الخميس، 7 أبريل 2016

لماذا تموت الكاتبات كمداً؟-شعبان‮ ‬يوسف*



لماذا تموت الكاتبات كمداً؟
شعبان‮ ‬يوسف*


لا أدعي بأنني سوف أقدّم مذكرة دفاع رصينة ومحكمة عن أحقية المرأة في الحصول على كافة متطلبات الحياة‮، ‮ ‬أو في ضرورة النظر إليها ككائن إنساني مثله مثل الرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية‮، ‮ ‬لأن هناك سلسلة ذهبية طويلة من الأسماء التي فعلت ذلك بجدارة وإخلاص نادرين‮، ‮ ‬بالإضافة إلى التفاني والجدارة والإخلاص الذي لاحظناه على كثير من المنشغلين بقضية النساء عموماً‮، ‮ ‬فإن النضال من أجل عدالة تلك القضية‮، كان نوعاً من الضرورة الحتمية التي لا مفر منها سوى الفناء والانسحاق والانتحار المادي والمعنوي‮، ‮ ‬فكان النضال لازمة أساسية أمام مناضلي قضية النساء‮، ‮ ‬ليس باعتبارها قضية خاصة ونوعية وفريدة‮، ‮ ‬ولكن باعتبارها قضية عامة وعادلة‮، ‮ ‬تخص جميع البشر والجماعات السياسية‮، ‮ ‬وكذلك طليعة المجتمعات الناهضة والساعية نحو كافة أشكال التحرر‮.‬

وتبعاً لذلك لاحظت أن قضية المرأة الكاتبة‮، ‮ ‬منذ نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين‮، وحتى اللحظة التي نحياها تقف في بؤرة القضايا النسائية وفي قلبها‮، ‮ ‬ولم‮ ‬يكن انتحار الكاتبة الطليعية فرجينيا وولف‮ ‬ينفصل بأي شكل من الأشكال كافة أشكال الأزمة التي تلاحق المرأة ككائن بشري له خصوصياته الحادة‮، ‮ ‬وكذلك ككائن اجتماعي‮ ‬يراد السيطرة عليه بفرض القوانين‮، وتأويل النصوص الدينية ضده بكل الطرق للدرجة التي تصل إلى حدّ‮ ‬التسليع الرخيص لقيمة المرأة‮، ‮ ‬وتحويلها إلى متاع‮ ‬يملكه الرجل والمؤسسة الدينية والسلطة السياسية‮، ‮ ‬ولو تأملنا كتابات وولف المتعددة‮، ‮ ‬سنجدها تقف بضراوة ضد تلك النواميس المفروضة على المرأة وجسدها وصوتها الساسي والأدبي والفكري والروحي‮، ‮ ‬ولذلك جاءت كتاباتها مختلفة تماماً، وضد التراث التقليدي للمنجز السردي الأوروبي‮، ‮ ‬وحاولت بكل الطرق ضرب أو اختراق مفهوم الحكي التقليدي والمتعارف عليه‮، ‮ ‬وبالتالي هناك نقاد قالوا عنها بأنها لا تجيد الحكي‮، ‮ ‬وأنها تقف بين الشعر والسرد‮، ‮ ‬فهي لم تخلق حكاية أو رواية كما اعتاد النقاد الأوربيون‮، ولا هي أنشأت قصيدة كما‮ ‬يكتب الشعراء‮، هذا بعض ما كان النقاد‮ ‬يقولونه‮، ‮ ‬والأدهى من ذلك أن فرجينيا صاحبة المآسي الحياتية المتعددة‮، ‮ ‬لم تتوقف عن طرح رؤاها‮، وإبداع الكتابة المختلفة‮، ولذلك فهي هاجمت الكتابة المباشرة التي كان‮ ‬يكتبها الاشتراكيون‮، والذين كانوا‮ ‬يلوون عنق الإبداع لحساب‮ ‬السياسة‮، ‮ ‬فهاجمتهم بشراسة وهناك بعض هذا الهجوم في كتابها‮ "‬القارئ العادي‮"، والذي نقلته إلى العربية الدكتورة عقيلة رمضان‮، وراجعته الدكتورة سهير القلماوي‮، ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام‮ ‬1971، وبالتالي فلم‮ ‬يصمت خصومها‮، فهاجموها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة‮، وراحوا ليعيدوا إنتاج تاريخ لحياتها وفقا لما‮ ‬يريدون إيصاله للرأي العام‮، ‮ ‬وحاول البعض تصويرها على أنها مجنونة‮، ومصابة بانهيار عصبي‮، إنها حرب شرسة كانت تدور بين فرجينيا وخصومها‮، حرب على فرجينيا استخدمت فيها كل الأسلحة السياسية والفكرية والذكورية، ‮ ‬هذه الحرب التي ألزمت فرجينيا صمتا أبديا‮، وأدّت في النهاية إلى انتحارها المدوّي‮ ‬غرقا، وإذا كانت فرجينيا أنهت حياتها بتلك الطريقة‮، ‮ ‬فيظل إبداعها وكتاباتها النقدية في تواصل مع كافة الأجيال التي أتت فيما بعد‮، وفي كل أركان المعمورة‮.‬

ولا أريد أن تستغرقني قصة فرجينيا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس‮، ولكنني أريد من تلك الإشارات العابرة‮، أولا قراءة وتأمل حياة وإبداعات فرجينيا وولف مرة أخري‮، ووفق رؤية الصراع من جميع الزوايا‮، دون استثناء من احتكروا منصة الطليعيين في العالم حسب مواصفات أيديولوجية ثابتة ورائجة‮، وأخصّ‮ ‬هنا الاشتراكيين المزعومين في كل الدنيا‮، هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم دعاة للحق والحقيقة‮، ‮ ‬والفضل والفضيلة‮، وللأسف كان بعضهم‮ ‬يروّج لأنظمة مستبدة وما زالوا بشكل معلن ومستتر في الوقت نفسه‮، أما الأمر الآخر فهو الربط القائم والضروري‮ ‬بين قصة فرجينيا ككاتبة وامرأة ومناضلة ضد القبح بشكل عام‮، وبين نظيراتها في شرقنا العربي، ‮ ‬فلا توجد فروق جوهرية بين انتحار فرجينيا وولف في مطلع الأربعينيات‮، وبين انتحار عنايات الزيات في الستينيات‮، ودرّية شفيق في السبعينيات‮، وأروي صالح في التسعينيات‮، الفروق تكمن في التفاصيل‮، وفي الزمان والمكان‮.‬

وبعيدا عن النهايات التي دفعت الكثيرات لقرار الانتحار‮، ‮ ‬فهناك نهايات مؤسفة لكثيرات من الكاتبات والمبدعات البارزات في الأدب والسياسة‮ ‬والفن‮، ‮ ‬لأن المقدمات الاجتماعية التي أحاطت بهن‮، كانت تنطوي على أشكال من الخلل‮، ‮ ‬ثم الملابسات الاجتماعية التي حدثت في حياتهن‮، ‮ ‬كانت لا بد أن تؤدي إلى تلك النهايات‮، ‮ ‬فكاتبة موهوبة‮، وعالمة في الرياضة‮، وأستاذة أكاديمية‮، وكانت رابطة الوصل بين الحركة الطلابية المصرية‮، والحركة الطلابية والشبابية في فرنسا عام‮ ‬1968‮، وهي القاصة‮ ‬لها خمس مجموعات قصصيةليلي الشربيني‮، وقد حدث لها بعض الخلل النفسي‮، وانتهت حياتها في عزلة تامة دون أن‮ ‬يعرف أحد عنها أي شئ‮، كذلك المناضلة الطلابية سهام صبري‮، وكانت أبرز قيادات الحركة الطلابية في السبعينيات‮، والتي تركت علامات إيجابية واسعة في جيل كامل‮، ‮ ‬وانتهت حياتها على عتبات زواج فاشل‮، لتلحق بليلي الشربيني‮، وتنتابها الأعراض النفسية ذاتها‮، ‮ ‬وقد وردت سيرتها بشكل واسع في رواية‮ "‬فرح‮" ‬للكاتبة الراحلة رضوي عاشور، ‮ ‬وكذلك صدر كتاب كامل عنها أعدّه وحرره الكاتب الروائي فتحي امبابي وكذلك هذه نماذج قليلة من كاتبات تعرضت حياتهن لعواصف من المحرمات والممنوعات، ‮ ‬وقد ناضلن ضد تلك المحرمات‮، ولكن كانت صخرة التخلف والرجعية أقوى.‬

وعندما أتأمل النهايات التي جعلت صديقتي الراحلة ابتهال سالم‮، والتي ماتت وحيدة‮، ولم‮ ‬يدركها الآخرون إلا بعد ثلاثة أيام‮، وإصابة نعمات البحيري بمرض السرطان وهي في عزّ‮ ‬العطاء الفني‮، ‮ ‬أعرف أن تلك النهايات موصولة بشكل أكيد بالملابسات والبدايات التي أدّت إلى ذلك‮، ومهما كانت أشكال المقاومة التي أبدتها الكاتبات لغزو المرض‮، إلا أنهن كن لابد أن‮ ‬يعشن حياة كريمة‮، وظروفا أكثر إيجابية‮، واهتمامات فعّالة بما‮ ‬يكتبن ويبدعن ويقدمن من مجهودات إيجابية متنوعة‮.‬

ما تتعرض له المرأة الكاتبة في عالمنا العربي‮، ‮ ‬ليس مفصولا بأي شكل من الأشكال عن الأيديولوجيا السائدة والمسيطرة‮، والتي تتحكم بقوة في تنظيم أو تفريق المجتمع‮، ‮ ‬تأملوا ما حدث للشاعرة ملك حفني ناصف‮ "‬باحثة البادية‮"، والتي قاومت وكتبت في بدايات القرن كتابات مازالت تصلح حتى الآن للتفعيل‮، توفاها الله وهي في الثانية والثلاثين من عمرها‮، وكانت قد تزوجت من حمد الباسل الذي‮ ‬يكبرها بعقود من السنين وتعامل معها بصفتها الزوجة الثانية والأقلّ‮ ‬أهمية‮، وكان قد زعم قبل الزواج‮ ‬غير كل اتضح بعد الزواج‮، ‮ ‬وقد ذكر تفاصيل معاناة ملك شقيقها مجد‮، وذلك في كتابه‮ "‬تحرير المرأة في الإسلام‮"‬، والذي صدر عام‮ ‬1924، وذكر فيه كل الحقائق التي أحاطت بحياة ملك‮، وجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم‮ ‬يطبع مرة أخري‮، والكلام الذي ورد عن ملك بهذا المعني‮، ‮ ‬لم‮ ‬يرد بشكل مفصل في الأعمال الكاملة التي صدرت لباحثة البادية في الستينيات‮، وقدّمت لها الدكتورة سهير القلماوي بمقدمة نقدية شاملة‮، وسوف نتناول ماتعرضت له ملك بشكل تفصيلي فيما بعد‮، وما كتبته هي في ذلك الشأن‮، وحاولت أن تحيل شأنها الخاص إلى شأن عام‮.‬

كذلك ما أحاط بمي زيادة‮، لا‮ ‬يقل بأي درجة من الدرجات عما تعرضت له فرجينيا وولف‮، ‮ ‬رغم التدليل المتعدد الذي كانت تحظي به من الأدباء والكتّاب والمفكرين وكبار الساسة‮، ولكن عندما بدأت كتاباتها تثير بعض القلاقل‮، راحت المعاول جميعها تعمل ضدها‮، ‮ ‬ولتحطيمها‮، ‮ ‬وتركها الجميع تعيش محنتها ووحدتها وعزلتها في‮ "‬العصفورية‮" ‬ببيروت‮، وأصبحت نهبا لأهلها وفق خدعة مقيتة وقعت فيها‮، وشارك فيها خصوم لأفكارها‮، ماعدا صديقها أمين الريحاني الذي أنقذها من تلك المحنة الشرسة‮، وعادت إلى القاهرة لتموت ببطء شديد‮، تحت عين وبصر كل الذين كانوا‮ ‬يحرقون البخور لجمالها ولأنوثتها‮، ‮ ‬ويكتبون المطولات الشعرية والنثرية في حضرتها‮، وفي أول منعطف حضاري وسياسي عميق‮، تركوها تموت شبه مختلة‮، وفاقدة للأمل في أي شيء.‬

أيضا هناك الكاتبة أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية‮، والتي أصدرت كتابا في‮ ‬غاية الأهمية عام‮ ‬1912‮، اسمه‮ "‬كتاب العائلة‮"‬، وهو كتاب‮ ‬ينطوي على نثر وشعر من إنشائها‮، ‮ ‬ولا‮ ‬يقل عن كل ماكان‮ ‬يكتبه كبار الشعراء والناثرين في ذلك الوقت‮، ‮ ‬ولكنها طوردت بأشكال دينية وقبلية وعائلية‮، فانتحلت اسم‮ "‬الزهراء‮" ‬لتستكمل به إبداعاتها العديدة‮، ‮ ‬وشاركت في إنشاء مجلات كثيرة بهذا الاسم‮، وكانت تحرر‮ ‬غالبية المادة التحريرية والأدبية والفكرية لمجلة‮ "‬فتاة الشرق‮"، التي كانت تديرها وتملكها لبيبة هاشم‮، ‮ ‬وهذا‮ ‬ينطبق عليه المثل الشعبي القديم‮، ‮ ‬الذي‮ ‬يقول‮ "‬الفعل لطوبة والاسم لأمشير‮"‬، ‮ ‬لأن الزهراء كانت تعمل في شبه خفاء‮، وكل المجد الأدبي كانت تحصل عليه لبيبة هاشم‮، ‮ ‬بالإضافة إلى ترجمات لها عن اللغتين الانجليزية والفرنسية كانت باسم الزهراء‮، وواصلت عملها الصحفي والأدبي طويلا في مجلة روز اليوسف‮، ‮ ‬ذلك الجهد الذي لا بد من التنويه عنه‮.‬

ولا ننسى في هذا السياق السيدة نبوية موسي‮، ‮ ‬التي ظلمت ظلما بيّنا من مجايليها‮، ومن الذين أتوا بعدها‮، ‮ ‬ومن كاتب سيرتها الباحث والدكتور محمد أبو الإسعاد‮، ‮ ‬الذي كاد‮ ‬يصمها بالعمالة للإنجليز‮، وراح‮ ‬يؤكد علاقتها المشبوهة بدنلوب باشا‮، رغم أن نبوية موسي لها كتابات في‮ ‬غاية الثورية كانت تكتبها في جريدة‮ "‬البلاغ‮ ‬الأسبوعية‮"‬، ‮ ‬تلك الجريدة الوفدية، ‮ ‬التي أعطت إدارتها القسم النسائي في الجريدة لتترأسه نبوية موسي‮، وفي هذا القسم‮، بدت وطنية نبوية بشكل مذهل‮، ومحاربتها للانجليز في ذلك الوقت‮، ‮ ‬وظهرت وطنيتها المصرية في مسرحيتها‮ "‬الفضيلة المضطهدة‮"‬، والتي صدرت عام‮ ‬1932، ‮ ‬وقد أنقذنا تلك المسرحية من الضياع والنسيان‮، ونشرناها في مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة‮.‬

النماذج كثيرة‮، وتاريخنا الفكري والسياسي والأدبي‮ ‬يزدحم بالفعل بهن‮، ولكن ذلك التاريخ لا أمل في شفائه قريبا‮، والذين‮ ‬يراوغون في كتابته كثيرون كذلك‮، ‮ ‬كان ذلك حسن النيّة أو‮ ‬غير ذلك‮، ‮ ‬وهنا لا بد أن أذكر واقعة شهيرة كنا كتبنا عنها سابقا في سياق آخر‮، ‮ ‬وهي تتعلق بالرائدة النسائية درية شفيق‮، ‮ ‬عندما تشكلت لجنة الدستور عام‮ ‬1954‮ ‬برئاسة على ماهر‮، ‮ ‬قامت السيدة درية شفيق ومعها تسع سيدات أخر بالاعتصام في مبني نقابة الصحفيين‮، ‮ ‬وأثار ذلك كثيرا من المنتصرين جدا لثورة‮ ‬يوليو‮، وعلي رأسهم الدكتور طه حسين‮، ‮ ‬فكتب مقالا شديد اللهجة‮ ‬يوم‮ ‬16‮ ‬مارس في جريدة الجمهورية تحت عنوان‮ "‬العابثات‮"‬، ‮ ‬ولكم أن تتخيلوا ما الذي سوف‮ ‬يأتي تحت هذا العنوان‮، وقد تذرع العميد بأن البلاد لا تحتمل في هذا المنعطف التاريخي أي قلاقل أو خزعبلات من هذا النوع‮، وسرعان ما ردّ‮ ‬عليه اثنان من كبار الكتاب والصحفيين في ذلك الوقت‮، وهما حسين فهمي وعميد الإمام‮، ولاما الدكتور طه حسين على ذلك المقال‮، وعلي هذا الموقف‮، وهو النصير الأول لحرية الرأي والدفاع عنها‮، فما كان من طه حسين إلا وكتب مقالا آخر‮ ‬يوم‮ ‬18‮ ‬مارس تحت عنوان‮ "‬العابثات‮ ‬2‮"‬، أي أنه كان مصرّا على هذا الوصف‮، وكذلك على موقفه‮، ‮ ‬ثم بعده ببضعة أيام كتب الكاتب الشاب أحمد بهاء الدين مقالا قصيرا تحت عنوان‮ "‬الصائمات‮"‬، ‮ ‬وفعل مثلما فعل عميد الإمام وحسين فهمي‮، وأوضح أن من حق النساء أن‮ ‬يعبرن عن رأيهن‮، ‮ ‬ووجّه كذلك اللوم إلى العميد‮، ‮ ‬وفي العدد ذاته كتبت السيدة درية شفيق مقالا لتوضيح موقفها‮، ‮ ‬وحقها في اتخاذ الموقف الطبيعي من أجل إحلال حقوق النساء في الدستور الجديد‮، ‮ ‬ولكن طه حسين لم‮ ‬يصمت‮، ‮ ‬ولكنه كتب مقالا حادا إلى درجة بعيدة‮، وكأن ثأرا بينه وبين أحمد بهاء الدين ودرية شفيق‮، ‮ ‬والأدهي من ذلك أن هذا المقال كتبه على هيئة رسالة‮، ووجهها إلى رئيس التحرير إحسان عبد القدوس‮، وإمعانا في الإهانة لم‮ ‬يذكر اسم درية شفيق‮، ولا أحمد بهاء الدين‮، ‮ ‬بل إنه أورد إشارة تعني بأن‮ ‬علي كاتبة هذا المقال أن تبحث عن كاتب أفضل من الذي كتب لها هذا المقال‮.‬

وأيا كانت ملاحظاتنا على مسيرة وبعض مواقف درية شفيق‮، ‮ ‬فما كان من طه حسين اتخاذ هذا الموقف العصبي‮، والذي تضافرت فيه سلطته السياسية والأدبية والفكرية والذكورية الواضحة في أوصافه التي أطلقها على درية شفيق ورفيقاتها في الإضراب‮.‬

وإذا كان طه حسين‮ ‬المنتصر للسلطة السياسية آنذاك اتخذ ذلك الموقف المعادي لدرية شفيق ورفيقاتها في التعبير عن أنفسهن‮، وعن حقهن الطبيعي في الاعتصام والإضراب‮، ‮ ‬فلم‮ ‬يكن موقف بعض اليساريين أفضل منه، ‮ ‬خاصة على مستوي الأدب والثقافة‮، ‮ ‬ولأن الأمثلة كثيرة‮، ‮ ‬سوف أورد بعضا قليلا هنا للإشارة فقط‮، تاركا التفصيل فيما بعد‮، ‮ ‬وعلي سبيل المثال صدر كتاب‮ ‬يضم قصصا لكتاب كثيرين‮، وذلك عام‮ ‬1956‮ ‬وصدر الكتاب عن دار النديم‮ "‬الطليعية‮"‬، وضم قصصا ليوسف السباعي ومصطفي محمود ويوسف إدريس وأحمد رشدي صالح ولطفي الخولي وغيرهم من نجوم الأدب في ذلك الوقت‮، وكتب مقدمة عامة لهذا الكتاب الدكتور طه حسين، ‮ ‬وكتب دراسة نقدية رصينة وممتعة ومطولة الناقد محمود أمين العالم‮، ولكن الكتاب لم‮ ‬ينطو على قصة واحدة لكاتبة‮، ‮ ‬رغم أن الحياة الثقافية لم تخل من كاتبات جادات في ذلك الوقت‮، منهمن جاذبية صدقي وصوفي عبدالله وأسما حليم وجميلة العلايلي ولطيفة الزيات‮، ‮ ‬وغيرهن كن ملء السمع والبصر، ‮ ‬وهذا لم‮ ‬يكن كتابا وحيدا‮، ولكن كانت السمة في تلك الفترة الخمسينية الكتب التي تجمع قصصا لمصريين ولكتاب عرب‮، ولكن كتابة المرأة لم تكن ممثلة بأي شكل من الأشكال‮.‬

ولا نتوقف عند ذلك كثيرا‮، ولكن اللافت للنظر هو استمرار ذلك الموقف الاستبعادي‮، ولن أقول المعادي‮، ‮ ‬أو السلطوي‮، ‮ ‬فحتى الشاعر والقاص والمسرحي والمترجم عبد الغفار مكاوي‮، ‮ ‬أصدر كتابا‮ ‬ضمن كتبه المهمة والكثيرة، عنوانه‮ "‬البلد البعيد‮"‬، وهو عبارة عن دراسات في كتابات جوتة وشيلر وبرخت وتشيكوف وألبير كامي وبيراندللو وغيرهم‮، ‮ ‬ولم‮ ‬يتضمن الكتاب دراسة واحدة عن أديبة‮ ‬غربية، ‮ ‬رغم أن الأدب العالمي، ‮ ‬الذي‮ ‬يعرفه أستاذنا الجليل‮، ‮ ‬لا‮ ‬يخلو من عبقريات أدبية نسائية‮، ولا أستطيع أن أصف ذلك إلا بالاستبعاد التعسفي، ‮ ‬وكأن هناك‮ ‬بالفعل موقفا مزمنا‮، وربما‮ ‬يكون هذا الموقف‮ ‬غير مدرك‮.‬

وعندما رحت أتأمل إحدي المجلات الطليعية المصرية‮، والتي نفخر بها ونعتز بكل ما جاء فيها‮، وهي مجلة‮ "‬جاليري‮ ‬68‮"‬، والتي صدر عددها الأول في مايو‮ ‬1968‮، لم أجد نصّا قصصيا أو شعريا واحدا لكاتبة‮، وكأن الساحة خلت تماما إلا من الذكور‮، وبالطبع فهيئة التحرير المزدحمة لم تضم كاتبة واحدة‮، ولا أعتقد كذلك أن الحياة الثقافية كانت قفرا تماما من الكاتبات‮، وهذا موقف تعسفي‮، ‮ ‬وللتأريخ والتوثيق‮، عثرت على اسم المترجمة نادية كامل‮، والتي نشرت لها المجلة ترجمة لإحدي قصائد أبولونير، وذلك في العدد الثالث من المجلة‮.‬

وعندما كتب المسرحي الكبير الراحل كتابا كان‮ ‬ينشر حلقاته في الصحف‮، وصدر الكتاب تحت عنوان‮ "‬مع الرواد‮"‬، وضم عددا كبيرا من الفنانين والكتّاب والشعراء‮، منهم نجيب الريحاني وسلامة ونجيب سرور ومحمود حسن اسماعيل وجورج أبيض وغيرهم من الشخصيات التاريخية‮، إلا أن الكتاب خلا تماما من اسم فنانة أو أديبة أو كاتبة‮، ولا نستطيع أن نحسب نعمان عاشور على جبهة اليمين بأي شكل من الأشكال‮، ولكنها العقلية الاستبعادية التي كانت تهيمن بشكل مباشر أو‮ ‬غير مباشر‮، وجعلت المرأة بعيدة عن مواقع التأثير الثقافية، ‮ ‬وهذا لا‮ ‬يخص اليمين فقط‮، ‮ ‬بل‮ ‬يلاحق مسيرة اليسار كذلك‮، وفي الكتاب المهم الذي نقله إلى العربية جورج طرابيشي‮، ‮ ‬وهو كتاب‮ "‬قضية النساء‮" ‬تقول جيزيل حليمي‮":(‬لا مناص بأن الاعتراف بأن النساء في الاتحاد السوفيتي والديمقراطيات الشعبية‮، وحتى في الصين‮، لم‮ ‬يصلن قط إلى سدة السلطة السياسية بنفس نسبة الرجال‮، فاشتراكية الدولة قد نسخت المخططات القديمة‮..‬كم عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي؟وعلي رأس الجمهورية الصينية؟أو بكل بساطة في الأحزاب التي‮ ‬يفترض فيها أن تجسّد سلفا في طرائقها وبناها وغاياتها الغد اللاطبقي الذي لا تعاني فيه النساء من التمييز والتفرقة؟‮)، ‮ ‬وترصد جيزيل عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي‮، امرأة واحدة بين عشرة رجال‮، كذلك تضم الأمانة القومية للحزب الاشتراكي الفرنسي أحد عشر عضوا ليس بينهم امرأة واحدة‮، ‮ ‬وتتدارك جيزيل ذاكرة الدور الذي أوكله الشيوعيون للنساء في تظاهرات‮ ‬1968‮ "‬توزيع المنشورات وصنع المغلفات‮، وكما هي العادة‮، إعداد وجبات الطعام والقهوة وتنظيف المقرات‮".‬

لا أريد أن أصوّر الأمر على أنه حرب بين ملائكة وشياطين‮، ‮ ‬ولكنني أطمح في هذه الحلقات لرصد المشهد الأدبي النسائي‮، ‮ ‬عبر كافة الكتابات التي كان لها حضور فاعل في القرن العشرين‮، ‮ ‬حتى الآن‮، ‮ ‬تلك الكتابات التي تعرضت لقضية النساء في الوجود البشري والاجتماعي والسياسي والأدبي‮، ‮ ‬ولكن ذلك المشهد‮ ‬يتم تغييبه ومطاردته‮، والتقليل والتهوين من شأنه‮، ‮ ‬منذ مي زيادة وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية‮، ‮ ‬وصولا إلى لطيفة الزيات ونجيبة العسال‮ ‬الشقيقة الكبري لفتحية وفوزية مهران ونوال السعداوي وسعاد زهير وسلوي بكر ونعمات البحيري واعتدال عثمان وإيمان مرسال وسهير المصادفة وأمينة زيدان وإيمان حميدان‮ ‬يونس ورجاء نعمة‮، وغيرهن من اللاتي صنعن جدارية عظيمة للدفاع عن الحياة والجمال والحرية‮.‬

* أخبار الأدب.

ليست هناك تعليقات: