمع ما بعد الحداثة، حيث تكتسب العولمة فيه قوة متزايدة على قوتها الاقتصادية وتعبر عن هيمنة ذات ابعاد متعددة وعبر شبكة معقدة في نظم الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها، التي تسيرها الشركات العابرة للقارات.
هذه الأطروحات وغيرها شغلت عددا كبيرا من المفكرين وعلماء الاجتماع وبخاصة، رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع الذين وضعوا صياغة نظرية نقدية تقوم على الفهم الجدلي للعلاقة بين النظرية والممارسة، من خلال الفهم الذاتي، الذي لا يصف الصيرورات الاجتماعية والاقتصادية للحاضر فحسب، بل وإدراك قوتها الحقيقية المتحولة وتأثيراتها في الصراعات والتحولات الرئيسية في العصر الحديث. وكان على رأس هؤلاء المفكرين ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو, اللذان وجها نقدهما الجذري، ليس إلى الواقع الاجتماعي فحسب، بل الى عملية التغبية التي تعيق تقدمه. ولكي يكون المجتمع قويما لا يكفي التنظير، وإنما ربط النظرية بالممارسة العملية ربطا جدليا محكما، وان تكمل عقلانية الوسائل، عقلانية الأهداف التي تتيح للإنسان الكشف عن امكاناته اللامحدود وتقديم الحلول الممكنة التي تساعده على تكوين وجود عقلاني حقيقي منور.
وقبل أكثر من نصف قرن انتقد هوركهايمر وأدورنو الثقافة السائدة في المجتمع الصناعي في كتابهما المشترك “جدل التنوير" 1947موضحان فيه خصوصيته، من خلال ما تفرزه التكنلوجيا المتقدمة من اثار: فاذا كان العلم قوة لها سلطة لا تعرف الحدود، فان التكنلوجيا هي جوهر هذا العلم، وبذلك تصبح السلطة والتكنولوجيا مترادفتين، حيث يظهر التسلط في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الانتاج والاستهلاك واعادة الانتاج والاستهلاك. ومع ان مستوى الانتاج ينبع اصلا من حاجات المستهلكين، غير اننا نجدهم مضطرين دوما للموافقة على ذلك ومن دون مقاومة. وهذا الواقع هو في الحقيقة دورة من الخداع ورد فعل للحاجات الاستهلاكية اللانهائية التي تجعل النظام الاقتصادي أكثر قوة وتماسكا.
تصنيع الثقافة
تصنيع الثقافة وثقافة التصنيع Kulturindustrie,calture industryمصطلح صاغه الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع النقدي تيودور أدورنو(1895-1973). وهو من أهم مصطلحات النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. ففي كتاب "جدل التنوير" ظهر أول مرة مفهوم جديد في علم الاجتماع النقدي أطلق عليه أدورنو "تصنيع الثقافة"، حيث رأى بأن هناك مصانع تنتج ثقافة، بالرغم من ان الثقافة لم تكن يوما ما إنتاجاً صناعياً، كما هي اليوم. ولم تعد الثقافة تتخذ لها مكاناً في بناء فوقي مستقل نسبياً، لأنها أخذت ترضع من البنية الاقتصادية وتتحول إلى صناعة.
ان صياغة أدورنو لمفهوم "الثقافة المصنعة " اعطتها بعدا آيديولوجيا شموليا بين بوضوح قوتها وسيطرتها واثارها التي تظهر في المشاركة الجبرية للملايين في عملية الانتاج والاستهلاك وموافقتهم عليها بدون مقاومة.
تاريخيا، لم تكن الثقافة يوما ما بضاعة او انتاجا صناعيا واسعا كما هي اليوم. فمنذ القديم وحتى منتصف القرن الماضي بقيت الثقافة بناء فوقيا حتى في عصر التنوير واتخذت محتوى ارتبط بالبنية الفوقية وانتجت تاريخا وأدبا وفنونا، ولكن منذ الحرب العالمية الثانية اندمجت التكنولوجيا بالثقافة، عن طريق الانتاج الآلي الواسع واعادة الانتاج والاستهلاك، واصبحتا واحدة لا يمكن التمييز بينهما. ان عولمة الثقافة عن طريق النزعة الاستهلاكية ووسائل الاتصال والاعلام وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات جعلت من الصعب التمييز بين الانتاج الصناعي ومحتواه الثقافي وحولته الى بضاعة.
لقد تحول الإنتاج الثقافي والفني إلى آلية مستوعبة للمجتمع الصناعي وفكره التخديري الذي يتمثل بثقافة شعبية جماهيرية تشبع حاجات جماعية ولكنها تتحول إلى وسيلة هيمنة وتسلط وذلك بسبب تطور التكنولوجيا تطوراً لاعقلانياً وسيطرتها غير المباشرة على الناس.
الثقافة المصنعة تُنتجُ اليوم بمصانع تبيع سلعاً ثقافية مغرية تهدف إلى التلاعب بأفراد المجتمع وجعلهم سلبيين وعاجزين عن طريق استهلاك المتع السريعة التي تبثها وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي تمتلخ الأفراد من واقعهم وتجعلهم يركضون لاهثين وراء بضائع المدنية البراقة بغض النظر عن ظروفهم المعيشية وحاجتهم اليها. والخطورة التي تسببها تكمن في السلع الثقافية التي تخلق حاجات نفسية لا يمكن إشباعها إلا من خلال المنتجات الصناعية.
في المجتمع الصناعي تحولت الثقافة اليوم الى بضاعة واتخذت معنيين، الاول له محتوى واضح ينتج وباستمرار تواريخ وآداب وصور وموسيقى من اجل عرضها للبيع في السوق. اما الثاني فيتمثل في الانتاج الآلي الواسع واعادة الانتاج والتوزيع بطريقة تكنولوجية بحيث اخذت التكنولوجيا تندمج بالثقافة بالتدريج حتى أصبح تأثيرها واضحا واخذت تنتج أفلاما واجهزة استنساخ وتسجيل اغاني والحان وتكبس كاسيتات ودسكات وغيرها. وهذا يعني ان محتويات الثقافة اُنتجت بوسائل تكنولوجية واعيد انتاجها وتوزيعها بنفس الطريقة.
سوسيولوجيا, يعود خضوع الثقافة الى التكنولوجيا الى تنامي قطاع وسائل الاتصال والاعلام التي اخذت تنتج بضائع تفرض نفسها اليوم بسبب محتواها الثقافي. كما تظهر الاجهزة الالكترونية والادوات واللوازم التي ترتبط بالكومبيوتر والانترنت والاعلام الرقمي وغيرها التي تحتوي على معلومات واخبار وصور وألعاب ورموز وكذلك ما تقوم به شركات الدعاية والاعلام واكاديميات الفنون الجميلة ومدارس الديكور والموضة وغيرها. لقد تحولت الثقافة اليوم الى شيء نستخدمه ونستهلكه ونعيد انتاجه، ولم يعد هناك نقد حضاري وثقافي ولا نقد سياسي كما كان سابقا، وبخاصة بعد ان تحول نقد الثقافة والفن والسياسة الى نقد اعلامي. كما انهارت فئة المثقفين التي تعيش على اكتاف الثقافة المصنعة التي اصبحت شكلا من اشكال الانتاج المستقبلي لعصر ما بعد الحداثة.
في عصر الثقافة المصنعة اصبحت تقنيات الكومبيوتر تدمج التسلية بوسائل الاتصال الالكترونية والتكنولوجيا بالثقافة، بحيث تصبح شيئا واحدا ولا يمكن التمييز بين واحد وآخر. في النصف الاول من القرن الماضي كان الانتاج التلفزيوني الامريكي الواسع الانتشار يتبع المحتوى. وكان المنتجون يملكون الاستديوهات التي تنتج البرامج ويتم توزيعها الى جميع انحاء العالم بواسطة محطات الارسال وعبر الأثير، اما اليوم فكل شيء يتم على عكس ذلك. موغلن وتيد تورنر مطمئنان من تأثيرهما على شبكات الكيبل ويستطيعان توجيه CNN و ESPN بشكل جيد. في بريطانيا أسس روبرت مردوخ، أحد بارونات الاعلام، شبكة اتصالات BSKYB ترتبط بالفضائيات واصبحت احتكارا له منذ بداية التسعينات بعد ان اشترت حقوق ملكية كاملة للنقل المباشر لمباريات الفريق الانكليزي الاول لكرة القدم، وسرعان ما حصلت على ارباح تصاعدية بعد ان اشترك فيها حوالي خمسة وعشرين بالمئة من البريطانيين ووصلت مدفوعاتها السنوية الى أكثر من مليار جنيه إسترليني. ومثل مردوخ يسيطر سليفيو بيرلسكوني على شبكات التلفزيون في إيطاليا وكذلك راندولف هيرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات والدوريات الملونة.
وهناك احتكار آخر يتمثل بما يقوم به تورنر ومردوخ وكذلك برتش تيليكوم. B.T لاحتكار " تيلكوم- تكنولوجي" والتلاعب "بمحتواها". كما بدء ماكسويل ايضا ببناء امبراطورية للإعلام عن طريق احتكاره "لمحتوى " دار "بيرغامون بريس" وشراء حقوق ملكية الكتب العلمية والطبية والخاصة التي كانت ملكيتها تعود اصلا الى اشخاص ودور نشر ثم اخذ يرفع اسعارها بلا مبالاة بعكس ما كان عليه الانتاج الواسع في مرحلة التصنيع الكلاسيكية. وما كان ينتجه ماكسويل سابقا أصبح اليوم " المحتوى الثقافي" لـ “ريد اللزفير"، الذي ينتج معلومات الكترونية خاصة، في محاولة لان يجعل من وسائل الاتصال من أكبر الاحتكارات في المستقبل. اما النموذج الثالث من الاحتكارات في تصنيع الثقافة فقد بدأ بتكنولوجيا المعلومات الالكترونية. فبالنسبة لبرنامج الكومبيوتر "سوفت وير " الذي يستخدم في المؤسسات الصناعية وغيرها، لم يعد المرء بحاجة الى "مايكروسوفت" فحسب، بل ايضا الى مايكروسوفت اوفس"، الاول يستخدم عمليا في جميع الكومبيوترات، وهو عامل بيع استهلاكي مستمر.
ومنذ دخول العالم عتبة القرن الواحد والعشرين فان جميع اشكال الثقافة تتحول الى اعلام رقمي Digital Media، فقد تحولت مباراة كرة القدم، منذ نهاية الثمانينات الى "ثقافة مصنعة" وأصبح لها سوقا ينقل المباريات الرياضية الى جميع انحاء العالم عن طريق الفضائيات وشبكة الكيبل. وقد ابرمت شركة سكاي عقدا مع المنتخب الانكليزي الاول بلغ مليارات الدولارات. وكانت النوادي الرياضية سابقا شركات مساهمة يتراوح رأسمالها بين ثلاثة الى اربعة ملايين جنيه استرليني. وكانت الاسهم تعرض في البورصة، وتصل ارباحها الى نصف مليون دولار سنويا. لقد تغير ذلك اليوم حتى ان نجوم كرة القدم أصبحوا مثل فرقة " Spice Girls" نماذج اعلامية عالمية تختلف في عروضها عن الفلم والاغنية والرواية، لقد تحولوا الى مجرد نماذج للدعاية. وحين يشاهد المرء اليوم مباريات لكرة القدم، فانه يشاهد عرضا من نوع جديد، يهتم بقواعد اللعب والتقنيات وحركة الكرة، في حين كان المرء يشاهد عروضا ثقافية من نوع آخر يندمج فيها المرء مع محتوى اللعبة كمعجب وليس كمشاهد فقط وكان المشجعون الذين يجلسون في مدرجات الملعب يشاركون ويناقشون ويشرحون " محتوى" اللعبة وكأنهم جزء منها، فهم ليسوا مجرد مشاهدين او مستهلكين وانما متفاعلون معهم، لان المشجعين كانوا ترسانة المباراة، كما كان الحال في منتخب بورسيا دورتموند في المانيا.
في عصر الاعلام الكلاسيكي كان جوهر الثقافة يظهر على شكل افلام وبرامج تلفزيونية ومسرحيات وروايات واغاني وغيرها. اما في عصر الاعلام الالكتروني فيبدو ان الامر مختلف حيث تظهر الثقافة فيه كأشياء تكنولوجية ليس من السهولة رؤيتها او مشاهدتها وقراءتها او سماعها، لقد اصبحت شيئا آخرا نقوم باستخدامه. ففي الوقت الذي كان موقف المشاهد في الاعلام الكلاسيكي اما سلبيا او ايجابيا، أصبح اليوم شيئا نتبادله Interactive. وهكذا اخذ الاعلام يستهلك اليوم محتوى الاشياء وكذلك التكنولوجيا، ولم نعد كقراء او مشاهدين او مستمعين، وانما كمؤثرين ومستهلكين. وقد رأى ادورنو بان محتوى الثقافة اعتمد في عصر غوتنبرغ على فن الطباعة، حيث سيطرت الصورة والصوت والنص على الجميع.
لقد ازدادت منتوجات الثقافة المصنعة اليوم: بضائع استهلاكية سريعة، اسماء لماركات كبيرة، مغنين من فرق البوب ونجوم كرة قدم أصبحوا اليوم جزءا من وسائل الاعلام، اما نايك وسوج وكوكا-كولا فقد أصبحوا اسواقا عالمية وتحولوا الى اجزاء من محتوى الثقافة العالمية.
كما ترتبط اليوم منتوجات السوق التجارية العالمية مع الرياضة ووسائل التسلية واللهو والفيديو والكاسيت والبومات نجوم الغناء والجنس وحيثما يذهب المرء يلاحظ بان الاولاد في الشوارع يرتدون احذية نايك, حتى اولاد الطبقة المتوسطة ترمي اليوم جاكيتات " تومي هلفيغر" جانبا. هذه الحالة لا ترتبط بالغنى او الفقر، بقدر ما ترتبط بنماذج "أيقونة" يتم بموجبها تمثيل رموز المجتمع الاستهلاكي وثقافته المصنعة وتأثيرها على الافراد. كما ان " ثقافة السوق " هي ليست عروضا تجارية بالدرجة الاولى بقدر ما هي تكنولوجيات و "اشياء" تستعمل وتستهلك يوميا.
في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" فضح المفكر الفرنسي بيير بوردو وسائل الاتصال والاعلام الحديثة وخاصة القنوات التلفزيونية الفضائية منها التي لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج تسلية وتثقيف فقط، بل تحولت الى أدوات ووسائل أكثر مساهمة وفاعلية في الضبط والتحكم الاجتماعي. وقد أطلق بورديو على وسائل الاعلام وادواته بأدوات “العنف الرمزي" التي تستغله الطبقات الاجتماعية المهيمنة لتسيير خدماتها ومكتسباتها ومن ثم اشباع مصالحها. كما يرى بورديو بأن آليات التلفزيون المعقدة لا تشكل خطرا على مستوى الإنتاج الثقافي فحسب، بل أصبحت تهدد الحياة السياسية والديمقراطية أيضا. والمشكلة، كما يقول بوردو، ان التلفزيون ومعه الصحافة هي وسائل مدفوعة بمنطق الركض واللهاث وراء مزيد من الجمهور. كما أطلق بورديو على الدور السلبي الذي تلعبه وسائل الاعلام ومن يتبعها من المثقفين لقب"كلاب الحراسة" الذين يرسخون مصالح الطبقات المهيمنة ويلعبون بالعقول عن طريق انتاج بضائع ثقافية مصنعة.
الثقافة الشعبية
تغمر الأسواق اليوم ثقافة شعبية تجارية لا تنبع من حاجة الجماهير التي تستهلكها، وانما من شركات رأسمالية كبرى عابرة للقارات تصنعها وتسوقها وتدعمها وسائل اعلام ودعاية مبرمجة ومكثفة ومغرية تجعل الانسان يركض وراء بريقها الآخاذ لاهثا عن طريق التلفزيون والسينما والانترنت ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعية الأخرى. ويعمل متخصصون من فنيين وصحفيين ومصورين بالدعاية والاعلان التجاري الآخاذ لتسويق هذه الثقافة الشعبية وترويجها وغسل العقول وتشكيلها وفق مقاسات استهلاكية معينة تساعد على خلق ميول لتقبل البسيط والساذج وحتى الرديء وتشكيل عقلا شعبيا جمعيا يتلقى الثقافة الشعبية المصنعة بدون تفكير وحس جمالي رفيع وتسيطر على آليات توجيهه وتحريكه اجتماعيا وسياسيا ضد مصالحه وبوسائل وأساليب ناعمة تدغدغ عواطفه وتثير غرائزه الأكثر بدائية.
في عصر الاعلام الكلاسيكي كان جوهر الثقافة يظهر على شكل افلام وبرامج تلفزيونية ومسرحيات وروايات واغاني وغيرها. اما في عصر الاعلام الالكتروني فيبدو ان الامر مختلف حيث تظهر الثقافة فيه كأشياء تكنولوجية ليس من السهولة رؤيتها او مشاهدتها وقراءتها او سماعها، لقد اصبحت شيئا آخرا نقوم باستخدامه. ففي الوقت الذي كان موقف المشاهد في الاعلام الكلاسيكي اما سلبيا او ايجابيا، أصبح اليوم شيئا نتبادله Ineractive . وهكذا اخذ الاعلام يستهلك اليوم محتوى الاشياء وكذلك التكنولوجيا، ولم نعد كقراء او مشاهدين او مستمعين، وانما كمؤثرين ومستهلكين، كما كان محتوى الثقافة في عصر غوتنبرغ الذي اعتمد على فن الطباعة، حيث سيطرت الصورة والصوت والنص على الجميع. (11)
وكنموذج آخر للثقافة الشعبية المؤدجلة يأتي أدورنو بأمثلة عديدة، منها موسيقى الجاز في أمريكا. فموسيقى الجاز لا تبقى مصدرا للرعب فحسب، لأنها لا تستطيع رفع الاغتراب الذي يعاني منه الزنوج، بل وتقوم بتقويته وترسيخه. فالجاز أصبح بضاعة بالمعنى المطلق للكلمة وذلك لأن وظيفته الاجتماعية لا تعدو ان تجعل المسافة التي تفصل بين الفرد المغترب وحضارته قصيرة وبأديولوجية شعبوية. كما ان الجاز في الحقيقة يوصل شعورا خاطئا يتمثل بالعودة الى الطبيعة، في الوقت الذي ينبغي ان يكون الجاز نتاجا اجتماعيا رقيقا يحوّل الفنتازيا الفردية الى فنتازيا اجتماعية . ومن جهة أخرى، فان تنوع موسيقى الجاز انما يعكس تحررا جنسيا كاذبا وتتحول رسالته الى عملية "اخصاء"، لأنه يربط بين ما يعد به من تحرر وما يقوم به من رفض تقشفي.
وفي الحقية، فان الوظيفة الأيديولوجية للجاز تقوي أسطورة "الزنجي الأسود" وتكشف عن التشابه بين بشرة الزنجيي السوداء واللون الفضي القاتم لآلة الساكسفون. وبهذا المعنى السيكولوجي نوع من أنواع المازوشية.
الموسيقى عند أدورنو، كالنظرية، يجب ان ترتفع على الوعي السائد للجماهير، لأن البحث عن العواطف الحقيقية والعميقة لا يمكن التحقق منها في المجتمع الاستهلاكي المعاصر بسهولة، وربما يكون ريتشارد شتراوس آخر موسيقي برجوازي له أهمية، ولكن في ذات الوقت يجب القول، بانه لا توجد في موسيقاه، كما أشار إلى ذلك ارنست بلوخ، أي سلبية، وأنها خالية من أي بعد جمالي.
إنّ الثقافة المصنعة، بحسب أدورنو لا تشبع بكل بساطة حاجات المستهلكين، وإنما تدفعهم إلى الاندماج في النسق الاجتماعي العام، الذي يرتبط بالثقافة السائدة، التي تتجدد باستمرار وتندمج بالنسق العام بحيث لا تترك لعفوية الجماهير أي أثر يذكر، وتجعلهم يتحركون في فضاء لا يستطيعون فيه تحقيق استقلاليتهم.
لقد عمل" تصنيع الثقافة" على ايجاد امكانية جديدة هي عدم التمييز بين محتوى "الثقافات". ويعود ذلك الى نوعين من انواع التكنولوجيا المتقدمة: تكنولوجيا الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الالكترونية. كما ان الثقافة الشعبية التي تطورت بصورة عفوية من قبل الجماهير هي مشكلة بذاتها، لأن الجماهير في الواقع لا تتكون من أفراد مستقلين، وإنما من ذوات مدفوعين، بتبعيتهم الاقتصادية وبشروط العمل السائدة في المجتمعات الصناعية الليبرالية، إلى الركض وراء التيار الجارف مثلما يحدث مع موسيقى التسلية المخادعة.
إنّ الثقافة الشعبية المصنعة على نطاق واسع إنما تمثل خطراً على الفنون الرفيعة ذات الجوهر الفكري والفني الرفيع. فعلى العكس مما تشبعه الثقافة المصنعة على نطاق واسع من سلع، فإن الحاجات الاجتماعية والنفسية الحقيقية هي الحرية والاستقلالية والإبداع التي تشيع السعادة الحقيقية.
العولمة والثقافة المصنعة
يطرح سكوت لاش في بحثه "نحن نعيش في عولمة تصنيع الثقافة"1998 سؤالا هاما: الى اين تسير أوربا في عصر ثقافة التصنيع؟ ومع ان جوابه غير كاف ودقيق، فانه يقول بان تأخر أوربا في تكنولوجيا المعلومات من الممكن ان يعود الى رهان الاعلام المتعدد واهميته الفكرية حيث تكون "عولمة" اللاعبين هنا شركات وليس افراد: بيرتلزمن، ريد اللزفير، نيوز -كورب، بي تي، تيليكوم الالمانية وليو كرش، في حين يواصل الاميركيون واليابانيون تطور تكنولوجياتهم الاعلامية الى مدى بعيد.
غير ان لاش يؤكد في ذات الوقت، بان الاوربيين هم أكثر غنى وحيوية في تراثهم ومؤسساتهم من حيث المحتوى الثقافي، كما يظهر ذلك في انتاجهم الذي يرتبط بأكاديميات الفنون الجميلة، وكذلك بالرواية والفلم والازياء والرسم والنحت وغيرها. هذه الانظمة الجديدة تختلف تماما عن نظام السوق وذلك لوجود امكانية في استمرارها وهو عكس ما هو موجود في الولايات المتحدة الامريكية حيث يسيطر عراب الرياضة "نايك" على اسواق عديدة وكذلك على نجوم الرياضة. كما تختلف ايضا عن "الرأسمالية الحثيثة" للبنوك الخمسة العالمية الكبيرة. فالبرازيل وروسيا والصين والهند وكذلك اندونيسيا تمثل اليوم نصف طاقات القوى العاملة في العالم، وسوف تحتل عام 2020 نصف تجارة العالم. وإذا كان الاقتصاد الاوربي بطيئا غير انه مستمر، وهاتان الخاصتان انما تعكسان تأثير التراث الثقافي وطول عمر الحضارة الاوربية وتوحيدها منذ عصر غوتنبرغ، مثلما حققت صناعة الاعلام في الولايات المتحدة الامريكية "وحدتها الثقافية" وإذا كان الخمسة الكبار قد نجحوا في تقدمهم الاقتصادي، فقد تم ذلك في عصر الاعلام الرقمي.
ومع ان السوق العالمية ستكون في المستقبل للخمسة الكبار الجدد، وبخاصة الصين، فان لأروبا فرصة اخرى تستمدها من القوة الايجابية لمحتوى ثقافتها والتي من الممكن ان تراهن بها في عصر الاعلام الثاني.
الحداثة الفنية والثقافة المصنعة
مفهوم "الثقافة المصنعة" لأدورنو له معنى خاص في الحداثة الفنية لا يخرج عن سياق نظرته الجمالية. فهو ينطلق من ان العمل الفني والتجربة الجمالية في عصر الحداثة والمجتمع الصناعي المتقدم تعيش في وضع متأزم، لخضوعها إلى تقنيات غير مرئية يحددها ويسيرها المجتمع الرأسمالي. وإذا كانت هذه الأزمة لا تمثل "نهاية الفن"، فإن الفن فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح موضوعا هامشياً وزائداً عن اللزوم في تحرير الحاجات الجمالية. فالرياضة والإعلام والتلفزيون والموضة وغيرها من وسائل الدعاية تقدم للأفراد بدائل جديدة وذلك بسبب التغيرات التكنولوجية التي " ثوَرت " الإمكانات التقنية وقادت إلى توسيع وامتداد كبير للفنون وخاصة في تقنيات الطباعة وفن التصوير والفيلم، وأخيرا تقنيات الصوت والصورة، ولكن في ذات الوقت، أدت إلى تجزئة الفنون وتحولها الى بضاعة تباع في الاسواق مما يساعد على انتشار الفنون الترفيهية بدلا من التمتع بالفن الرفيع والتبصر العميق فيه.
فبواسطة التقنيات الجديدة للثقافة الجماهيرية أصبح الفن "البرجوازي" عتيقا ولم تعد له تلك "الهالة والفرادة والأصالة" الفنية التي دعا إليها فالتر بنيامين ، وهذا في الحقيقة مؤشر على انحطاط الذوق الجمالي الذي كان يقوم على النظرة الطبيعية والمباشرة وكذلك على الرصيد الاجتماعي لأي عمل فني. وبدلا من ذلك ظهر الفن المجّزأ إلى الوجود والموجه إلى الجماهير، كما في الفيلم والتصوير، الذي يطلق العنان للفئات غير الواعية، ويجعل من عناصر الواقع الجديدة في متناول الجميع تقريبا، ومن منظور زمني ولكن مشوه. ومن هنا يبدو لنا أن أدورنو لا يهتم بالفن الجماهيري بقدر ما يهتم بصحة واستقلالية العمل الفني وتحرره من تصنيع الثقافة وتسطيحها الذي يظهر في الفنون الرفيعة وفي الموسيقى على وجه الخصوص، التي تمنح للفنون الحس المعاصر والحديث وذلك برفضها الواقع من أجل إعادة إنتاجه وتغييره وخلق " الفن الأصيل" الذي يحمل إمكانية هدم ما هو قائم، الذي يمثل جميع أنواع الخلق الفني وليس التشكيلي وحده ، الذي يتشبه بكل ما هو راهن وساخن ومغترب ويتطلب الجدة والتفرد والدينامية والتنافر، لأن الطابع المميز للتجربة الفنية هو المغايرة لما يجري في الواقع.
وينطبق رأي أدورنو على الموسيقى أيضا، التي يفترض بها ان تظل وفية على إعطاء مصداقية لقول الحقيقة، لأنها آخر التعبيرات البريئة عن الحقيقة في الفن. ولكن الموسيقى الحديثة وكذلك الفنون التشكيلية والأدب، تقف اليوم على حافة ما يمكن تسميته فناً، لأنها تجعل من الصدفة أو الحادثة أحد العناصر الأساسية فيها، وهو نزوع نحو وظيفة جديدة في المجتمع الاستهلاكي الحديث بعد ان فقدت مواقعها القديمة لصالح سلطة وسائل الدعاية والإعلان.
يقول أدورنو ان "امتلاخ الفن من قبل الفن نفسه" لا يعني إخراس الفنون، وإنما يصبح الفن، بواسطة الثقافة المصنعة، فناً غير مرهف ويتحول اليوم إلى بضاعة، كاسيتات(CD) لبيتهوفن وشونبيرغ، وأعمال لغوية وكتب يمكن شراؤها على شكل كتاب للجيب. وفي نفس الطريقة الميكانيكية تقدم فنون الثقافة الأخرى.
والشيء الحاسم، كما يقول أدورنو، ليس بيع الثقافة والفنون والاتجار بها، وإنما الطريقة التي تتغير بها الفنون والثقافة لتصبح منتجات سلعية تعرض كبضاعة مصنعة، وكذلك تغير الثقافة لتتحول إلى بضاعة شعبية رائجة.
واليوم حيث يقوم التصنيع على تصاميم وعمليات انتاج واعادة انتاج وتوزيع واستهلاك سلع جاهزة، تتبع الثقافة التصنيع أكثر مما يتبع التصنيع الثقافة. وما تنبأ به أرنوا قبل أكثر من نصف قرن، أصبح اليوم حقيقة قد لا يقبلها البعض، ولكن من المؤكد انه لا يوجد طريق آخر يتلاءم مع ما نعيشه في عصر عولمة الثقافة وثقافة التصنيع.

ليست هناك تعليقات: