المفردات الجديدة في لوحات الفنان علي رشيد
صالح الرزوق
شكلت صداقتي مع الفنان العراقي علي رشيد والمقيم في هولندا هاجسا لمتابعة أعماله التي كثيرا ما جعلتني أنقاد لخصوصيتها، بل لتحولاتها الشكلية والذهنية، فقد تميزت أعماله بتبديل مستمر في المفردات. وبرأيي إن أفضل مدخل للكلام عن هذه الظاهرة هي أن نضع علي رشيد ضمن الإطار العام للفن الموجود على الساحة اليوم.
إنه فنان يقودنا إلى الأطراف، ويترك المتن- المركز وراء ظهره. بل يلغي فكرة المركز والمناطق الأليفة من ذاكرتنا الفنية ويعتم عليها. ويرفض أن يكون تقليديا. بمعنى أنه لا يستوعب المعنى الكلاسيكي للحداثة.
إن حداثة علي رشيد لا ينقصها التطرف. فهي بلا صورة وتبني كل فلسفتها على التصور أو الفكرة. وأعتقد أن أهم شيء فيها هو تحدي منطق النهايات. كل لوحة تبدو بداية من غير أثر للماضي.
وإذا تحدى بيكاسو العقل المنطقي في تصويره للإنسان والأشياء والطبيعة، فإن علي رشيد وأقرانه ذهبوا بالفن إلى مخيلة قوامها الابتكار والعفوية. فكل خط يبدو عفويا وكل لون بعيدا عن البتون المعروفة.
وكأن اللوحة تتعمد الانتقام بشوفينية لا تهاون فيها من منطق الأصول. إن مغامرة علي رشيد تتلخص في بناء عالم بلا قواعد ومن غير خلفيات.
لكنه لا يبدل معاني مفرداته اعتباطا إنما يبحث لها عن محددات، وخيارات بصرية تتطرف أيضا بزهدها. فهو يحصر تجربته ضمن اللون الأبيض ووسط هذا البياض يوهمنا باللون، ويصنع طيفا شفافا يتراوح مابين الرصاصي والأزرق مع ظل باهت. وخلف هذا الشحوب يقدم لنا بديهيات بصرية مثل الفراغ والفضاء والماء والتراب وغيرها من العناصر البسيطة. إنها تجريدات يمكن إسقاط ذاتك عليها. وفي نفس الوقت يمكنك أن تستدل منها عن عبرة اجتماعية ونفسية.
فالكآبة لها لون. والسعادة لها مساحة. والحوار له قوام. بينما التأمل والمونولوج يكون بشكل كتل منطوية على نفسها ومتداخلة بفوضى عجيبة ومدهشة.
كذلك لا تخلو لوحاته من فلسفة خاصة بالحركة. ففي كل لوحة مشهد لطبيعة نفسية بحالة ركود. إنما يطرأ عليها تبدل في اللوحة التالية. وعليه يمكنك قراءة اللوحات في أي معرض وكأنها مفردات في جملة تامة.
ولا يمكن أن تستغرب ذلك ما دامت لوحاته أقرب للمجاز من الواقع الملموس. فهي تعبير عن انطباع تجريد مطلق لحالة. وأفضل تعبير لهذه الحالة هو ما يسميه كامو بالعبث واللأادرية واللامبالاة.
أنت تلاحظ أن محتويات لوحاته هي كتل تبدو مهمومة وتثقل مساحة العمل. وتكون على هيئة سراب يبدل مكانه من لوحة لأخرى فيكون في العمل الأول قرب الوسط وفي الذي يليه قرب الأطراف. وأحيانا يكون شاقوليا من الأسفل إلى الأعلى. مما يدل على موضع الهم الغامض ولكن ليس على مغزاه.
لقد كانت لوحات علي رشيد القديمة بلون الحبر الأزرق. وتغطيها كتل صماء ومسطحات. مما يعني أن الحياة واقعية. بمتناول الإدراكات والأحاسيس العامة. ولكنها الآن مفاهيم مبهمة متجردة. والتجريد هنا بمعنى التمرد على المغزى الثابت.
إن ما طرأ على تلك اللوحات الصامتة والممنوعة من الحركة والحاملة للأثر لا يعدو أن يكون إزاحة مع تقريب.
والإزاحة تعني التهرب من الكتل العازلة للمنظر. والتقريب يعني إتاحة كامل فضاء اللوحة للحالة النفسية بحيث تصبح مرئية. منفصلة عن صاحبها ومنتجة للمشهد ككل. وهذا يعزز مفهوم التغريب البريختي بأبسط صوره. وبالتالي يوفر لسلسلة اللوحات الحد الأدنى من الدراما.
لقد قدم علي رشيد في هذه اللوحات نفسه وأتاحها للمشاهدة. وهي نفس لحظية. يعني ابنة هذا الطور من النظرة نحو الداخل. باتجاه ما يسميه غراهام غرين (الرجل الذي يحتلني(.
والمقارنة مع غراهام غرين مبنية على قناعات متحولة. فأعمال علي رشيد تتطور من الطبيعة الخارجية إلى القلق النفسي. ودائما يكون الإسقاط بالنظر وبالاعتماد على المشاعر الملتهبة في منطقة الإدراك بالخطأ. الأمر الذي يعني أن اللوحة هي ارتداد آخر من الباطن إلى الباطن.و من حيز الأفكار والواقع إلى حيز الروح والميتافيزيقا المادية.
كان اهتمام علي رشيد ينصب على مسطحات غير شفافة. ولكنه أصبح يهتم بنواة تختزل فكرته. ومع أنها فكرة فهو يترك حرية تفسيرها لعين كل مشاهد على حدة، كي يعبر دائما عن حالة التمزق والتشرذم والتجزئة التي يعاني منها الكائن .
وأرى أن هذا تبسيط لفلسفته السابقة في التشكيل وعلى مرحلتين:
أولا اللون ينحدر من الداكن إلى الباهت والشفاف. وهذه علامة على تقليل واختصار غموض الإدراك.
وثانيا الكتل. فهو كذلك يختصر مساحتها وأعدادها. يدمجها في كتلة واحدة. وحتى في لوحة الكولاج يضيف لمسات من حياتنا اليومية ويترك بؤرة إبهام واحدة فقط. وهو دليل آخر على اختصار إشكالية الاغتراب. وتصعيد معنى الألفة. فالمشاهد يستطيع أن يحصر العقد النفسية في مربع واحد. هذا لو أنه استعمل النظرة البعيدة. ثم بإمكانه تفكيك المربع إلى عناصره لو استعمل النظرة القريبة إلى أن يتفاهم معها ويتأقلم مع عقدتها لتكون جزءا من البنية والواقع المعاش.
إنه واقع أشبه بكذبة تتحول إلى جزء لا يتجزأ من الحياة. وبالتدريج تنتشر بشكل غامض لا بد منه.
ولكن وراء كل ذلك تجد عقدة. والسؤال هل هي نفسية أم اجتماعية؟.
أميل للقول: كلتاهما.
نفسيا يحاول أن يهرب مما يدرك. فهو ضعيف الإيمان بالواقع الطبيعي المعاش. وليس من الممكن أن تشاهد شيئا في أعماله غير الأثر أو العلامات التي يتركها مرور الحياة على المشهد.
وإن هذا الغموض الذي يُعنى بالهرب من المرآة ويحذر من النظر فيها. ويختار بلا تردد الانطواء على النفس، وتنمية جو باطني سابق للتمثيل والتصوير والتشكل. يدل على ضعف الإيمان بالذات. والاتكال على الذهن العام بافتراضاته. حين تكون عملية الخلق مجرد فكرة.
وأغلب الظن إن اللجوء إلى عالم الأفكار والتكهنات، بعيدا عن الإدراك المادي والملموس، ينطوي على خوف من الإضاءة. فالفنان في هذه الحالة يفضل التعتيم كي لا يرى واقعه المخيب للآمال. وطبعا الواقع هنا يدل على حال الذات الفنية وليس الواقع الشخصي. فالذات لديه بشكل عام تعاني من الرهاب.
أما في المنحى الاجتماعي لا يبدو الفنان علي رشيد اجتماعيا على الإطلاق. فهو لوحده. أو في فراغ رمادي وخانق ومساحته في اللوحة تمهد للإيحاء بضجر أو سأم وجودي من التفاصيل.
وبمقياس الفن العدمي الذي تخصص به فاتح المدرس، وجرد شخوصه بكتل ووجوه وأشكال هندسية، يبدو علي رشيد لا أدريا بالإضافة إلى أنه نهلستي.
فهو لا يمحض ما حوله بأي جهد لتعريفه. ويترك هذه المهمة لمن يؤمن بالحواس الخمس.
وهو يكاد يعترف أنه لا يرى في الحياة أي مجتمع. ولا أي حامل لهم اجتماعي ولوازمه. بالعكس إنه يملأ المساحة بفراغ يحتاج لحدس. ولشحذ كل قدراتنا على التأمل من داخل تجربة الضياع والتشرد ثم العزلة المطبقة.
فالألوان يختزلها بلون واحد وتدرجاته. والأشكال يختزلها بإيحاءات تقوم على التشكيل والإلغاء. ونادرا ما تخلو له لوحة من خطوط صبيانية لم أجد لها ترجمة وظيفية.
ما هي وظيفة هذه العلامات المبهمة؟.
إنها خط قلم رصاص يعاني من الفوضى وانعدام الهيئة أو الصورة.
طبعا الفن بحد ذاته تصعيد لغريزة تعاني من عصاب وموانع ومكبوتات.
ولكن أسلوب التصعيد هنا عكسي. إلغائي. ومؤشراته تدل على اتجاه داخل الفكرة الفنية.
فهل هذا هو ما نريده من الحداثة؟.
العودة إلى لحظة الوعي الأول والإحساس بضرورة التعبير عما حولنا برموز لن تنقل الصور ولكن تنقل التجربة وتؤكد على مبلغ دهشتنا مما نحن فيه.
أو بتعبير جبرا إلى فجر البشرية حين لم تكن الفلسفة موجودة وأساطير التكوين في بداياتها.
هناك اعتقاد سائد أن وراء أدبيات المازني عقدة الرهاب من الأفاعي. لذلك كانت شخصياته دراماتيكية وقليلة الحركة وكثيرة السخرية والهجاء والمرارة. ونجزم أن خلف لايقينية السياب عقدة الخلقة الدميمة (بشاعة الوجه). لذلك اختار القصيدة التموزية التي تضع النهاية في مكان البداية. وتحول الحياة إلى دائرة مغلقة من الندب والسخط وإهراق الدموع أملا بتحويل الأزمة الخلقية وندوبها إلى قضية نفس أو ذات.
ولكن إلغاء الأشكال في تجريديات علي رشيد وأقرانه يدل برأيي على قلة الثقة بالعالم المعاصر والرغبة بيوتوبيا تضمن للإنسان العدالة أولا. والحرية ثانيا.
وعليه كان التجريد سلوكا في الهدم وليس التثبيت. ثم فلسفة في النكوص إلى لحظة ما قبل المحاكاة.
وطبعا هذا بانتظار ما ستسفر عنه هذه الوعكة الأخلاقية. فمن غير يقين لا يمكن لأحد أن يمتلك، في لوحته، جزءا من المجتمع الذي يمقته. سواء هو بيت أو صديق أو شريكة حياة تؤانس وحشته ونفوره.
ولذلك علينا قراءة أعمال الفنان علي رشيد بمقاربات متعددة، لأننا سنقرأ فيها ذواتنا الضائعة بين أطياف اللون الواحد. ولنفهم هنا معنى اللون بالدال النفسي والبصري.
ناقد وكاتب ومترجم من سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق