الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً




عادل كامل
إلى علي السوداني

[انشغالات]
    لم يعد يفكر أيهما سفك دم الآخر، الولد البكر أم الذي ولد بعده، ولم يعد منشغلا ً بأداة القتل، إن كانت لحرث الأرض أم للدفاع عن النفس، ومن استخدمها أولا ً، إنما كان يحدق في الحروف وهو يراها تجري بعضها وراء البعض الآخر، ككائنات لا يعرف أذاهبة إلى الأمام أم عائدة منه، ثم لم يعد منشغلا ً بالكلمات، ولا بالعبارات، ولا ....، من يكون قد فشل في إخفاء فعلته، بل بأصابعه وهي تأخذ لون الورقة، وظل الكلمات، وهو يتساءل أكانت هي التي تجرجره طوال الوقت، خلفها، أم هو الذي كان يهرول وراءها، وأحيانا ً يجري، وهو لم يعد يكترث إن كان قد جاء من الليل إلى النهار، أم من النهار إلى الليل، إنما، في تلك اللحظات، تجمعّت الأصوات، دفعة واحدة، لديه، فوضعها في قاع رأسه، وأوصد عليها الباب، بعد ان تركها نائية عنه، كي يسال نفسه، أيهما كان السبب...، القاتل أم الضحية، وهل كانت أداة القتل شبيهة بهذا الصمت الذي راح يراه يحاصره من الجهات كلها، وهو يكف عن الكتابة...؟
2012
[حوار]

     اقترب منه احد الأطفال، وسأله:
ـ لماذا تجلس وحيدا ً وأنت رأيت الجميع يغادرون ...؟
   هز رأسه بهدوء، وقال للطفل:
ـ ولكني لا اعرف عن أي شيء يبحثون، وماذا يريدون ...! 
فقال الآخر:
ـ إنهم ذهبوا إلى المكان الذي لا موت فيه!
فتمتم العجوز مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ ولكن الموت هو الذي أرسلني، إلى هنا!
فصرخ الطفل:
ـ ألا تخاف ان لا تجد مكانا ً لك معهم..؟
ـ بل أخاف ان لا يجدوا لأنفسهم مكانا ً كهذا الذي لا حياة فيه ولا موت!
 وأضاف بصوم حزين:
ـ فما وجدته هنا، يا ولدي، لا يختلف كثيرا ً عن الذي لا وجود له هناك! 
فصرخ الطفل:
ـ سأخبرهم بما فكرت فيه!
   لكن الطفل، سأل نفسه، بعد ان اختفى العجوز، وتوارى عنه، فجأة: هل جئت من المكان الذي لا موت فيه، أم أنا ذاهب إليه...؟!
[وباء]

    سأل الرجل الزمرة التي ألقت القبض عليه:
ـ هل جئتم للقضاء على الوباء، أم على المصابين به ..؟
فسأله احدهم:
ـ كيف خطر على بالك هذا السؤال..؟
  فلم يجب، لأنه لم يعد يرى أحدا ً يفتك بالآخر، إنما رأى، في نهاية الزقاق، كيف استدار الوباء بحثا ً عن زقاق آخر.

[رأس]
     وهو يستعد لمغادرة البيت بحثا ً عن عمل، أمسك برأسه، وحاوره: إن حملتك معي لفت النظر إليك، وإن تركتك هنا، لن يدعوني بأمان..
صمت قليلا ً، عندما بزغت فكرة: ما اذا كان يستطيع ان يجعل رأسه لا مرئيا ً، أو ان يجرد رأسه من رأسه كي لا يلفت الانتباه...!
  ابتسم بلا مبالاة، لأنه عندما عثر على الجواب، لم يعد يتذكر السؤال الذي شغله.
[تحولات]
    استعاد القصص التي قراها في طفولته، عندما كان يتحول فيها الثور إلى نملة، والأسد إلى فأر، والتمساح إلى سمكة، والكركدن إلى دودة صغيرة...، واستعاد القصص التي طالما كان الناس يمسخون فيها فيتحول الرجل إلى سحلية، أو إلى ضفدعة، أو إلى بعوضة، والمرأة تتحول فيها إلى قنفذ، أو تأخذ شكل الأفعى...، فخاف ان يرقد، كي يجد انه تحول إلى حمار، أو إلى حشره ...، لكنه تساءل، في تلك اللحظات، قبل ان يغفو: لكن من ذا الذي يستطيع ان يحدد أي كائن أنا عليه، الآن، طالما لم اعد أرى أحدا ً، ولم يعد يراني الجميع..؟!

[ظلال]
   لسنوات طويلة أمضاها لا يعمل إلا على إخفاء ظله، متجنبا ً الأضواء، والتجمعات، والفضاءات...، ليكتشف، وقد وجد نفسه في مدينة نائية، ان أحدا لم يلتفت إليه، ليس لظله، أو صوته، أو أفكاره، بل لوجوده.  كان العمر قد مضى، دار بخلده، ولا معنى للأسى، أو الآسف، أو الحزن. آنذاك راح يرى ظله يمتد بعيدا ً عنه، وصوته لم يعد يسكن حنجرته، وان أفكاره راحت تتراقص، وسط حشد من الناس، من غير مراقبة، أو خوف. ولكنه رأى احدهم، يمر بمحاذاته، فسأله: ما الذي تبحث عنه..؟ هامسا ً أجاب الآخر، وهو يراقب الآخرين بحذر:
ـ ابحث عن مدينة لا يسرقون ظلي مني فيها!
[طبول]
    جاءته الأصوات موجات متقطعة، تارة كانت شبيهة بنسمات الفجر، خفيضة، باردة، وتارة كانت الأصوات شبيهة بما يحدث في أسواق الصفارين، والحدادين، والساحات العامة. آ ...، ليصطدم برؤية زمر متلاصقة تتقدمها جوقة تقرع الطبول...، وأخرى تدك الأرض دكا ً، فسأل نفسه: ماذا يحدث..؟  قبل ان يعثر على جواب لمح فتى وحيدا ً صامتا ً أعقبه كهل، ومجموعات من الأطفال...، فقال يحدث نفسه، لا غرابة في الأمر، لأن حشدا ً آخر كان يصدر زمجرات لم يسمعها من قبل، ترتفع عاليا ً، لتنخفض، من ثم تزمجر الحناجر، وتهدأ، حتى لم يعد يرى إلا الطريق خاليا ً من المارة. ثم فجأة شاهد أكداسا ً بشرية لها بداية وليس لها نهاية، تهلهل، وتصفق، وتهتف، وترقص، تتقدمها  مجموعات تطلق النار في الهواء، وأخرى تقرع الطبول، وثالثة تنفخ في الأبواق.  مال رأسه إلى الخلف، والى الأمام، فعدله، ليفقد السيطرة على انحرافه نحو اليمين، والى اليسار...، ليجد الشارع خاليا ً من المارة. آ ....، ولم يغادر المكان الذي اختاره للجلوس في المراقبة، فقد بدأ يصغي إلى أصوات نسوة ينحن، وهّن يلطمن، ويمزقن ثيابهن، إنما شاهد بعد ذلك مرور كائنات تداخلت أشكالها، وأصبحت كأنها مركبة، لها رؤوس مكعبة، وأقدام كالخيزران، كانت تصدر أنينا ًشبيهة بالعواء المكتوم. خاف الكهل، لبرهة، من ثم انشغل بالإصغاء إلى حناجر اختلطت أصواتها، فقد كانت تهتف عاليا ً، ثم أعلى، فأعلى، تلاها حشد يرتدي ملابس لا ألوان لها، وأخرى بيضاء، وثالثة، حمراء، ورابعة، بلورية، وخامسة سوداء، وسادسة اختلطت ألوانها، لتلتحق بها، مجموعات تداخلت أشكالها حتى لم يعد يرى إلا كتلة واحدة تصدر صوتا ً شبيها ً بدوي البراكين، وأخرى تزلزل، وثالثة اشد عنفا ً، وقوة، لم تترك له قدرة للإصغاء، لأنه، عندما هم بالمغادرة، وترك موقعه، لم يجد ظلا ً لا لجسده، ولا لصمته، لأنه لم يعد يعرف ماذا حدث بعد ذلك.
2012


[اجتثاث]

     كان قد اجتث، بطرق شتى، خلايا دماغه من الكلمات المثيرة للريبة، والظنون، التي تداخلت بالخزين الغامض الذي تخفيه الكلمات، ومشفراتها، داخل رأسه. فقد عمل على غسلها، وبتر الزائد منها، وتشذيبها، وتطهيرها، ومحوها، درجة انه تنبه لأي رد فعل مضاد قد يواجه عمله هذا، بصفته عملا ً إراديا ً، ويكاد يخلو من الضغوطات.
   وها هو يجلس وحيدا ً في غرفته يحدق في ما تبقى من الخلايا، في ذات صباح حار، ليعيد فحصها، ونبش ما توارى فيها من تلك الكلمات، أو أنصافها، وما يمكن ان تدل عليه، وما اذا كانت قد تحايلت عليه، واخفت ديناميتها، وإرادتها العنيدة بالبقاء، وما اذا كانت قد تسترت على قدراتها على الانبعاث، ومغادرة الحدود التي رسمها لها، فظهر له أنها وديعة، طرية، رخوة، ومنفصلة بعضها عن البعض الآخر، وقد تحولت إلى ما يشبه البذور الجافة، أو شبيهة بذرات خالية من النواة، أو كرات بلا مراكز. فرفع رأسه قليلا ً وحدق في قرص الشمس، لبرهة، فوجد انه لا يستطيع كتم رغبة حادة بالصراخ، ورغبة أخرى بالبكاء، ورغبة ثالثة بالرقص، وأخرى بمغادرة غرفته، في بيته القديم...، لكنه، ما ان حاول النهوض من كرسيه الخشبي، حتى شاهد قرص الشمس وقد تحول إلى بقعة سوداء، بحجم حبة رمل، لا مرئية أو بالكاد استطاع ان يراها بالعدسة المكبرة، وهي تزحف باتجاه خلايا رأسه ، وتندمج، وما ان بحث عنها، حتى رآها توارت، من غير اثر يذكر.
2012



[اعترافات]
ـ  "ليس لدي ّ ما اعترف به.. "  ودار بخلده، انه تم انتزاع كل ما لديه من أسرار، ومعلومات، وصور، ورموز. ليرفع رأسه وهو يحدق في الزمرة التي ألقت القبض عليه، وهي مازالت تواصل استجوابه. فقال احدهم يخاطبه:
ـ "نعرف ذلك ..."
     فوجد الكلمات تغوص في أعماقه النائية، تارة، وليس لديه قدرة تركها تغادر فمه، تارة ثانية. فراح رأسه يتمايل إلى الوراء، والى اليسار، والى اليمين، والى الأمام، من غير كلمات أو ما يشير إلى الأفكار، أو إلى المعاني. مصغيا ً إليهم بشرود:
ـ " نعرف ذلك ...، ولكننا لم نلق القبض عليك بسبب تهمة ما موجه ضدك ..."
ـ " ....."
ـ " بل لأنك أصبحت الآن تعيش بلا تهمة"!
ـ " ......."
ـ " ولهذا قررنا ان نمنحك هذا المفتاح .."
ـ " ..... "
ـ " كي يدور في القفل "
ـ " .... "
ـ " وتختار ركنك هناك، في الغابة، بمحاذاة البحيرة، والجداول، حيث  تجد هناك ما طاب لك ان تختاره من الغلمان، والطعام، والفتيات الباكرات، والخمور،  ....، وكل ما حلمت ان تراه في حياتك الزائلة، هنا، معنا ..."
    بحث عن الكلمات في رأسه، فوجدها تبخرت، تلاشت، ولم تترك أثرا ً يدل عليها. فأشار لهم انه لا يريد الذهاب وحيدا ً، وانه، في الأصل، تخلى عن تلك الأمنية، وانه انشغل بما لا يوصف من شقاء، طالما عذبه وهو يتأمل عذابات البشر..
ـ " ها أنت تفكر ..."!
ـ " .... "
   فحاول ان يعدل نظام الإشارات، ويخبرهم انه لم يقصد عدم الطاعة، أو العصيان، بل قصد ان يتبرع بهذا الاستحقاق لهم، فلم يجد وسيلة لذلك. فخاطبه الآخر بصوت حاد:
ـ " ها أنت ترتكب الإثم ..."
ـ " ..... "
ـ " ولسنا بحاجة إلى وجودك، معنا، بعد اليوم، فاذهب إلى المجهول"
2012
 


ليست هناك تعليقات: