بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 5 أكتوبر 2012

قصة قصيرة-أخر الفصول-عادل كامل

قصة قصيرة ---------- أخر الفصول
كان يجلس في الحديقة، فوق العشب، تحت ظلال شجرة السدر، وحيداً يتأمل ألوان الفراشات وحركتها المتراقصة بين الأزهار .. فيما كانت زوجته تجلس في الصالة، فوق أريكة كان أشتراها قبل نصف قرن .. تهز رأسها بحركة آلية .. وتحدق في لا شيء. أنتصف النهار، وهما يجلسان هكذا، لا يعرف من ذا الذي همس في أذنه، همساً غامضاً، تسلل إلى خفاياه الداخلية .. فأجاب بصوت خفيض: ـ لا أنتظر شيئاً محدداً .. هناك فراشات بيض ورمادية .. صفراء، وحمراء .. ـ وماذا تفعل بالضبط ؟ ـ أراقب ضوء الشمس .. وأشم الهواء المغبر .. ربما الهواء الصافي .. الملوث قليلاً .. لا أعرف بالضبط .. هل كنت أتكلم مع نفسي .. منذ متى لم أتكلم..؟ ـ مثلي. أنا سعيد لأني أراقب الفراشات الحمراء فوق العشب .. أراقب الهواء الذي يداعب أغصان الأشجار .. ذات مرة وأنا في الخامسة من عمري هبت عاصفة أفقدتني الوعي .. أما الآن فالأغصان ترقص. للأسف يصعب أن نتعلم جميع اللغات .. ترى ماذا تقول الريح .. ماذا تهمس هذه الفراشات بعضها للبعض الآخر .. ماذا تقول الوردة للسماء .. ومع من أتكلم أنا؟ ـ لا أحد يتكلم معي منذ ربع قرن .. منذ ولدت .. ولا أعتقد أنني سأعثر على من يهمس في أذني: أيتها الحلوة .. أيتها الحبيبة. واآسفاه إننا نتكلم بدافع الصمت .. وتبلدنا بدافع الرتابة. ـ يا لها من لغة عصية على الفهم. أكاد أفهم ما تريد أن تقول الفراشات لكنني لم أستطع، منذ ولدت، حتى الآن أن أفهم اللغة البشرية. آ .. عليَّ التزام الصمت. لا جدوى من البحث. في هذا العمر، وأنا أتأمل الفراشات تموت فوق العشب، عن لغة للفهم. أنا لا أعرف مع من أتكلم. المشكلة أني أسمع وهذا يعني أني أتكلم. حمداً للسماء أني لا أصرخ ولا أحد غيري يصرخ .. ـ أنه الهمس .. ـ ولكني كنت أعيش مع امرأة. أو كانت، في يوماً ما، امرأة .. كانت هنا معي، قبل أن تموت شجرة الرمان .. ومع أنها كانت تبكي في نومها إلا أنها كانت تصنع لي الحساء .. وتحدثني عن ملائكة بيض .. والآن يصعب عليّ اكتشاف طريقاً لمعرفة ما يحدث. ربما هي الأخرى تقول: كان في يوم ما، هنا، رجل يعيش معي! .. أي أنا .. أنا الذي لا يستطيع أن يصرخ .. أنا الذي لا يعرف سر هذا الوهن الذي أخذ يفككنا .. ـ كان يحب الطيور .. طيور الحب .. والنباتات التي حولت البيت كله إلى غابة .. حتى أني قلت، قبل نصف قرن أو أكثر أو أقل، أننا تحولنا إلى عصفورين. قال: لا . قال: أننا لابد أن نتحول إلى نبات. وقال لا جدوى من أقناع العبقريات الفذة بهذا .. لا جدوى .. وقال أننا لسنا بالسعداء ولا بالتعساء .. لسنا بالأحياء ولا بالموتى .. ـ لا أتذكر أني تعذبت في حياتي .. أو افتعلت حالة الكذب .. وهكذا كانت تهمس في أذني، يوم كنت أفتعل الكلام، غريب أن يتكلم البشر .. والأغرب أن هناك شكوى من العذاب. - أستمع إلى أصوات غريبة لا أعرف مصدرها .. صرير .. أزيز .. خشخشات .. لا بد أن البيت قد تحول إلى حديقة حيوان. ـ منذ البدء لم تكن لدي أفكار .. ولا حاجة للتفكير .. بعد أن أصبحت متقاعداً، مثلها، أصبحت الحياة ذكرى بيضاء. لست بالحزين ولا بالسعيد وأنا أتعرق بفعل أشعة الشمس. أعتقد أننا في فصل الصيف وليس في فصل الخريف .. لا في الشتاء ولا في الربيع .. أعتقد أننا في الفصل الخامس .. أو في مرحلة ما قبل الفصول، وخارجها .. في الفصل الذي لا أسم له. ربما أنا في الفصول كلها. ـ أعتقد أنه هو الذي كان يبكي في نومه .. إلا أنه أستطاع أن يغريني بعمل الشيء نفسه. لكني منذ عشرين سنة لم أعد أعرف من منا كان يبكي في نومه .. أو حتى في منتصف النهار. لا مناص: كلانا لم يكن يعرف .. ولم يكن أي منا يفكر باتهام الآخر. كنا لا نعترض على أي شيء. الأمر الوحيد الذي اختلفنا عليه، ساعة واحدة في الأقل، من منا يذهب لتسلم الراتب. بعد ساعة قررنا الذهاب معاً .. وأتذكر أن بعض الغرباء ساعدونا بالعودة إلى البيت .. فلا أنا ولا هو كنا يعرف ماذا يحدث له. فقدنا الوعي فجأة .. ثم تنازلنا عنه إلى الأبد. للحق قال لا جدوى من التشبث بنفايات ضارة. ـ عندما دخلت المستشفى .. أو عندما اختفت من البيت .. عرفت أني أنا الذي ضعت. ترى أين تعثر على شيء ضائع، ورفيف عصفور لا ينتمي إلى زمن؟ لقد عثروا عليّ راقداً فوق شجرة السدر هذه .. لم أكن معها ولا بعيداً عنها .. لم أبك، ولكني قاومت النزول إلى الأرض. قلت: الهواء، هنا، لا يؤذي. - لا أعرف من يتكلم .. أتراني حفظت كلماته كلها .. أم أن صداه أمتزج بروحي؟ الغريب أنني في لمحة بصر أستعيد ذكراه .. وذكرى ثلاث أولاد لا يعرف أحد من أختطفهم .. وذكرى الجنين الميت في شهر السادس، وذكرى الفلاح الذي هرب بعد أن ترك خادمتنا الشقية، حسنة الصوت، اليافعة البنية، مرمية مدماة من الأسفل فوق العشب، وذكرى خيانته الوحيدة لي مع بغي جاوزت الستين، ذكراه الأولى التي لوثت تاريخنا الذي حسبناه لن يتكرر في العفة، ذكرى الرجل الذي حسب أنه لم يهزم قط في حروبه كلها، والذي أدار قفاه للعالم، والذي نجح، للحق وحده الغرور، بالاستغناء حتى عن نفسه! يومها قلت: يا للمصيبة، يا رجل. لم يجب على سؤالي على مدى نصف قرن، أنا التي كررت السؤال مرات، ومرات، ثم أخيراً، لم أعد أنتظر شيئاً .. أنني ما أزال أراه يكتم في أعماقه: خيانة بيضاء .. وتلك أقسى ضربة لحروبه ضدي . ـ كنا في حروب سرية مشحونة بالألغاز والأسرار . أنا نفسي أعترف أن ما من امرأة أحبتني أو كان في قلبها الحب الذي أريد .. المرأة، أو الحياة .. فقلت لنفسي: لا أريد أن يتذكرني العالم .. فما أسعى إليه، الآن، وأنا في سن الشروع بالبلادة، لا يتعدى حب ألف صنف من النبات والأشجار وبضعة أنواع من الطيور .. وكلب أتباهى به أمام القديسين، ألف صنف من النبات الذي يشحن دمي بالنسيان وبذكرى مليارات السنين الأولى .. وبطيور تمتعنا بأصوات لا اعتراض عليها: طيور مثل الفراشات لا عمر لها. قلت ذلك وأنا أكتم لوعة طفولة استحالت إلى رماد. ـ يتوقد .. كأنه كسب معركة مستحيلة .. فأصبحت بنظره محض عمر للتندر والأسى. يتوقد وهو يتفسخ في الفصل الذي لا أعرف أهو صيف أم خريف .. يتوقد في العمر الذي لا جدوى فيه من النيران. ولا حتى من الرماد. ـ لا عناد في الأمر .. يومياً أستيقظ، كأنها كارثة لا تريد فصولها أن تكتمل، فأتناول ما تيسر لي من الزاد، ثم أذهب إلى الحديقة .. مثلما فعلت اليوم، متأملاً هذا البهاء الذي لا يوصف، هذا النسيان الذي يفوق مجلدات الهذيان .. ثم أزحف نحو الدار .. نجلس .. نتناول ما يتوفر لدينا من الطعام .. ثم ننام .. لا أحد يعرف ماذا يفعل الآخر .. تقول أنني، أثناء أعز لحظات نومي، أصيح وأبكي، وتقول لي، أنها حتى في أحلامها النادرة تراني أنوح بصمت، بصمت. ـ هو ذا شبح حياتي يدخل .. ملك الملوك منذ الأزل .. أنه يتفقد رعيته الضالة .. تلك الشعوب التي تنام على الجوع، المشردة بالروح، الشاحبة درجة الخلود. هو ذا يتنزه، بين أعظم القادة الذين لم يولدوا بعد، ويصدر أوامره بالسلام .. لا جدوى من العِراك .. لم يقل الحرب. أتذكر أننا فقدنا الجميع في بدء المعارك، قبل نصف قرن. ولما طلب مني أن أحبل كان قد هجرني .. ثم أني كنت في الستين. هو ذا يخاطب النباتات التي عانقت الخلود. يالها من لغة ذهبية بلا أسرار. قال يخاطب شجيرة ماتت منذ سنتين: أنا قلت لا جدوى من الليل ولا من النهار، لا جدوى من إرسال الجميع إلى جهنم .. ولا جدوى من هذه الحكاية التي بلا ربح وبلا خسارة. ثم أخذ يتأمل لوحة كبيرة تجتمع فيها السلالة كاملة .. الجد الخامس وحتى آخر ولد مات كمداً بدافع الحب. صرخ .. أبي. ـ أنه أبي الذي لم يمت بعد. الحاضر .. مثل جدي الذي كان قد عاش كوليرا بغداد، وذلك الطاعون الذي ترك بغداد خاوية ألا من جثث متناثرة هنا وهناك. جدي قال أنه كان ينقل الجثث الثقيلة إلى مقابر بلا أسم. كل أرض مقبرة. أبي قال أن جده طُعن بخنجر مسموم .. وأبي قال لي: هذه هي الحرب. قلت له: لا توجد حرب ولا معارك. صرخ: عندما تكون في الخمسين من عمرك يا ولدي، تدرك حكمتي. ـ أنه يخاطب أفراد السلالة .. الأجداد والأحفاد على حد سواء، ويضحك. هذا الرجل لا يريد أن يتخلى عن عناده. ـ قديسون وكلاب .. فرسان خيول وحمير .. هاهم أجدادي وأولادي .. وها هي التي كانت، في يوم ما، ملهمتي للجنون، جامدة، خامدة، تحدق في لا شيء. ـ دكتاتور .. ولولا الدوار الذي أعاني منه منذ عرفته، لقلت له: لا تكذب. لكني تذكرت أنه كان، حتى في خياناته لي، قد وضعني في سلالة الخلود. يا لهذا العجوز الذي لا يريد أن يتخلى حتى عن أتباعه الموتى: هؤلاء، عشاق النباتات والفراشات والأسماك الصغيرة الملونة .. هؤلاء الذين كانوا يتحدثون عن صفاء الغيوم ووحدة القارات النائية .. هؤلاء الذين ماتوا أو تحولوا إلى تماثيل .. أجل .. لولا ذلك لقلت له: لا تكذب. ـ في اللاشيء .. كلهم يحدقون في لا شيء .. مثل تماثيل .. في لا شيء يحدقون .. أنا لا أعرف ماذا كانوا يريدون، ولا أنا عرفت ماذا أريد. أجدادي الأوائل بلا رموز .. ماتوا بهدوء وأنا الآن الوحيد الذي بلا قبر. سيان .. هم الأحياء وأنا الميت.. ـ دكتاتور .. دكتاتور صغير .. دكتاتور صغير جداً .. دكتاتور بلا صفات، ولا سمات، ولا أوسمة، ولا تأريخ .. دكتاتور مصاب بشيء غير مسمى، ولكنهن لسبب ما، آخر، أعز الموتى إلى روحي: لكني، مثله، أتكلم مع نفسي فقط..! ـ لا .. لا .. إنها ليست الشيخوخة المبكرة أبداً .. أن أجدادي أحياء .. فتيان وفرسان .. أما أنا فلا أعرف ماذا أفعل بهذا العجوز، الغابة الشائكة. وبهذه الذاكرة التي تستيقظ فجأة .. وبهذا العمر الذي أنطفأ في البدء .. ـ بصمت مطلق يتناول طعامه .. وبهدوء يغادر المائدة .. وهذا ما يفعله .. وأفعله أنا أيضاً، في كل يوم .. لا جدوى من الحديث عن أشياء ستحدث أو حدثت في يوم ما .. لا فائدة .. فهو فقد طموحه بعد أن تحرر من مخاوف الجوع .. والإشاعات التي سادت بين عقله وجنونه .. بين نذالته الأزلية وشرفه المبهم. لقد تحدثنا قبل عقد من الزمن عن هذا، فقال معترفاً أن ما شر يدوم أكثر من أي فعل يتسم بنوايا البراءة والعفة: سيان أيتها المرأة، لأننا لا نقول العكس إلا عندما نُسحر بالرغبات وما بعد الحب عمقاً. ـ من منا الذي يعوي؟ ومن منا الذي يكتم عويله ..؟ لقد تحدث أحدهم، قبل ربع قرن عني قائلاً: هذا رجل لا يتحدث ألا مع نفسه. سخف. أنا أتحدث مع الأشجار. اليوم ثرثرت كثيراً مع الفراشات البيض، والرمادية، والحمراء. وخاطبت ظلال شجرة جافة .. وأصغيت إلى صوت صخور مرمرية تعود إلى أزمنة سحيقة في هذه الأرض .. هذا يعني أنني لا أتكلم مع نفسي. ـ في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وفي هذا الصمت المرير، وفي سن ما بعد الشيخوخة، أصغي لصوته الغريب: قادمون .. أنهم قادمون. بالفعل سمعت رنين الجرس .. كان الوقت قبيل الفجر .. على أن الظلام كان يملأ الروح، والجسد ثقيل والإعياء يشوش الذاكرة. قلت له: أنهض .. نهض حالاً .. وسار نحو الباب. قادمون .. لكنه لم يعد .. أنا لا أعرف ماذا فعلت خلال ساعة كاملة .. إلا بعد أن نهضت لمعرفة ماذا يحدث. كان زوجي، مثلما عرفته قبل نصف قرن، يتحدث مع السلالات والأبناء والأحفاد .. تلك .. المعلقة فوق الجدار .. اللوحات والصور المرسومة بعناية .. في هذه اللحظة كنت أود أن تكون أمي على قيد الحياة كي تحميني من الرعب الذي هز جسدي العظمي هزاً عنيفاً .. لكني حمدت الله أني سأراها يوم لا أستطيع أن أرى شيئاً. قلت له ماذا تفعل؟ أجاب: علينا أن ننتظر .. كان يتكلم بصوت خالٍ من العاطفة خالٍ من الهموم والمتاعب بل حتى من الأمراض .. وبصوت واهن طلب مني أن اسمح لهم بالدخول .. هؤلاء الأولاد الذين جئنا بهم كي نفقدهم في لمحة بصر. قلت: علينا أن نسقي النباتات التي يهددها الجفاف .. أليس كذلك؟. ـ أجل .. لدينا مئات الشتلات والشجيرات والأشجار المهددة بالجفاف والموت .. لدينا غابة وعلينا أن نتحول إلى عصافير. جنون عاقل .. أنها سيدة فاضلة عندما، على أية حال، أعلنت استحالة عودتهم .. إنها سيدة فاضلة دائماً وألا كيف مكثت معي تنتظر المستحيل .. عودة من لابد أن نذهب إليه .. حسناً، قلت لها: أن مشهد الفراشات، يوم أمس، جعل الحياة محتملة بعض الشيء .. ـ أية فراشات يتحدث عنها .. ومن هم الذين سيعودون؟. أنه لا يريد أن يسقي الأشجار الجافة .. ولا يريد أن يتحدث معي .. - ها أنذا أجلس في الحديقة .. معهم .. ومع الجميع، تحت ظلال شجرة السدر .. بمحاذاة نباتات برية زاهية الألوان، مدركاً أبداً أننا لن نموت ألا في يوم واحد، هي وأنا، وفي لحظة واحدة. فالموت وحده لا يطرق الأبواب، ولا يطلب الاستئذان بالدخول .. الموت الذي يسكن فينا، كأنه الموت الذي عرفناه قبل ملايين السنين .. وكأنه الحب الذي دفعنا ثمنه، موتاً آخر، حباً أبعد في مداه .. وصمتاً يشتمل أعتى الضجات .. كفى يا عجوز .. فالفراشات يحوّمن فوق الأزهار البرية .. ورياح الفصل الخامس بدأت بالهبوب .. وصمت الفصل الخامس أخذ يتوغل في الروح .. وفصل الذاكرة الأخيرة أخذ بالتوقد .. وأخذ بالانطفاء. 9/5/1987

ليست هناك تعليقات: