أختام*
عادل كامل
[8] الجسد:
المنفى مستعادا ً
ليس للمعنى، خارج حدود الخامة،
أو ما سكن الرأس، إلا حضور ذلك الذي شغل من حز فوق الصخرة إشاراته المبعثرة، ربما
اللا متوقعة، والخالية إلا مما أخفاه، بحثا ً عن ذات لا يعرف عنها إلا وجودها
المؤقت: حاضرها المبني بالمحفزات، والإنذارات، والمخاوف. فلم يبق لدي ّ من المعنى
ـ بعد أن تحرر الختم من وظيفته في التداول، بل وحتى من العرض ـ إلا أن ادعه
يسكنني. لقد قلبت المعادلة، فبدل أن اسكنه، تركت جسدي يستقبله للمغادرة معا ً في
اتجاه ترك الأسئلة اقل إيذاء ً، أو ضررا ً.
ربما، بهذا الهاجس كان للجسد
مكانة الأرض، فكلاهما يخفيان مساحات لم ْ تدشن: الفضاء، كمشهد النجوم في ليلة
باردة: أجزاء تعمل حد استحالة إدراك ما الذي وجدت لتعمله. فأنا حاضر بحدود وعيي
لما لا يحصى من المغيبات، والمجهولات. فانا غائب إلا في حدود هذا الانشغال الودود:
الفن. وهو العمل المضاد لعصر غدا ساحة
أسواق استبدلت جحيم الحروب بجحيم السلع، والبضائع، واستبدلت جلجامش أو الاسكندر،
أو جنكيز خان، ومن قبله هولاكو، أو بكر صوباشي ـ أو كل من افزع تراب الأرض وقلوب
اشد الرجال حكمة، ودمر براءة مجتمعات تقليدية ـ بتجار كبار يقودون شركات تخضع
لأنظمتها أجهزة بالغة الدقة في التستر على جحيم عالمنا الحديث؛ وهو العمل المضاد،
بالدرجة الأولى، لترك أحلامي تتسرب خارج الخامات الشبيهة بتلك التي تصالحت مع
أصابعها، ومع نبضات مخاوف قلوب صانعيها.
ما هذا الذي لا يمكن الاقتراب
منه، لا لأجل لمسه أو رؤيته أو السكن بجواره، هل هو اله إنسان الكهف، قبل مليوني
سنة، أم هو اله المصانع أو اله عصر أصبحت (الحرية) فيه أكثر السلع تداولا ًـ
واستهلاكا ً، وابتذالا ً! هل هو أن أحافظ على (الحاضر) ـ بتراكماته ـ والخوف من
فقدانه، كي استبدل عمل الصياد ـ في تدمير الطرائد وتمزيقها ـ بالسكن في الخامات:
في الفن، وليس في القبر؟ يقينا ً أنني
ولدت في الذعر، فأنا ولدت مذعورا ً، وكلما أنهكت رأسي بمعرفة القوانين، وأنظمتها،
ومشفراتها، أزدت ذعرا ً، فليس ثمة إلا الأقنعة، من اللغة إلى الصمت، ومن الأعياد
إلى مواكب الجنائز، والى المآتم الاحتفالية، ومن البطولة إلى الحضيض، ومن اللذة
إلى المرارات، كلها، اشتبكت في حركة نهايتها أصبحت مرئية أكثر بكثير من مقدماتها..
فأي اختيار بإمكاني الاعتراف انه ليس ناء ٍ عن فناء حكمت به ...؟
كان الجسد وحده ـ من الرأس إلى
الأصابع ـ أراه لا يكف عن انشغالاته بالبحث عن هذا السكن المستحيل. فبعد الخروج من الرحم، إلى مجتمعات المنافسة حد
التصفيات، ما الذي يوازي انشغال المتصوف بنشدان أبدية لا أسئلة ولا عدم ولا
انبثاقات فيها، ما الذي يوازي اللا فعل، الفناء في حضور لا إرادة لي فيه، وأنا اصطدم،
عبر سنوات القسوة، بالثوابت الأشد صلابة من الوهم: البحث عن الأبدية، وعن متنزهات
تتوفر فيها لذائذ الخمور، وغوايات عالم الحريم، والأبكار، والغلمان، ولحوم
الطيور..وما لا يحصى من الهبات لمخلوقات كنت أضعهم في مرتبة ما بعد الطحالب،
والرخويات!
فلم يكن لأصابعي إلا إجابة من
امسك بالمفتاح وتركه يدور في القفل: الختم. فالصمت ليس دلالة مضادة للكلام، والعدم
ليس نقيض الوجود، بل، كلاهما يعملان عمل الجسد وقد غدا مأوى نفسه: الختم يكتم
كتماناته بمغادرة التأويل، والشرح، والإضافات. فعمله شبيه برؤية مجرة قيد
الاندثار، وقد تجمعت فيها ما لا يحصى من الأجزاء ـ كالشمس والأرض والقمر وبغداد
وسومر ـ في تجنب أن اكتشف وقوعي في فخاخ طالما ذعرت منها: فخ الصياد، وأنا عملت أن
لا أقوم بدور الضحية. لكن (الختم) لا يعلن إلا ما هو عليه: فك ملغزات هذا
الانشغال، لأنه ـ في الأخير ـ وثيقة.
واعترف ـ هنا ـ أنني بلغت إرادة اختيار كل ما لم
اختره: نسج جسدي داخل هذه الشبكة من الخيوط، والعلاقات، داخل جسد آخر، لا اعرف
أأنا أصبحت شريكه، أم هو الذي أصبح شريكا ً لي، أم كلانا بلغ ذروة الشرود وقد غاب حضورنا، ولم يبق إلا
الأثر ممتدا ً كما تكونت بذور الخلق في الخامات البكر: دورة تعقبها، إنما ـ في
المسافة بينهما ـ أكون قد تلمست ـ ووضعت ـ زوالي موضع التنفيذ: ختمي!
[9] العطر: حافات الختم ـ وملغزاته
كيف تكّون العطر، وليس كيف
تكّون العفن ـ لو لم ينحدر من الشمس: العفن، وليس ما جرى في الظلمات، في القاع، بل
ما غابت عنه النار. انها معادلة لوجود خاتمته امتدت بالمقدمات: عطور للصخور، وأخرى
للحبيبات، للماء وثانية للأصابع، للفجر وأخرى للصحراء، عطور ورود لم يغب عنها
النظام ذاته الذي لم يغب عن الأثر: عظم حك ونقش بالنبضات، وصخرة شذّبت حتى بدت
آلهة. ألا أبدو قد أمسكت بالذي امسك بمصيري، وتركني استدل بآثار تمحو خطاي،
وتثبتها، كأنني المخفي في حلقات جسر يمتد من المجهول إلى المجهول، كي لا يمتد، في
نهاية المطاف، إلا وقد أصبحت مراقبا ً لأثري في هذه الدورة.
عطر من كان يحرك في ّ حاسة
المتابعة، لو لم يكن قد قلب نشأته البكر: المستنقعات، حيث تكّونا، كما تكّونت
المجهريات، لندّب، بالإضافات والحذف، بالاختفاء والتمرد، بالصبر وبالمغامرة، كي
تتكون أقدم الحواس: مع الملامس، والشم، والإصغاء ..الخ تقنية مبكرة للتملك: حدود
الباثات، وإقامة علاقة (ما) معها. فما لا يحصى من الروائح، راحت تكّون أجهزتها،
مثلما موجات الأصوات، والإشعاعات، بدأت بالتحول من الاضطراب إلى التخصصات، لكنها
بدت مثل لعبة، ولا تخلو من براءة: عصر المكونات الأولى: العش/ الرحم/ والأرض.
فالكيان لم يتميز بحجمه أو لونه أو عمله فحسب، بل بما ترك من رائحة ستبقى مدوّنه
في موقعها في الدماغ: رائحة الجلد، والأم، والحيوانات، والرماد، والمطر، ورائحة
الغرباء ...الخ تبقى عالقة داخل خلايا الدماغ ـ لقرن ـ وبالإمكان استرجاعها في جزء
من الثانية: ما تتركه العاصفة، والأمطار، والبراكين. لأنها جميعا ً، في لحظة، تحول
(الخامة) إلى (نص/ اثر) ـ و (أثر ـ نص) يغدو مستودعا ً، خزانا ً، وكنزا ً. ففي
الختم تتراكم ـ وتتزامن ـ الروائح، لترقّم، ضمن
ومضات أخرى.
فقد انجذبت، على سبيل المثال،
إلى كهوف كانت تجاور بيتنا، لها رائحة سابقة على الأسئلة. من ثم ـ وأنا انتقل من الجبل إلى الصحراء، فانجذبت
إلى مدافن سومر، عند الزقورات. كانت خرائب القصور شبيهة بصور أفلام الرعب التي ـ
هي الأخرى ـ جذبتني برائحة عنفها، وغموضها، ومخفياتها؛ رائحة العشب، والدم.
فالأميرة السومرية مازالت تتعطر، قبيل رحيلها، بعطر حضارة لم يبق منها الكثير:
سراديب مخربة، وسقوف منهارة، وجدران متآكلة، لكن شبعاد لها رائحة البلل: الحليب
والبول. فكنت أجد أني أقمت علاقة ما مع أميرة سممت أتباعها وأخذتهم معها إلى
العالم الذي لا عودة منه. تلك الرائحة لم تغب عنها رائحة الخفافيش، والثعالب،
والطيور، وروث البهائم، فالأميرة راحت
تسكن رأسي.
وفي المتحف ـ في بغداد ـ كنت
أعيد تركيب وبناء ملكة معاصرة: ملكة ضد الزمن. فرائحة العرش لم تعد رائحة قبر، بل
رائحة ختم. لأن الأخير غدا مركبا ً بعناصر راحت أصابعي تشاركه عبوره نحو الحاضر.
ففي شرود لم يخل من انحياز للعناية، رسمت شبعاد، أميرة سومر، لذائذ غامضة لكنها راحت
تغذي لدي ّ انشغالا ً بالجسد، رمزيا ً، كي يلبي متطلبات براءة لم تدرب على الهزيمة
بعد. انه عشق العطر، في الغالب، لكنه سمح للحواس أن تكّون حمايتها، وجدرانها. إن
شبعاد ـ وهي شبيهة بإنانا ـ مثلما سمحت لي كلمات الكاهنة انخيدونا أن تكون أول
منفية في المنفى، تجرجر مجذوميها إلى
الجذام، فكنت أميز، بالدرجة الأولى، رائحة انتهاك: تارة أكون منفاها، هزيمتها،
وموتها، وفي الغالب، فتاها المسحور. تلك لم تكن لعبة، بل صياغة. فالختم لم يعد
جنسانيا ً، لا لها ولا لي، بل غدا وحدة المنفي بمنفاه، وحدة الدال بالمدلول، والأم
بابنها.
على أن للعطر غواية ترك
الأصابع تنبش، تحفر، تفتش، تلامس، تغوص، وتجتاز ثوابت المحرمات نحو الداخل: ظلمات
لها مذاق المتوحد وقد أدرك انه كلما ارتوى ازداد انجذابا ً للذي يقع وراء العطور.
فالمحرمات تغدو خارج المعايير، والمفاهيم المتداولة. لا لان شرط الديمومة لم يقم
على نعم أو لا ، ولم يقم على (يجب)، و (كما ينبغي) لأن من تقمص لغز السر ـ والمقدس
اللا متناهي ـ لغز الآلهة، ليس إلا طبالا ً، وان كان يلهو بالمعاقبة، والدفن. إنما
(الآخر) فقد كف أن يكون مع الحسنات أو الآثام: انه ـ وهو أنا ـ ترك خلاياه تشتبك
بأكثر الجاذبيات تحررا ً من القيود: الكف عن الأنا ـ الآخر، لأجل خاتمة طالما كونت
مقدماتها عبر آلام الوضع، إنما الذاكرة ليست مجموعة ملفات، بل بؤر لا مرئية للذي
سيغدو ختما ً: عطرا ً يعيد للميت، في الانبثاق، كثافته وقد استحالت أثيرا ً، أو
فنا ً، أو مسعى لا ينتظر الثناء، أو المعاقبة.
هذا العطر وقد تجمّد، شبيه
بالجهد وقد تحول (عمله) إلى كتلة حجرية،
معدنية، ورقية، رقما ً في حساب، مما يسمح للختم أن ينفي تاريخه التليد، ويتحول إلى
جسد، إلى خط، إلى عثرات، والى مشفرات يصعب تتبع خطوطها الداخلية وما تهدف إليه،
أكثر من أنني وجدت حياتي تنسج مصيرها لتستدل عليه، لا في زمن محدد، بل في زمن يسكن
المصير ذاته: حركته، وعبوره من الكتلة إلى لا مرئياتها. فانا ـ إذا ًـ محكوم ـ منذ بزوغ هذا الانتباه ـ
باحتفال رحت اجمع عناصره، وأعتني بتراتيله، لإقامة أختام تكّون سكني: هذا المدفن
وقد غدا مضادا ً لموته. إنها شروط غير اجتماعية، لكنها، لم تنشد الانفصال، بل ـ في
هذا المسار الأنثوي الخالص وغير النسوي ـ تأخذ البذرة نظامها: إنها محكومة
باستحالة أن تكون خاتمة، أو بالإمكان حذفها من الوجود. على أنني وأنا أشم كفن/
تاج/ خرز/ أساور/ عظام/ رماد/ ومخلفات أميرة سومر ـ وهي تترك نشيدها أعيد إنشاده
بعد خمسة آلاف عام ـ أفيق، وأنا اصنع أختامي لمواصلة الاحتفال ذاته: الدخول في
الجحيم، بطيب خاطر، في البحث عن الذي لا وجود له، والذي أصبح يترك غباره غواية للمشي خلفه، كالسير وراء أعمى يدلنا أين
هي مواقع الشموس التي ستتكون، بعد انطفائها، وكيف ستعيد ترتيب القمر وزحل والمشتري
والأرض وغيرها، حبات لقلادة يتم ترتيبها خشية بقاءها مبعثرة، في جيد أبدية أن
الإله وحده تام العلة، وناء ٍ عن تأويلاتنا، وبالدرجة الأولى: استحالة أن تكون
للمحدود، جسارة التدشين بالعصيان، كي يقلق، يشوش، بخطابه أن اللا متناهي له، ما
للعاشق، من تبعات، وذنوب.
كان الختم صفرا ً تجمعت (
تجمدت/ تكومت/ انتظمت/ انصهرت/ تبعثرت/ تلملمت/ تآخت/ اشتبكت) فيه الوحدات، الأعداد، المجهريات، الذرات، ولا
مرئياتها، لا في اليسار ولا في المقدمة، إلا محّملا ً بعطر الكثافة، وغير قابل
للزيادة أو للنقصان، بصفته، كاللاحافات تتجمع فيها العناصر، وفي مقدمتها، هذا الذي
نمشي خلفه، بعد أن جرجرنا إليه، باستحالة أن يعلن عن وجوده، أو عن غيابه في
الأخير.
هو ذا نبض من عثر على حبيبة لا
وجود لها إلا عبر وجودها نائيا ً بعد أن تركت لنا عطرا ً نكاد نراه، ونصغي إليه:
نهاية الدم، والكف عن الدنيا للعابرين، شذاذ الآفاق، الخارجين على العفة، والطهر،
والمخبرين، والمجندين عنوة، وحاملي الكاتم، والنافخين بالبوق، الطبالين، مع/ ضد،
بحسب الضلالات، حيث الختم بوابة، وحجر أساس، وبخور ولادة. الختم ـ هو ـ من لامس
النائي، وفارق القريب، فأي عطر هذا سكنني، وبذر منفاه في ّ، كي لا يكون الختم إلا
الخاتم ـ به ندوّن محونا ـ وبه ـ نترك للمحو ـ أن يجاورنا، وخطانا أبدا ً لن
تتمايل، مهما اتسعت/ وضاقت، مسافاته، إذ ْ
به يكون العدم تاما ً، مثلما الثنائيات، ليست إلا حافات أصفار.
* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق