الأربعاء، 31 أكتوبر 2012
شعب لا يحب التنظيم والنظم-كاظم فنجان الحمامي
شعب لا يحب التنظيم والنظم
جريدة المستقبل العراقي
كاظم فنجان الحمامي
اغلب الظن إننا من أكثر شعوب كوكب الأرض امتعاضا من لفظة (نظام), ومن أكثر الناس بغضا لكل ما ينتمي إلى التنظيم ويرتبط بالنظام, ننفث حقدنا على كل الأنظمة, نواصل شن غاراتنا الكاسحة عليها, نقلب الدنيا ونقعدها تحت مبرر النيل من النظام, لا نميز بين ما يضر وبين ما ينفع, أسئنا التعامل مع مفهوم (النظام), وأمعن رجال الدولة وأبواقهم الإعلامية منذ خمسينيات القرن الماضي في تشويه صورة هذه الكلمة, حتى أفرغوها من محتواها اللغوي والفكري والتطبيقي واللساني, وانتهت صلاحيتها منذ عقود, وسقطت من قاموسنا اليومي المتداول, وصارت في نظرنا (اكسباير).
نكره لفظة (النظام) منذ طفولتنا, لأنها ارتبطت في أذهاننا بكل ما هو مشين ومعيب ومخجل ومزعج ومخيف وفاشل ومقرف, هذا يحذرنا من الأنظمة الرجعية ومؤامراتها, ويوصينا بنبذ النظام الشمولي, وآخر يشرح لنا مساوئ النظام الرأسمالي, ويبين لنا عيوب النظام الاشتراكي, مجاميع من أنصار النظام السائد يتظاهرون ضد أتباع النظام البائد, وفي كل مرحلة من مراحل الحياة المتجددة هناك سائد وبائد, فكل من عليها فان, ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. .
ينتقدون نظام توزيع الطاقة الكهربائية, يعترضون على نظام البطاقة التموينية, ينزعجون من نظام التدرج الوظيفي ونظام الإحالة إلى التقاعد, هذا يتهجم على نظام الدولة الفلانية ويقول إنها إرهابية, وذلك يسخر من فساد نظام الدولة الفلتانية, صحف تنتقد القائمين على نظام الانتخابات وتتهمهم بالتزوير, وفضائيات تشرح سوء نظام الري وتنعته بالتقصير, هذا نظام فاشي, وذلك نظام نازي, ونظام متخلف, ونظام جائر, ونظام مستعمر, ونظام متكبر, ونظام قمعي, ومتجبر, والنظام المستبد, والنظام القهري, والنظام التعسفي, وهكذا استهلكنا هذه المفردة في التعبير عن المواقف المعادية للإنسانية, فاشمأززنا منها, ونبذناها ورجمناها. ولم نعد نذكرها إلا عند الإشارة إلى الأوضاع السلطوية السيئة, وغاب عن أذهاننا إن النظام هو العمود الفقري للدولة, إن استقام نظامها استقامت, وإن انكسر نظامها انكسرت وزالت, ونسينا أن الله جلت قدرته, خلق هذا النظام الكوني العملاق, بآفاقه الواسعة, وأنواعه الكثيرة، وأقسامه المتعددة، وحركته الدائبة, وحوادثه المتكررة, وسخر له أدق الأنظمة, ومنها النظام الشمسي, الذي ينتمي إليه كوكبنا, ولجسم الإنسان آلاف الأنظمة البالغة الدقة, منها نظام التنفس ونظام الهضم والنظام العصبي, وللمحيطات أنظمتها, وفيها نظام المد والجزر, والنباتات لها نظام التمثيل النباتي, والحياة تسير وفق نظام في غاية الدقة والإعجاز, فالدنيا برمتها قائمة على نظام معلوم وتوقيت مفهوم, اما نحن فمازلنا نمقت التنظيم والأنظمة, ونميل إلى الفوضى والعبث, حتى برعنا بارتكاب الحماقات المتكررة.
يمثل النظام في الكون والحياة ضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها, وما نراه من تطور ورقي في العالم المتقدم, ما هو إلا نتاج للأنظمة والقوانين والسنن والشرائع والأعراف الإنسانية السائدة لديها, وبما يخدم مصلحتها ومصلحة شعوبها, من خلال الإصرار على تطبيق تلك الأنظمة, وتوفير الحماية لها, وصيانتها من العبث, وبالتالي ضمان هيبة الدولة وعزتها ورفعتها, فنظام الدولة هو روحها ومنهجها وهدفها النهائي, ويفترض بالنظام أن يحمي الإنسان ويخدمه ويضمن له سعادته ومستقبله, ويصون حقوقه, ويذود عنه.
في اليابان (مثلا) يعزى تفوق الدولة إلى قوة نظامها, الذي رفعته إلى منزلة مقدسة, ومنحته ثقتها المطلقة, هم يحترمون النظام ويقدسونه, ونحن نحتقره ونمقته, ونصب جام غضبنا على من يسعى لتطبيقه, هم يخططون وينظمون, ونحن نتخبط ونتنطط ونخيط ونخربط, هم يتقدمون ونحن نتراجع, هم الأمة التي قهرت الظلام, ونحن الأمة التي قهرت النظام. .
نقطة نظام
النظام الديمقراطي العربي: نظام من أنظمة الحكم يبيح لنا الاعتراض على سياسة الحكومة, ويبيح لها تجاهل اعتراضنا. . . .
--
الاثنين، 29 أكتوبر 2012
الأحد، 28 أكتوبر 2012
الجمعة، 26 أكتوبر 2012
الجمعة، 19 أكتوبر 2012
التشكيل الحديث في العراق-[ الكتابات الفنية المبكرة وخصائصها النقدية [*-عادل كامل
التشكيل الحديث في العراق
[ الكتابات الفنية المبكرة وخصائصها النقدية
[1] تمهيد
بعد أن تفككت الإمبراطورية العثمانية ، وبعد أن تشكلت دول وأقاليم جديدة ، ضمن المتغيرات الجغرافية – السياسية لنهاية القرن التاسع عشر وفاتحة القرن العشرين ، ظهرت تدشينات مبكرة للمشروع ألتحديثي . أن هذه المرحلة لم تشهد تصدعاً للأنظمة القديمة فحسب ، وإنما دخلت في مخاض عسير ومعقد تميز بالتصادم والصراع والتحول ، وأدى ، في الحقول المعرفية والثقافية والفنية ، وعلى صعيد البناءات الفوقية ، إلى بزوغ أنماط لها أشكالها ورموزها المجاورة والمواكب لبنية الواقع الاجتماع والسياسي والاقتصادي، وللخطاب الثقافي الوليد تحديداً. وكان العراق (بالمعنى الجغرافي – السياسي )، من بين عشرات البلدان التي تشكلت حديثاً، لا لكي تستعيد أزمنتها الذهبية في عصورها القديمة، أو العباسية في الأقل، وإنما لتواجه إشكاليات ستبقى قائمة عبر سلاسل من التصدعات والانقلابات والتحول من عصر إلى عصر مختلف. فالمشروع الأوربي التوسعي لم يلق استجابة تناسب (شعاراته) ، كما أن هذه الدول الحديثة التكوين لم تستطع، أن تكون مستقلة في تقرير مصيرها ضمن عصر بلغت فيه الموجة الصناعية الثانية ذروتها، فالفجوة الحضارية والتقنية ستتوسع وتتداخل عبر الواقع، والتحولات، داخل منظومة معقدة كونتها الحداثة إلى جانب الموروثات والعادات المحلية ذات الجذور القديمة . إنها إشكالية تزامنت مع الفعل والاستجابة، بحسب توينبي، إذْ كان (التحديث) – في هذه البلدان ذات التخلف الاقتصادي والإداري وذات الأنظمة المنغلقة – خارجياً وقسرياً في الغالب، وهو الذي مكث، في الضمير الجمعي، مثار إشكالية معرفية متواصلة. إلا أنه، وكما في وقائع مماثلة ومتكررة، خلف رقعة اشتباكات ليست محض رمزية، وإنما واقعية أدت إلى ظهور أشكال وبناءات أتسمت بمناقشات ومشروعات خاصة بالتحديث، من ناحية ، وبمراجعة وفحص الموروثات من ناحية ثانية . ومع أننا ننظر ـ بعد قرن ـ ووصولاً إلى نهاية القرن العشرين، نظرة مغايرة، إلا أن عملية فحص مظاهر التحدي والاستجابة، وأنماط التصدع والبناء، وأشكال الانغلاق والانفتاح، ومظاهر الدحض والقبول، تلقي المزيد من الضوء حول مفهوم تشابك القوى والأفكار والمصائر. فرؤيتنا ـ في فاتحة الألفية الثالثة ـ لن تقلل من مغزى الحفر في مخفيات ومظاهر ذلك الاشتباك الواقعي - الرمزي لمجموع الإرادات والقوى ووسائل التشبث بصياغة منظومات مختلفة عن الأصل، وإنما لا يمكن إلا أن تكون قد حملت مشروعاً مغايراً، وهو الذي وثقته عشرات النصوص الفنية في حقل الكتابة . إن ظهور ملامح دولة، بمكوناتها الحديثة، قياساً بقرون عزلت العراق، مع أقطار مجاورة أخرى، عن العالم، أدى إلى تدشين خطابات ثقافية مغايرة. ولم يكن التحول هذا ممكناً من غير تضافر عوامل داخلية. فإذا كان مشروع (التحديث) يستند إلى مكوناته وأهدافه وتقنياته، كنقل تجربة (حضارية) من موقع إلى موقع آخر، فإن الاستجابة لم تكن قائمة على الرفض الكلي. كانت ثمة تجارب فردية متفرقة على صعيد بناء تصورات مغايرة، في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية أيضاً . كظهور السينما والمسرح والمطبوعات ووسائل النقل والأزياء .. الخ إلى جانب ظهور المراكز التعليمية والوحدات الإدارية القائمة على أساليب مختلفة ، وتكوّن جماعات وتجمعات مهدت، كعوامل مشتركة لبلورة مناخات لا تخلو من الأسئلة والانشغالات الخاصة بالغابات والأهداف . أن هذا الوضع الحاصل بفعل مكونات مختلفة فلسفياً ، بين قوى (التحديث) المتمثلة بقوى أجنبية ، وقوى مازالت تتمسك بعاداتها وتصوراتها وموروثاتها، أدى لنشوء مفارقات وتداخلات لا تعزل عن الأهداف والوقائع المنجزة أو التي هي قيد الإنجاز . فمع دخول بعض علامات (التحديث) وتكوّن تيارات فنية تواكبه وتنحاز إليه ، وأخرى معارضة حد الارتداد والانغلاق، وثالثة تدعو إلى التوازن والتوليف بين عناصر الذاكرة وبين التيارات الحديثة، ظهرت محاور تضمنت انشغالات خاصة بالهوية والموروث والمعاصرة وطرق استثمار هذه العناصر في النصوص الإبداعية وصلتها بالمجتمع وبروح العصر وبالأسئلة التي مازالت تمتلك قدراتها في التجدد والانبثاق مع تجدد المجتمع ذاته، وليس بمعزل عنه . وبصدد الفنون التشكيلية ، ومع تشكل مفهوم (الذاكرة ـ العصر) أو (التراث ـ المعاصرة) دشن الوسط الفني ـ الثقافي سلسلة من النشاطات والفعاليات الفردية والجماعية أسهمت بصياغة تلك المفاهيم والشعارات .. ففي عام 1931 ، سيقام المعرض الصناعي الزراعي في حديقة المعرض بباب المعظم .. وسيسافر أكرم شكري في أول بعثة فنية للدراسة في إنكلترا في العام نفسه .. وسيحصل الفنان فتحي صفوت على الجائزة الأولى في النحت وجواد سليم يحوز على الجائزة الثانية ولم يكن قد تجاوز عامه الثاني عشر بعد. وفي العام 1936 سيقيم حافظ ألدروبي معرضه الشخصي الأول في نادي المعلمين .. كما سيتم افتتاح فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة في العام نفسه .. وفي العام 1940 تأسست جمعية أصدقاء الفن بمبادرة من أكرم شكري وكريم مجيد وعطا صبري وشوكت سليمان . وبعد عام سيقام المعرض الأول لأصدقاء الفن بعنوان (معرض جمعية أصدقاء الفن السنوي الأول) في قاعة بناية جمعية الهلال الأحمر بمشاركة : عبد القادر الرسام .. حافظ الدروبي .. الحاج سليم .. دانيال قصاب .. عطا صبري .. نزار سليم.. رشاد حاتم .. ع.ناصر .. فتحي صفوت .. نزيهة سليم .. سعاد سليم .. عيسى حنا .. ناهده الحيدري .. أكرم شكري .. محي الدين حيدر .. شوكت سليمان .. وجواد سليم . وفي العام 1945 سيؤسس جميل حمودي مجلة الفكر الحديث .. كي تتواصل النشاطات الفنية الفردية والجماعية تمهيداً لظهور جماعات فنية لها خصوصيتها في الرؤية الفلسفية والفكرية وفي المعالجات الأسلوبية والجماعية والجمالية . لقد ظهرت تدشينات في الاختلاف ، ولا يمكن عزلها عن المتغيرات الحاصلة في البناءات المختلفة للمجتمع العراقي. بيد أنها كانت ثمرة له، مثلما أسهم هذا الاختلاف بتشكيل خطابات لها خصائصها في الرؤية وطرق المعالجة. فالفجوة بين عهد ما قبل (التحديث) ـ وهو عهد ما قبل الاحتلال البريطاني ـ والعهد الأخر، اتسعت لتفضي إلى تنويعات في الخطابات الثقافية والفنية . فقد كانت معالم التحديث ـ خارج مفهوم، ومع، وقائع عدم اكتمال السيادة الوطنية ـ تأخذ حضورها ألعلاماتي والفني والفكري الأوربي إلى جانب انشغالات بإحياء الموروث ودراسة الواقع وعدم مغادرة البيئة والطبيعة والتراث الشعبي .. فضلاً عن تبلور مفاهيم (الإنبات) والموازنة والتوليف ... إن هذا المشهد ، تجاه صراعات سياسية لم تخمد ـ أدى إلى تأسيس ثلاث جماعات فنية أساسية كوّنت ذاكرة الريادة التشكيلية الحديثة في العراق .. وهي : - جماعة الرواد (1950) - جماعة بغداد للفن الحديث (1951) - جماعة الانطباعيين العراقيين (1954) بيد أن هذا الاختلاف لا يرجع إلى أسباب يمكن حصرها خارج المؤثرات المشتركة لمكونات جيل (الرواد) وانعكاسها أو تداخلها مع النصوص الفنية التي لازمت البدايات، أو التي وجدت حيزاً لها في الاهتمامات النقدية. فثمة اختلافات كونتها أفكار الفنان ـ الكاتب ومواقفه تجاه مغامرات التدشين التي ستشكل نواة جيل فرض تأثيراته لسنوات غير قصيرة. ولعل الاختلافات هذا لم يظهر ألا إبان معرض الرواد الأول (1950) .. ولم يظهر جلياً ألا بين قطبي الريادة الفنية وهما جواد سليم وفائق حسن . فالأخير أسس جماعة الرواد التي حملت دعوة مباشرة للبدائية ، ولكن ليس للتخلي عن المعارف الأوربية وتياراتها وإنما للتخلي عن التعقيد والعودة إلى المكونات الفطرية للفن في عالم يزداد تعقيدا . فاشتهرت الجماعة بسفراتها المنتظمة إلى الحقول والمزارع وبضمنها سفرات إلى كردستان .. فالطبيعة ستشكل ينبوعاً لإثراء تجارب الفنان وخبرته . بيد أن جواد سليم ، ولأسباب مهارية وشخصية، ذهب أبعد من أهداف فائق حسن التقنيةـ الفنية. فكان (النص) عنده يتوخى تضمينات فكرية وفلسفية واجتماعية وجمالية وليس التوقف المحض عند مشكلات الرسم، كما يمكن استنتاج ذلك من أراء الأستاذ فائق حسن ذاته .. فكان أن أنفصل عن (الرواد) ، ليشكل جماعة فنية ذات أعباد تخص تداخلات وتقاطعات وتكاملات مصائر الموروث ـ وبعثه ـ إزاء حداثات أوربية تركت أهوال الحربين الأولى والثانية أثرها في الأساليب والتيارات الفنية. ولم يكن الموروث أو استلهامه قضية ممكنة خارج مواهب الفنان ورؤيته .. فراح جواد سليم يحفر في مكونات الذاكرة القديمة : الجذور الموغلة بالقدم لمخلفات إنسان المغارات والشعوب البدائية .. ودراسية العصور الحضارية المتراكمة لوادي الرافدين ومصر .. والانتباه للفن الإسلامي فلسفياً وجمالياً ومغزى التحويرات الأسلوبية التي جعلت من هذا الفن يوحد بين المثل والاختزالات .. إلى جانب مشاهداته ودراساته لتيارات الفن الحديث . لقد كان انشقاق سليم عن جماعة (الرواد) حتمياً ، كما ذكر الفنان د. خالد القصاب ذات مرة عندما راح يصوغ جدلية الماضي في تتماته وتواصلاته عبر إعادة اكتشافه وقراءته قراءة معاصرة، بعيداً عن استنساخه، مع تأمل كل الذي سيشكل قيمة فنية غير عابرة في أساليب الحداثة وراديكالياتها ومتناقضاتها . فكانت بيانات جماعة بغداد للفن الحديث تتحدث عن جدلية الذاكرة وصلتها بحداثات الحاضر . فكانت كتابات جواد سليم الموجزة لا تخلو ، إلى جانب أفكاره الواضحة ، من إلتماعات شعرية وأدبية وتأملية نادرة . ولعل وجود القاص والفنان والمترجم الفلسطيني الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا ، بعد استقراره في بغداد ، أثر أكبر تهجير حصل في العصور المتأخرة، أسهم ببلورة تقاليد كتابية صاحبت هذا الجيل. فبفضل كتابات الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا. حفر جيل الرواد برمته أسس تجاربه المتنوعة. وفي مقدمتها تجربة جواد سليم. بيد أن تأثرات التيارات الفكرية والفنية الأوربيتين. لم تكن أحادية .. ولم تكن هذه التأثيرات متجانسة عند الجميع. فالكتابات المبكرة للفنان محمود صبري تلخص منهجاً جدلياً في التجارب المبكرة للنقد في العراق . فلم يغفل انجرار الجيل برمته، في سنواته المبكرة، وبلا استثناء، للتأثيرات الأجنبية والأوربية في مقدمتها، وأثر ذلك في الأساليب والمعالجات الفنية. كانت ماركسية محمود صبري تلخص مرحلة الخصب في النضال الوطني الخمسيني، سمحت له برؤية الفجوات والمسافات بين المنجز الفني المستعار، القائم على المحاكاة ، وبين الذي يمتلك فعل (الإنبات). فكان مفهوم (الأصالة) لا يتقاطع مع (الهوية) بجذورها الضاربة في عمق الأرض والإنسان .. فكانت كتاباته – كتجاربه الفنية ومنها لوحاته عن السجون والاحتجاج والنقد الاجتماعي والمرأة والموضوعات القومية كثورة الجزائر – المنحى المغاير لكتابات جبرا إبراهيم جبرا، التي استندت إلى تأملاته وتحليلاته وتجاربه الأدبية والفلسفية البعيدة عن الماركسية . ثمة فنان مكث يتمثل عمليات التحول لا في فنه فحسب ، وإنما في تفحص دوافعه وأفكاره في المجال ألتدويني : أنه شاكر حسن آل سعيد الذي وجد نفسه، منذ البدء، أكثر قرباً إلى جماعة بغداد للفن الحديث، وإلى جواد سليم شخصياً. فشاكر حسن دشن منحاه التجريبي في تأمل المشهد الفني والاجتماعي والثقافي الزاخر بالتنويعات والاتجاهات الأسلوبية المتباينة .. فكان انحيازه لرؤية جماعة بغداد ، حد الإسهام في كتابة بيانها الأول ، بالبحث عن أصول مبدأ (الإنبات) .. ومع إدراكه أن الحداثة ليست انعكاساً مباشراً للواقع وإنما هي لا تخفي قطيعتها معه – منذ كتابات بودلير ومفهومه للقناع – راح يمنح مغامرته حدها الأقصى . فبعد سفره إلى فرنسا ودراسته في معاهدها (1955-1959) وعودته إلى بغداد ، أقام تجربة مهمة تحت عنوان (تأملات ومعارج) – قاعة المتحف الوطني للفن الحديث- بغداد 1966- وبعدها أسس تجمع البعد الواحد وصاغ مفهوم الفنان يستلهم الحرف ، كتب بيانه ألتأملي (1966) ومن ثم نشر سلسلة من المقالات حول مفهوم البعد الواحد والمجال الروحي في الفن ، مبتعداً عن أسلوبه الخمسيني التشخيصي في الرسم ومنحازاً كلية إلى التجريد والتجريد المطلق . كانت كتاباته ، عامة ، تفسر نزعاته الداخلية وبمثابرته بالعثور على علاقات أوضح ما بين الأشكال المرئية ومحركاتها. فنشر كتابه ألتنظيري (الحرية في الفن) عام 1975 .. وأعيد طبعه عام 1994 .. والذي مازال يمتلك تشفيراته ككتاب يتضمن فلسفة الفنان .. على أن كتبه الأخرى التاريخية والنقدية والتأملية تلقي الضوء على نشاط شاكر حسن ودوره الكبير المرافق للريادة التشكيلية الحديثة في العراق . وإلى جانب الأستاذ آل سعيد ، لم يترك الفنان جميل حمودي كتاباً لا في تاريخ الفن ولا في النقد الفني ، وإنما ترك ، منذ إصداره مجلة الفكر الحديث (1945) ، مجموعة من الأفكار التي عمل على تنفيذها عبر تجاربه الفنية الرائدة. وإذا كان قبل تعرفه على التيارات الحديثة في فرنسا ، قد وجد نفسه مع الأنساق الحديثة ، فأنه سيؤسس مجلة (عشتار) – التي صدر عددها الأول في مطلع الستينيات - التي جعلها مكرسة لمشروع لقاء الثقافات والحضارات وليس العكس . أن التزامه مفهوم اللقاء أو الحوار أو التكامل – وقد شرحه لرائد السوريالية بريتون – يفسر خلاصة علاقة الجذور بالابتكارات الحديثة . فالقطيعة الأسلوبية لا علاقة لها بما هو مشترك في الموروث العام للشعوب . وقد جاءت أعماله في النحت والرسم والخزف مجسدة لرؤيته الفنية أكثر مما كان سيقدمه في كتاب يمكن الرجوع إليه ، مع انه ترك سلسلة من الإشارات والملاحظات النقدية تقترن بتجاربه الفنية. بيد أن الفنان نوري الراوي ، الذي ترجع كتاباته إلى فترة مبكرة ، أسهم برصد النشاطات التقنية والكتابة عنها في المجلات العربية ، أي تجاوز حدود الصحافة البغدادية. وقد أتسمت معظم كتاباته بلغة أدبية وشعرية في الغالب، لكنها أسهمت برصد مظاهر التجديد ورصد الأسماء الرائدة منذ أواسط أربعينيات القرن الماضي . فلم يغفل التعريف بالمدارس الأوربية ، كالتعبيرية الألمانية – وقد نشر معهد غوته ببغداد دراسة صدرت في كراس عام 1963 – وكان قبلها قد نشر كتاب (تأملات في الفن العراقي الحديث) عام 1962 .. كما لم يتخل عن رصد ملامح هذا الجيل في مقالاته الفنية . وإلى جانب الراوي ، هناك تجربة الفنان نزار سليم ، التي لخصها في كتابة (الفن العراقي المعاصر) 1977.. ضمن مشروع نقدي لم يكتمل أثر وفاة الفنان – لكن كتابه– فن الرسم – يلخص تنوع ثقافة الفنان بين المسرح والقصة والترجمة وأثر ذلك في رسم مشهد نشؤ التشكيل الحديث في العراق .. فيعود بنا إلى جيل الأوائل .. وهم عدد من الضباط العراقيين في الجيش العثماني العائدين إلى الوطن ، الذين شكلوا تمهيداً لبدايات الفن .. مروراً بعودة المبعوثين وتأسيس الجماعات والمؤسسات الفنية كمعهد الفنون الجميلة وجمعية الفنانين العراقيين. وصولاً إلى تبلور الأساليب والاتجاهات التي شكلت خصائص التجارب الحديثة. وإلى جانب هذه الأسماء ، فثمة كتابات متفرقة لعدد من فناني هذه الحقبة ، أمثال د. خالد الجادر وفرج عبو وعطا صبري و د. عبد الرحمن الكيلاني .. الخ لا يمكن للباحث الاستغناء عنها بما تمتلكه من أبعاد تاريخية ووثائقية ونقدية . أن دراسة النصوص الفنية ، وبضمنها الانطباعات ، والتصريحات الصحفية ، إلى جانب عدد من المقالات ، واليوميات ، والبيانات ، لا تغادر عملية رصد التحول الذي حصل في المشهد العراقي الثقافي – الاجتماعي - قبل – وبعد – تشكل الدولة العراقية الحديثة في مطلع عشرينيات القرن الماضي، أولاً . وأن هذه الكتابات ، ومقارباتها النقدية ، مكثت في الساحة الفاصلة بين تجارب نهاية القرن التاسع عشر ، والتي نضجت قبل التقسيم الجغرافي – السياسي للدولة العثمانية بسنوات ، وبين تجارب تبلورت خلال العقدين الرابع والخامس ، وهي لا تخفي أنظمتها وتقنياتها الأوربية. فالفجوة واضحة بين تجارب جيل عبد القادر الرسام الأكثر صلة بالتسجيلية أو المحاكاة وبرسومات الهواة ، وبين تجارب جيل جواد سليم وفائق حسن حيث ظهرت ملامح أبحاث تجريبية تجاوزت مفاهيم الاستنساخ نحو دراسة بنية النص الفني وعناصره الإبداعية ، فضلاً عن مغادرة الانغلاق نحو عالمية الفن وضمن مناخ المتغيرات الدولية أو الحاصلة في العراق ثانياً، ولقد ظهرت ، قبل تشكل الجماعات الفنية الثلاث، انشغالات حول مفهوم الاصالة – المعاصرة أو (الإنبات) بمعناه الأدق . فهذه الكتابات ، إلى جانب أهميتها التاريخية والانطباعية، بحثت في إشكالية الهوية ( وحدة الاختلاف داخل بنية النص الفني )، تجاه عمليات التفكيك والدحض وإعادة البناء الحاصلة في مفاهيم العصر، وتشكل قوى المراكز الدولية وأثرها في نشؤ دول حديثة التكوين، كموازنة بين : التاريخي والآني .. بين الذاتي والموضوعي .. بين الخاص والعام .. وبين (ألانا) والذات الجمعية لمفاهيم الحداثة حتى إن جاء ذلك بلغة مستعارة ثالثاً. وهنا تشكل هذه الوثائق ، عندما يتم فحصها دفعة واحدة، ومقارنتها بعضها بالبعض الأخر، كعلامات تؤدي الدور المزدوج للأثر – النص .. فإذا كان الأثر يتضمن مخفيات ومعلومات وعلامات لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة الخارطة الثقافية – الفنية لتلك العقود ، فإن مغزى دراسة هذه النصوص لا يغادر عملية اكتشاف ما لم يمت بعد في هذه (الآثار) .. ذلك لأنها تتضمن تشفيرات يعمل بها النص الحديث : وقد لا نجد استعمالاً لمفردة (نص) في هذه الكتابات ، لا بمعناه السائد اليوم ، وإنما بمعنى البناء المتكامل والفني أخيراً . فأننا ، بإعادة قراءة هذه الكتابات ، سنعثر. بالمقارنة والتشخيص ، على تبلور نصوص تمارس باثاتها معنا قبل أن تستحيل إلى ملفات تالفة أو محض تراكمات تاريخية رابعاً . إن مراجعة هذه الكتابات ، كقراءة لنصوص كتابية تاريخية ونقدية معاً ، (قراءة قراءة ما تم تدوينه ) أمام حقبة زمنية تبلورت عبرها سمات جيل الرواد، وأساليبهم وأثرهم الذي لم يختلف في تبلور التشكيل الحديث، المعاصر. في العراق . [2] مسافة : لم تمض سنوات طويلة، بين إرسال المبعوثين الأوائل، في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وتشكيل جمعية أصدقاء الفن ـ بمبادرة من أكرم شكري وعطا صبري وشوكت سليمان ـ إلا وكانت، ضمن النخبة، مبادرات تدشينية على مستوى الكتابات الفنية. فأسس جميل حمودي، في عام 1945 أول مجلة تعنى بالفكر الحديث، وأعقبها بمجلة عشتار التي وضع كلمة في غلافها الأول تقول [مجلة أممية فصلية تعمل على إيجاد وتوثيق تفاهم إنساني أحسن بين الشرق والغرب ] ـ وكانت قد صدرت عام 1958 بعنوان: اشتار ـ فضلا ً عن الدوافع الكامنة في استحداث تجارب مختلفة كلية عن تجارب الرعيل الأول.. بيد أن عودة المبعوثين، من الدول الأوربية، كانت قد سبقتها عودة مجموعة من الفنانين كانوا ضباطا ً في الجيش العثماني. وتجارب ذلك الرعيل، مهما بدت تسجيلية، وتقليدية، ستشكل أرضية لتجارب تحدث للمرة الأولى. فلم يسبق لبغداد أن تعرفت على إقامة معارض للفن.. وهنا تلفت نظرنا الكتابات المبكرة لدور الأوائل، وأثرهم التربوي في هذا المجال. ولم يكن اعتراف الحكومة بالفن، وإرسال أكرم شكري في بعثة لدراسة الفن إلى إنكلترا 1931 محض اعتراف بضرورة الفن في مجالات تحديث البلد فحسب، وإنما لأثر هؤلاء في الوسط الاجتماعي والثقافي. فقد أحدث وجود مجموعة من فناني الرعيل الأول انتباهات لمكانة الفن ودوره في الحياة البغدادية.. فلم تكن تجاربهم الفنية محض رسومات تقليدية، بل كانت لديهم أراء فنية لها انعكاسها في تجاربهم العملية. فالفنان عاصم حافظ يدوّن ـ : " .. والفنان الذي يريد الفن وليس بينه وبين الكلاسيكية من صلة، هو كمن يخدع نفسه، إذ ْ أن إنتاجه أشبه شيء ببناء شامخ شيّد على وجه الأرض بدون أساس.." مؤكدا ً" .. الفن لا يقوم بذاته، وإنما يرتكز على العلم، على فروع تفرض الكلاسيكية دراستها على الفنان وتلزمه بها، دراسة عميقة تأخذ سنين طويلة من اعز سني حياته، مع التضحية بكثير من الراحة، وبذل جهود لا يستهان بها" والفنان عاصم حافظ لم يكن ليدوّن هذه الملاحظة، لو لم يكن قد أمضى شبابه بين استانبول وباريس. ففي باريس درس على يد الأستاذ أنطوان رينولد ( 1928 ـ 1931) وأقدم من الفنان أكرم شكري بأربع سنوات، كما سيمضي يدرس الفن 19 سنة في المدارس ألرسمية، والى جانب فن الرسم، سيتخصص بدراسة العربية والفرنسية. إن هذه الخبرة النظرية سيكون لها أثرها في رسوماته للطبيعة والحياة الجامدة، وعزوفه عن التشخيص في نهاية حياته. وهي خبرة لم يلخصها في كتاب مدرسي له حول فن الرسم فحسب، بل في أهمية دراسته الفن دراسة منهجية وحديثة. إن خلاصة تجارب الرعيل الأول، وهي لم تدرس دراسة توازي أهميتها، عدا وقفات تاريخية في كتاب [ فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] للأستاذ شاكر حسن، لم تمهد للرواد، إلا كمسافة في الاختلاف. فثمة جيل جديد مشحون بخبرة لا تقارن بالتي حصل عليها الرعيل الأول، من الفنون التي اطلعوا عليها في استانبول، ستشكل تأثيرا ً مباشرا ً في الكتابات المبكرة. فبعد عودة المبعوثين، وتأسيس معهد الفنون الجميلة(1936) وتشكيل الجماعات الفنية، وظهور جمعية الفنانين العراقيين.. الخ كلها مهدت لضرب من الكتابات أكثر صلة بالفكر الحديث، في تنويعاته. فثمة كتابات انطباعية، ووصفية، وأيديولوجية، لا تخفي موقفها المنحاز.. بيد أن الاتجاه التقدمي لهذه الكتابات، بغياب الرقابة القمعية؛ المباشرة أو المتشددة، سمح بظهور نزعات ديمقراطية ـ يسارية في غالبية هذه الكتابات ـ وفي مقدمتها كتابات الفنان محمود صبري، الذي ميز فيها بين ثقافة ليبرالية ـ برجوازية، وأخرى اشتراكية ـ يسارية. وبهذا الوضوح، لم يسلم رواد التشكيل من رؤيته النقدية وهو يعالج المشكلات الجمالية ، أو طبيعة التحديث ومحركاته. حيث اعتنى في دراساته النقدية بالمضمون والأشكال والعلاقة الجدلية بينهما، وعلاقة الفن بالمجتمع، ونقد المضامين بتخليها عن انتمائها للمسار التقدمي في الثقافة ـ والفنون. انه ربما أول من انشغل بالنص الفني بصفته علامة جدلية لبناء المجتمع بفكر مغاير لنظام الحكم، وصلته بالقوى الأجنبية المؤثرة. وقد كانت هذه الكتابات، قد وجدت تطبيقاتها في تجاربه الفنية أيضا ً: رسومات مستمدة من أعماق المجتمع العراقي.. وتصويره للحياة الواقعية بشحوبها وفقرها المدقع.. إلى جانب أعماله التحريضية والتعبيرية، كلوحته الكبيرة : ثورة الجزائر. ففي عام 1956 سيكتب الفنان صبري " لقد ازداد عدد المتذمرين بشكل ومضمون الفن المعروض، ولم تعد الغاية هي الكمية والحجم والتعبير الشكلي بالطبيعة، بل أصبحت الغاية النوعية والتركيب والتعبير عن الطبيعة. وهكذا أصبح هناك أنصار وخصوم لهذا الفنان أو ذاك، وأخذت المفاهيم تتبلور ببطء عن مختلف الجماعات الفنية مثبتة بذلك أولى بوادر تكوين الجمهور الفني ". إن المسافة بين كتابات فترة العشرينيات، وحتى نهاية العقد الثالث من القرن الماضي، ستختلف، في الرؤية وفي الأسلوب، عنها بعد ذلك. فمفهوم التحديث سيأخذ مداه بصفته رؤية كلية للثقافة والفنون. وهي المسافة ذاتها بين تجارب واقعية تسجيلية حرفية وبين تجارب تصوّر الفيضانات والفقر والسجون والشهداء. ولا يكمن هذا الفارق في الأسلوب أو في الرؤية، بل في مدى اثر الاستقرار ألامني، وسيادة انضباطات اجتماعية سمحت بظهور نزعات نقدية، وفرتها ( ديمقراطية) النظام الملكي، واختلافه الجذري عن السنوات التي سبقت الاحتلال البريطاني للعراق. وهو الذي حفر، في الفن، نزعة التجريب، ومغامرة التمرد، ضمن الخطاب التشكيلي الحديث. فقد أسهمت تلك الكتابات، بمد جسور من الفن إلى الواقع الاجتماعي، كي تظهر، في الصحافة، كتابات حول الفن، والفنانين. [3] مقتربات كتابية : باستثناء جواد سليم الذي رحل بعد بحث شاق أثمر مغزى صياغة تجارب فنية متوازنة: تجانس المصادر ضمن بنية ليست خالصة لمنطق[ الفن للفن]، ولكن ليست سردية أو تزيينية أو سلعية أو جماهيرية محض. فقد تعرّفت، منذ كان جيل الرواد قد بلغ ذروة هذه الخلاصة، على معظم رموز هذا الجيل، معرفة سمحت لي أن اكتب كتابي [ جيل الرواد] وأنا مازلت في عمق الاختلافات التي صاغتها التحديثات، ولا أقول (الحداثة) في نهاية ستينيات القرن الماضي. إن هذه المعرفة قد لا تكون مشجعة كثيرا ً في الحديث عن (رموز) ـ ولكنها، بشكل من الأشكال، لم تبتعد عن الصخب الأسلوبي، وعن ظهور عشوائيات تحت مسميات التجريب، جعلت من رموز جيل الرواد جديرة بالدرس: كيف نهج هذا الجيل بجمع وتوليف عناصر لا يمكن جمعها إلا بفعل منح الخصوصية شرعية المغامرة بما تتضمنه من أهواء وإحباطات ومعاناة شخصية، ولكن أيضا ًبتلمس مكونات النص الفني، بما يمتلك من مصادر قديمة وحديثة معا ً. إنها ليست عملية بناء، بل عملية اختبار المشروع ألبنائي. لقد أمضيت سنوات غير قصيرة وأنا ـ بدوافع مماثلة لحل إشكالية معادلة : حديث ـ قديم ـ أتفحص المنجز الكتابي، الموزّع، والمتناثر، وغير المفحوص، إضافة إلى تدوين ـ وتلك مهمة لها علاقة بعملي الصحفي ـ المجال الشفوي المباشر مع مستويات، باستثناءات سنتوقف عندها ـ توضح مدى مغامرتها بحل معضلات تتطلب معرفة منتظمة، وخبرة، وموهبة، وهي عمليا ً لم تفض إلى إضافات ذات أهمية، على حد كلمة للفنان إسماعيل الشيخلي. فالنصوص الفنية، لا تقارن، إلا بصعوبة، كما ستفصح الكتابات، بالنصوص النظرية. فالجسور بينهما مبهمة، والصلات تفصح عن اختلاف كبير بين المنجز، والممكن: بين استثمار النظريات والفلسفات والدراسات في مختلف المجالات وبين العمل الفني. على أن مغامرة الكتابة، بحد ذاتها، كانت تتطلب جهدا ً لجمعها وأرشفتها ووضعها في متناول الدارسين الجدد.. وهو الذي لم يحصل، والذي يجعلنها ـ في إعداد هذا الكتاب ـ نمهد لاستكمال المشروع لاحقاً. وإذا كان مفهوم [ النص] ليس قديما ًن كالمفهوم العام لـ [ حديث] و[ معاصر] وفي وقت متأخر [ حداثة] فان لهذا الجيل، امتيازه بالاشتغال على معادلة، هي اليوم ـ كما في أقدم الآثار التي قاومت زوالها ـ تشترك بمهمات إنجاز النص بعيدا ً ً عن دور (الفنان ـ الكاتب) أو بمعزل عنه. فالمشروع النقدي مكث في حدود أراء ومقالات تقع على هامش المجال العملي من ناحية، كما كانت دوافع هذا المشروع، منذ راح عدد من الرواد يتأملون أسرار الفنون في ماضيها التليد، وفي مكونات الحداثة المجاورة لهم، تأشير انطباعاتهم الخاصة ومشاريعهم الريادية، كما في جماعة ( الرواد) و ( جماعة بغداد للفن الحديث) و( جماعة الانطباعين العراقيين)، وإن بعضا ً من هذه [النصوص] الشفهية ( في الحوارات) وفي المقالات والمشاريع المبكرة للدراسات والأفكار، مازالت لم تفقد أسئلتها التي كونتها من ناحية ثانية. إن هذه الكتابات التي لم تدخل المتحف، والتي مازالت مجهولة، أو موزعة في الصحف والمجلات، لم تكونها لغة خالية من مغامرة الاستبصار والبحث في المجال النظري ـ الفكري لمسارات الفنون.. وإنما هي، مع تجاورها لنشاطات معرفية كالترجمة والمعرفة المباشرة والإطلاع على الأفكار والآراء، عملت على إيجاد صلات مناسبة بين التاريخي وسبل تحديثه، والعثور على جدلية بين الأثر والنص. الأثر التاريخي وهو مازال يمتلك اشتغالاته في أزمنة لاحقة، والنص الذي لا ينتج إلا كجزء من الحداثة وما يتوخاه الفنان من وعي بمكوناته الموضوعية ومغامرته في الذهاب ابعد من النزعات الشكلية أو الحدود المرئية للنصوص. وهي مهمة تخص أدوات البحث ـ اللغة والمعرفة والحدس ـ بالدرجة الأولى. فالفنان حافظ الدروبي، حتى في فترات نضجه، وجد نقدا ً لاذعاً من لدن عدد من الفنانين البولونيين الهاربين من الحرب العالمية الثانية، نقدا ً حول ضرورة النظر إلى الطبيعة والموجودات، بعين الفنان، لا بعيون الانطباعيين أو الفنانين الأوربيين. إن الأستاذ ألدروبي، الذي جرب عشرات الأساليب الفنية، لم يرض جمهوره المتلقي، حتى قال في نص منشور : لا أعرف ماذا يريدون؟! ولكن عشوائية، وتجريبية ألدروبي، لا تلخص محنة تلك السنوات فحسب، بل تمهد لإضافات تجعل أسئلة النص ـ الأثر، جديرة بالبحث. وقد أدرك هذا الجيل، هذا المأزق بين النظري ـ والعملي، وبما يتطلبه الفن، بالدرجة الأولى، من شروط نظرية ومعرفية وتاريخية. فكانت الكتابات الأولى، عند جواد سليم، ومحمود صبري، وشاكر حسن، وجبرا إبراهيم جبرا، وجميل حمودي، ونوري الراوين وعطا صبري، تتضمن هذه المؤشرات: التأثر بتيارات الحداثة، واستذكار التجارب الكتابية القديمة، والعمل على إجراء توازنات بينهما. بيد أن المجال الكتابي، كما أشرت، لم يصنف ولم يدرس كي تكون هذه الخلاصة موازية للمنجز على الصعيد العملي، لأن ثم نصوصا ًكتابية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، جاورت هذا المسار.. وهي، ستلقي المزيد من الضوء حول قضايا لا اعتقد أنها قد حسمت، من ناحية، كما أنها تتضمن مدخلا ً لدراسة العلاقة بين المجال النظري والعملي فقط، بل الذهاب ابعد من ذلك في دراسة المناخ العام ـ والخاص الذي نشأت فيه تلك التجارب النظرية، وأثرها ببلورة الجماعات الفنية، وفي ظهور المؤسسات الفنية، وتباين المدارس الفنية، من ناحية ثانية. فالنصوص الكتابية، في هذا الساق، لا تخص لغتها، وأفكارها، ورموزها، وإنما تشفيراتها أيضا. خاصة أنها لم تنتج من قبل متخصصين في المجال النظري أو الكتابي إلا بشكل محدود، بل من قبل ممارسين للفن بالدرجة الأولى. فهي نصوص تحمل ذات الدوافع الكامنة وراء المنجز العملي. وإعادة قراءتها، بعد أكثر من نصف قرن، ستتيح لقراء اليوم، التعرف على مجموع هذه العلاقات بين التفكير النظري، وتطبقاته العملية. وهو حد فاصل بين مشروع بلورة النص، الكتابي والعملي، كما عند شاكر حسن أو محمود صبري أو جواد سليم، وبين مشروع التحديث بالدرجة الأولى. فتلك الكتابات، وإن بدت وليدة عواملها التاريخية، فإنها، مقارنة بالمنجز العملي، ستسمح للدارسين بالعثور على بذور مازالت تمتلك قدرة الإنبات. ذلك لأنها ـ الكتابات ـ قد تبلورت تحت مؤثرات الفن، فضلا ً عن دوافع الفنان ببلورة موقفه المعرفي ـ النظري ـ وتطبيقاته العملية. [4] الفن ـ والكتابة : بنزعتها التحديثية، سبقت التجارب الفنية، الكتابة في حقل الفنون التشكيلية. ربما لأن جذور الفن، شكلت ذاكرة للامتداد، بينما تطلبت الكتابة، وعيا ً للأفكار والصياغة الحديثة لها استجابتها وشروطها النظرية التي لم تدرس، في أوربا، كما حصل على الصعيد الفني. وهكذا جاءت الكتابة، ملحقة بالتجارب الفنية. إن هذا الظن يتأكد بتقدم نزعات التحديث في البناء الفني، ومغامراته، ونتائجه، مقارنة بالأساليب الكتابية في هذا المجال. بيد أن الكتابات المبكرة في الفنون التشكيلية، في الغالب، تتصل بكتاب كانوا يمتلكون مهارات متعددة: أدبية أو شعرية أو فكرية إلى جانب الفن. فإذا كانوا، باستثناءات نادرة، أو لا تذكر، قد درسوا الفن، وفيما بعد أصبحوا من رواده، فان تجاربهم الأدبية ـ أو ذات النزعة الأدبية ـ ليست أساسية. فثمة علاقة متجاورة، ومشتركة بين ( الكلمات) و(التصوير): إنها نزعة تفصح عن ماض ٍ له تراثه وعلاماته.. حيث التفكير بالكلمات تأسس استنادا ً إلى المرئيات والأشكال، فضلا ً عن المسار التطوري من الصورة إلى الحروف. إن هذه العلاقة مهدت، بعد التدشينات المبكرة للفعاليات الفنية، لقيام عدد من الفنانين بمهمات شرح الفن في وظائفه الاجتماعية والحضارية. وقد شكلت الكتابات المبكرة، الملحقة بالتجارب الفنية وما رافقها من نشاطات ثقافية، دافعا ً للتقدم في الكتابة. فقد مكث الطابع الأدبي ـ ألوصفي ـ سائدا ً في غالبية هذه التجارب الكتابية: نزعة أدبية تحافظ على مهارات الاشتغال بالرموز والبلاغة. ولا نجد هذا في كتابات جبرا إبراهيم جبرا وجواد سليم وشاكر حسن ونوري الراوي فقط، بل في تجارب أخرى كانت تحافظ على تعبيراتها الأدبية وبلاغتها الأسلوبية. فهذه الكتابات كانت تظهر نزعة الكاتب الفنية، وخبرته، واثر الحقل التصويري في النزعة الأدبية. حتى أن هذه النصوص، في الأخير، تغدو حقلا ً تتداخل فيه النزعات الحسية والتجريدية معا ً. ويمكن أن نلحظ، وبعد تكون جماعة أصدقاء الفن، في مطلع أربعينيات القرن الماضي، بذور الوعي النقدي: إنها مقتربات نحو فضاء غير مشغول يهتم بجماليات تتطلب وعيا ً مستحدثا ً لا لتبرير نزعة التحديث، بل لأنبأتها، بصفتها لا تتقاطع مع الثقافة في جذورها أو في عملية بعثها في عصر مختلف. إن هذا الدافع ولدّ رغبة الإمساك بلغة تقترب، لا في تفسير الفن، بل في معالجته بحساسية تتطلب وعيا نقدياً، وعمقاً يوازي تحديثات النصوص التشكيلية. فالتحديث دفع بجواد أو محمود صبري أو شاكر حسن للحفر المزدوج: الحفر في ذاكرة الموروث الرافديني.. والحفر في المجال المعرفي لأنظمة الفنون ومكانتها في الحضارات. فقد كان موضوع (الذاكرة) يتطلب حفرا ً متواصلا ً كي يجد، أمام نزعة التحديث توازنه. فالحداثة ليست محض استعارات واستيراد أنظمة فنية من مكان إلى مكان آخر. وإنما، هي، بحسب هذا النشاط، استجابة لإنبات تطلب وعيا ً يوازي مشروع: الذاكرة ـ والحاضر. مشروع : الموروث ـ والمعاصرة . وهو الموضوع الذي شغل معظم كتابات الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، وجماعة بغداد للفن الحديث. ثمة، في هذا السياق، كتابات انشغلت بالاستعارة، مؤكدة مكانة الذاكرة، ودور الموروث، وأخرى، انحازت نحو التحديث حد القطيعة. وثالثة عملت بالعثور على توازنات بينهما.. وهي، في الغالب، انحازت لمشروع بذرت بذوره فكرة : الإنبات. وسنجد هذه المستويات متجاورة، عند أفراد الجماعة الواحدة، أو عند الجماعات، أو على صعيد المهارات الفردية في الكتابة. فثمة نزعة، ربما لها سمتها العراقية، نزعة التفرد حد الاختلاف، حتى في الرؤية ذات المسار المشترك: نزعة مغامرة توخت التفرد، والامتياز. ففرادة الكتابة، واختلافها، ستشكل تمهيدا ً استغرق أكثر من نصف قرن، ابتداء ً بتاريخ أول بعثة فنية إلى أوربا 1930 وانتهاءً بتأسيس رابطة نقاد الفن في العراق 1982، التي ستعمل على منح النقد مكانة تناسب المنجز الثقافي ـ الفني في حقول التشكيل والعمارة والآثار. كما ستخصص أكاديمية الفنون ببغداد، وكليات الفن في المحافظات، مكانة للوعي النقدي في العملية التحديثية والحداثوية. إن هذا التاريخ لا يعد قصيرا ً بخصوص التجربة في مجال الفن، ولكنه، مكث أسير النزعة التي بدأ منها: أسير حدود الذات وانغلاقاتها، أو انحيازاتها بين ذات الفنان ـ الكاتب، بالدرجة الأولى، أكثر من استقلالية الكتابة في مجالها النظري: الفلسفي والفكري والجمالي. كما لا تهمل بعض التجارب الكتابية في منهجها المستعار، التجريبي، على صعيد الأفكار أو الأساليب. فالتنوع في هذا المجال، ذاته، سيشكل انعكاسا ً لتنوع الاتجاهات الفنية وأساليبها المختلفة. على أننا كلما أعدنا قراءة [قراءات] هؤلاء الفنانين ـ الكتاب، لتجاربهم، سنجد حقلا ً مازال ينتظر البحث، والحفر، كي نجد جيلا ً من الكتاب، سيمهد لظهور دراسات خارج حدود الأهواء، والانطباع، وبلاغة الرؤية الأدبية. [5] المركز ـ المحيط : بعد أن أقيم معرض جماعة الرواد (1950)، بإشراف الفنان فائق حسن، كان جواد سليم يحلم بأفكار ابعد من تأسيس تيار أو اتجاه فني يستلهم الطبيعة، وأبعد من مفهوم (البدائية): الرسم الحر، العفوي، وبعيدا ً عن المشغل. ومع أن فائق حسن لم يكن يولي الطبيعة اهتماما ً أخيرا، فان وعيه بالتاريخ أو المحركات الاجتماعية للفن، لم يكن مباشرا ً. كان منشغلا ًببلورة أسلوبه بالبحث في المشكلات الفنية. فقد ذكر، في حوار لي معه، أن التوقف عند المشكلات الفنية، جاء بعد أن ظهر أن الفن ليس محض إشباع رغبات محددة. ففائق حسن يتذكر أن والدته كانت تقول له : كيف سنعيش..وأنت تمضي وقتك كله في الرسم؟! وربما كانت قالت : في الشخابيط! فقال الأستاذ حسن لها: سيكون الرسم عملا ً يسمح لنا بحياة كريمة" وكانت في مقدمة تلك المشكلات : اللوحة. فلم يكن يغامر بصياغة حداثة خارج بنية النص،إلا بعد ذلك بعقد، عندما استلهم الأحداث السياسية، في جدارية كانت تدشينا ً لأسلوب سيؤثر في مصائر عدد من الرسامين الجدد: جدارية السلام. فقد ظهرت مجاميع العمال والفلاحين وحمامات السلام ترفرف بعد عام 1958. فكان فائق حسن مركزا ً لجماعة واصلت العرض حتى بعد رحيله. كان فائق حسن مؤثرا ً كأستاذ(معلم) في بناء النص الفني. فأساتذته غير المباشرين: تتيان/ فيلازكويز/ رامبرانت/ روبنس/ ديلاكروا.. وجميعهم كانوا قد صاغوا قواعد الرسم الأوربي، لم يغيبوا عن ذاكرته الفنية.. ولكن فطرة، وبداهة، الأستاذ حسن جعلته لا يغادر الأرض.. والبشر. . وعن شخصيته الحقيقية..فقد انشغل ببناء العمل الفني الأكثر صلة بالناس وبالأرض. فلم يكن يحلم بموضوعات التاريخ، والأسئلة الفلسفية، إلا في حدود العمل الفني، على أن لا تخلعه عن الفن. فكانت أهداف جماعة الرواد واضحة: الفن.. والأسلوب.. إضافة لترسيخ مفهوم الصدق غير الملتبس في علاقته مع الواقع. وهذا كله لم يكن يناسب موهبة أخرى كانت تقترب من ذروتها، عند جواد سليم. لهذا غادر جواد جماعة الرواد، منشقا ً عنها، تاركا ً فائق حسن يعمل مع زملائه وطلابه. وكان الدروبي، قبل عقد، قد أسس المرسم الحر، ولا يرغب ـ هو البغدادي الأنيق ـ بالانظمام إلى جماعة (فائق) أو إلى جماعة (جواد).. فكان أن تبنى الرسم المباشر عن الطبيعة، تحت ولاء الانطباعية العام، ولكن، ليس تطبيقا ً لأساليب مونيه أو بيسارو أو رينوار. إن هذه الأسماء الفنية، مع أسماء أخرى مكثت تعمل بعيدا ً عن الجماعات الفنية، كانت تمتلك تطلعات لبلورة أهدافها الفنية، فلم تكتف بالمهارات الفنية، أو بدورها التربوي الفني، أو الاكتفاء بالحضور الفني.. وإنما راحت تبحث عن وسائل تتوازن وخطاب التحديث مع الجمهور.. وقد يكون للأثر الاجتماعي مغزاه في بناء الجماعات الفنية، كحماية أو توخيا ً للموقف الشرعي أو المعتدل بعيدا ً عن التعارض والرفض الاجتماعي.. فإذا كان جواد وفائق والدروبي أكثر انشغالا ً بالدوافع الفنية، بحسب النشاطات المعلنة، فان الفنان محمود صبري والفنان د. خالد الجادر على سبيل المثال، عملا على منح الفن دورا ً اكبر في العلاقة مع المجتمع وتحولاته الثقافية. كما ستشكل الجماعات الفنية الأخرى، التي ظهرت بعد ذلك بسنوات، تعزيزا ًلدور مؤسس الجماعة ورؤيته الفكرية والفنية. فجماعة البعد الواحد، سرعان ما حرص الفنان والباحث الأستاذ شاكر حسن أن منحها بعدا ً فكريا ً وفلسفيا ً وأسلوبيا ً تحت سياق: استلهام الحرف العربي.. كي يجد صلة ما بين التشكيل والحروف عبر الحقب والحضارات المختلفة وصولا ً إلى الحاضر. وجماعة [ الأكاديميون] 1971 هي الأخرى، ارتبطت بالفنان والباحث كاظم حيدر في بلورة جماعة لها أهدافها المحددة: بناء تقاليد أكاديمية بعيدا ً عن التجريب والأساليب الحديثة المتطرفة. وقد صاغ حيدر بيان الجماعة، بأسلوب وضح مغزى الفن الأكاديمي ودوره بين الأساليب المختلفة والمغايرة لشروط وقواعد الفن الأكاديمي. كما تأسست جماعة الواقعية الحديثة حمل أسماء : د. شمس الدين فارس/ د. عبد الرزاق علي جواد / محمد عارف /وإبراهيم الكمالي. وكان عدد من الفنانين قد أصدروا بيانات فنية توضيحا ً لرؤياهم الفنية منها : التجديد في الرسم الحديث لجواد سليم/ والبيان التأملي لشاكر حسن آل سعيد/ الفنان أمام التجربة لضياء العزاوي/ الدائرة لقتيبة الشيخ نوري/ الحدوث الفني ليحيى الشيخ . كما تأسست جماعة المجددين (1964)، وأعلنت عن بيان موجز، كتبه الشاعر مؤيد الراوي، تحدث فيه عن دور الحرية في الفن وعن الحداثة بعيدا عن الوصاية وشروط المؤسسات الحكومية.. إلى جانب ظهور جماعة [الرؤيا الجديدة] 1969الذي وقعه ستة فنانين يتحدثون فيه عن موقفهم من التراث والنضال والمعاصرة. والفنانون هم : هاشم سمرجي/ محمد مهر الدين /رافع الناصري/ صالح ألجميعي/ ضياء العزاوي/ إسماعيل فتاح. هذه الجماعات الفنية، الأكثر شهرة وتأثيرا ً في التشكيل العراقي الحديث، ارتبطت بمؤسسيها، فمن الصعب فصل دور المؤسس عن نشاطاتها الفنية أو التنظيرية. فحضورها طالما ارتبط بدينامية الفنان ـ المركز ـ الموجه لها. وهو الذي تطلب ظهور كتابات وبيانات وشروحات وجلسات نقدية أسهمت بمنحها علاقة مجاورة للحداثات الاخري في: الشعر والمسرح والسينما والرواية والقصة والنقد الحديث.. الخ: كتابات لم تكتف بالإيضاحات أو الإعلان، بل ثمة انشغالات فكرية وفلسفية دفعت بها إلى معالجة قضايا اشمل تخص مشكلات الفن الحديث والجمهور والنقد الفني من خلال قضايا العصر والذاكرة ومختلف الإشكاليات التقنية وغير ذلك. فظهور الكتابات لم يكن ترفا ً أو عملا ً فائضا ً أو زخرفيا ً، إن لم يكن مكملا ً لمغزى ظهور الجماعات الفنية، ومؤسسيها، والمنضوين تحت أهدافها أيضا ً. وقد جاءت هذه الكتابات كعلاقة حوار من قبل الفنانين نحو الجمهور .. ومن الجمهور نحو الفنانين.. وهي علاقة لا تنفصل عن دراسة مكونات ظاهرة التحديث وما رافقها من رؤى ومتغيرات ثقافية واجتماعية وفكرية. بيد أن ظهور عدد من الأسماء المشتغلة في الكتابة الفنية، وبما تتضمنه من نقد،والعاملين في التدوين التاريخي، هي الأخرى، عكست ظاهرة تبلور الجماعات: المركز والمحيط. فقد ظهرت أسماء كتبت في النقد منذ أربعينيات القرن الماضي ومارست عملها في الحقل النظري، كأسماء رائدة لها أفكارها ومؤيديها وأتباعها..فكان الأستاذ جبرا إبراهيم قد صاغ رؤية جماعة بغداد للفن الحديث.. كما منح الأستاذ شاكر حسن مشاريعه التنظيرية مساحة لم تؤثر في أساليب عشرات الفنانين فحسب، بل في طريقة التفكير وأساليب الكتابة. ومكث الأستاذ جميل حمودي يغذي مشروعه الأول : حوار الثقافات بتأسيس دار اينانا للفنون والثقافة. إن علاقة الكاتب بنصوصه، توضح مدى علاقته بالمجموعة التي صاغ رؤيتها، إلى جانب نزعته الذاتية وفلسفته الخاصة. فقد توقف محمود صبري عن الكتابة لأكثر من عقد كي يعلن بيانه الفني الخاص بـ [واقعية الكم] في عام1971 التي رافقها نقاش أسهمت فيه الكاتبة بديعة أمين بدراسة يأسف المتلقي أنها لم تضف ـ في الحقل الجمالي والنقدي ـ شيئا ً راقيا كالذي كتبته حول واقعية الكم، باستثناء كتبها في المجالات الأدبية والفكرية.. وبعد هذا البيان سيغادر الأستاذ محمود صبري العراق تاركا ً كتاباته وتجاربه الفنية علامة لجيل صاغ ذاكرة التشكيل الحديث في العراق. وثمة أسماء أخرى كالأستاذ عباس الصراف وعبد الله الخطيب، مكثت تعمل بعيدا ً عن الفعاليات الرسمية، وغير الرسمية، لا يمكن إلا أن تجد موقعها في الخراطة الثقافية ـ الفنية للتشكيل المعاصر في العراق. [6] أفكار وتطبيقات : ما الذي كانت ترغب أن تنجزه الكتابات الفنية، لدى الكتّاب ـ الفنانين، وهل كانت صادرة بفعل المنجز الفنين، أم، بشكل أو آخر، عن أفكار نظرية.. ما هي هذه الأفكار، ضمن هذه الحلقة : التجارب العملية ـ الكتابات حول الفن ـ والجمهور..؟ لم تفلح مديرية الفنون التشكيلية، أو أية جهة في وزارة الثقافة، أو في المعاهد والكليات الفنية، في تأسيس أرشيف أو خزانة لجمع الوثائق، تلقي الضوء على النشاطات والفعاليات الفنية.. فانا لا أعرف ما الانطباع الذي تركه المعرض الصناعي الزراعي (1931).. وما هو الأثر الذي أحدثه المعرض الشخصي الأول للفنان حافظ ألدروبي (1936) في الوسط الاجتماعي أو عند النخبة ..؟ إننا سنعتمد على انطباعات غير دقيقة تجعلنا، بعد سبعة عقود، ندرك المسافة القائمة بين النشاط الفني، وهذا الجمهور. فالفئات المتعلمة، وبضمنها النخب الثقافية، ستشكل هذا الجمهور..دون أن نغفل المتابعين من الأجانب طبعاً ودورهم في هذه المعادلة.. كما لا نتجاهل دور الصحافة، وقد أصبحت جزءا ً من عادات فئات محددة من المجتمع العراقي والبغدادي على نحو خاص.. وظهور إشارات وتعليقات فنية في هذه الصحافة. لقد كان الكتاب يسهمون بموضوعات الفنون الحديثة، كما في انشغالاتهم بالتحديثات الأخرى؛ كوجود ظواهر الهاتف والمواصلات الحديثة وموضوعات المرأة والمساواة ودور الجامعة والإذاعة والأزياء.. الخ وقد ظهر اثر ذلك في قصائد بعض شعراء العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي، وظهور تجارب فنية غريبة تحدث للمرة الأولى في الوسط الاجتماعي البغدادي : إنها كتابات تعريفية، تلفت النظر إلى مصادرها ومراجعها بالدرجة الأساس، وقد لا تخلوا من السخرية والغرائبية والفضول. ولكننا لا نمتلك أرشيفا ً لهذه الموضوعات إلا بصور متفرقة وغير كاملة، كي يساعدنا على دراسة أدق التفاصيل التي رافقت التدشينات المبكرة، واثر الأشكال والألوان والموضوعات في ذائقة الجمهور.. وما الذي لفت نظره، وما الذي أدهشه، وما الذي استنكره..؟ لكن المعارض الفنية، التي رافقت المتغيرات والفعاليات التحديثية، وجدت صداها في الصحافة . كالمعرض الصناعي الزراعي، الذي شارك فيه فتحي صفوت وحاز على الجائزة الأولى فيه..وجواد سليم على الجائزة الثانية مثلاً. وبمواصلة هذه المعارض، كانت الكتابات الفنية تستند إلى التجارب الفنية كأحداث غريبة وجديدة، تتجاوز مهمة الوصف والتعريف إلى مهمة التعليق الذي لا يخلو من النقد. فعندما كان يتم رسم الطبيعة، حتى منتصف الأربعينيات، نبه عدد من الفنانين الأجانب ـ البولونيون الذي كانوا فارين من الحرب ـ بضرورة الرسم بعيون ( عراقية) .. كما قال لي الفنان حافظ ألدروبي ذات مرة. انه نقد مبكر تبلورت عبره أفكار حول الهوية: الأسلوب والتقنية والجمهور. إن معادلة الفنان ـ الكاتب، ستجد تعديلا ً في : الكاتب ـ الفنان، الذي سيتولى مهمات الكتابة حول الفن الحديث .. حيث ستصدر مجلة خاصة بالفكر الحديث، يشرف عليها الأستاذ جميل حمودي.ز وسيكتب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا مقالات تعريفية ونقدية يتحدث فيها عن مكانة الذاكرة.. والحضارة العربية.. وحوار الثقافات . وسيسهم الأستاذ محمود صبري بتدشينات قائمة على قراءة الكتابات وأراء الفنانين واثر الملحقيات الثقافية الأجنبية في ظواهر استلهام الموضوعات الحديثة، وموضوعات الموروث الشعبي، بصفتها فعاليات سياحية ودعائية مكرسة للمشاهد الأجنبي، ونقدها، برؤية تجاوزت الانطباع، والرأي الشخصي، نحو مفاهيم تذكر بمكانة الفن في الحضارة، ودوره غير التعليمي المباشر، نحو التأمل، والواقعية النقدية، والتعبيرية الحديثة. كما نجد ذلك في أفكار جواد سليم وحواراته. إننا نلحظ نمو غير غامض لتبلور أفكار حول المدارس الفنية، والأساليب، وحول فلسفات الفن، والبحث عن توازنات تفضي إلى الوعي بدور الفن الحديث وثوراته المتنوعة. إن ظهور هذه الأفكار والتبشير بعدد من الاتجاهات والأساليب الفنية، على الصعيد الثقافي العربي، كإسهامات مجلة ( الآداب) منذ تأسيسها، أعطى أهمية خاصة للمنجز الفني، العراقي، أسوة بما كان يحدث في مصر وبلاد الشام.. وأثر ذلك في التجارب الفنية. فلم تعد الظاهرة الفنية منفصلة عن دور المراقب، أي المتلقي، وموقفه منها. فالأفكار النقدية وجدت طريقها إلى الكتابات الفنية. فكانت الكتابات تؤشر سلبية استنساخ أشكال الموروث القديم أو العربي الإسلامي، مثلما كانت صريحة إزاء استنساخ التجارب الأوربية وتقليد أنظمتها. مما جعل الرؤية النقدية أوضح بضرورة توظيف خبرة الفنان مع التزام الصدق الفني في اختيار الاتجاهات والتطبيقات الأسلوبية المتوازنة. إن هذه العلاقة بين الكاتب والفنان والجمهور الوليد، شكلت حضورها في الوسط الاجتماعي ـ الثقافي، الرسمي والشعبي. فقد تجاوزت الكتابة دور (المتابع) أو المواكب للحدث الفني، نحو أفكار تمت صياغتها بمقتربات من النص الحديث: جواد سليم في بحثه عن إنباتات لفن لا تغيب ذاكرته أو تنقطع جذوره عن لغة توازي وقائع ومتغيرات ما يجري في الحداثات العالمية[ مدرسة باريس/ أو التعبيرية الألمانية/أو الواقعية في البلدان الاشتراكية..الخ ] أي دعوة جواد سليم بتشابكاتها لضرب من التوازن، بين الموروثات والمعاصرة، وبين الجانب النظري والعملي. بيد انه برهن أن المنجز الفني ينتظر الكثير من الوعي الفلسفي والفكري كي يمتلك قدرة أعمق في صقل الرهافة أو الموهبة. فإشاراته الفلسفية والثقافية والفنية تلفت النظر إلى التوازن بين التجربة المعرفية والتجربة في التطبيق. فليس المهم رسم تفاحة وكتابة (تفاحة) عنوانا ً لها كي لا يبقى المتلقي حائرا ً في تأويل النص الفني! بل المهم التعرف على لغة ترتقي بالتجربة الفنية كتجربة وجدانية تتطلب معرفة وخبرة وحساسية.. ومازالت كلمات جواد سليم، إبان افتتاح احد معارض جماعة بغداد للفن الحديث، وهو يدافع عن [ الفن الحديث] بصفته ليس عملا ً تجسسيا ً يخدم أهداف (الإمبريالية) ، ترن، وهو يدرك اتساع الهوة بين الفنان والمتلقي الذي ينتظر منجزات فنية خالية من الأسئلة والإشكاليات والمغامرة. وفي السياق نفسه، كانت أفكار عطا صبري، وإسماعيل الشيخلي، ونوري الراوي، وجميل حمودي، لا تنفصل عن الاختلاف الحاصل في الأساليب،والمعالجات. فقد أصبحت التجارب الفنية، المميزة منها، تمتلك بناءات لها أنساقها الأدائية وتشفيراتها الرمزية .. ولها تميزها ببحثها المستند إلى أفكار فلسفية وجمالية توسع من مفهوم التجريب ورصانته في النتائج. وهنا تظهر تجربة الأستاذ شاكر حسن، قبل ـ وبعد ـ ذهابه إلى فرنسا، بصلتها بما كان يحصل من تحولات واستجابات ومغامرات نظرية وحدسية وفنية حداثية. فقد تميزت كتاباته بدوافع ذاتية تجريبية لا يغيب عنها قلقه كفنان مكث يعمل على إكمال مشروع جماعة بغداد للفن الحديث من جهة، ولبناء خصائص إضافية تستلهم الموروث الخاص بالتصوف العربي وتخليه عن التشخيص وانحيازه نحو رؤية تمتزج فيها مهاراته الفنية وأبحاثه النظرية والفكرية والجمالية من جهة ثانية. فالمنجز الكتابي عنده، باتساعه، وتنوعه على مدى نصف قرن، يصوّر بعمق وتداخل مدى الاشتباكات الحاصلة داخل نصوصه ذاتها.. فهو فنان لم يعمل على دحض الاتجاهات الأخرى.. ويظهر ذلك مع نصوصه المرافقة لمعارض الآخرين، وإنما في بحثه عن لحظة ـ تتناص وتنصص ـ وتتكامل فيها الدوافع والأزمنة حد الذروة: انه، هنا، يرسم نموذجا ً للكاتب ألتنظيري والفنان والمحاور والمجادل والمحاضر والمعلم داخل شخصية متوقدة، فجأة، انسحبت عن الوسط الفني والثقافيـ والاجتماعي ـ وفضلت الرحيل بعد أن ترك تراثا ً هو احد أسس الخطاب الحداثوي للتشكيل في العراق. إلى جانب هذه الكتابات.. ستظهر أفكار وأراء مختلفة، جاءت بعد ظهور جيل [ الستينيات ] من لدن كتاب وشعراء وأدباء، هي الأخرى، بانتظار أن تأخذ مكانها في الذاكرة، لا كمعلومات وأكوام وثائق فائضة لا تستحق العناية، بل كعلامات تأسست ضمن اتساع خارطة علاقة المتلقي بظاهرة الفن الحديث .. وهي أسماء مازالت، عربيا ً وضمن الثقافة العالمية، تسهم بدورها النقدي في حقل الفنون والجماليات. [7] البيانات الفنية: حتّم التنوع الأسلوبي، منذ ظهرت، في نهاية القرن التاسع عشر، أولى وأقدم التجارب الواقعية التسجيلية لعدد من الضباط العراقيين الهواة؛ وهي لا تقارن بمثيلاتها في استانبول، حيث الحداثة في الفن التركي، كانت على معرفة بما كان يحصل في أوربا، حتمت هذه الواقعية التسجيلية، لظهور تجارب مماثلة وأخرى مغايرة لها. وبعد تأسيس فرعي الرسم والنحت في معهد الفنون الجميلة ببغداد (1939 ـ 1940) وظهور الجماعات الفنية، غدا الاختلاف الأسلوبي للجماعات أكثر حاجة للإعلان عن نفسه عبر البيانات. فقد كان لهذا التنوع في الرؤية، والموهبة، والأسلوب، أثره في النتائج الفنية. وقبل أن تكتسب هذه البيانات موقعها في الوسط الفني، وفي الذاكرة التشكيلية، بما تمتلكه من وضوح وتحديد للأهداف، كان للبيانات الأوربية أثره في إصدارها.. فلم يسبق أن صدر أي بيان فني يعلن عن رؤية فكرية أو جماليه أو أسلوبية قبل انتصاف القرن الماضي في بغداد، أو كما حصل في الحركة التشكيلية في مصر منذ تأسست كلية الفنون الجميلة (1908) وأصدرت بعض الجماعات سلسلة من البيانات الفنية المماثلة للبيانات التي كانت تصدر في أوربا. كانت بيانات الجماعات الفنية الأولى،: الرواد/ بغداد للفن الحديث/ الانطباعيون العراقيون، لا تتضمن إشكاليات تذكر. فقد كانت قد كتبت بوضوح يحدد أهداف الجماعة ورؤيتها للفن الحديث. لكن هذا لا يلغي أنها كانت، ضمنا ً، قد جاءت لتدافع عن وجودها ومشروعها الفني ـ ألتحديثي. فكانت جماعة بغداد للفن الحديث، الرائدة في هذا المجال. فوجود الروائي والشاعر والمترجم جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن الذي سبق له ونشر مقالات أدبية وفنية، والقاص نزار سليم، فضلا ًعن قدرات جواد سليم في صياغة الكتابة وتميزها بموهبة كانت جزءا ً من شخصيته المميزة.. وعمليا ًفان إصدار البيانات، بما تضمنت من أفكار وأهداف، منح المشروع الفني ـ الجمالي، أبعاده الاجتماعية والثقافية. فالفن لم يعد منفصلا ًعن السياق ألتحديثي للواقع العراقي بعد الاحتلال البريطاني ، وتشكل السستم[ النظام] الخاص بالحكومات العراقية إبان العهد الملكي. فضلا ً عن تحديد أهمية الاختلافات في التفكير وفي المعالجات الفنية .. فقد ظهرت، بعد عقد، بيانات أخرى، أكثر صلة بالتجارب التي فرضت حضورها، وبالمدارس الفنية العالمية، وبالواقع الاجتماعي ـ والثقافي..فالبيانات التي رافقت معارض جماعة المجددين وجماعة الرؤيا الجديدة وابعد الواحد والواقعية الحديثة وجماعة الاكاديمين العراقيين، على سبيل المثال،لفتت النظر لوجود تيارات ترسّخت في واقع الحركة التشكيلية العراقية، وكسبت جمهورا اكبر، إلى جانب الاعتراف الرسمي من قبل الجهات الحكومية. وبحسب إطلاعي، لم تجر دراسة متخصصة وشاملة وميدانية لنصوص هذه البيانات: من كتبها .. وماذا تضمنت.. وكيف كتبت.. وما أثرها في الاتجاهات والأساليب الفنية..؟ كما حصل واثر البيان الشعري (1969) الذي كتبه فاضل العزاوي ووقعه ثلاثة شعراء، على سبيل المثال، حيث أثار ضجة جدلية مازالت، بعد ثلاثة عقود، يلفت النظر لدور البيان وأهميته في صياغة الأفكار وإثارة قضايا [ الحداثة] على صعيد الفلسفة والتنظير الفكري والشعري. ولعل الاستثناء الوحيد في غياب اثر هذه البيانات وما تضمنته، دينامية الأستاذ شاكر حسن وغزارته وتوقده في إدارة معالم التيارات الحديثة وما بعدها في التشكيل العراقي. أي تميزه بالمتابعة حد المغامرة والبحث عن علاقات تقاوم النزوات والانشغالات غير الفنية. فالأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بعد كتابته مقالات ودراسات وبيان جماعة بغداد الثاني، انحاز إلى الأدب والترجمة. وجميل حمودي لم يصدر شيئا ً يذكر بعد أن توقفت مجلة الفكر الحديث، ومجلة (اشتار) حتى رحيله(2003). ومحمود صبري، بعد بيان واقعية الكم(1971)، هو الآخر، سيغيب عن الحركة الفنية العراقية. وفي هذا السياق، لم تتوقف الجماعات الخمسينية الثلاث عن العرض،لأسباب لا تتعلق بأهداف الجماعة الفنية، بل بعادات العرض السنوي. فما الذي يمكن تأشيره بعد معارضها الأولى، على صعيد العلاقة بين البيان أو الجانب النظري وبين التطبيقات العملية أو الأسلوبية..؟! بينما اكتفت معظم الجماعات بمعرضها الأول، وببيانها المرافق له : الأكاديميون/ الواقعية الحديثة/ والزاوية. [8] مذكرات : قد تكون هناك، عدا يوميات جواد سليم، التي نشر بعض صفحاتها الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، يوميات تنتظر البحث، كي تأخذ طريقها إلى النشر. ولكننا ـ لا سباب لا تحصى ـ نجهل الكثير الخاص بالحياة الشخصية للرواد. لقد قال لي فائق حسن، في حوار منشور، حول عدم تدوينه ليومياته أو مذكراته، انه لم يكن يمتلك الوقت. ومع صدق الإجابة، فان معظم رواد هذا الجيل، كانوا قد كرسوا حياتهم لفنهم، بالدرجة الأولى. والاستثناءات، كما في تجارب جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، ونزار سليم، ود.خالد الجادر.. ليست بلا فائدة. إن يوميات جواد سليم ـ ونأمل أن تنشر كاملة في يوم ما من الأيام ـ تحررنا من عقدة [الكتمان] . فجواد سليم لم يغفل، في يومياته، قضايا الفن، والثقافة، والانشغالات الشخصية، أو علاقاته الغرامية، أو مواقفه من المتغيرات الدولية والوطنية.. لقد كتب، بضرب من الإخلاص المماثل لرغبته في الرسم والنحت أو حبه للموسيقى. فالكتابة كانت ـ عنده ـ مكملة لدوافعه الإبداعية ولشخصيته معاً. على إننا، في تحليل الأساليب والرموز، والاشتغال على تفكيك تشفيراتها، سنجد، في كثير من النصوص، اعترافات شخصية، ذات أهمية نادرة. فالنزعة الذاتية، حتى في كتابة أكثر الموضوعات حيادا ً، تلقي الضوء على مخفيات الذات ودوافعها. ففي الأسرار غير المعلنة قد يجد الباحث كل الذي خبأه الكاتب فيها. فالمجهولات التي ذهبت مع رحيل معظم روادنا الكبار، لم يستطع الموت أن يأخذ تلك التي مكثت وراء الكلمات والمذكرات والاعترافات التقليدية، كما في مذكرات سليم. فالنصوص الكتابية، في تفكيكها وتحليلها المعاصرين، تمتلك نظاما ً يزاوج بين العلامات ومحركاتها: بين المخفي في الظاهر .. وبين الظاهر المخفي في النص. فالأثر يبقى يواصل بحثه عن آخر يمتلك وسائله في فك التشفيرات والعلامات بدراسة أنظمتها مهما كانت منغلقة أو عملت على الكتمان. وهنا تظهر مهمة الباحث، كما في الحفريات الآثارية، والمعرفية، في الكشف عن صمت النص، لا على مستوى التأويل فحسب، بل على صعيد فحص المترابطات والعلاقات الخاصة ببنيوية النص وأهدافه الداخلية: الإرسال غير المعلن، وغير المقصود البوح به. فلماذا لم تظهر، على مدى القرن الماضي، إلا صفحات نادرة، وناقصة..؟ هل بسبب غياب هذا التقليد.. هل بسبب الحذر الاجتماعي .. هل لغياب التأمل الذاتي.. هل بسبب فقر الجانب الأدبي ـ الكتابي..أم .. لهذه الأسباب مجتمعة، مع الاحتفاظ بنظام [الكتمان] والسلامة...؟! أيا ً كانت الأسباب، فإننا إزاء خسارة لا تدفع بالبحث الفني نحو ذروته. فإذا كان موت المؤلف ـ الكاتب ـ الفنان، لا يضعف النص الفني، كما في درجة صفر الفن ـ درجة صفر الكتابة ـ فان ثمة نقادا ، لا يعممون هذا المنهج. فالكلام الخاص ـالمدوّن ـ في شتى القضايا، وفي مقدمتها التي تبدو عابرة، ويومية، وغير ذات قيمة، ستشكل، في التحليل وفي التفكيك، اضاءات تخص العلاقة بين المؤلف ـ الفنان ـ ونصه. فيوميات جواد سليم، لا تلقي الضوء على [زمن] الريادة.. أو حياته فيها.. وخصائص شخصيته فحسب، بل تبقى إبداعا ً مستقلا ً ينقلنا إلى وجدان جواد سليم وكيف كان يتفاعل، ويفكر، في شتى قضايا الفن والحياة. إن وجود هذه الصفحات، هنا، تتوخى أن تكون محفزا ً للعثور على أوراق أدبية مماثلة لجيل الرواد، لتأخذ طريقها إلى النشر، وفي الوقت نفسه، تغدو طريقا ً لتقاليد مكثت محدودة أو شبه غائبة. [9] حوارات: قبل أن تتحول نصوص المحاورات، مع أقطاب الريادة في التشكيل الحديث في العراق، إلى مادة تاريخية، وذات صلة بما غدا حدا ً فاصلا ًبين حقبتين، حقبة ما قبل التحديث، الذي تبلورت بفعل الحضور الأوربي، لا فكراً وثقافة، بل احتلالاً بحسب القوانين والأعراف الدولية، وحقبة أعقبت ذلك. وقبل التوقف عند هذه النصوص، بصفتها مازالت تمتلك ما تريد أن تقول، نتلمس، بجلاء، الفارق الكبير بين أحاديث جيل الرواد، والسمات السلوكية والثقافية والأخلاقية للأجيال التالية. إنها مسافة تظهر الفارق بين جيل لم يتصدع بعد .. ولم يخضع لأنظمة المنافسة، والتحديق في المجهول، وأجيال ولدت في عمق التحولات والتصدعات المختلفة. فالمجتمع العراقي ـ والبغدادي على وجه التحديد ـ لم يكن مفتتنا ً كثيرا ً بالتحديثات كاستبدال رؤيته للوجود، بل تعديلها، وإضافات لا تتنافى مع معتقداته في رؤية الحياة، وليس تدميرها. فلم تظهر، في الحوارات، آراء صريحة تمتلك رؤية ما جرى، ويجري، إلا كانعكاسات ظهرت عبر التجارب الفنية. كانت أحاديثهم، وإن اختلفت جذريا ً عن حوارات وأراء وأفكار وسلوكيات وأخلاقيات الرعيل الأول، توضح مدى تمسكهم بكياناتهم كأفراد أو كمجموعات غير منخلعة عن الذاكرة، أو عن صياغة الخطاب الحديث. فلم تكن نصوصهم منشغلة بما كان يحدث في أوربا، إلا بما شكل تقنية بناء، وتحديثات على صعيد التكنيك، والتصميم. كذلك ستشكل أحاديثهم، وكأنها، في الغالب، شفوية، قام المحاور، بتعديلها وصياغتها كنصوص أدبية أو صالحة للنشر! هل ثمة خيانة في الأمر..؟ لقد تحدث الشاعر والرسام شفيق الكمالي، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما تعرض فنان شاب متهما ًالنقاد بالتقصير، فقال انه لولا النقاد و( المشتغلين في الكتابة والصحافة) من كان سيؤدي هذا الدور الذي ظهرت عليه الحركة التشكيلية..؟ إن الكمالي لم يقصد، في دفاعه عن النقاد والمشتغلين في الصحافة، إبداعات الرواد، بل قصد الإشارة للجهود التي بذلت في صياغة ما تم إنجازه، وضمنا ً، الحوارات التي رسخّت خطابهم المعرفي والتاريخي والنقدي. وفي هذا السياق لم نجد من يدعي مهارات لا يمتلكها، لا كاظم حيدر ولا حافظ ألدروبي ولا فرج عبو ولا فائق حسن.. فقد أسهم الكتاب، والمشتغلين في الصحافة والأدب، بصياغة أراء وأفكار عدد من الفنانين الرواد، ضمن تعديلات مناسبة تحافظ على سلامة الأسلوب وليس غير ذلك. وهنا اذكر، للمرة الأولى، الحادث التالي: طلب الأستاذ فائق حسن مني، في عام 1972أو 1973 الرد على أسئلة وجهها احد الصحفيين أو الباحثين له. فلم اصدق..أو .. دهشت. فسالت الأستاذ فائق: كيف افعل ذلك..؟ فقال ببساطة : أنت تعرفني بصورة جيدة.. ربما .. أفضل من معرفتي لنفسي!! إنها ليست مفارقة، ولكنها، في سياقها، كانت تروي حكاية جيل لم يكن يتخبط في التباهي والتعالي المزيف، أو بمحاكاة حد الاستنساخ. وفي مثال آخر نتلمس أي أهمية لمثل هذه الحوارات. ففي حوار أجراه شاكر حسن مع الفنان منعم فرات، قدم لنا وثيقة لا يمكن الاستغناء عنها. ولعل الأستاذ شاكر حسن، كما أشرت، عمل على تأسيس أرشيف تتكامل عناصره، وبضمنها، أجراء تسجيلات صوته[ ! ـ فقد كانت تخصيصات دائرة الفنون لا تكفي لمثل هذا المشروع ألتوثيقي !! الذي لا يكلف شيئا ً يذكر] ولا اعرف هل دمرت هذه الوثائق، ضمن الدمار الذي شمل السبعة آلاف عمل فني التي نهبت أو أحرقت، أو بيعت وتوزعت في مختلف البلدان. ففي هذه الوثائق، إضاءات يصعب إهمالها، كما جرت دعوة بإهمال تراث جيل الرواد..! لأن منجزات هذا الجيل لم تعد تواكب العالم الجديد، بعد الاحتلال. وعلى العكس من نزعة الإلغاء، والتدمير، والإغفال، كانت أحاديث جيل الرواد، تتمتع بصفاء، وبساطة حد البدائية[ من ذا لم يشتق إلها ؟!] وعمق يخلو من تكديس المصطلحات غير المعرّبة جيدا ً.. والمبهمة. وفي ذات الوقت تتمتع بنزعة فردية عزز حضورها النسق الجمعي، الذي لم يتعرض للتفكيك، والتقويض الذي لم يأت بأي بديل [تحديثي] كالذي أنجزه هؤلاء الرواد في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته. إن السؤال ما إذا كانت ثمة فائدة من جمع عدد من هذه الحوارات، وإعادة نشرها... بل السؤال كيف ستتحول الآراء والأفكار والرموز والإشارات الواردة فيها إلى مصادر ومراجع ـ القديمة منها والحديثة ـ مفيدة لا في فهم أدق ـ بفعل المسافة والمناهج الأكثر حداثة، فضلا ً عن تكامل الرؤية ـ لردود الأفعال أمام تيارات الحداثة ومدارس الفن وأنظمة التحديث فحسب، بل كيف سنعالج الإجابات في حقبة تالية تتميز بعشوائيتها وتجريبيتها والتباساتها، وما إذا كان لحكمة [الماضي] إسهامات يعوّل عليها في هذه البناءات..؟ إن أحاديث هؤلاء الرواد، لا تتميز بثوابت نصوص راسخة أو مقدسة، أو انها مجهولة تماما ً.. وإنما لأن إعادة فحص هذه الحوارات لغة وأفكارا ً لأساتذة كرسوا حياتهم لبناء تجارب فنية تفتخر بها المتاحف، كالمتحف العربي للفن الحديث في قطر.. ومتاحف أخرى في مصر والأردن وسورية، وفي عدد من المتاحف العالمية أيضا ً.. كي تشكل هذه التجارب الرائدة، صلة فنية، وتاريخية، بالتجارب الفنية في البلاد العربية، من ناحية، وموقعها في تاريخ التشكيل العراقي المعاصر من ناحية ثانية. فهي أحاديث تتجاوز مفهوم [الوثيقة] المحض، نحو لفت النظر إلى كل الذي يجدر أن يأخذ موقعه في بناء تجارب تتوازن فيها عناصر الصدق والحداثة: فالتقنيات ليست فلسفة، مع انها، لا تعزل عن البناء الجمالي والأخلاقي لعالم تكوّنه ثقافاته وصداماته وحواراته أيضا ً، وإنما التقنية، مرة بعد مرة، تخفي الذي مازال يمتلك عناد تكوّنه ليس بصفتها محض أداة ـ كالكلام الذي نتكلمه وليس كالذي ندوّنه ـ تزداد أهمية طالما أن الذي لم ينجز، في الإرث القديم، والحديث، مازال يشكل محفزا ً لتجارب فنية تتكامل فيها معايير الحكمة، والخبرة، وكل الذي لا يقلب الأمل إلى خداع أو إلى جحيم. [10] النقد ـ مقتربات: بعد إلغاء، بإجحاف ولأسباب شخصية، رابطة نقاد الفن في العراق(1989) وبعد رحيل رئيسها الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، جرت محاولات لإعادة تشكيلها: محاولات لم تسفر إلا عن تأجيلات متواصلة، انتهت أن يقوم الفنان نوري الراوي برئاستها. لكن الرابطة النقدية، عملياً، وبعد عام 1990، بدا عملها كالعمل المؤسساتي ـ الجمعي كما ظهر في خمسينيات القرن الماضي ـ ضربا ً من الخرافة..! فالسنوات المتعاقبة، برهنت، أن الوسط الفني ـ وبضمنه الثقافي ـ يتعرض للتهميش، فضلا عن البنية الانشطارية التي منحت التفكيك دافعا ًللعمل المثمر أو الموضوعي. فبعد رحيل عدد من أعضاء الرابطة، وسفر البعض الآخر، غدا التفكير في وجود رابطة أو جمعية أو جماعة مستحيلا ً. لكن وجود الرابطة رسميا، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم يتشكل إلا كامتداد للنزعة الجمعية الخمسينية لمرحلة الريادة. وبدراسة المتغيرات، والتصدع المتواصل للواقع الاجتماعي، وتفكك مؤسساته، وتعرضها للإهمال بعد التخريب الذي أصابها، بعد الاحتلال، غدا المشروع النقدي، حلما أو وهماً. فعلى العكس من الإشاعات حول مفاهيم الحرية والديمقراطية والشفافية التي نثرها البعض كرذاذ بارد، تقلص دور الفن ، والنقد التشكيلي، كي ينتظر مرحلة عودة الاستقرار والأمن، لمعرفة ما الذي يمكن عمله، بعد الهزات الزلزالية التي ضربت الواقع برمته. فهل ستشكل هذه النصوص، بطابعها الوثائقي، وما تتضمنه من أبعاد نقدية، مشروعا ً استفزازيا ً لا للتعرف على اضاءات متفرقة صاغت خارطة فنية لها مكانتها بين الحركات التشكيلية العربية فحسب، بل للشروع بمبادرات تجعل من [النقد] مشروعا لا يرتد بنا إلى عصر ما قبل الكتابة، أو عصر ما قبل السيطرة على النار..؟! فمنذ فاتحة القرن الحادي والعشرين، وحتى عام (2006) لا تبدو الكتابات والدراسات والانشغالات بالنقد أكثر من جهود فردية، داخل الوطن أو خارجه. فغياب المؤسسة ـ المكان والشخصيات ووسائل التحديث ـ تجعل الاسترجاعات ليست عديمة النفع، إن لم تحفزنا لعمل شيء ما يقربنا من عصر تموت فيه[ الكيانات] قبل أن تولد. [11] الذات ـ المشروع: كيف يتسنى للمؤرخ ـ الناقد ـ عزل النص ـ النظري أو العملي ـ عن سياقه الذي شكله ومنحه سماته الخاصة، مع انه، أي النص، له حدوده وسماته غير القابلة للمماثلة أو البتر..؟ فثمة : 1 ـ العوامل المتشابكة، والمتداخلة ، التي عملت على وجوده: 2 ـ عوامل الموروثات، والدوافع المستحدثة، وآليات الصياغة، انطلاقا ً من محرك ما .. كالمشروع ألتحديثي ـ الذي جاء في أعقاب تفكك السستم [العثماني] لـ [حقبة] زاخرة بالمتغيرات والتحولات: 3 ـ أدت، في جانب من جوانبها لظهور نزعات فردية تأخذ دورها في مشروع مغاير لنظام مختلف، في المعتقد، وفي التقنيات، وفي النتائج. 4 ـ وكان الخطاب الثقافي ـ الفني، احد تلك الأشكال المستحدثة، ضمن المتغيرات الحاصلة في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية. 5 ـ ومع مظاهر الفن بنزعاته الغربية، ظهرت المفاهيم النظرية، داخل الخطاب الثقافي العام. فكانت الكتابات المبكرة، تتكون كتدشينات لهذا المشروع. وأيا ً كانت الدوافع، فان المحركات العامة، منحت الأفراد حريات لم تكن منجزة في أي زمن سابق: حريات صياغة الخطاب بسماته وأهدافه الجديدة. 6 ـ فظهرت، بعد التجارب الفنية، كتابات مجاورة، ومرافقة، وساندة لهذا الخطاب في سماته المتداخلة. فكما تنوعت الاتجاهات والأساليب الفنية، ثمة، اختلافات ظهرت على صعيد الخطاب الثقافي ـ الفني: اتجاهات شكلت [ الحداثة ] غطاء ً ومحركا ً لها. فقد شهد الواقع الاجتماعي ـ الثقافي صدمات متعاقبة لتيارات أوربية كانت تبحث عن ارض [بنية] جديدة تنبت فيها: فغياب المؤسسات، بالمعنى الحديث، مع تناقضات التحدي بين حداثات أوربا الصناعية، ومشروعها التوسعي( الاستعماري) ، وثقافات مازالت تجاور واقعها الاقتصادي ـ الاجتماعي المحتضر، أدى إلى ـ كما في تصادمات لا تحصى مماثلة ـ ضرب من الاستجابة، وضرب من التحدي، وضرب ثالث راحت معلمه تتشكل عبر التوازنات، بين المفاهيم التحديثية، التي شكلتها فلسفاتها وتقنياتها واقتصادياتها وثقافاتها، وثقافة لا تمتلك إلا ذكرى عصور غابرة: توازنات لم تستغن عن التقنيات الحديثة، ومعالجاتها بأساليب لا تتقاطع ، إلى حد بعيد، مع الثوابت والموروثات والعادات الراسخة. 7 ـ وقد أدى التصادم ـ والحوار ـ إلى ذات المشروع الأوربي العائد إلى عصر النهضة، قبل خمسة قرون: التوازن .. ولكن .. في مغادرة عتبات الماضي وحلقاته المنغلقة. فصاغ الرأي العام ـ والفني هنا، مشروع : التراث ـ والمعاصرة. 8 ـ ولم يفقد هذا المشرع تطبيقاته التجريبية، حتى بعد رحيل رواده، في الفن، أو في حقل الكتابة في المجال التشكيلي والجمالي. بيد أن معادلة [ ـ: الذاكرة ـ الموروث / المخيال ـ المعاصرة]، لم يفقد قوته الإيحائية، بالرغم من أن أوربا في مؤثراتها نحو العالم، قد شهدت، هي ذاتها، متغيرات عملية ونظرية.. لكن المعادلة مازالت تعالج بطرق متباينة، إلى جانب الانفتاح على مختلف الثقافات والفنون. 9 ـ هذه النصوص في مجال الكتابة التشكيلية ـ الجمالية، لا تخفي أشياء كثيرة، هي وليدة واقعها التاريخي,, وهي توضح ـ تاريخيا ً ـ إنها عملت على تلمس حضورها المهدد بالذوبان، والغياب. إن حقيقة ليست سارة، في التحولات، توضح أن عوامل الإنبات، قد جاءت استجابة للأخر. وقد أضاء أرنولد توينبي مشروع : التحدي والاستجابة، بصفته احد قوانين الحضارات. بيد أن هذه الاستجابة، لم تتخل عن خصائصها وسماتها في عمليات الإنبات: فالهوية، مكثت تشتغل كشعار محرك لحدود الخطاب، وأصالته. ولم تكن المهمة يسيرة؛ المهمة التي جرت عبر قرن من الزمان، خاصة، أن رواد التحديث الفني ـ في العراق وفي الوطن العربي، كانوا يدركون عميقا ً أن خطابهم، لا يمكن أن ينبت، خارج مجموع عوامل الإنبات. 10 ـ فكم كان من الصعب، على هؤلاء الموهوبين، بله الحالمين حد الاستحالة، بصياغة لغتهم الجديدة ـ المعاصرة، في استيعاب علامات ( غريبة) لم تنتجها إلا قرون من البحث العلمي، والفسلفي، وقرون من التصادم، بصياغة معنى ما لعالم تأسس بعد القرون الوسطى: مفاهيم أوربية كانت تتسلل، إلى كيانات حضارية مكثت تقاوم موتها، لقرون طويلة، كاستيعاب حقيقة المدارس التي كانت تجد صعوبات إنباتية في أرضها من ناحية، ثم أن الاتجاهات والمدارس والأساليب الحديثة التي هي غريبة أصلا ً، كانت تأتي ـ كما تستورد السلع ـ متأخرة، ومتأخرة كثيرا ً، وبتمهيدات طالما جعلتها ـ كالسلع ـ غريبة، وكأنها، في هذا السياق، مكثت في السطح، وهي تؤدي دورها الاستهلاكي ليس إلا .. من ناحية ثانية. 11 ـ بيد أن استذكارا ً للفقرة[1] يفسر سياقا ً لم يغفله هؤلاء الرواد، في الفن، كما في المشروعات الكتابية، إلا ـ هو ـ أن الفنون ـ حتى في حداثتها ـ كانت تنتمي إلى ذاكرة تسبق عصر التدوين، في جذور الحضارة العربية، إلى جانب اثر الحضارات الشرقية، المجاورة أو البعيدة. وكان وعي عدد من الرواد، قد لمح هذه الإضاءة، ولفت النظر إلى أن الفنون، في الماضي، وفي الحاضر، تتمتع بأنظمة بنائية مشتركة، ومتجاورة، وانها ذات أهداف تدفع بالحوار إلى موقعه الحضاري النبيل. فالنصوص ـ النظرية والعملية ـ في سياقها هذا، لم تلغ العوامل الذاتية ـ للفنان والمجتمع ـ في الإنبات: الأصالة والارتقاء بالخطاب نحو حداثته ـ وعالميته. فبنية النصوص لم تكن، بعد مرحلة التأسيس، محض أصداء لحداثات أوربية.. بل راحت، بصعوبات، لا تفصح عنها ـ كتابات هذا الكتاب ـ فحسب، بل تجعلها غير غائبة عن أي مشروع يتطلب عوامل الإنبات، كتضافر هذه العوامل، وفي مقدمتها دور المخيال، وأسسه العلمية، والمنطقية، لا في تحدي عوامل الإحباط، والارتداد فقط، بل في إعادة فحص ما تم إنجازه، ولكن.. كيف ـ وبعد نصف قرن من ظهور أولى المؤسسات الفنية في خمسينيات القرن الماضي ـ وعوامل ما بعد الحداثة، لا يمكن إلا أن تجاور أزمنة ما قبل اكتشاف النار.. وما قبل عصر الكتابة.. وما قبل أقدم شريعة عراقية لا مناص أنها هي التي صاغت أقدم أسس فنون الكتابة .. والعدالة .. التي لم يغب عنها أنها كانت قائمة على شروط الإنبات، وليس التقويض أو الهدم. [12] كان احد الأمريكان يزور بغداد، في مطلع ستينيات القرن الماضي، عندما رغب بلقاء جواد سليم.. فاخبر برحيله. فقال مندهشاً : كيف سمحتم له بالموت؟! كم تبدو عبارته غريبة : كيف سمحتم له أن يموت؟ لو كان هذا الزائر، مطلعا ً على أساطير الشرق، ومنها الرافدينية، وفي مقدمتها أسطورة تموز، لكان اقل دهشة. فهل كان جواد سليم، وهو لم يجتز عتبة الـ 42 عاماً ـ مثله كمثل محمود مختار(1891 ـ 1934 ) وجبران خليل جبران ( 1883ـ 1931 ) واحمد الشرقاوي (1934 ـ 1967 ).. قد اجتاز عتبة التجريب والبحث، والشروع بتنفيذ النتائج التي توصل إليها. كان جواد سليم يتابع إقامة نصب الحرية، في الباب الشرقي ببغداد، عندما أصيب بجلطة قلبية، وعلى أثرها رقد في المستشفى. بيد أن قلب جواد كان منهكاً، كما تشير التقارير الطبية إلى ذلك. لكن جواد سليم كان لا يحلم إلا برؤية نصب الحرية مشيدا ً في موقعه، في قلب العاصمة. قال لي د. خالد القصاب: سألني جواد، وهو فوق سرير المرض: هل أستطيع أن أرى النصب قبل أن أموت..؟ قال خالد القصاب لجواد : نعم. لكن رحيل جواد سليم المبكر، على حد عبارة للأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، ترك مسار السفينة ينحرف بعيدا ً عن الهدف. فلم يكن، هناك، إلا فائق حسن... فقد كان رحيل جواد، عمليا ً، لا يشكل نهاية مشروع جيل الرواد.. بل يمهد لمرحلة فنية تستكمل هذا المشروع. إنها نهاية مؤجلة. كجواد الذي تقمص دور تموز... وتاريخ المشروع النقدي، يجاور هذا المثال.. بالنسبة لمصيره.. ولكن، نقدياً، تلقي هذه الوثائق الضوء على السنوات التي شهدت بدايات، ومقدمات الحركة الحديثة في التشكيل العراقي. فهذه النصوص لم يكتبها نقاد درسوا النقد أو تفرغوا له أو عملوا ضمن مؤسسة لها هذه الأهداف.. لقد مكث المشروع النقدي، فردياً، ومغامرا ً، وهو يوثق بعض جوانب التحديث التي حصلت بعد تكوّن الحكومة العراقية، بالياتها المعروفة تاريخياً، في مجال تبني تيارات الحداثة الأوربية، ومعالجتها، ضمن مشروع : الإنبات. فلم تكن مهمة الرواد، ولا مهمة هذه الكتابات، ( بله ليس باستطاعتها عمل ذلك) أن تتبنى المشروع الثقافي ـ الفني الأوربي إلا في مجالات كان الخطاب الثقافي ـ الفني، قد وجد انه بانتظار محفزات لمغادرة عزلته، والدخول في إشكاليات عالم تحكمه محركاته الجديدة. فكان الفن، إلى جانب دوره النقدي غير المباشر، وفي مختلف الثقافات، نظاما ً اتصاليا ًمع ثقافات امتلكت اتساعها في الانتشار والتداول والتأثير. وكان للكتابات في هذا المجال، مهمات متعددة تضافرت في الحفاظ على أوراق أنجزت بجهد كبيرـ ولا ترتبط بالرواد أنفسهم فقط، بل بالحركة الثقافية ذاتها، توثيقا ً وتعريفاً بها، إضافة إلى كل ما يمكن أن يشكل تمهيدا ً لرؤية فكرية لها خصائصها النقدية.. والأسلوبية. 1/10/2006 * مقدمة لكتاب بهذا العنوان من المؤمل ان يصدر قريبا ً.
[1] تمهيد
بعد أن تفككت الإمبراطورية العثمانية ، وبعد أن تشكلت دول وأقاليم جديدة ، ضمن المتغيرات الجغرافية – السياسية لنهاية القرن التاسع عشر وفاتحة القرن العشرين ، ظهرت تدشينات مبكرة للمشروع ألتحديثي . أن هذه المرحلة لم تشهد تصدعاً للأنظمة القديمة فحسب ، وإنما دخلت في مخاض عسير ومعقد تميز بالتصادم والصراع والتحول ، وأدى ، في الحقول المعرفية والثقافية والفنية ، وعلى صعيد البناءات الفوقية ، إلى بزوغ أنماط لها أشكالها ورموزها المجاورة والمواكب لبنية الواقع الاجتماع والسياسي والاقتصادي، وللخطاب الثقافي الوليد تحديداً. وكان العراق (بالمعنى الجغرافي – السياسي )، من بين عشرات البلدان التي تشكلت حديثاً، لا لكي تستعيد أزمنتها الذهبية في عصورها القديمة، أو العباسية في الأقل، وإنما لتواجه إشكاليات ستبقى قائمة عبر سلاسل من التصدعات والانقلابات والتحول من عصر إلى عصر مختلف. فالمشروع الأوربي التوسعي لم يلق استجابة تناسب (شعاراته) ، كما أن هذه الدول الحديثة التكوين لم تستطع، أن تكون مستقلة في تقرير مصيرها ضمن عصر بلغت فيه الموجة الصناعية الثانية ذروتها، فالفجوة الحضارية والتقنية ستتوسع وتتداخل عبر الواقع، والتحولات، داخل منظومة معقدة كونتها الحداثة إلى جانب الموروثات والعادات المحلية ذات الجذور القديمة . إنها إشكالية تزامنت مع الفعل والاستجابة، بحسب توينبي، إذْ كان (التحديث) – في هذه البلدان ذات التخلف الاقتصادي والإداري وذات الأنظمة المنغلقة – خارجياً وقسرياً في الغالب، وهو الذي مكث، في الضمير الجمعي، مثار إشكالية معرفية متواصلة. إلا أنه، وكما في وقائع مماثلة ومتكررة، خلف رقعة اشتباكات ليست محض رمزية، وإنما واقعية أدت إلى ظهور أشكال وبناءات أتسمت بمناقشات ومشروعات خاصة بالتحديث، من ناحية ، وبمراجعة وفحص الموروثات من ناحية ثانية . ومع أننا ننظر ـ بعد قرن ـ ووصولاً إلى نهاية القرن العشرين، نظرة مغايرة، إلا أن عملية فحص مظاهر التحدي والاستجابة، وأنماط التصدع والبناء، وأشكال الانغلاق والانفتاح، ومظاهر الدحض والقبول، تلقي المزيد من الضوء حول مفهوم تشابك القوى والأفكار والمصائر. فرؤيتنا ـ في فاتحة الألفية الثالثة ـ لن تقلل من مغزى الحفر في مخفيات ومظاهر ذلك الاشتباك الواقعي - الرمزي لمجموع الإرادات والقوى ووسائل التشبث بصياغة منظومات مختلفة عن الأصل، وإنما لا يمكن إلا أن تكون قد حملت مشروعاً مغايراً، وهو الذي وثقته عشرات النصوص الفنية في حقل الكتابة . إن ظهور ملامح دولة، بمكوناتها الحديثة، قياساً بقرون عزلت العراق، مع أقطار مجاورة أخرى، عن العالم، أدى إلى تدشين خطابات ثقافية مغايرة. ولم يكن التحول هذا ممكناً من غير تضافر عوامل داخلية. فإذا كان مشروع (التحديث) يستند إلى مكوناته وأهدافه وتقنياته، كنقل تجربة (حضارية) من موقع إلى موقع آخر، فإن الاستجابة لم تكن قائمة على الرفض الكلي. كانت ثمة تجارب فردية متفرقة على صعيد بناء تصورات مغايرة، في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية أيضاً . كظهور السينما والمسرح والمطبوعات ووسائل النقل والأزياء .. الخ إلى جانب ظهور المراكز التعليمية والوحدات الإدارية القائمة على أساليب مختلفة ، وتكوّن جماعات وتجمعات مهدت، كعوامل مشتركة لبلورة مناخات لا تخلو من الأسئلة والانشغالات الخاصة بالغابات والأهداف . أن هذا الوضع الحاصل بفعل مكونات مختلفة فلسفياً ، بين قوى (التحديث) المتمثلة بقوى أجنبية ، وقوى مازالت تتمسك بعاداتها وتصوراتها وموروثاتها، أدى لنشوء مفارقات وتداخلات لا تعزل عن الأهداف والوقائع المنجزة أو التي هي قيد الإنجاز . فمع دخول بعض علامات (التحديث) وتكوّن تيارات فنية تواكبه وتنحاز إليه ، وأخرى معارضة حد الارتداد والانغلاق، وثالثة تدعو إلى التوازن والتوليف بين عناصر الذاكرة وبين التيارات الحديثة، ظهرت محاور تضمنت انشغالات خاصة بالهوية والموروث والمعاصرة وطرق استثمار هذه العناصر في النصوص الإبداعية وصلتها بالمجتمع وبروح العصر وبالأسئلة التي مازالت تمتلك قدراتها في التجدد والانبثاق مع تجدد المجتمع ذاته، وليس بمعزل عنه . وبصدد الفنون التشكيلية ، ومع تشكل مفهوم (الذاكرة ـ العصر) أو (التراث ـ المعاصرة) دشن الوسط الفني ـ الثقافي سلسلة من النشاطات والفعاليات الفردية والجماعية أسهمت بصياغة تلك المفاهيم والشعارات .. ففي عام 1931 ، سيقام المعرض الصناعي الزراعي في حديقة المعرض بباب المعظم .. وسيسافر أكرم شكري في أول بعثة فنية للدراسة في إنكلترا في العام نفسه .. وسيحصل الفنان فتحي صفوت على الجائزة الأولى في النحت وجواد سليم يحوز على الجائزة الثانية ولم يكن قد تجاوز عامه الثاني عشر بعد. وفي العام 1936 سيقيم حافظ ألدروبي معرضه الشخصي الأول في نادي المعلمين .. كما سيتم افتتاح فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة في العام نفسه .. وفي العام 1940 تأسست جمعية أصدقاء الفن بمبادرة من أكرم شكري وكريم مجيد وعطا صبري وشوكت سليمان . وبعد عام سيقام المعرض الأول لأصدقاء الفن بعنوان (معرض جمعية أصدقاء الفن السنوي الأول) في قاعة بناية جمعية الهلال الأحمر بمشاركة : عبد القادر الرسام .. حافظ الدروبي .. الحاج سليم .. دانيال قصاب .. عطا صبري .. نزار سليم.. رشاد حاتم .. ع.ناصر .. فتحي صفوت .. نزيهة سليم .. سعاد سليم .. عيسى حنا .. ناهده الحيدري .. أكرم شكري .. محي الدين حيدر .. شوكت سليمان .. وجواد سليم . وفي العام 1945 سيؤسس جميل حمودي مجلة الفكر الحديث .. كي تتواصل النشاطات الفنية الفردية والجماعية تمهيداً لظهور جماعات فنية لها خصوصيتها في الرؤية الفلسفية والفكرية وفي المعالجات الأسلوبية والجماعية والجمالية . لقد ظهرت تدشينات في الاختلاف ، ولا يمكن عزلها عن المتغيرات الحاصلة في البناءات المختلفة للمجتمع العراقي. بيد أنها كانت ثمرة له، مثلما أسهم هذا الاختلاف بتشكيل خطابات لها خصائصها في الرؤية وطرق المعالجة. فالفجوة بين عهد ما قبل (التحديث) ـ وهو عهد ما قبل الاحتلال البريطاني ـ والعهد الأخر، اتسعت لتفضي إلى تنويعات في الخطابات الثقافية والفنية . فقد كانت معالم التحديث ـ خارج مفهوم، ومع، وقائع عدم اكتمال السيادة الوطنية ـ تأخذ حضورها ألعلاماتي والفني والفكري الأوربي إلى جانب انشغالات بإحياء الموروث ودراسة الواقع وعدم مغادرة البيئة والطبيعة والتراث الشعبي .. فضلاً عن تبلور مفاهيم (الإنبات) والموازنة والتوليف ... إن هذا المشهد ، تجاه صراعات سياسية لم تخمد ـ أدى إلى تأسيس ثلاث جماعات فنية أساسية كوّنت ذاكرة الريادة التشكيلية الحديثة في العراق .. وهي : - جماعة الرواد (1950) - جماعة بغداد للفن الحديث (1951) - جماعة الانطباعيين العراقيين (1954) بيد أن هذا الاختلاف لا يرجع إلى أسباب يمكن حصرها خارج المؤثرات المشتركة لمكونات جيل (الرواد) وانعكاسها أو تداخلها مع النصوص الفنية التي لازمت البدايات، أو التي وجدت حيزاً لها في الاهتمامات النقدية. فثمة اختلافات كونتها أفكار الفنان ـ الكاتب ومواقفه تجاه مغامرات التدشين التي ستشكل نواة جيل فرض تأثيراته لسنوات غير قصيرة. ولعل الاختلافات هذا لم يظهر ألا إبان معرض الرواد الأول (1950) .. ولم يظهر جلياً ألا بين قطبي الريادة الفنية وهما جواد سليم وفائق حسن . فالأخير أسس جماعة الرواد التي حملت دعوة مباشرة للبدائية ، ولكن ليس للتخلي عن المعارف الأوربية وتياراتها وإنما للتخلي عن التعقيد والعودة إلى المكونات الفطرية للفن في عالم يزداد تعقيدا . فاشتهرت الجماعة بسفراتها المنتظمة إلى الحقول والمزارع وبضمنها سفرات إلى كردستان .. فالطبيعة ستشكل ينبوعاً لإثراء تجارب الفنان وخبرته . بيد أن جواد سليم ، ولأسباب مهارية وشخصية، ذهب أبعد من أهداف فائق حسن التقنيةـ الفنية. فكان (النص) عنده يتوخى تضمينات فكرية وفلسفية واجتماعية وجمالية وليس التوقف المحض عند مشكلات الرسم، كما يمكن استنتاج ذلك من أراء الأستاذ فائق حسن ذاته .. فكان أن أنفصل عن (الرواد) ، ليشكل جماعة فنية ذات أعباد تخص تداخلات وتقاطعات وتكاملات مصائر الموروث ـ وبعثه ـ إزاء حداثات أوربية تركت أهوال الحربين الأولى والثانية أثرها في الأساليب والتيارات الفنية. ولم يكن الموروث أو استلهامه قضية ممكنة خارج مواهب الفنان ورؤيته .. فراح جواد سليم يحفر في مكونات الذاكرة القديمة : الجذور الموغلة بالقدم لمخلفات إنسان المغارات والشعوب البدائية .. ودراسية العصور الحضارية المتراكمة لوادي الرافدين ومصر .. والانتباه للفن الإسلامي فلسفياً وجمالياً ومغزى التحويرات الأسلوبية التي جعلت من هذا الفن يوحد بين المثل والاختزالات .. إلى جانب مشاهداته ودراساته لتيارات الفن الحديث . لقد كان انشقاق سليم عن جماعة (الرواد) حتمياً ، كما ذكر الفنان د. خالد القصاب ذات مرة عندما راح يصوغ جدلية الماضي في تتماته وتواصلاته عبر إعادة اكتشافه وقراءته قراءة معاصرة، بعيداً عن استنساخه، مع تأمل كل الذي سيشكل قيمة فنية غير عابرة في أساليب الحداثة وراديكالياتها ومتناقضاتها . فكانت بيانات جماعة بغداد للفن الحديث تتحدث عن جدلية الذاكرة وصلتها بحداثات الحاضر . فكانت كتابات جواد سليم الموجزة لا تخلو ، إلى جانب أفكاره الواضحة ، من إلتماعات شعرية وأدبية وتأملية نادرة . ولعل وجود القاص والفنان والمترجم الفلسطيني الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا ، بعد استقراره في بغداد ، أثر أكبر تهجير حصل في العصور المتأخرة، أسهم ببلورة تقاليد كتابية صاحبت هذا الجيل. فبفضل كتابات الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا. حفر جيل الرواد برمته أسس تجاربه المتنوعة. وفي مقدمتها تجربة جواد سليم. بيد أن تأثرات التيارات الفكرية والفنية الأوربيتين. لم تكن أحادية .. ولم تكن هذه التأثيرات متجانسة عند الجميع. فالكتابات المبكرة للفنان محمود صبري تلخص منهجاً جدلياً في التجارب المبكرة للنقد في العراق . فلم يغفل انجرار الجيل برمته، في سنواته المبكرة، وبلا استثناء، للتأثيرات الأجنبية والأوربية في مقدمتها، وأثر ذلك في الأساليب والمعالجات الفنية. كانت ماركسية محمود صبري تلخص مرحلة الخصب في النضال الوطني الخمسيني، سمحت له برؤية الفجوات والمسافات بين المنجز الفني المستعار، القائم على المحاكاة ، وبين الذي يمتلك فعل (الإنبات). فكان مفهوم (الأصالة) لا يتقاطع مع (الهوية) بجذورها الضاربة في عمق الأرض والإنسان .. فكانت كتاباته – كتجاربه الفنية ومنها لوحاته عن السجون والاحتجاج والنقد الاجتماعي والمرأة والموضوعات القومية كثورة الجزائر – المنحى المغاير لكتابات جبرا إبراهيم جبرا، التي استندت إلى تأملاته وتحليلاته وتجاربه الأدبية والفلسفية البعيدة عن الماركسية . ثمة فنان مكث يتمثل عمليات التحول لا في فنه فحسب ، وإنما في تفحص دوافعه وأفكاره في المجال ألتدويني : أنه شاكر حسن آل سعيد الذي وجد نفسه، منذ البدء، أكثر قرباً إلى جماعة بغداد للفن الحديث، وإلى جواد سليم شخصياً. فشاكر حسن دشن منحاه التجريبي في تأمل المشهد الفني والاجتماعي والثقافي الزاخر بالتنويعات والاتجاهات الأسلوبية المتباينة .. فكان انحيازه لرؤية جماعة بغداد ، حد الإسهام في كتابة بيانها الأول ، بالبحث عن أصول مبدأ (الإنبات) .. ومع إدراكه أن الحداثة ليست انعكاساً مباشراً للواقع وإنما هي لا تخفي قطيعتها معه – منذ كتابات بودلير ومفهومه للقناع – راح يمنح مغامرته حدها الأقصى . فبعد سفره إلى فرنسا ودراسته في معاهدها (1955-1959) وعودته إلى بغداد ، أقام تجربة مهمة تحت عنوان (تأملات ومعارج) – قاعة المتحف الوطني للفن الحديث- بغداد 1966- وبعدها أسس تجمع البعد الواحد وصاغ مفهوم الفنان يستلهم الحرف ، كتب بيانه ألتأملي (1966) ومن ثم نشر سلسلة من المقالات حول مفهوم البعد الواحد والمجال الروحي في الفن ، مبتعداً عن أسلوبه الخمسيني التشخيصي في الرسم ومنحازاً كلية إلى التجريد والتجريد المطلق . كانت كتاباته ، عامة ، تفسر نزعاته الداخلية وبمثابرته بالعثور على علاقات أوضح ما بين الأشكال المرئية ومحركاتها. فنشر كتابه ألتنظيري (الحرية في الفن) عام 1975 .. وأعيد طبعه عام 1994 .. والذي مازال يمتلك تشفيراته ككتاب يتضمن فلسفة الفنان .. على أن كتبه الأخرى التاريخية والنقدية والتأملية تلقي الضوء على نشاط شاكر حسن ودوره الكبير المرافق للريادة التشكيلية الحديثة في العراق . وإلى جانب الأستاذ آل سعيد ، لم يترك الفنان جميل حمودي كتاباً لا في تاريخ الفن ولا في النقد الفني ، وإنما ترك ، منذ إصداره مجلة الفكر الحديث (1945) ، مجموعة من الأفكار التي عمل على تنفيذها عبر تجاربه الفنية الرائدة. وإذا كان قبل تعرفه على التيارات الحديثة في فرنسا ، قد وجد نفسه مع الأنساق الحديثة ، فأنه سيؤسس مجلة (عشتار) – التي صدر عددها الأول في مطلع الستينيات - التي جعلها مكرسة لمشروع لقاء الثقافات والحضارات وليس العكس . أن التزامه مفهوم اللقاء أو الحوار أو التكامل – وقد شرحه لرائد السوريالية بريتون – يفسر خلاصة علاقة الجذور بالابتكارات الحديثة . فالقطيعة الأسلوبية لا علاقة لها بما هو مشترك في الموروث العام للشعوب . وقد جاءت أعماله في النحت والرسم والخزف مجسدة لرؤيته الفنية أكثر مما كان سيقدمه في كتاب يمكن الرجوع إليه ، مع انه ترك سلسلة من الإشارات والملاحظات النقدية تقترن بتجاربه الفنية. بيد أن الفنان نوري الراوي ، الذي ترجع كتاباته إلى فترة مبكرة ، أسهم برصد النشاطات التقنية والكتابة عنها في المجلات العربية ، أي تجاوز حدود الصحافة البغدادية. وقد أتسمت معظم كتاباته بلغة أدبية وشعرية في الغالب، لكنها أسهمت برصد مظاهر التجديد ورصد الأسماء الرائدة منذ أواسط أربعينيات القرن الماضي . فلم يغفل التعريف بالمدارس الأوربية ، كالتعبيرية الألمانية – وقد نشر معهد غوته ببغداد دراسة صدرت في كراس عام 1963 – وكان قبلها قد نشر كتاب (تأملات في الفن العراقي الحديث) عام 1962 .. كما لم يتخل عن رصد ملامح هذا الجيل في مقالاته الفنية . وإلى جانب الراوي ، هناك تجربة الفنان نزار سليم ، التي لخصها في كتابة (الفن العراقي المعاصر) 1977.. ضمن مشروع نقدي لم يكتمل أثر وفاة الفنان – لكن كتابه– فن الرسم – يلخص تنوع ثقافة الفنان بين المسرح والقصة والترجمة وأثر ذلك في رسم مشهد نشؤ التشكيل الحديث في العراق .. فيعود بنا إلى جيل الأوائل .. وهم عدد من الضباط العراقيين في الجيش العثماني العائدين إلى الوطن ، الذين شكلوا تمهيداً لبدايات الفن .. مروراً بعودة المبعوثين وتأسيس الجماعات والمؤسسات الفنية كمعهد الفنون الجميلة وجمعية الفنانين العراقيين. وصولاً إلى تبلور الأساليب والاتجاهات التي شكلت خصائص التجارب الحديثة. وإلى جانب هذه الأسماء ، فثمة كتابات متفرقة لعدد من فناني هذه الحقبة ، أمثال د. خالد الجادر وفرج عبو وعطا صبري و د. عبد الرحمن الكيلاني .. الخ لا يمكن للباحث الاستغناء عنها بما تمتلكه من أبعاد تاريخية ووثائقية ونقدية . أن دراسة النصوص الفنية ، وبضمنها الانطباعات ، والتصريحات الصحفية ، إلى جانب عدد من المقالات ، واليوميات ، والبيانات ، لا تغادر عملية رصد التحول الذي حصل في المشهد العراقي الثقافي – الاجتماعي - قبل – وبعد – تشكل الدولة العراقية الحديثة في مطلع عشرينيات القرن الماضي، أولاً . وأن هذه الكتابات ، ومقارباتها النقدية ، مكثت في الساحة الفاصلة بين تجارب نهاية القرن التاسع عشر ، والتي نضجت قبل التقسيم الجغرافي – السياسي للدولة العثمانية بسنوات ، وبين تجارب تبلورت خلال العقدين الرابع والخامس ، وهي لا تخفي أنظمتها وتقنياتها الأوربية. فالفجوة واضحة بين تجارب جيل عبد القادر الرسام الأكثر صلة بالتسجيلية أو المحاكاة وبرسومات الهواة ، وبين تجارب جيل جواد سليم وفائق حسن حيث ظهرت ملامح أبحاث تجريبية تجاوزت مفاهيم الاستنساخ نحو دراسة بنية النص الفني وعناصره الإبداعية ، فضلاً عن مغادرة الانغلاق نحو عالمية الفن وضمن مناخ المتغيرات الدولية أو الحاصلة في العراق ثانياً، ولقد ظهرت ، قبل تشكل الجماعات الفنية الثلاث، انشغالات حول مفهوم الاصالة – المعاصرة أو (الإنبات) بمعناه الأدق . فهذه الكتابات ، إلى جانب أهميتها التاريخية والانطباعية، بحثت في إشكالية الهوية ( وحدة الاختلاف داخل بنية النص الفني )، تجاه عمليات التفكيك والدحض وإعادة البناء الحاصلة في مفاهيم العصر، وتشكل قوى المراكز الدولية وأثرها في نشؤ دول حديثة التكوين، كموازنة بين : التاريخي والآني .. بين الذاتي والموضوعي .. بين الخاص والعام .. وبين (ألانا) والذات الجمعية لمفاهيم الحداثة حتى إن جاء ذلك بلغة مستعارة ثالثاً. وهنا تشكل هذه الوثائق ، عندما يتم فحصها دفعة واحدة، ومقارنتها بعضها بالبعض الأخر، كعلامات تؤدي الدور المزدوج للأثر – النص .. فإذا كان الأثر يتضمن مخفيات ومعلومات وعلامات لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة الخارطة الثقافية – الفنية لتلك العقود ، فإن مغزى دراسة هذه النصوص لا يغادر عملية اكتشاف ما لم يمت بعد في هذه (الآثار) .. ذلك لأنها تتضمن تشفيرات يعمل بها النص الحديث : وقد لا نجد استعمالاً لمفردة (نص) في هذه الكتابات ، لا بمعناه السائد اليوم ، وإنما بمعنى البناء المتكامل والفني أخيراً . فأننا ، بإعادة قراءة هذه الكتابات ، سنعثر. بالمقارنة والتشخيص ، على تبلور نصوص تمارس باثاتها معنا قبل أن تستحيل إلى ملفات تالفة أو محض تراكمات تاريخية رابعاً . إن مراجعة هذه الكتابات ، كقراءة لنصوص كتابية تاريخية ونقدية معاً ، (قراءة قراءة ما تم تدوينه ) أمام حقبة زمنية تبلورت عبرها سمات جيل الرواد، وأساليبهم وأثرهم الذي لم يختلف في تبلور التشكيل الحديث، المعاصر. في العراق . [2] مسافة : لم تمض سنوات طويلة، بين إرسال المبعوثين الأوائل، في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وتشكيل جمعية أصدقاء الفن ـ بمبادرة من أكرم شكري وعطا صبري وشوكت سليمان ـ إلا وكانت، ضمن النخبة، مبادرات تدشينية على مستوى الكتابات الفنية. فأسس جميل حمودي، في عام 1945 أول مجلة تعنى بالفكر الحديث، وأعقبها بمجلة عشتار التي وضع كلمة في غلافها الأول تقول [مجلة أممية فصلية تعمل على إيجاد وتوثيق تفاهم إنساني أحسن بين الشرق والغرب ] ـ وكانت قد صدرت عام 1958 بعنوان: اشتار ـ فضلا ً عن الدوافع الكامنة في استحداث تجارب مختلفة كلية عن تجارب الرعيل الأول.. بيد أن عودة المبعوثين، من الدول الأوربية، كانت قد سبقتها عودة مجموعة من الفنانين كانوا ضباطا ً في الجيش العثماني. وتجارب ذلك الرعيل، مهما بدت تسجيلية، وتقليدية، ستشكل أرضية لتجارب تحدث للمرة الأولى. فلم يسبق لبغداد أن تعرفت على إقامة معارض للفن.. وهنا تلفت نظرنا الكتابات المبكرة لدور الأوائل، وأثرهم التربوي في هذا المجال. ولم يكن اعتراف الحكومة بالفن، وإرسال أكرم شكري في بعثة لدراسة الفن إلى إنكلترا 1931 محض اعتراف بضرورة الفن في مجالات تحديث البلد فحسب، وإنما لأثر هؤلاء في الوسط الاجتماعي والثقافي. فقد أحدث وجود مجموعة من فناني الرعيل الأول انتباهات لمكانة الفن ودوره في الحياة البغدادية.. فلم تكن تجاربهم الفنية محض رسومات تقليدية، بل كانت لديهم أراء فنية لها انعكاسها في تجاربهم العملية. فالفنان عاصم حافظ يدوّن ـ : " .. والفنان الذي يريد الفن وليس بينه وبين الكلاسيكية من صلة، هو كمن يخدع نفسه، إذ ْ أن إنتاجه أشبه شيء ببناء شامخ شيّد على وجه الأرض بدون أساس.." مؤكدا ً" .. الفن لا يقوم بذاته، وإنما يرتكز على العلم، على فروع تفرض الكلاسيكية دراستها على الفنان وتلزمه بها، دراسة عميقة تأخذ سنين طويلة من اعز سني حياته، مع التضحية بكثير من الراحة، وبذل جهود لا يستهان بها" والفنان عاصم حافظ لم يكن ليدوّن هذه الملاحظة، لو لم يكن قد أمضى شبابه بين استانبول وباريس. ففي باريس درس على يد الأستاذ أنطوان رينولد ( 1928 ـ 1931) وأقدم من الفنان أكرم شكري بأربع سنوات، كما سيمضي يدرس الفن 19 سنة في المدارس ألرسمية، والى جانب فن الرسم، سيتخصص بدراسة العربية والفرنسية. إن هذه الخبرة النظرية سيكون لها أثرها في رسوماته للطبيعة والحياة الجامدة، وعزوفه عن التشخيص في نهاية حياته. وهي خبرة لم يلخصها في كتاب مدرسي له حول فن الرسم فحسب، بل في أهمية دراسته الفن دراسة منهجية وحديثة. إن خلاصة تجارب الرعيل الأول، وهي لم تدرس دراسة توازي أهميتها، عدا وقفات تاريخية في كتاب [ فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] للأستاذ شاكر حسن، لم تمهد للرواد، إلا كمسافة في الاختلاف. فثمة جيل جديد مشحون بخبرة لا تقارن بالتي حصل عليها الرعيل الأول، من الفنون التي اطلعوا عليها في استانبول، ستشكل تأثيرا ً مباشرا ً في الكتابات المبكرة. فبعد عودة المبعوثين، وتأسيس معهد الفنون الجميلة(1936) وتشكيل الجماعات الفنية، وظهور جمعية الفنانين العراقيين.. الخ كلها مهدت لضرب من الكتابات أكثر صلة بالفكر الحديث، في تنويعاته. فثمة كتابات انطباعية، ووصفية، وأيديولوجية، لا تخفي موقفها المنحاز.. بيد أن الاتجاه التقدمي لهذه الكتابات، بغياب الرقابة القمعية؛ المباشرة أو المتشددة، سمح بظهور نزعات ديمقراطية ـ يسارية في غالبية هذه الكتابات ـ وفي مقدمتها كتابات الفنان محمود صبري، الذي ميز فيها بين ثقافة ليبرالية ـ برجوازية، وأخرى اشتراكية ـ يسارية. وبهذا الوضوح، لم يسلم رواد التشكيل من رؤيته النقدية وهو يعالج المشكلات الجمالية ، أو طبيعة التحديث ومحركاته. حيث اعتنى في دراساته النقدية بالمضمون والأشكال والعلاقة الجدلية بينهما، وعلاقة الفن بالمجتمع، ونقد المضامين بتخليها عن انتمائها للمسار التقدمي في الثقافة ـ والفنون. انه ربما أول من انشغل بالنص الفني بصفته علامة جدلية لبناء المجتمع بفكر مغاير لنظام الحكم، وصلته بالقوى الأجنبية المؤثرة. وقد كانت هذه الكتابات، قد وجدت تطبيقاتها في تجاربه الفنية أيضا ً: رسومات مستمدة من أعماق المجتمع العراقي.. وتصويره للحياة الواقعية بشحوبها وفقرها المدقع.. إلى جانب أعماله التحريضية والتعبيرية، كلوحته الكبيرة : ثورة الجزائر. ففي عام 1956 سيكتب الفنان صبري " لقد ازداد عدد المتذمرين بشكل ومضمون الفن المعروض، ولم تعد الغاية هي الكمية والحجم والتعبير الشكلي بالطبيعة، بل أصبحت الغاية النوعية والتركيب والتعبير عن الطبيعة. وهكذا أصبح هناك أنصار وخصوم لهذا الفنان أو ذاك، وأخذت المفاهيم تتبلور ببطء عن مختلف الجماعات الفنية مثبتة بذلك أولى بوادر تكوين الجمهور الفني ". إن المسافة بين كتابات فترة العشرينيات، وحتى نهاية العقد الثالث من القرن الماضي، ستختلف، في الرؤية وفي الأسلوب، عنها بعد ذلك. فمفهوم التحديث سيأخذ مداه بصفته رؤية كلية للثقافة والفنون. وهي المسافة ذاتها بين تجارب واقعية تسجيلية حرفية وبين تجارب تصوّر الفيضانات والفقر والسجون والشهداء. ولا يكمن هذا الفارق في الأسلوب أو في الرؤية، بل في مدى اثر الاستقرار ألامني، وسيادة انضباطات اجتماعية سمحت بظهور نزعات نقدية، وفرتها ( ديمقراطية) النظام الملكي، واختلافه الجذري عن السنوات التي سبقت الاحتلال البريطاني للعراق. وهو الذي حفر، في الفن، نزعة التجريب، ومغامرة التمرد، ضمن الخطاب التشكيلي الحديث. فقد أسهمت تلك الكتابات، بمد جسور من الفن إلى الواقع الاجتماعي، كي تظهر، في الصحافة، كتابات حول الفن، والفنانين. [3] مقتربات كتابية : باستثناء جواد سليم الذي رحل بعد بحث شاق أثمر مغزى صياغة تجارب فنية متوازنة: تجانس المصادر ضمن بنية ليست خالصة لمنطق[ الفن للفن]، ولكن ليست سردية أو تزيينية أو سلعية أو جماهيرية محض. فقد تعرّفت، منذ كان جيل الرواد قد بلغ ذروة هذه الخلاصة، على معظم رموز هذا الجيل، معرفة سمحت لي أن اكتب كتابي [ جيل الرواد] وأنا مازلت في عمق الاختلافات التي صاغتها التحديثات، ولا أقول (الحداثة) في نهاية ستينيات القرن الماضي. إن هذه المعرفة قد لا تكون مشجعة كثيرا ً في الحديث عن (رموز) ـ ولكنها، بشكل من الأشكال، لم تبتعد عن الصخب الأسلوبي، وعن ظهور عشوائيات تحت مسميات التجريب، جعلت من رموز جيل الرواد جديرة بالدرس: كيف نهج هذا الجيل بجمع وتوليف عناصر لا يمكن جمعها إلا بفعل منح الخصوصية شرعية المغامرة بما تتضمنه من أهواء وإحباطات ومعاناة شخصية، ولكن أيضا ًبتلمس مكونات النص الفني، بما يمتلك من مصادر قديمة وحديثة معا ً. إنها ليست عملية بناء، بل عملية اختبار المشروع ألبنائي. لقد أمضيت سنوات غير قصيرة وأنا ـ بدوافع مماثلة لحل إشكالية معادلة : حديث ـ قديم ـ أتفحص المنجز الكتابي، الموزّع، والمتناثر، وغير المفحوص، إضافة إلى تدوين ـ وتلك مهمة لها علاقة بعملي الصحفي ـ المجال الشفوي المباشر مع مستويات، باستثناءات سنتوقف عندها ـ توضح مدى مغامرتها بحل معضلات تتطلب معرفة منتظمة، وخبرة، وموهبة، وهي عمليا ً لم تفض إلى إضافات ذات أهمية، على حد كلمة للفنان إسماعيل الشيخلي. فالنصوص الفنية، لا تقارن، إلا بصعوبة، كما ستفصح الكتابات، بالنصوص النظرية. فالجسور بينهما مبهمة، والصلات تفصح عن اختلاف كبير بين المنجز، والممكن: بين استثمار النظريات والفلسفات والدراسات في مختلف المجالات وبين العمل الفني. على أن مغامرة الكتابة، بحد ذاتها، كانت تتطلب جهدا ً لجمعها وأرشفتها ووضعها في متناول الدارسين الجدد.. وهو الذي لم يحصل، والذي يجعلنها ـ في إعداد هذا الكتاب ـ نمهد لاستكمال المشروع لاحقاً. وإذا كان مفهوم [ النص] ليس قديما ًن كالمفهوم العام لـ [ حديث] و[ معاصر] وفي وقت متأخر [ حداثة] فان لهذا الجيل، امتيازه بالاشتغال على معادلة، هي اليوم ـ كما في أقدم الآثار التي قاومت زوالها ـ تشترك بمهمات إنجاز النص بعيدا ً ً عن دور (الفنان ـ الكاتب) أو بمعزل عنه. فالمشروع النقدي مكث في حدود أراء ومقالات تقع على هامش المجال العملي من ناحية، كما كانت دوافع هذا المشروع، منذ راح عدد من الرواد يتأملون أسرار الفنون في ماضيها التليد، وفي مكونات الحداثة المجاورة لهم، تأشير انطباعاتهم الخاصة ومشاريعهم الريادية، كما في جماعة ( الرواد) و ( جماعة بغداد للفن الحديث) و( جماعة الانطباعين العراقيين)، وإن بعضا ً من هذه [النصوص] الشفهية ( في الحوارات) وفي المقالات والمشاريع المبكرة للدراسات والأفكار، مازالت لم تفقد أسئلتها التي كونتها من ناحية ثانية. إن هذه الكتابات التي لم تدخل المتحف، والتي مازالت مجهولة، أو موزعة في الصحف والمجلات، لم تكونها لغة خالية من مغامرة الاستبصار والبحث في المجال النظري ـ الفكري لمسارات الفنون.. وإنما هي، مع تجاورها لنشاطات معرفية كالترجمة والمعرفة المباشرة والإطلاع على الأفكار والآراء، عملت على إيجاد صلات مناسبة بين التاريخي وسبل تحديثه، والعثور على جدلية بين الأثر والنص. الأثر التاريخي وهو مازال يمتلك اشتغالاته في أزمنة لاحقة، والنص الذي لا ينتج إلا كجزء من الحداثة وما يتوخاه الفنان من وعي بمكوناته الموضوعية ومغامرته في الذهاب ابعد من النزعات الشكلية أو الحدود المرئية للنصوص. وهي مهمة تخص أدوات البحث ـ اللغة والمعرفة والحدس ـ بالدرجة الأولى. فالفنان حافظ الدروبي، حتى في فترات نضجه، وجد نقدا ً لاذعاً من لدن عدد من الفنانين البولونيين الهاربين من الحرب العالمية الثانية، نقدا ً حول ضرورة النظر إلى الطبيعة والموجودات، بعين الفنان، لا بعيون الانطباعيين أو الفنانين الأوربيين. إن الأستاذ ألدروبي، الذي جرب عشرات الأساليب الفنية، لم يرض جمهوره المتلقي، حتى قال في نص منشور : لا أعرف ماذا يريدون؟! ولكن عشوائية، وتجريبية ألدروبي، لا تلخص محنة تلك السنوات فحسب، بل تمهد لإضافات تجعل أسئلة النص ـ الأثر، جديرة بالبحث. وقد أدرك هذا الجيل، هذا المأزق بين النظري ـ والعملي، وبما يتطلبه الفن، بالدرجة الأولى، من شروط نظرية ومعرفية وتاريخية. فكانت الكتابات الأولى، عند جواد سليم، ومحمود صبري، وشاكر حسن، وجبرا إبراهيم جبرا، وجميل حمودي، ونوري الراوين وعطا صبري، تتضمن هذه المؤشرات: التأثر بتيارات الحداثة، واستذكار التجارب الكتابية القديمة، والعمل على إجراء توازنات بينهما. بيد أن المجال الكتابي، كما أشرت، لم يصنف ولم يدرس كي تكون هذه الخلاصة موازية للمنجز على الصعيد العملي، لأن ثم نصوصا ًكتابية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، جاورت هذا المسار.. وهي، ستلقي المزيد من الضوء حول قضايا لا اعتقد أنها قد حسمت، من ناحية، كما أنها تتضمن مدخلا ً لدراسة العلاقة بين المجال النظري والعملي فقط، بل الذهاب ابعد من ذلك في دراسة المناخ العام ـ والخاص الذي نشأت فيه تلك التجارب النظرية، وأثرها ببلورة الجماعات الفنية، وفي ظهور المؤسسات الفنية، وتباين المدارس الفنية، من ناحية ثانية. فالنصوص الكتابية، في هذا الساق، لا تخص لغتها، وأفكارها، ورموزها، وإنما تشفيراتها أيضا. خاصة أنها لم تنتج من قبل متخصصين في المجال النظري أو الكتابي إلا بشكل محدود، بل من قبل ممارسين للفن بالدرجة الأولى. فهي نصوص تحمل ذات الدوافع الكامنة وراء المنجز العملي. وإعادة قراءتها، بعد أكثر من نصف قرن، ستتيح لقراء اليوم، التعرف على مجموع هذه العلاقات بين التفكير النظري، وتطبقاته العملية. وهو حد فاصل بين مشروع بلورة النص، الكتابي والعملي، كما عند شاكر حسن أو محمود صبري أو جواد سليم، وبين مشروع التحديث بالدرجة الأولى. فتلك الكتابات، وإن بدت وليدة عواملها التاريخية، فإنها، مقارنة بالمنجز العملي، ستسمح للدارسين بالعثور على بذور مازالت تمتلك قدرة الإنبات. ذلك لأنها ـ الكتابات ـ قد تبلورت تحت مؤثرات الفن، فضلا ً عن دوافع الفنان ببلورة موقفه المعرفي ـ النظري ـ وتطبيقاته العملية. [4] الفن ـ والكتابة : بنزعتها التحديثية، سبقت التجارب الفنية، الكتابة في حقل الفنون التشكيلية. ربما لأن جذور الفن، شكلت ذاكرة للامتداد، بينما تطلبت الكتابة، وعيا ً للأفكار والصياغة الحديثة لها استجابتها وشروطها النظرية التي لم تدرس، في أوربا، كما حصل على الصعيد الفني. وهكذا جاءت الكتابة، ملحقة بالتجارب الفنية. إن هذا الظن يتأكد بتقدم نزعات التحديث في البناء الفني، ومغامراته، ونتائجه، مقارنة بالأساليب الكتابية في هذا المجال. بيد أن الكتابات المبكرة في الفنون التشكيلية، في الغالب، تتصل بكتاب كانوا يمتلكون مهارات متعددة: أدبية أو شعرية أو فكرية إلى جانب الفن. فإذا كانوا، باستثناءات نادرة، أو لا تذكر، قد درسوا الفن، وفيما بعد أصبحوا من رواده، فان تجاربهم الأدبية ـ أو ذات النزعة الأدبية ـ ليست أساسية. فثمة علاقة متجاورة، ومشتركة بين ( الكلمات) و(التصوير): إنها نزعة تفصح عن ماض ٍ له تراثه وعلاماته.. حيث التفكير بالكلمات تأسس استنادا ً إلى المرئيات والأشكال، فضلا ً عن المسار التطوري من الصورة إلى الحروف. إن هذه العلاقة مهدت، بعد التدشينات المبكرة للفعاليات الفنية، لقيام عدد من الفنانين بمهمات شرح الفن في وظائفه الاجتماعية والحضارية. وقد شكلت الكتابات المبكرة، الملحقة بالتجارب الفنية وما رافقها من نشاطات ثقافية، دافعا ً للتقدم في الكتابة. فقد مكث الطابع الأدبي ـ ألوصفي ـ سائدا ً في غالبية هذه التجارب الكتابية: نزعة أدبية تحافظ على مهارات الاشتغال بالرموز والبلاغة. ولا نجد هذا في كتابات جبرا إبراهيم جبرا وجواد سليم وشاكر حسن ونوري الراوي فقط، بل في تجارب أخرى كانت تحافظ على تعبيراتها الأدبية وبلاغتها الأسلوبية. فهذه الكتابات كانت تظهر نزعة الكاتب الفنية، وخبرته، واثر الحقل التصويري في النزعة الأدبية. حتى أن هذه النصوص، في الأخير، تغدو حقلا ً تتداخل فيه النزعات الحسية والتجريدية معا ً. ويمكن أن نلحظ، وبعد تكون جماعة أصدقاء الفن، في مطلع أربعينيات القرن الماضي، بذور الوعي النقدي: إنها مقتربات نحو فضاء غير مشغول يهتم بجماليات تتطلب وعيا ً مستحدثا ً لا لتبرير نزعة التحديث، بل لأنبأتها، بصفتها لا تتقاطع مع الثقافة في جذورها أو في عملية بعثها في عصر مختلف. إن هذا الدافع ولدّ رغبة الإمساك بلغة تقترب، لا في تفسير الفن، بل في معالجته بحساسية تتطلب وعيا نقدياً، وعمقاً يوازي تحديثات النصوص التشكيلية. فالتحديث دفع بجواد أو محمود صبري أو شاكر حسن للحفر المزدوج: الحفر في ذاكرة الموروث الرافديني.. والحفر في المجال المعرفي لأنظمة الفنون ومكانتها في الحضارات. فقد كان موضوع (الذاكرة) يتطلب حفرا ً متواصلا ً كي يجد، أمام نزعة التحديث توازنه. فالحداثة ليست محض استعارات واستيراد أنظمة فنية من مكان إلى مكان آخر. وإنما، هي، بحسب هذا النشاط، استجابة لإنبات تطلب وعيا ً يوازي مشروع: الذاكرة ـ والحاضر. مشروع : الموروث ـ والمعاصرة . وهو الموضوع الذي شغل معظم كتابات الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، وجماعة بغداد للفن الحديث. ثمة، في هذا السياق، كتابات انشغلت بالاستعارة، مؤكدة مكانة الذاكرة، ودور الموروث، وأخرى، انحازت نحو التحديث حد القطيعة. وثالثة عملت بالعثور على توازنات بينهما.. وهي، في الغالب، انحازت لمشروع بذرت بذوره فكرة : الإنبات. وسنجد هذه المستويات متجاورة، عند أفراد الجماعة الواحدة، أو عند الجماعات، أو على صعيد المهارات الفردية في الكتابة. فثمة نزعة، ربما لها سمتها العراقية، نزعة التفرد حد الاختلاف، حتى في الرؤية ذات المسار المشترك: نزعة مغامرة توخت التفرد، والامتياز. ففرادة الكتابة، واختلافها، ستشكل تمهيدا ً استغرق أكثر من نصف قرن، ابتداء ً بتاريخ أول بعثة فنية إلى أوربا 1930 وانتهاءً بتأسيس رابطة نقاد الفن في العراق 1982، التي ستعمل على منح النقد مكانة تناسب المنجز الثقافي ـ الفني في حقول التشكيل والعمارة والآثار. كما ستخصص أكاديمية الفنون ببغداد، وكليات الفن في المحافظات، مكانة للوعي النقدي في العملية التحديثية والحداثوية. إن هذا التاريخ لا يعد قصيرا ً بخصوص التجربة في مجال الفن، ولكنه، مكث أسير النزعة التي بدأ منها: أسير حدود الذات وانغلاقاتها، أو انحيازاتها بين ذات الفنان ـ الكاتب، بالدرجة الأولى، أكثر من استقلالية الكتابة في مجالها النظري: الفلسفي والفكري والجمالي. كما لا تهمل بعض التجارب الكتابية في منهجها المستعار، التجريبي، على صعيد الأفكار أو الأساليب. فالتنوع في هذا المجال، ذاته، سيشكل انعكاسا ً لتنوع الاتجاهات الفنية وأساليبها المختلفة. على أننا كلما أعدنا قراءة [قراءات] هؤلاء الفنانين ـ الكتاب، لتجاربهم، سنجد حقلا ً مازال ينتظر البحث، والحفر، كي نجد جيلا ً من الكتاب، سيمهد لظهور دراسات خارج حدود الأهواء، والانطباع، وبلاغة الرؤية الأدبية. [5] المركز ـ المحيط : بعد أن أقيم معرض جماعة الرواد (1950)، بإشراف الفنان فائق حسن، كان جواد سليم يحلم بأفكار ابعد من تأسيس تيار أو اتجاه فني يستلهم الطبيعة، وأبعد من مفهوم (البدائية): الرسم الحر، العفوي، وبعيدا ً عن المشغل. ومع أن فائق حسن لم يكن يولي الطبيعة اهتماما ً أخيرا، فان وعيه بالتاريخ أو المحركات الاجتماعية للفن، لم يكن مباشرا ً. كان منشغلا ًببلورة أسلوبه بالبحث في المشكلات الفنية. فقد ذكر، في حوار لي معه، أن التوقف عند المشكلات الفنية، جاء بعد أن ظهر أن الفن ليس محض إشباع رغبات محددة. ففائق حسن يتذكر أن والدته كانت تقول له : كيف سنعيش..وأنت تمضي وقتك كله في الرسم؟! وربما كانت قالت : في الشخابيط! فقال الأستاذ حسن لها: سيكون الرسم عملا ً يسمح لنا بحياة كريمة" وكانت في مقدمة تلك المشكلات : اللوحة. فلم يكن يغامر بصياغة حداثة خارج بنية النص،إلا بعد ذلك بعقد، عندما استلهم الأحداث السياسية، في جدارية كانت تدشينا ً لأسلوب سيؤثر في مصائر عدد من الرسامين الجدد: جدارية السلام. فقد ظهرت مجاميع العمال والفلاحين وحمامات السلام ترفرف بعد عام 1958. فكان فائق حسن مركزا ً لجماعة واصلت العرض حتى بعد رحيله. كان فائق حسن مؤثرا ً كأستاذ(معلم) في بناء النص الفني. فأساتذته غير المباشرين: تتيان/ فيلازكويز/ رامبرانت/ روبنس/ ديلاكروا.. وجميعهم كانوا قد صاغوا قواعد الرسم الأوربي، لم يغيبوا عن ذاكرته الفنية.. ولكن فطرة، وبداهة، الأستاذ حسن جعلته لا يغادر الأرض.. والبشر. . وعن شخصيته الحقيقية..فقد انشغل ببناء العمل الفني الأكثر صلة بالناس وبالأرض. فلم يكن يحلم بموضوعات التاريخ، والأسئلة الفلسفية، إلا في حدود العمل الفني، على أن لا تخلعه عن الفن. فكانت أهداف جماعة الرواد واضحة: الفن.. والأسلوب.. إضافة لترسيخ مفهوم الصدق غير الملتبس في علاقته مع الواقع. وهذا كله لم يكن يناسب موهبة أخرى كانت تقترب من ذروتها، عند جواد سليم. لهذا غادر جواد جماعة الرواد، منشقا ً عنها، تاركا ً فائق حسن يعمل مع زملائه وطلابه. وكان الدروبي، قبل عقد، قد أسس المرسم الحر، ولا يرغب ـ هو البغدادي الأنيق ـ بالانظمام إلى جماعة (فائق) أو إلى جماعة (جواد).. فكان أن تبنى الرسم المباشر عن الطبيعة، تحت ولاء الانطباعية العام، ولكن، ليس تطبيقا ً لأساليب مونيه أو بيسارو أو رينوار. إن هذه الأسماء الفنية، مع أسماء أخرى مكثت تعمل بعيدا ً عن الجماعات الفنية، كانت تمتلك تطلعات لبلورة أهدافها الفنية، فلم تكتف بالمهارات الفنية، أو بدورها التربوي الفني، أو الاكتفاء بالحضور الفني.. وإنما راحت تبحث عن وسائل تتوازن وخطاب التحديث مع الجمهور.. وقد يكون للأثر الاجتماعي مغزاه في بناء الجماعات الفنية، كحماية أو توخيا ً للموقف الشرعي أو المعتدل بعيدا ً عن التعارض والرفض الاجتماعي.. فإذا كان جواد وفائق والدروبي أكثر انشغالا ً بالدوافع الفنية، بحسب النشاطات المعلنة، فان الفنان محمود صبري والفنان د. خالد الجادر على سبيل المثال، عملا على منح الفن دورا ً اكبر في العلاقة مع المجتمع وتحولاته الثقافية. كما ستشكل الجماعات الفنية الأخرى، التي ظهرت بعد ذلك بسنوات، تعزيزا ًلدور مؤسس الجماعة ورؤيته الفكرية والفنية. فجماعة البعد الواحد، سرعان ما حرص الفنان والباحث الأستاذ شاكر حسن أن منحها بعدا ً فكريا ً وفلسفيا ً وأسلوبيا ً تحت سياق: استلهام الحرف العربي.. كي يجد صلة ما بين التشكيل والحروف عبر الحقب والحضارات المختلفة وصولا ً إلى الحاضر. وجماعة [ الأكاديميون] 1971 هي الأخرى، ارتبطت بالفنان والباحث كاظم حيدر في بلورة جماعة لها أهدافها المحددة: بناء تقاليد أكاديمية بعيدا ً عن التجريب والأساليب الحديثة المتطرفة. وقد صاغ حيدر بيان الجماعة، بأسلوب وضح مغزى الفن الأكاديمي ودوره بين الأساليب المختلفة والمغايرة لشروط وقواعد الفن الأكاديمي. كما تأسست جماعة الواقعية الحديثة حمل أسماء : د. شمس الدين فارس/ د. عبد الرزاق علي جواد / محمد عارف /وإبراهيم الكمالي. وكان عدد من الفنانين قد أصدروا بيانات فنية توضيحا ً لرؤياهم الفنية منها : التجديد في الرسم الحديث لجواد سليم/ والبيان التأملي لشاكر حسن آل سعيد/ الفنان أمام التجربة لضياء العزاوي/ الدائرة لقتيبة الشيخ نوري/ الحدوث الفني ليحيى الشيخ . كما تأسست جماعة المجددين (1964)، وأعلنت عن بيان موجز، كتبه الشاعر مؤيد الراوي، تحدث فيه عن دور الحرية في الفن وعن الحداثة بعيدا عن الوصاية وشروط المؤسسات الحكومية.. إلى جانب ظهور جماعة [الرؤيا الجديدة] 1969الذي وقعه ستة فنانين يتحدثون فيه عن موقفهم من التراث والنضال والمعاصرة. والفنانون هم : هاشم سمرجي/ محمد مهر الدين /رافع الناصري/ صالح ألجميعي/ ضياء العزاوي/ إسماعيل فتاح. هذه الجماعات الفنية، الأكثر شهرة وتأثيرا ً في التشكيل العراقي الحديث، ارتبطت بمؤسسيها، فمن الصعب فصل دور المؤسس عن نشاطاتها الفنية أو التنظيرية. فحضورها طالما ارتبط بدينامية الفنان ـ المركز ـ الموجه لها. وهو الذي تطلب ظهور كتابات وبيانات وشروحات وجلسات نقدية أسهمت بمنحها علاقة مجاورة للحداثات الاخري في: الشعر والمسرح والسينما والرواية والقصة والنقد الحديث.. الخ: كتابات لم تكتف بالإيضاحات أو الإعلان، بل ثمة انشغالات فكرية وفلسفية دفعت بها إلى معالجة قضايا اشمل تخص مشكلات الفن الحديث والجمهور والنقد الفني من خلال قضايا العصر والذاكرة ومختلف الإشكاليات التقنية وغير ذلك. فظهور الكتابات لم يكن ترفا ً أو عملا ً فائضا ً أو زخرفيا ً، إن لم يكن مكملا ً لمغزى ظهور الجماعات الفنية، ومؤسسيها، والمنضوين تحت أهدافها أيضا ً. وقد جاءت هذه الكتابات كعلاقة حوار من قبل الفنانين نحو الجمهور .. ومن الجمهور نحو الفنانين.. وهي علاقة لا تنفصل عن دراسة مكونات ظاهرة التحديث وما رافقها من رؤى ومتغيرات ثقافية واجتماعية وفكرية. بيد أن ظهور عدد من الأسماء المشتغلة في الكتابة الفنية، وبما تتضمنه من نقد،والعاملين في التدوين التاريخي، هي الأخرى، عكست ظاهرة تبلور الجماعات: المركز والمحيط. فقد ظهرت أسماء كتبت في النقد منذ أربعينيات القرن الماضي ومارست عملها في الحقل النظري، كأسماء رائدة لها أفكارها ومؤيديها وأتباعها..فكان الأستاذ جبرا إبراهيم قد صاغ رؤية جماعة بغداد للفن الحديث.. كما منح الأستاذ شاكر حسن مشاريعه التنظيرية مساحة لم تؤثر في أساليب عشرات الفنانين فحسب، بل في طريقة التفكير وأساليب الكتابة. ومكث الأستاذ جميل حمودي يغذي مشروعه الأول : حوار الثقافات بتأسيس دار اينانا للفنون والثقافة. إن علاقة الكاتب بنصوصه، توضح مدى علاقته بالمجموعة التي صاغ رؤيتها، إلى جانب نزعته الذاتية وفلسفته الخاصة. فقد توقف محمود صبري عن الكتابة لأكثر من عقد كي يعلن بيانه الفني الخاص بـ [واقعية الكم] في عام1971 التي رافقها نقاش أسهمت فيه الكاتبة بديعة أمين بدراسة يأسف المتلقي أنها لم تضف ـ في الحقل الجمالي والنقدي ـ شيئا ً راقيا كالذي كتبته حول واقعية الكم، باستثناء كتبها في المجالات الأدبية والفكرية.. وبعد هذا البيان سيغادر الأستاذ محمود صبري العراق تاركا ً كتاباته وتجاربه الفنية علامة لجيل صاغ ذاكرة التشكيل الحديث في العراق. وثمة أسماء أخرى كالأستاذ عباس الصراف وعبد الله الخطيب، مكثت تعمل بعيدا ً عن الفعاليات الرسمية، وغير الرسمية، لا يمكن إلا أن تجد موقعها في الخراطة الثقافية ـ الفنية للتشكيل المعاصر في العراق. [6] أفكار وتطبيقات : ما الذي كانت ترغب أن تنجزه الكتابات الفنية، لدى الكتّاب ـ الفنانين، وهل كانت صادرة بفعل المنجز الفنين، أم، بشكل أو آخر، عن أفكار نظرية.. ما هي هذه الأفكار، ضمن هذه الحلقة : التجارب العملية ـ الكتابات حول الفن ـ والجمهور..؟ لم تفلح مديرية الفنون التشكيلية، أو أية جهة في وزارة الثقافة، أو في المعاهد والكليات الفنية، في تأسيس أرشيف أو خزانة لجمع الوثائق، تلقي الضوء على النشاطات والفعاليات الفنية.. فانا لا أعرف ما الانطباع الذي تركه المعرض الصناعي الزراعي (1931).. وما هو الأثر الذي أحدثه المعرض الشخصي الأول للفنان حافظ ألدروبي (1936) في الوسط الاجتماعي أو عند النخبة ..؟ إننا سنعتمد على انطباعات غير دقيقة تجعلنا، بعد سبعة عقود، ندرك المسافة القائمة بين النشاط الفني، وهذا الجمهور. فالفئات المتعلمة، وبضمنها النخب الثقافية، ستشكل هذا الجمهور..دون أن نغفل المتابعين من الأجانب طبعاً ودورهم في هذه المعادلة.. كما لا نتجاهل دور الصحافة، وقد أصبحت جزءا ً من عادات فئات محددة من المجتمع العراقي والبغدادي على نحو خاص.. وظهور إشارات وتعليقات فنية في هذه الصحافة. لقد كان الكتاب يسهمون بموضوعات الفنون الحديثة، كما في انشغالاتهم بالتحديثات الأخرى؛ كوجود ظواهر الهاتف والمواصلات الحديثة وموضوعات المرأة والمساواة ودور الجامعة والإذاعة والأزياء.. الخ وقد ظهر اثر ذلك في قصائد بعض شعراء العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي، وظهور تجارب فنية غريبة تحدث للمرة الأولى في الوسط الاجتماعي البغدادي : إنها كتابات تعريفية، تلفت النظر إلى مصادرها ومراجعها بالدرجة الأساس، وقد لا تخلوا من السخرية والغرائبية والفضول. ولكننا لا نمتلك أرشيفا ً لهذه الموضوعات إلا بصور متفرقة وغير كاملة، كي يساعدنا على دراسة أدق التفاصيل التي رافقت التدشينات المبكرة، واثر الأشكال والألوان والموضوعات في ذائقة الجمهور.. وما الذي لفت نظره، وما الذي أدهشه، وما الذي استنكره..؟ لكن المعارض الفنية، التي رافقت المتغيرات والفعاليات التحديثية، وجدت صداها في الصحافة . كالمعرض الصناعي الزراعي، الذي شارك فيه فتحي صفوت وحاز على الجائزة الأولى فيه..وجواد سليم على الجائزة الثانية مثلاً. وبمواصلة هذه المعارض، كانت الكتابات الفنية تستند إلى التجارب الفنية كأحداث غريبة وجديدة، تتجاوز مهمة الوصف والتعريف إلى مهمة التعليق الذي لا يخلو من النقد. فعندما كان يتم رسم الطبيعة، حتى منتصف الأربعينيات، نبه عدد من الفنانين الأجانب ـ البولونيون الذي كانوا فارين من الحرب ـ بضرورة الرسم بعيون ( عراقية) .. كما قال لي الفنان حافظ ألدروبي ذات مرة. انه نقد مبكر تبلورت عبره أفكار حول الهوية: الأسلوب والتقنية والجمهور. إن معادلة الفنان ـ الكاتب، ستجد تعديلا ً في : الكاتب ـ الفنان، الذي سيتولى مهمات الكتابة حول الفن الحديث .. حيث ستصدر مجلة خاصة بالفكر الحديث، يشرف عليها الأستاذ جميل حمودي.ز وسيكتب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا مقالات تعريفية ونقدية يتحدث فيها عن مكانة الذاكرة.. والحضارة العربية.. وحوار الثقافات . وسيسهم الأستاذ محمود صبري بتدشينات قائمة على قراءة الكتابات وأراء الفنانين واثر الملحقيات الثقافية الأجنبية في ظواهر استلهام الموضوعات الحديثة، وموضوعات الموروث الشعبي، بصفتها فعاليات سياحية ودعائية مكرسة للمشاهد الأجنبي، ونقدها، برؤية تجاوزت الانطباع، والرأي الشخصي، نحو مفاهيم تذكر بمكانة الفن في الحضارة، ودوره غير التعليمي المباشر، نحو التأمل، والواقعية النقدية، والتعبيرية الحديثة. كما نجد ذلك في أفكار جواد سليم وحواراته. إننا نلحظ نمو غير غامض لتبلور أفكار حول المدارس الفنية، والأساليب، وحول فلسفات الفن، والبحث عن توازنات تفضي إلى الوعي بدور الفن الحديث وثوراته المتنوعة. إن ظهور هذه الأفكار والتبشير بعدد من الاتجاهات والأساليب الفنية، على الصعيد الثقافي العربي، كإسهامات مجلة ( الآداب) منذ تأسيسها، أعطى أهمية خاصة للمنجز الفني، العراقي، أسوة بما كان يحدث في مصر وبلاد الشام.. وأثر ذلك في التجارب الفنية. فلم تعد الظاهرة الفنية منفصلة عن دور المراقب، أي المتلقي، وموقفه منها. فالأفكار النقدية وجدت طريقها إلى الكتابات الفنية. فكانت الكتابات تؤشر سلبية استنساخ أشكال الموروث القديم أو العربي الإسلامي، مثلما كانت صريحة إزاء استنساخ التجارب الأوربية وتقليد أنظمتها. مما جعل الرؤية النقدية أوضح بضرورة توظيف خبرة الفنان مع التزام الصدق الفني في اختيار الاتجاهات والتطبيقات الأسلوبية المتوازنة. إن هذه العلاقة بين الكاتب والفنان والجمهور الوليد، شكلت حضورها في الوسط الاجتماعي ـ الثقافي، الرسمي والشعبي. فقد تجاوزت الكتابة دور (المتابع) أو المواكب للحدث الفني، نحو أفكار تمت صياغتها بمقتربات من النص الحديث: جواد سليم في بحثه عن إنباتات لفن لا تغيب ذاكرته أو تنقطع جذوره عن لغة توازي وقائع ومتغيرات ما يجري في الحداثات العالمية[ مدرسة باريس/ أو التعبيرية الألمانية/أو الواقعية في البلدان الاشتراكية..الخ ] أي دعوة جواد سليم بتشابكاتها لضرب من التوازن، بين الموروثات والمعاصرة، وبين الجانب النظري والعملي. بيد انه برهن أن المنجز الفني ينتظر الكثير من الوعي الفلسفي والفكري كي يمتلك قدرة أعمق في صقل الرهافة أو الموهبة. فإشاراته الفلسفية والثقافية والفنية تلفت النظر إلى التوازن بين التجربة المعرفية والتجربة في التطبيق. فليس المهم رسم تفاحة وكتابة (تفاحة) عنوانا ً لها كي لا يبقى المتلقي حائرا ً في تأويل النص الفني! بل المهم التعرف على لغة ترتقي بالتجربة الفنية كتجربة وجدانية تتطلب معرفة وخبرة وحساسية.. ومازالت كلمات جواد سليم، إبان افتتاح احد معارض جماعة بغداد للفن الحديث، وهو يدافع عن [ الفن الحديث] بصفته ليس عملا ً تجسسيا ً يخدم أهداف (الإمبريالية) ، ترن، وهو يدرك اتساع الهوة بين الفنان والمتلقي الذي ينتظر منجزات فنية خالية من الأسئلة والإشكاليات والمغامرة. وفي السياق نفسه، كانت أفكار عطا صبري، وإسماعيل الشيخلي، ونوري الراوي، وجميل حمودي، لا تنفصل عن الاختلاف الحاصل في الأساليب،والمعالجات. فقد أصبحت التجارب الفنية، المميزة منها، تمتلك بناءات لها أنساقها الأدائية وتشفيراتها الرمزية .. ولها تميزها ببحثها المستند إلى أفكار فلسفية وجمالية توسع من مفهوم التجريب ورصانته في النتائج. وهنا تظهر تجربة الأستاذ شاكر حسن، قبل ـ وبعد ـ ذهابه إلى فرنسا، بصلتها بما كان يحصل من تحولات واستجابات ومغامرات نظرية وحدسية وفنية حداثية. فقد تميزت كتاباته بدوافع ذاتية تجريبية لا يغيب عنها قلقه كفنان مكث يعمل على إكمال مشروع جماعة بغداد للفن الحديث من جهة، ولبناء خصائص إضافية تستلهم الموروث الخاص بالتصوف العربي وتخليه عن التشخيص وانحيازه نحو رؤية تمتزج فيها مهاراته الفنية وأبحاثه النظرية والفكرية والجمالية من جهة ثانية. فالمنجز الكتابي عنده، باتساعه، وتنوعه على مدى نصف قرن، يصوّر بعمق وتداخل مدى الاشتباكات الحاصلة داخل نصوصه ذاتها.. فهو فنان لم يعمل على دحض الاتجاهات الأخرى.. ويظهر ذلك مع نصوصه المرافقة لمعارض الآخرين، وإنما في بحثه عن لحظة ـ تتناص وتنصص ـ وتتكامل فيها الدوافع والأزمنة حد الذروة: انه، هنا، يرسم نموذجا ً للكاتب ألتنظيري والفنان والمحاور والمجادل والمحاضر والمعلم داخل شخصية متوقدة، فجأة، انسحبت عن الوسط الفني والثقافيـ والاجتماعي ـ وفضلت الرحيل بعد أن ترك تراثا ً هو احد أسس الخطاب الحداثوي للتشكيل في العراق. إلى جانب هذه الكتابات.. ستظهر أفكار وأراء مختلفة، جاءت بعد ظهور جيل [ الستينيات ] من لدن كتاب وشعراء وأدباء، هي الأخرى، بانتظار أن تأخذ مكانها في الذاكرة، لا كمعلومات وأكوام وثائق فائضة لا تستحق العناية، بل كعلامات تأسست ضمن اتساع خارطة علاقة المتلقي بظاهرة الفن الحديث .. وهي أسماء مازالت، عربيا ً وضمن الثقافة العالمية، تسهم بدورها النقدي في حقل الفنون والجماليات. [7] البيانات الفنية: حتّم التنوع الأسلوبي، منذ ظهرت، في نهاية القرن التاسع عشر، أولى وأقدم التجارب الواقعية التسجيلية لعدد من الضباط العراقيين الهواة؛ وهي لا تقارن بمثيلاتها في استانبول، حيث الحداثة في الفن التركي، كانت على معرفة بما كان يحصل في أوربا، حتمت هذه الواقعية التسجيلية، لظهور تجارب مماثلة وأخرى مغايرة لها. وبعد تأسيس فرعي الرسم والنحت في معهد الفنون الجميلة ببغداد (1939 ـ 1940) وظهور الجماعات الفنية، غدا الاختلاف الأسلوبي للجماعات أكثر حاجة للإعلان عن نفسه عبر البيانات. فقد كان لهذا التنوع في الرؤية، والموهبة، والأسلوب، أثره في النتائج الفنية. وقبل أن تكتسب هذه البيانات موقعها في الوسط الفني، وفي الذاكرة التشكيلية، بما تمتلكه من وضوح وتحديد للأهداف، كان للبيانات الأوربية أثره في إصدارها.. فلم يسبق أن صدر أي بيان فني يعلن عن رؤية فكرية أو جماليه أو أسلوبية قبل انتصاف القرن الماضي في بغداد، أو كما حصل في الحركة التشكيلية في مصر منذ تأسست كلية الفنون الجميلة (1908) وأصدرت بعض الجماعات سلسلة من البيانات الفنية المماثلة للبيانات التي كانت تصدر في أوربا. كانت بيانات الجماعات الفنية الأولى،: الرواد/ بغداد للفن الحديث/ الانطباعيون العراقيون، لا تتضمن إشكاليات تذكر. فقد كانت قد كتبت بوضوح يحدد أهداف الجماعة ورؤيتها للفن الحديث. لكن هذا لا يلغي أنها كانت، ضمنا ً، قد جاءت لتدافع عن وجودها ومشروعها الفني ـ ألتحديثي. فكانت جماعة بغداد للفن الحديث، الرائدة في هذا المجال. فوجود الروائي والشاعر والمترجم جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن الذي سبق له ونشر مقالات أدبية وفنية، والقاص نزار سليم، فضلا ًعن قدرات جواد سليم في صياغة الكتابة وتميزها بموهبة كانت جزءا ً من شخصيته المميزة.. وعمليا ًفان إصدار البيانات، بما تضمنت من أفكار وأهداف، منح المشروع الفني ـ الجمالي، أبعاده الاجتماعية والثقافية. فالفن لم يعد منفصلا ًعن السياق ألتحديثي للواقع العراقي بعد الاحتلال البريطاني ، وتشكل السستم[ النظام] الخاص بالحكومات العراقية إبان العهد الملكي. فضلا ً عن تحديد أهمية الاختلافات في التفكير وفي المعالجات الفنية .. فقد ظهرت، بعد عقد، بيانات أخرى، أكثر صلة بالتجارب التي فرضت حضورها، وبالمدارس الفنية العالمية، وبالواقع الاجتماعي ـ والثقافي..فالبيانات التي رافقت معارض جماعة المجددين وجماعة الرؤيا الجديدة وابعد الواحد والواقعية الحديثة وجماعة الاكاديمين العراقيين، على سبيل المثال،لفتت النظر لوجود تيارات ترسّخت في واقع الحركة التشكيلية العراقية، وكسبت جمهورا اكبر، إلى جانب الاعتراف الرسمي من قبل الجهات الحكومية. وبحسب إطلاعي، لم تجر دراسة متخصصة وشاملة وميدانية لنصوص هذه البيانات: من كتبها .. وماذا تضمنت.. وكيف كتبت.. وما أثرها في الاتجاهات والأساليب الفنية..؟ كما حصل واثر البيان الشعري (1969) الذي كتبه فاضل العزاوي ووقعه ثلاثة شعراء، على سبيل المثال، حيث أثار ضجة جدلية مازالت، بعد ثلاثة عقود، يلفت النظر لدور البيان وأهميته في صياغة الأفكار وإثارة قضايا [ الحداثة] على صعيد الفلسفة والتنظير الفكري والشعري. ولعل الاستثناء الوحيد في غياب اثر هذه البيانات وما تضمنته، دينامية الأستاذ شاكر حسن وغزارته وتوقده في إدارة معالم التيارات الحديثة وما بعدها في التشكيل العراقي. أي تميزه بالمتابعة حد المغامرة والبحث عن علاقات تقاوم النزوات والانشغالات غير الفنية. فالأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بعد كتابته مقالات ودراسات وبيان جماعة بغداد الثاني، انحاز إلى الأدب والترجمة. وجميل حمودي لم يصدر شيئا ً يذكر بعد أن توقفت مجلة الفكر الحديث، ومجلة (اشتار) حتى رحيله(2003). ومحمود صبري، بعد بيان واقعية الكم(1971)، هو الآخر، سيغيب عن الحركة الفنية العراقية. وفي هذا السياق، لم تتوقف الجماعات الخمسينية الثلاث عن العرض،لأسباب لا تتعلق بأهداف الجماعة الفنية، بل بعادات العرض السنوي. فما الذي يمكن تأشيره بعد معارضها الأولى، على صعيد العلاقة بين البيان أو الجانب النظري وبين التطبيقات العملية أو الأسلوبية..؟! بينما اكتفت معظم الجماعات بمعرضها الأول، وببيانها المرافق له : الأكاديميون/ الواقعية الحديثة/ والزاوية. [8] مذكرات : قد تكون هناك، عدا يوميات جواد سليم، التي نشر بعض صفحاتها الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، يوميات تنتظر البحث، كي تأخذ طريقها إلى النشر. ولكننا ـ لا سباب لا تحصى ـ نجهل الكثير الخاص بالحياة الشخصية للرواد. لقد قال لي فائق حسن، في حوار منشور، حول عدم تدوينه ليومياته أو مذكراته، انه لم يكن يمتلك الوقت. ومع صدق الإجابة، فان معظم رواد هذا الجيل، كانوا قد كرسوا حياتهم لفنهم، بالدرجة الأولى. والاستثناءات، كما في تجارب جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، ونزار سليم، ود.خالد الجادر.. ليست بلا فائدة. إن يوميات جواد سليم ـ ونأمل أن تنشر كاملة في يوم ما من الأيام ـ تحررنا من عقدة [الكتمان] . فجواد سليم لم يغفل، في يومياته، قضايا الفن، والثقافة، والانشغالات الشخصية، أو علاقاته الغرامية، أو مواقفه من المتغيرات الدولية والوطنية.. لقد كتب، بضرب من الإخلاص المماثل لرغبته في الرسم والنحت أو حبه للموسيقى. فالكتابة كانت ـ عنده ـ مكملة لدوافعه الإبداعية ولشخصيته معاً. على إننا، في تحليل الأساليب والرموز، والاشتغال على تفكيك تشفيراتها، سنجد، في كثير من النصوص، اعترافات شخصية، ذات أهمية نادرة. فالنزعة الذاتية، حتى في كتابة أكثر الموضوعات حيادا ً، تلقي الضوء على مخفيات الذات ودوافعها. ففي الأسرار غير المعلنة قد يجد الباحث كل الذي خبأه الكاتب فيها. فالمجهولات التي ذهبت مع رحيل معظم روادنا الكبار، لم يستطع الموت أن يأخذ تلك التي مكثت وراء الكلمات والمذكرات والاعترافات التقليدية، كما في مذكرات سليم. فالنصوص الكتابية، في تفكيكها وتحليلها المعاصرين، تمتلك نظاما ً يزاوج بين العلامات ومحركاتها: بين المخفي في الظاهر .. وبين الظاهر المخفي في النص. فالأثر يبقى يواصل بحثه عن آخر يمتلك وسائله في فك التشفيرات والعلامات بدراسة أنظمتها مهما كانت منغلقة أو عملت على الكتمان. وهنا تظهر مهمة الباحث، كما في الحفريات الآثارية، والمعرفية، في الكشف عن صمت النص، لا على مستوى التأويل فحسب، بل على صعيد فحص المترابطات والعلاقات الخاصة ببنيوية النص وأهدافه الداخلية: الإرسال غير المعلن، وغير المقصود البوح به. فلماذا لم تظهر، على مدى القرن الماضي، إلا صفحات نادرة، وناقصة..؟ هل بسبب غياب هذا التقليد.. هل بسبب الحذر الاجتماعي .. هل لغياب التأمل الذاتي.. هل بسبب فقر الجانب الأدبي ـ الكتابي..أم .. لهذه الأسباب مجتمعة، مع الاحتفاظ بنظام [الكتمان] والسلامة...؟! أيا ً كانت الأسباب، فإننا إزاء خسارة لا تدفع بالبحث الفني نحو ذروته. فإذا كان موت المؤلف ـ الكاتب ـ الفنان، لا يضعف النص الفني، كما في درجة صفر الفن ـ درجة صفر الكتابة ـ فان ثمة نقادا ، لا يعممون هذا المنهج. فالكلام الخاص ـالمدوّن ـ في شتى القضايا، وفي مقدمتها التي تبدو عابرة، ويومية، وغير ذات قيمة، ستشكل، في التحليل وفي التفكيك، اضاءات تخص العلاقة بين المؤلف ـ الفنان ـ ونصه. فيوميات جواد سليم، لا تلقي الضوء على [زمن] الريادة.. أو حياته فيها.. وخصائص شخصيته فحسب، بل تبقى إبداعا ً مستقلا ً ينقلنا إلى وجدان جواد سليم وكيف كان يتفاعل، ويفكر، في شتى قضايا الفن والحياة. إن وجود هذه الصفحات، هنا، تتوخى أن تكون محفزا ً للعثور على أوراق أدبية مماثلة لجيل الرواد، لتأخذ طريقها إلى النشر، وفي الوقت نفسه، تغدو طريقا ً لتقاليد مكثت محدودة أو شبه غائبة. [9] حوارات: قبل أن تتحول نصوص المحاورات، مع أقطاب الريادة في التشكيل الحديث في العراق، إلى مادة تاريخية، وذات صلة بما غدا حدا ً فاصلا ًبين حقبتين، حقبة ما قبل التحديث، الذي تبلورت بفعل الحضور الأوربي، لا فكراً وثقافة، بل احتلالاً بحسب القوانين والأعراف الدولية، وحقبة أعقبت ذلك. وقبل التوقف عند هذه النصوص، بصفتها مازالت تمتلك ما تريد أن تقول، نتلمس، بجلاء، الفارق الكبير بين أحاديث جيل الرواد، والسمات السلوكية والثقافية والأخلاقية للأجيال التالية. إنها مسافة تظهر الفارق بين جيل لم يتصدع بعد .. ولم يخضع لأنظمة المنافسة، والتحديق في المجهول، وأجيال ولدت في عمق التحولات والتصدعات المختلفة. فالمجتمع العراقي ـ والبغدادي على وجه التحديد ـ لم يكن مفتتنا ً كثيرا ً بالتحديثات كاستبدال رؤيته للوجود، بل تعديلها، وإضافات لا تتنافى مع معتقداته في رؤية الحياة، وليس تدميرها. فلم تظهر، في الحوارات، آراء صريحة تمتلك رؤية ما جرى، ويجري، إلا كانعكاسات ظهرت عبر التجارب الفنية. كانت أحاديثهم، وإن اختلفت جذريا ً عن حوارات وأراء وأفكار وسلوكيات وأخلاقيات الرعيل الأول، توضح مدى تمسكهم بكياناتهم كأفراد أو كمجموعات غير منخلعة عن الذاكرة، أو عن صياغة الخطاب الحديث. فلم تكن نصوصهم منشغلة بما كان يحدث في أوربا، إلا بما شكل تقنية بناء، وتحديثات على صعيد التكنيك، والتصميم. كذلك ستشكل أحاديثهم، وكأنها، في الغالب، شفوية، قام المحاور، بتعديلها وصياغتها كنصوص أدبية أو صالحة للنشر! هل ثمة خيانة في الأمر..؟ لقد تحدث الشاعر والرسام شفيق الكمالي، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما تعرض فنان شاب متهما ًالنقاد بالتقصير، فقال انه لولا النقاد و( المشتغلين في الكتابة والصحافة) من كان سيؤدي هذا الدور الذي ظهرت عليه الحركة التشكيلية..؟ إن الكمالي لم يقصد، في دفاعه عن النقاد والمشتغلين في الصحافة، إبداعات الرواد، بل قصد الإشارة للجهود التي بذلت في صياغة ما تم إنجازه، وضمنا ً، الحوارات التي رسخّت خطابهم المعرفي والتاريخي والنقدي. وفي هذا السياق لم نجد من يدعي مهارات لا يمتلكها، لا كاظم حيدر ولا حافظ ألدروبي ولا فرج عبو ولا فائق حسن.. فقد أسهم الكتاب، والمشتغلين في الصحافة والأدب، بصياغة أراء وأفكار عدد من الفنانين الرواد، ضمن تعديلات مناسبة تحافظ على سلامة الأسلوب وليس غير ذلك. وهنا اذكر، للمرة الأولى، الحادث التالي: طلب الأستاذ فائق حسن مني، في عام 1972أو 1973 الرد على أسئلة وجهها احد الصحفيين أو الباحثين له. فلم اصدق..أو .. دهشت. فسالت الأستاذ فائق: كيف افعل ذلك..؟ فقال ببساطة : أنت تعرفني بصورة جيدة.. ربما .. أفضل من معرفتي لنفسي!! إنها ليست مفارقة، ولكنها، في سياقها، كانت تروي حكاية جيل لم يكن يتخبط في التباهي والتعالي المزيف، أو بمحاكاة حد الاستنساخ. وفي مثال آخر نتلمس أي أهمية لمثل هذه الحوارات. ففي حوار أجراه شاكر حسن مع الفنان منعم فرات، قدم لنا وثيقة لا يمكن الاستغناء عنها. ولعل الأستاذ شاكر حسن، كما أشرت، عمل على تأسيس أرشيف تتكامل عناصره، وبضمنها، أجراء تسجيلات صوته[ ! ـ فقد كانت تخصيصات دائرة الفنون لا تكفي لمثل هذا المشروع ألتوثيقي !! الذي لا يكلف شيئا ً يذكر] ولا اعرف هل دمرت هذه الوثائق، ضمن الدمار الذي شمل السبعة آلاف عمل فني التي نهبت أو أحرقت، أو بيعت وتوزعت في مختلف البلدان. ففي هذه الوثائق، إضاءات يصعب إهمالها، كما جرت دعوة بإهمال تراث جيل الرواد..! لأن منجزات هذا الجيل لم تعد تواكب العالم الجديد، بعد الاحتلال. وعلى العكس من نزعة الإلغاء، والتدمير، والإغفال، كانت أحاديث جيل الرواد، تتمتع بصفاء، وبساطة حد البدائية[ من ذا لم يشتق إلها ؟!] وعمق يخلو من تكديس المصطلحات غير المعرّبة جيدا ً.. والمبهمة. وفي ذات الوقت تتمتع بنزعة فردية عزز حضورها النسق الجمعي، الذي لم يتعرض للتفكيك، والتقويض الذي لم يأت بأي بديل [تحديثي] كالذي أنجزه هؤلاء الرواد في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته. إن السؤال ما إذا كانت ثمة فائدة من جمع عدد من هذه الحوارات، وإعادة نشرها... بل السؤال كيف ستتحول الآراء والأفكار والرموز والإشارات الواردة فيها إلى مصادر ومراجع ـ القديمة منها والحديثة ـ مفيدة لا في فهم أدق ـ بفعل المسافة والمناهج الأكثر حداثة، فضلا ً عن تكامل الرؤية ـ لردود الأفعال أمام تيارات الحداثة ومدارس الفن وأنظمة التحديث فحسب، بل كيف سنعالج الإجابات في حقبة تالية تتميز بعشوائيتها وتجريبيتها والتباساتها، وما إذا كان لحكمة [الماضي] إسهامات يعوّل عليها في هذه البناءات..؟ إن أحاديث هؤلاء الرواد، لا تتميز بثوابت نصوص راسخة أو مقدسة، أو انها مجهولة تماما ً.. وإنما لأن إعادة فحص هذه الحوارات لغة وأفكارا ً لأساتذة كرسوا حياتهم لبناء تجارب فنية تفتخر بها المتاحف، كالمتحف العربي للفن الحديث في قطر.. ومتاحف أخرى في مصر والأردن وسورية، وفي عدد من المتاحف العالمية أيضا ً.. كي تشكل هذه التجارب الرائدة، صلة فنية، وتاريخية، بالتجارب الفنية في البلاد العربية، من ناحية، وموقعها في تاريخ التشكيل العراقي المعاصر من ناحية ثانية. فهي أحاديث تتجاوز مفهوم [الوثيقة] المحض، نحو لفت النظر إلى كل الذي يجدر أن يأخذ موقعه في بناء تجارب تتوازن فيها عناصر الصدق والحداثة: فالتقنيات ليست فلسفة، مع انها، لا تعزل عن البناء الجمالي والأخلاقي لعالم تكوّنه ثقافاته وصداماته وحواراته أيضا ً، وإنما التقنية، مرة بعد مرة، تخفي الذي مازال يمتلك عناد تكوّنه ليس بصفتها محض أداة ـ كالكلام الذي نتكلمه وليس كالذي ندوّنه ـ تزداد أهمية طالما أن الذي لم ينجز، في الإرث القديم، والحديث، مازال يشكل محفزا ً لتجارب فنية تتكامل فيها معايير الحكمة، والخبرة، وكل الذي لا يقلب الأمل إلى خداع أو إلى جحيم. [10] النقد ـ مقتربات: بعد إلغاء، بإجحاف ولأسباب شخصية، رابطة نقاد الفن في العراق(1989) وبعد رحيل رئيسها الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، جرت محاولات لإعادة تشكيلها: محاولات لم تسفر إلا عن تأجيلات متواصلة، انتهت أن يقوم الفنان نوري الراوي برئاستها. لكن الرابطة النقدية، عملياً، وبعد عام 1990، بدا عملها كالعمل المؤسساتي ـ الجمعي كما ظهر في خمسينيات القرن الماضي ـ ضربا ً من الخرافة..! فالسنوات المتعاقبة، برهنت، أن الوسط الفني ـ وبضمنه الثقافي ـ يتعرض للتهميش، فضلا عن البنية الانشطارية التي منحت التفكيك دافعا ًللعمل المثمر أو الموضوعي. فبعد رحيل عدد من أعضاء الرابطة، وسفر البعض الآخر، غدا التفكير في وجود رابطة أو جمعية أو جماعة مستحيلا ً. لكن وجود الرابطة رسميا، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم يتشكل إلا كامتداد للنزعة الجمعية الخمسينية لمرحلة الريادة. وبدراسة المتغيرات، والتصدع المتواصل للواقع الاجتماعي، وتفكك مؤسساته، وتعرضها للإهمال بعد التخريب الذي أصابها، بعد الاحتلال، غدا المشروع النقدي، حلما أو وهماً. فعلى العكس من الإشاعات حول مفاهيم الحرية والديمقراطية والشفافية التي نثرها البعض كرذاذ بارد، تقلص دور الفن ، والنقد التشكيلي، كي ينتظر مرحلة عودة الاستقرار والأمن، لمعرفة ما الذي يمكن عمله، بعد الهزات الزلزالية التي ضربت الواقع برمته. فهل ستشكل هذه النصوص، بطابعها الوثائقي، وما تتضمنه من أبعاد نقدية، مشروعا ً استفزازيا ً لا للتعرف على اضاءات متفرقة صاغت خارطة فنية لها مكانتها بين الحركات التشكيلية العربية فحسب، بل للشروع بمبادرات تجعل من [النقد] مشروعا لا يرتد بنا إلى عصر ما قبل الكتابة، أو عصر ما قبل السيطرة على النار..؟! فمنذ فاتحة القرن الحادي والعشرين، وحتى عام (2006) لا تبدو الكتابات والدراسات والانشغالات بالنقد أكثر من جهود فردية، داخل الوطن أو خارجه. فغياب المؤسسة ـ المكان والشخصيات ووسائل التحديث ـ تجعل الاسترجاعات ليست عديمة النفع، إن لم تحفزنا لعمل شيء ما يقربنا من عصر تموت فيه[ الكيانات] قبل أن تولد. [11] الذات ـ المشروع: كيف يتسنى للمؤرخ ـ الناقد ـ عزل النص ـ النظري أو العملي ـ عن سياقه الذي شكله ومنحه سماته الخاصة، مع انه، أي النص، له حدوده وسماته غير القابلة للمماثلة أو البتر..؟ فثمة : 1 ـ العوامل المتشابكة، والمتداخلة ، التي عملت على وجوده: 2 ـ عوامل الموروثات، والدوافع المستحدثة، وآليات الصياغة، انطلاقا ً من محرك ما .. كالمشروع ألتحديثي ـ الذي جاء في أعقاب تفكك السستم [العثماني] لـ [حقبة] زاخرة بالمتغيرات والتحولات: 3 ـ أدت، في جانب من جوانبها لظهور نزعات فردية تأخذ دورها في مشروع مغاير لنظام مختلف، في المعتقد، وفي التقنيات، وفي النتائج. 4 ـ وكان الخطاب الثقافي ـ الفني، احد تلك الأشكال المستحدثة، ضمن المتغيرات الحاصلة في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية. 5 ـ ومع مظاهر الفن بنزعاته الغربية، ظهرت المفاهيم النظرية، داخل الخطاب الثقافي العام. فكانت الكتابات المبكرة، تتكون كتدشينات لهذا المشروع. وأيا ً كانت الدوافع، فان المحركات العامة، منحت الأفراد حريات لم تكن منجزة في أي زمن سابق: حريات صياغة الخطاب بسماته وأهدافه الجديدة. 6 ـ فظهرت، بعد التجارب الفنية، كتابات مجاورة، ومرافقة، وساندة لهذا الخطاب في سماته المتداخلة. فكما تنوعت الاتجاهات والأساليب الفنية، ثمة، اختلافات ظهرت على صعيد الخطاب الثقافي ـ الفني: اتجاهات شكلت [ الحداثة ] غطاء ً ومحركا ً لها. فقد شهد الواقع الاجتماعي ـ الثقافي صدمات متعاقبة لتيارات أوربية كانت تبحث عن ارض [بنية] جديدة تنبت فيها: فغياب المؤسسات، بالمعنى الحديث، مع تناقضات التحدي بين حداثات أوربا الصناعية، ومشروعها التوسعي( الاستعماري) ، وثقافات مازالت تجاور واقعها الاقتصادي ـ الاجتماعي المحتضر، أدى إلى ـ كما في تصادمات لا تحصى مماثلة ـ ضرب من الاستجابة، وضرب من التحدي، وضرب ثالث راحت معلمه تتشكل عبر التوازنات، بين المفاهيم التحديثية، التي شكلتها فلسفاتها وتقنياتها واقتصادياتها وثقافاتها، وثقافة لا تمتلك إلا ذكرى عصور غابرة: توازنات لم تستغن عن التقنيات الحديثة، ومعالجاتها بأساليب لا تتقاطع ، إلى حد بعيد، مع الثوابت والموروثات والعادات الراسخة. 7 ـ وقد أدى التصادم ـ والحوار ـ إلى ذات المشروع الأوربي العائد إلى عصر النهضة، قبل خمسة قرون: التوازن .. ولكن .. في مغادرة عتبات الماضي وحلقاته المنغلقة. فصاغ الرأي العام ـ والفني هنا، مشروع : التراث ـ والمعاصرة. 8 ـ ولم يفقد هذا المشرع تطبيقاته التجريبية، حتى بعد رحيل رواده، في الفن، أو في حقل الكتابة في المجال التشكيلي والجمالي. بيد أن معادلة [ ـ: الذاكرة ـ الموروث / المخيال ـ المعاصرة]، لم يفقد قوته الإيحائية، بالرغم من أن أوربا في مؤثراتها نحو العالم، قد شهدت، هي ذاتها، متغيرات عملية ونظرية.. لكن المعادلة مازالت تعالج بطرق متباينة، إلى جانب الانفتاح على مختلف الثقافات والفنون. 9 ـ هذه النصوص في مجال الكتابة التشكيلية ـ الجمالية، لا تخفي أشياء كثيرة، هي وليدة واقعها التاريخي,, وهي توضح ـ تاريخيا ً ـ إنها عملت على تلمس حضورها المهدد بالذوبان، والغياب. إن حقيقة ليست سارة، في التحولات، توضح أن عوامل الإنبات، قد جاءت استجابة للأخر. وقد أضاء أرنولد توينبي مشروع : التحدي والاستجابة، بصفته احد قوانين الحضارات. بيد أن هذه الاستجابة، لم تتخل عن خصائصها وسماتها في عمليات الإنبات: فالهوية، مكثت تشتغل كشعار محرك لحدود الخطاب، وأصالته. ولم تكن المهمة يسيرة؛ المهمة التي جرت عبر قرن من الزمان، خاصة، أن رواد التحديث الفني ـ في العراق وفي الوطن العربي، كانوا يدركون عميقا ً أن خطابهم، لا يمكن أن ينبت، خارج مجموع عوامل الإنبات. 10 ـ فكم كان من الصعب، على هؤلاء الموهوبين، بله الحالمين حد الاستحالة، بصياغة لغتهم الجديدة ـ المعاصرة، في استيعاب علامات ( غريبة) لم تنتجها إلا قرون من البحث العلمي، والفسلفي، وقرون من التصادم، بصياغة معنى ما لعالم تأسس بعد القرون الوسطى: مفاهيم أوربية كانت تتسلل، إلى كيانات حضارية مكثت تقاوم موتها، لقرون طويلة، كاستيعاب حقيقة المدارس التي كانت تجد صعوبات إنباتية في أرضها من ناحية، ثم أن الاتجاهات والمدارس والأساليب الحديثة التي هي غريبة أصلا ً، كانت تأتي ـ كما تستورد السلع ـ متأخرة، ومتأخرة كثيرا ً، وبتمهيدات طالما جعلتها ـ كالسلع ـ غريبة، وكأنها، في هذا السياق، مكثت في السطح، وهي تؤدي دورها الاستهلاكي ليس إلا .. من ناحية ثانية. 11 ـ بيد أن استذكارا ً للفقرة[1] يفسر سياقا ً لم يغفله هؤلاء الرواد، في الفن، كما في المشروعات الكتابية، إلا ـ هو ـ أن الفنون ـ حتى في حداثتها ـ كانت تنتمي إلى ذاكرة تسبق عصر التدوين، في جذور الحضارة العربية، إلى جانب اثر الحضارات الشرقية، المجاورة أو البعيدة. وكان وعي عدد من الرواد، قد لمح هذه الإضاءة، ولفت النظر إلى أن الفنون، في الماضي، وفي الحاضر، تتمتع بأنظمة بنائية مشتركة، ومتجاورة، وانها ذات أهداف تدفع بالحوار إلى موقعه الحضاري النبيل. فالنصوص ـ النظرية والعملية ـ في سياقها هذا، لم تلغ العوامل الذاتية ـ للفنان والمجتمع ـ في الإنبات: الأصالة والارتقاء بالخطاب نحو حداثته ـ وعالميته. فبنية النصوص لم تكن، بعد مرحلة التأسيس، محض أصداء لحداثات أوربية.. بل راحت، بصعوبات، لا تفصح عنها ـ كتابات هذا الكتاب ـ فحسب، بل تجعلها غير غائبة عن أي مشروع يتطلب عوامل الإنبات، كتضافر هذه العوامل، وفي مقدمتها دور المخيال، وأسسه العلمية، والمنطقية، لا في تحدي عوامل الإحباط، والارتداد فقط، بل في إعادة فحص ما تم إنجازه، ولكن.. كيف ـ وبعد نصف قرن من ظهور أولى المؤسسات الفنية في خمسينيات القرن الماضي ـ وعوامل ما بعد الحداثة، لا يمكن إلا أن تجاور أزمنة ما قبل اكتشاف النار.. وما قبل عصر الكتابة.. وما قبل أقدم شريعة عراقية لا مناص أنها هي التي صاغت أقدم أسس فنون الكتابة .. والعدالة .. التي لم يغب عنها أنها كانت قائمة على شروط الإنبات، وليس التقويض أو الهدم. [12] كان احد الأمريكان يزور بغداد، في مطلع ستينيات القرن الماضي، عندما رغب بلقاء جواد سليم.. فاخبر برحيله. فقال مندهشاً : كيف سمحتم له بالموت؟! كم تبدو عبارته غريبة : كيف سمحتم له أن يموت؟ لو كان هذا الزائر، مطلعا ً على أساطير الشرق، ومنها الرافدينية، وفي مقدمتها أسطورة تموز، لكان اقل دهشة. فهل كان جواد سليم، وهو لم يجتز عتبة الـ 42 عاماً ـ مثله كمثل محمود مختار(1891 ـ 1934 ) وجبران خليل جبران ( 1883ـ 1931 ) واحمد الشرقاوي (1934 ـ 1967 ).. قد اجتاز عتبة التجريب والبحث، والشروع بتنفيذ النتائج التي توصل إليها. كان جواد سليم يتابع إقامة نصب الحرية، في الباب الشرقي ببغداد، عندما أصيب بجلطة قلبية، وعلى أثرها رقد في المستشفى. بيد أن قلب جواد كان منهكاً، كما تشير التقارير الطبية إلى ذلك. لكن جواد سليم كان لا يحلم إلا برؤية نصب الحرية مشيدا ً في موقعه، في قلب العاصمة. قال لي د. خالد القصاب: سألني جواد، وهو فوق سرير المرض: هل أستطيع أن أرى النصب قبل أن أموت..؟ قال خالد القصاب لجواد : نعم. لكن رحيل جواد سليم المبكر، على حد عبارة للأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، ترك مسار السفينة ينحرف بعيدا ً عن الهدف. فلم يكن، هناك، إلا فائق حسن... فقد كان رحيل جواد، عمليا ً، لا يشكل نهاية مشروع جيل الرواد.. بل يمهد لمرحلة فنية تستكمل هذا المشروع. إنها نهاية مؤجلة. كجواد الذي تقمص دور تموز... وتاريخ المشروع النقدي، يجاور هذا المثال.. بالنسبة لمصيره.. ولكن، نقدياً، تلقي هذه الوثائق الضوء على السنوات التي شهدت بدايات، ومقدمات الحركة الحديثة في التشكيل العراقي. فهذه النصوص لم يكتبها نقاد درسوا النقد أو تفرغوا له أو عملوا ضمن مؤسسة لها هذه الأهداف.. لقد مكث المشروع النقدي، فردياً، ومغامرا ً، وهو يوثق بعض جوانب التحديث التي حصلت بعد تكوّن الحكومة العراقية، بالياتها المعروفة تاريخياً، في مجال تبني تيارات الحداثة الأوربية، ومعالجتها، ضمن مشروع : الإنبات. فلم تكن مهمة الرواد، ولا مهمة هذه الكتابات، ( بله ليس باستطاعتها عمل ذلك) أن تتبنى المشروع الثقافي ـ الفني الأوربي إلا في مجالات كان الخطاب الثقافي ـ الفني، قد وجد انه بانتظار محفزات لمغادرة عزلته، والدخول في إشكاليات عالم تحكمه محركاته الجديدة. فكان الفن، إلى جانب دوره النقدي غير المباشر، وفي مختلف الثقافات، نظاما ً اتصاليا ًمع ثقافات امتلكت اتساعها في الانتشار والتداول والتأثير. وكان للكتابات في هذا المجال، مهمات متعددة تضافرت في الحفاظ على أوراق أنجزت بجهد كبيرـ ولا ترتبط بالرواد أنفسهم فقط، بل بالحركة الثقافية ذاتها، توثيقا ً وتعريفاً بها، إضافة إلى كل ما يمكن أن يشكل تمهيدا ً لرؤية فكرية لها خصائصها النقدية.. والأسلوبية. 1/10/2006 * مقدمة لكتاب بهذا العنوان من المؤمل ان يصدر قريبا ً.
في تجارب حسن عبود- فضاءات الرمز بين الذاكرة والحلم- د.شوقي الموسوي
في تجارب حسن عبود
فضاءات الرمز بين الذاكرة والحلم
ثمة بنى صورية في التشكيل العراقي المعاصر ، نلاحظها عندما تستند إلى قوانين وأسس التكوين الفني ( الوحدة ، الإيقاع ، التوازن ، الانسجام والتضاد والحركة ...) سوف تُحدث سلسلة من التداعيات الحسية التي تسمح لنا بالتفكير أوالتاويل الذي يكشف عن بعض المثيرات البصرية ، المحمّـلة بالمضامين ذات الدلالات الرمزية والجمالية التي تحدد الشكل النهائي للتكوين العام للمشهد التصويري . فنلاحظ مثلا في تجربة الفنان " حسن عبود " الاخيرة – احد فناني كربلاء - تواجد بعض الوحدات البنائية الفنية ( النقطة ، المثلث ، الدائرة ، العلامة ، بجانب اللون و الخط والشكل الطوطمي...) المؤلفة لبنية التكوين الفني ؛ التي جعلت العمل الفني يمتلك طاقات حركية كامنة فيها ، تمكنها من إنتاج أشكال ذات طابع علاماتي رمزي ، تُحيل ذهن التلقي إلى مديات أوسع تتعدى الحدود المكانية للمشهد التشكيلي ، نحو المضامين الجوهرية . فالنقطة مثلاً نجدها من أبسط العناصر التكوينية وأهمها في مشاهد الفنان حسن عبود ، التي تدخل في تكويناته المقترحة ، تثير فينا النقطة أحساساً حركياً عندما تتجاوز النقطتين ، فأنه ينشأ عنهما اتجاه وهو الذي يمثل حدوث الحركة ويكون هذا الاتجاه ذا بُعدٍ معين يقود الخط الوهمي الواصل بين النقطتين ، بينما إذا وجدت ثلاث نقط ، فأنها تُعطي شكلاً وهمياً للمثلث وإذا أربع نقاط أعطت مربعاً أو مستطيلاً وهكذا تصبح هي المركز الروحي لذاتية الفنان أو ربما هي الملاذ والرمز الروحاني المتصوف التي جسدت لفعلها منحنيات خطية روحية تتعاطف مع المحيط الذي خلقه المركز ، فكوّنت شكلاً هندسياً مربعاً محكوماً بإرادة النقطة ، والذي يتمثل فيه توازن النقيضين (الموت والحياة) ومنه يتولد المضلع والمثلث وصولا إلى الدائرة . هذه النقطة التي عدّها الفنان " حسن عبود " (المركز الروحي) لتكويناته ، نلاحظها قد أسست شكلاً ذهنياً دائرياً ، يبتدئ منها ليمر بحركة البقع اللونية المحيطية الدائرية ليمتد الى عدد لانهائي من الدوائر التي تحوي العالم المرئي ، لتعود مرة ثانية إليه، ضمن حيز العقل البشري ، وقد أجد ان النقطة ربما تعبر عن فناء أشكال الوجود فيها ، من خلال ترحيل الفنان للشكل الطبيعي من مرحلة الحس إلى مرحلة الخيال فالتجريد التام ، فالنقطة هُنا جامعة وشاملة وهي أساس لكل تكوين على الرغم من عدم حضورها عيانياً ، فهي البداية والنهاية ، وهي مرئية عند تكوّن الخط ولامرئية عند الاستعانة بحركة الأشكال المتجاورة في التعبير عن وجودها ... فقد اختزل الفنان " حسن عبود " ذاكرة المكان المُقدّس ، المتمثل بمدينته الفردوسية (كربلاء) ، الممتلئة بعلامات الجمال الروحاني المتمفصلة بالمرجع الحضاري والتاريخي وبما فيها من ايحاءات وعلامات ورموز تبتعد عن التكلف لصالح التعبير عن جدلية الفكر الذي يُقرأ من خلال اشكاله التجريدية الخالصة والتي تكوّن مع بعضها البعض اشرطة كونية تحتفل باللامرئي المخفي على حساب الذاكرة البصرية . نجد هنالك بعض التنظيمات الهندسية في نصوص الفنان التشكيلية ، قد تواشجت مع تجريديته الغنائية ، عندما أعلن الحرب على الاشكال الطبيعية وأقرّ بتقسيم او تجزئة أغلب مشاهده التصويرية الى قطبين هندسيين لكل منهما حياته التشكيلية ، بالرغم من تداخلهما تقنياً من خلال اقتراحه لبقع لونية تحتكم الى حدٍ ما الاثر التلقائي وحداثة التشظي والاغتراب ، الناتج بفعل التحزيز والحك والقشط المتكرر على المساحات اللونية المجردة (اللون البرتقالي والاحمر والابيض بجانب الاسود وتدرجاته ...) والتي تتشكل فيما بعد الى علامة او نقطة او اشكال هندسية (المثلث-الدائرة) والتي تحتضنها الارضيات الترابية اللون ، لتساعد ذهن التلقي في البحث عن الاعماق من الاعالي وعن الحب في الحرب وعن الصمت في الكلام والمخفي في المعلن واللامعنى في المعنى !!
فضاءات الرمز بين الذاكرة والحلم
ثمة بنى صورية في التشكيل العراقي المعاصر ، نلاحظها عندما تستند إلى قوانين وأسس التكوين الفني ( الوحدة ، الإيقاع ، التوازن ، الانسجام والتضاد والحركة ...) سوف تُحدث سلسلة من التداعيات الحسية التي تسمح لنا بالتفكير أوالتاويل الذي يكشف عن بعض المثيرات البصرية ، المحمّـلة بالمضامين ذات الدلالات الرمزية والجمالية التي تحدد الشكل النهائي للتكوين العام للمشهد التصويري . فنلاحظ مثلا في تجربة الفنان " حسن عبود " الاخيرة – احد فناني كربلاء - تواجد بعض الوحدات البنائية الفنية ( النقطة ، المثلث ، الدائرة ، العلامة ، بجانب اللون و الخط والشكل الطوطمي...) المؤلفة لبنية التكوين الفني ؛ التي جعلت العمل الفني يمتلك طاقات حركية كامنة فيها ، تمكنها من إنتاج أشكال ذات طابع علاماتي رمزي ، تُحيل ذهن التلقي إلى مديات أوسع تتعدى الحدود المكانية للمشهد التشكيلي ، نحو المضامين الجوهرية . فالنقطة مثلاً نجدها من أبسط العناصر التكوينية وأهمها في مشاهد الفنان حسن عبود ، التي تدخل في تكويناته المقترحة ، تثير فينا النقطة أحساساً حركياً عندما تتجاوز النقطتين ، فأنه ينشأ عنهما اتجاه وهو الذي يمثل حدوث الحركة ويكون هذا الاتجاه ذا بُعدٍ معين يقود الخط الوهمي الواصل بين النقطتين ، بينما إذا وجدت ثلاث نقط ، فأنها تُعطي شكلاً وهمياً للمثلث وإذا أربع نقاط أعطت مربعاً أو مستطيلاً وهكذا تصبح هي المركز الروحي لذاتية الفنان أو ربما هي الملاذ والرمز الروحاني المتصوف التي جسدت لفعلها منحنيات خطية روحية تتعاطف مع المحيط الذي خلقه المركز ، فكوّنت شكلاً هندسياً مربعاً محكوماً بإرادة النقطة ، والذي يتمثل فيه توازن النقيضين (الموت والحياة) ومنه يتولد المضلع والمثلث وصولا إلى الدائرة . هذه النقطة التي عدّها الفنان " حسن عبود " (المركز الروحي) لتكويناته ، نلاحظها قد أسست شكلاً ذهنياً دائرياً ، يبتدئ منها ليمر بحركة البقع اللونية المحيطية الدائرية ليمتد الى عدد لانهائي من الدوائر التي تحوي العالم المرئي ، لتعود مرة ثانية إليه، ضمن حيز العقل البشري ، وقد أجد ان النقطة ربما تعبر عن فناء أشكال الوجود فيها ، من خلال ترحيل الفنان للشكل الطبيعي من مرحلة الحس إلى مرحلة الخيال فالتجريد التام ، فالنقطة هُنا جامعة وشاملة وهي أساس لكل تكوين على الرغم من عدم حضورها عيانياً ، فهي البداية والنهاية ، وهي مرئية عند تكوّن الخط ولامرئية عند الاستعانة بحركة الأشكال المتجاورة في التعبير عن وجودها ... فقد اختزل الفنان " حسن عبود " ذاكرة المكان المُقدّس ، المتمثل بمدينته الفردوسية (كربلاء) ، الممتلئة بعلامات الجمال الروحاني المتمفصلة بالمرجع الحضاري والتاريخي وبما فيها من ايحاءات وعلامات ورموز تبتعد عن التكلف لصالح التعبير عن جدلية الفكر الذي يُقرأ من خلال اشكاله التجريدية الخالصة والتي تكوّن مع بعضها البعض اشرطة كونية تحتفل باللامرئي المخفي على حساب الذاكرة البصرية . نجد هنالك بعض التنظيمات الهندسية في نصوص الفنان التشكيلية ، قد تواشجت مع تجريديته الغنائية ، عندما أعلن الحرب على الاشكال الطبيعية وأقرّ بتقسيم او تجزئة أغلب مشاهده التصويرية الى قطبين هندسيين لكل منهما حياته التشكيلية ، بالرغم من تداخلهما تقنياً من خلال اقتراحه لبقع لونية تحتكم الى حدٍ ما الاثر التلقائي وحداثة التشظي والاغتراب ، الناتج بفعل التحزيز والحك والقشط المتكرر على المساحات اللونية المجردة (اللون البرتقالي والاحمر والابيض بجانب الاسود وتدرجاته ...) والتي تتشكل فيما بعد الى علامة او نقطة او اشكال هندسية (المثلث-الدائرة) والتي تحتضنها الارضيات الترابية اللون ، لتساعد ذهن التلقي في البحث عن الاعماق من الاعالي وعن الحب في الحرب وعن الصمت في الكلام والمخفي في المعلن واللامعنى في المعنى !!
فن الواقع-بين الماهية والوجود-د. غالب المسعودي
فن الواقع
بين الماهية والوجود
(ليست الفلسفة خارجة عن العالم, كما ان الدماغ-وان لم يكن في المعدة-ليس خارجا عن الانسان)
كارل ماركس
ان الواقع يشير الى محاولات كثيرة على مر تاريخ الفلسفة للإجابة على سؤال أبدي –أيهما أسبق الماهية أم الوجود....؟-والذي صاحب الانسان منذ فجر وعيه مدفوعا برغبة دفينة لتقصي حقيقة وجوده, ولا يؤاخذ الانسان في ذلك لأنه يمارس حريته الكاملة من ناحية ابداعية ,وله ان يمنحها من الظلال ما يهدف الى استكمال وجوده ,وفي ظل هذا الجدل يمكن القول ان من الصعوبة تحديد ايهما المتقدم, من دون الانغماس في الذات ,بالرغم من سلبيتها احيانا, اذا اخذنا بالاعتبار ان الغالبية من الحضارات البدائية كانت تبحث عن اله ,وهي لا تعرف بوجوده, ونجدها مهتمة بمصيرها اكثر من اهتمامها بالتنشئة و تصل الزوبعة الى ذروتها, حين يأتي دور الميثولوجيا في تقييم الوضع لتجد حلا وسطا بين تاريخية النشأة(الكوزمولوجيا)وواقعية المصير(اسكاتولوجبا)باعتبارهما مسلمتان غير خاضعتين لاعتبارات زمنية, ولا يمكن البرهان عليهما ,وهما بالتالي ترجمة تدار من قبل العقل المسيطر لتلك المجموعة الاثنية ,وهو الذي يمسك بالمبادرة وله القول الفصل في الجدل ,معطلا اي فرصة للتقدم, وبذا تبقى هذه المجتمعات التي تحكمها الاسطورة راكدة لأنها لا تعمل باليات الفكر النقدي الحر, وهي تضمر العداء والشك لكل جديد وبالتالي تنثر بذور الشك حول العقل في كل امكانياته الابداعية. على اننا اذا اتخذنا البعد المناسب من كل الطروحات والاكتشافات التمهيدية لعصر الانسان الواعي لمحيطه, تبين لنا انها تحمل جميعا وبنسب مختلفة جدلية ازلية ما بين الوجود والماهية, ونجد الكثير منها ما هو منسوب الى العقيدة التي ادخلها البعض على وثائق سابقة واصبحت مسلمات في اطار لاهوتي, وهنا يكون الاهتمام بالنتائج ,لا على الاطار التاريخي الذي جرت بموجبه الحوادث ,والنتيجة تكون القراءة منقوصة ويصبح كل عمل جدي يصبو الى اعادة الاحداث الى نصابها بمثابة اغراء بالارتداد(المعتزلة.........الى احمد القبانجي). يعرفنا المفهوم الاول ,ان الماهية رغم ارتباطها بالوجود لكن لها اسبقية كيانية كونها خلاصة المشيئة الالاهية أو المثال, وهي مصاحبة للقديم, أما المفهوم الثاني اي الوجودية فهي مرتبطة بالموجود بما هو موجود رغم ان للوجود ماهية, وفي ظل هكذا جدل يصعب استخلاص الاجابة التي تشكل صميم الكتابة, وفي ضوء نشاط العصر وخضم المواجهات ندرك ان الحس العقلي لدى الاسلاف كان في بدايته كونهم لم يعلنوا اي تجديد للتاريخ القديم في ظل اضطراب كوني ولم تكن تعنيهم النظرة الشمولية للعالم و هو البعد الاساسي للكون. ان ادوات المعرفة متاحة للعقل وان التجربة الانسانية لا يمكن تفريقها الى ذات وموضوع ,بل تكون وعيا مندمجا تختلط فيها المشاعر وتتداعى من خلالها الحواجز, اي ان هناك حالة من الوجود يندمج فيه الوعي بالواقع, ينشا عنه ذات خلاقة مفعمة بالحرية, وهذا ما طرحته المادية التاريخية الديالكتيكية اذ ليس الوجود ساكن, بل وجودا ديناميكيا يتيح الاساس لكل وجود ,ويضفي الوحدة على الكون, وهو ايجابي دوما ويضيء التطورات التي تنبثق من الاشياء, ليس منفصلا عن واقعه الكلي ولكنه يختلف تبعا لأنشطته الفاعلة, وإزاء هذه الخلفية نجد ان الدين كان هدفه مساعدة الانسان في الارتفاع عن القيود التي تفرضها عليه الطبيعة في ظل وعيه و ضمن اطار زماني محدد, إلا ان هذا الادراك اصبح ممكنا من خلال النشاط العلمي والابداعي ,وهو ادراك للوجود ومعرفة, وهذا ما لاتتيحه الميتافيزيقيا, حيث ستؤدي الى انغماس مكثف يستغرق العمر كله في البحث عن وظيفة للروح, وعندها تنشا المعاناة اذ ترتبط العوامل الموضوعية بمثال منفصل بحكم تشكله ,,وقد تتعرض هويته للتهديد من خلال التغيرات التي تتحكم في العالم. ان الجدل الذي افترضه هنا خاص بالمذاهب الفلسفية المتباينة ويطبق مبادئ المنطق والتفكير العقلاني, من جانب ومن جانب آخر هو ادراك وممارسة اللاتشبث ,لان وظيفة الفلسفة هي ان تفضي بالمرء الى الادراك ويتجاوز بها النظرة احادية الجانب, وهي عملية استبصار يتم فهمه بشكل صحيح ,ويتم استخدامه بحكمة, والاستدلال والاستنتاج هو ما يميز النظريات العلمية والفلسفية, غير ان محاولة اظهار الحقيقة بالاعتماد على مفاهيم تناقض الضرورة المنطقية ولا تسخر العقلانية لكل حلقات الاتصال والارتباطات المفترضة للواقع, وذلك باعتبارها ذات شمولية كونية تحيط بما كان وسيكون رغم تشبثها بالحكمة الاولى المنقرضة ,إذ أنها تفتقر الى الحجج والبراهين, وان وجهة نظرها موضع تمحيص ,وكثيرا ما تنطلق مثل هذه الدعوات عندما يكون هناك تردي اخلاقي واسع النطاق, تتظاهر بإصلاح الحال, وتتجه الى قدرة مطلقة تنظم كلا من الطبيعة والبشر ,وعندما تحين محاولة اظهار الحقيقة اعتمادا على مفاهيمها لا يمكن الدفاع عنها لأنها اقل ايضاحا واكثر مراوغة. الا ان الانسان حينما ينظر الى طبيعته الانسانية, وأنى يكون اسمى من الانسانية مصدرا للمبادئ, و يبحث من خلال وجدانه النقي عن اعراف الحياة هي التي ستتيح له السعادة والخير.
(ليست الفلسفة خارجة عن العالم, كما ان الدماغ-وان لم يكن في المعدة-ليس خارجا عن الانسان)
كارل ماركس
ان الواقع يشير الى محاولات كثيرة على مر تاريخ الفلسفة للإجابة على سؤال أبدي –أيهما أسبق الماهية أم الوجود....؟-والذي صاحب الانسان منذ فجر وعيه مدفوعا برغبة دفينة لتقصي حقيقة وجوده, ولا يؤاخذ الانسان في ذلك لأنه يمارس حريته الكاملة من ناحية ابداعية ,وله ان يمنحها من الظلال ما يهدف الى استكمال وجوده ,وفي ظل هذا الجدل يمكن القول ان من الصعوبة تحديد ايهما المتقدم, من دون الانغماس في الذات ,بالرغم من سلبيتها احيانا, اذا اخذنا بالاعتبار ان الغالبية من الحضارات البدائية كانت تبحث عن اله ,وهي لا تعرف بوجوده, ونجدها مهتمة بمصيرها اكثر من اهتمامها بالتنشئة و تصل الزوبعة الى ذروتها, حين يأتي دور الميثولوجيا في تقييم الوضع لتجد حلا وسطا بين تاريخية النشأة(الكوزمولوجيا)وواقعية المصير(اسكاتولوجبا)باعتبارهما مسلمتان غير خاضعتين لاعتبارات زمنية, ولا يمكن البرهان عليهما ,وهما بالتالي ترجمة تدار من قبل العقل المسيطر لتلك المجموعة الاثنية ,وهو الذي يمسك بالمبادرة وله القول الفصل في الجدل ,معطلا اي فرصة للتقدم, وبذا تبقى هذه المجتمعات التي تحكمها الاسطورة راكدة لأنها لا تعمل باليات الفكر النقدي الحر, وهي تضمر العداء والشك لكل جديد وبالتالي تنثر بذور الشك حول العقل في كل امكانياته الابداعية. على اننا اذا اتخذنا البعد المناسب من كل الطروحات والاكتشافات التمهيدية لعصر الانسان الواعي لمحيطه, تبين لنا انها تحمل جميعا وبنسب مختلفة جدلية ازلية ما بين الوجود والماهية, ونجد الكثير منها ما هو منسوب الى العقيدة التي ادخلها البعض على وثائق سابقة واصبحت مسلمات في اطار لاهوتي, وهنا يكون الاهتمام بالنتائج ,لا على الاطار التاريخي الذي جرت بموجبه الحوادث ,والنتيجة تكون القراءة منقوصة ويصبح كل عمل جدي يصبو الى اعادة الاحداث الى نصابها بمثابة اغراء بالارتداد(المعتزلة.........الى احمد القبانجي). يعرفنا المفهوم الاول ,ان الماهية رغم ارتباطها بالوجود لكن لها اسبقية كيانية كونها خلاصة المشيئة الالاهية أو المثال, وهي مصاحبة للقديم, أما المفهوم الثاني اي الوجودية فهي مرتبطة بالموجود بما هو موجود رغم ان للوجود ماهية, وفي ظل هكذا جدل يصعب استخلاص الاجابة التي تشكل صميم الكتابة, وفي ضوء نشاط العصر وخضم المواجهات ندرك ان الحس العقلي لدى الاسلاف كان في بدايته كونهم لم يعلنوا اي تجديد للتاريخ القديم في ظل اضطراب كوني ولم تكن تعنيهم النظرة الشمولية للعالم و هو البعد الاساسي للكون. ان ادوات المعرفة متاحة للعقل وان التجربة الانسانية لا يمكن تفريقها الى ذات وموضوع ,بل تكون وعيا مندمجا تختلط فيها المشاعر وتتداعى من خلالها الحواجز, اي ان هناك حالة من الوجود يندمج فيه الوعي بالواقع, ينشا عنه ذات خلاقة مفعمة بالحرية, وهذا ما طرحته المادية التاريخية الديالكتيكية اذ ليس الوجود ساكن, بل وجودا ديناميكيا يتيح الاساس لكل وجود ,ويضفي الوحدة على الكون, وهو ايجابي دوما ويضيء التطورات التي تنبثق من الاشياء, ليس منفصلا عن واقعه الكلي ولكنه يختلف تبعا لأنشطته الفاعلة, وإزاء هذه الخلفية نجد ان الدين كان هدفه مساعدة الانسان في الارتفاع عن القيود التي تفرضها عليه الطبيعة في ظل وعيه و ضمن اطار زماني محدد, إلا ان هذا الادراك اصبح ممكنا من خلال النشاط العلمي والابداعي ,وهو ادراك للوجود ومعرفة, وهذا ما لاتتيحه الميتافيزيقيا, حيث ستؤدي الى انغماس مكثف يستغرق العمر كله في البحث عن وظيفة للروح, وعندها تنشا المعاناة اذ ترتبط العوامل الموضوعية بمثال منفصل بحكم تشكله ,,وقد تتعرض هويته للتهديد من خلال التغيرات التي تتحكم في العالم. ان الجدل الذي افترضه هنا خاص بالمذاهب الفلسفية المتباينة ويطبق مبادئ المنطق والتفكير العقلاني, من جانب ومن جانب آخر هو ادراك وممارسة اللاتشبث ,لان وظيفة الفلسفة هي ان تفضي بالمرء الى الادراك ويتجاوز بها النظرة احادية الجانب, وهي عملية استبصار يتم فهمه بشكل صحيح ,ويتم استخدامه بحكمة, والاستدلال والاستنتاج هو ما يميز النظريات العلمية والفلسفية, غير ان محاولة اظهار الحقيقة بالاعتماد على مفاهيم تناقض الضرورة المنطقية ولا تسخر العقلانية لكل حلقات الاتصال والارتباطات المفترضة للواقع, وذلك باعتبارها ذات شمولية كونية تحيط بما كان وسيكون رغم تشبثها بالحكمة الاولى المنقرضة ,إذ أنها تفتقر الى الحجج والبراهين, وان وجهة نظرها موضع تمحيص ,وكثيرا ما تنطلق مثل هذه الدعوات عندما يكون هناك تردي اخلاقي واسع النطاق, تتظاهر بإصلاح الحال, وتتجه الى قدرة مطلقة تنظم كلا من الطبيعة والبشر ,وعندما تحين محاولة اظهار الحقيقة اعتمادا على مفاهيمها لا يمكن الدفاع عنها لأنها اقل ايضاحا واكثر مراوغة. الا ان الانسان حينما ينظر الى طبيعته الانسانية, وأنى يكون اسمى من الانسانية مصدرا للمبادئ, و يبحث من خلال وجدانه النقي عن اعراف الحياة هي التي ستتيح له السعادة والخير.
الخميس، 18 أكتوبر 2012
أبو الغيرة هاشيموتو فوكودا,ونقيضه فرهودو حورامي فرهودو -كاظم فنجان الحمامي
أبو الغيرة هاشيموتو فوكودا
ونقيضه فرهودو حورامي فرهودو
جريدة المستقبل العراقي الصادرة ببغداد في 1/10/2012
هاشيموتو فوكودا رجل ياباني بسيط من قبائل الساموراي العريقة, سجل بشهامته وحميته موقفا وطنيا مدهشاً, رفع به اسمه واسم أسرته إلى مصاف الفرسان النبلاء في الحرس الإمبراطوري. . تتلخص قصة (هاشيموتو) بأنه كان مديرا لبلدية مدينة (كوبي) اليابانية, التي ضربها زلزال عنيف دمر خزانات المياه ومحطات التحلية, وأصاب منظومات الأنابيب المنزلية في المدينة بأعطاب كثيرة, فانقطعت مياه الشرب عن الناس, وكانوا في أمس الحاجة لمن يروي ظمأهم, ويقف معهم في هذه المحنة, التي جلبتها لهم الكوارث الطبيعية, وهنا جاء دور (هاشيموتو) أبو الغيرة وصاحب الحمية, فعمل بجد ليل نهار, وكان يبكي بكاءً شديداً اثناء مساعدته المتضررين, لم يعرف أحد سبب بكائه, لكنه شوهد بعد يوم من الكارثة يقوم بتأدية بعض المراسيم التقليدية لدفن زوجته, التي تأخر في البحث عنها تحت أنقاض منزله, بسبب انشغاله بإنقاذ المنكوبين ومعالجة الجرحى, وفي صباح اليوم التالي وجدوه مشنوقاً ومعلقاً بشجرة, وقد ترك رسالة يقول فيها: ((إن المسؤول الذي يعجز عن إيصال خدمة مياه الشرب لأبناء مدينته لا يستحق الحياة)), وهكذا انتحر (هاشيموتو) تضامنا مع اسر الضحايا, ولشعوره بالذنب والتقصير في حادثة طبيعية ساقتها الأقدار إلى مدينته, لم يكن (هاشيموتو) طرفا فيها, لكنه خجل من نفسه لأنه لم يكن قادراً على تأمين مياه الشرب للعطشى, ولم يكن قادراً على مواساتهم في هذه الفاجعة, ففضل الانتحار شنقا على طريقة الساموراي, واختار الموت بشرف لذنب لم يقترفه هو, لكن مشاعره الوطنية الصادقة, وانفعالاته الإنسانية المرهفة هي التي رسمت له الطريق للالتحاق بالفرسان النبلاء. . للفساد والإهمال والتقصير صور كثيرة, ومعايير متباينة تختلف من مكان لآخر ومن زمان لزمان, ومن قوم لقوم, فما كان يراه مدير بلدية (كوبي) اليابانية فسادا, لا يراه مدير بلديتنا كذلك, وما كان يراه المدير الياباني (هاشيموتو فوكودا) تقصيراً, قد لا يراه مدير بلديتنا, وقد لا يكثر له بالمرة, فليس من عادة مدراء البلديات عندنا الاهتمام بالنواحي الخدمية بالمستوى الذي بلغته اليابان من الحرص والتفاني, أو الذي بلغته سيريلانكا الفقيرة من الكفاح والصبر. . وصدق القائل: ((اللي اختشوا ماتوا)), فكان هاشيموتو أول الذين ماتوا ألما وحزنا وتعاطفا مع شعبه, مات (هاشيموتو) لأنه كان يستحي من نفسه, وهو يرى أبناء مدينته يمزقهم الزلزال من دون أن يقدر على انتشالهم وإسعافهم ونجدتهم. . ما كان على (هاشيموتو فوكودا) أبو الغيرة والحمية أن يقتل نفسه حزنا وألما على شحة مياه الشرب بعد الزلزال الذي حطم مواسير مياه مدينته, ودمر محطات التحلية فيها, كان يتعين عليه أن يتريث قليلا, ولا يقدم على شنق نفسه تحت تلك الشجرة البائسة عقابا لتقصيره, لو نظر (هاشيموتو) لمصيبتنا لهانت عليه مصيبته, فما حدث في اليابان بفعل الزلزال اللعين, يحدث في قرانا ومدننا كل يوم من دون أن يمر بها الزلزال, ويحدث في قراننا ومدننا على الرغم من توفر كل المستلزمات المالية والتشغيلية والاجتماعية, فيمر المسؤولون علينا بمصفحاتهم المدرعة, وسياراتهم المظللة, ومواكبهم الاستفزازية, وقواتهم المبرقعة, بوجوههم المقنعة, ورؤوسهم الحليقة, فتتعالى صيحاتهم الزاجرة, تأمرنا بإخلاء الطريق للمسؤول المبجل المتوجه إلى قلعته الحصينة, المحاطة بالسواتر الخراسانية, والكتل الكونكريتية, فيسد الطرق والمنافذ المؤدية إلى ثكناته المعززة بالمراصد والموانع والكاميرات والأسلاك الشائكة. . إن أرقى ما يتعلمه المسؤول الشريف في حياته: أن يتحمل المسؤولية مهما عظمت طالما تصدى لها بكل إرادته الحرة المخلصة, ويتحمل كافة نتائجها, وأن يكون النجم الذي يقضي عمره في بث النور للجميع دون أن ينتظر من أحد رفع رأسه ليقول له شكراً لك. . رحل هاشيموتو بعد الزلزال العنيف الذي ضرب مدينته ودمرها بالكامل, لكن إخوانه في طلائع الساموراي أعادوا بنائها بأبهى حلة في غضون أربعة أعوام, وأصبحت اليوم قبلة للسياح والزائرين. فمتى ينتفض إخوان السامري (فرهودو حورامي فرهودو), وينهضوا من غفلتهم فيقدموا الحد الأدنى من الخدمات لأبناء مدنهم التي تنتحر كل يوم بسبب انقطاع الكهرباء, وشحة الماء, وغلاء الغذاء, وفساد الدواء ؟؟؟. . رحم الله هاشيموتو أبو الغيرة وصاحب الحمية, وألهم أهله في مدينة كوبي الصبر والسلوان.......... ولك الله يا عراق. . --
جريدة المستقبل العراقي الصادرة ببغداد في 1/10/2012
هاشيموتو فوكودا رجل ياباني بسيط من قبائل الساموراي العريقة, سجل بشهامته وحميته موقفا وطنيا مدهشاً, رفع به اسمه واسم أسرته إلى مصاف الفرسان النبلاء في الحرس الإمبراطوري. . تتلخص قصة (هاشيموتو) بأنه كان مديرا لبلدية مدينة (كوبي) اليابانية, التي ضربها زلزال عنيف دمر خزانات المياه ومحطات التحلية, وأصاب منظومات الأنابيب المنزلية في المدينة بأعطاب كثيرة, فانقطعت مياه الشرب عن الناس, وكانوا في أمس الحاجة لمن يروي ظمأهم, ويقف معهم في هذه المحنة, التي جلبتها لهم الكوارث الطبيعية, وهنا جاء دور (هاشيموتو) أبو الغيرة وصاحب الحمية, فعمل بجد ليل نهار, وكان يبكي بكاءً شديداً اثناء مساعدته المتضررين, لم يعرف أحد سبب بكائه, لكنه شوهد بعد يوم من الكارثة يقوم بتأدية بعض المراسيم التقليدية لدفن زوجته, التي تأخر في البحث عنها تحت أنقاض منزله, بسبب انشغاله بإنقاذ المنكوبين ومعالجة الجرحى, وفي صباح اليوم التالي وجدوه مشنوقاً ومعلقاً بشجرة, وقد ترك رسالة يقول فيها: ((إن المسؤول الذي يعجز عن إيصال خدمة مياه الشرب لأبناء مدينته لا يستحق الحياة)), وهكذا انتحر (هاشيموتو) تضامنا مع اسر الضحايا, ولشعوره بالذنب والتقصير في حادثة طبيعية ساقتها الأقدار إلى مدينته, لم يكن (هاشيموتو) طرفا فيها, لكنه خجل من نفسه لأنه لم يكن قادراً على تأمين مياه الشرب للعطشى, ولم يكن قادراً على مواساتهم في هذه الفاجعة, ففضل الانتحار شنقا على طريقة الساموراي, واختار الموت بشرف لذنب لم يقترفه هو, لكن مشاعره الوطنية الصادقة, وانفعالاته الإنسانية المرهفة هي التي رسمت له الطريق للالتحاق بالفرسان النبلاء. . للفساد والإهمال والتقصير صور كثيرة, ومعايير متباينة تختلف من مكان لآخر ومن زمان لزمان, ومن قوم لقوم, فما كان يراه مدير بلدية (كوبي) اليابانية فسادا, لا يراه مدير بلديتنا كذلك, وما كان يراه المدير الياباني (هاشيموتو فوكودا) تقصيراً, قد لا يراه مدير بلديتنا, وقد لا يكثر له بالمرة, فليس من عادة مدراء البلديات عندنا الاهتمام بالنواحي الخدمية بالمستوى الذي بلغته اليابان من الحرص والتفاني, أو الذي بلغته سيريلانكا الفقيرة من الكفاح والصبر. . وصدق القائل: ((اللي اختشوا ماتوا)), فكان هاشيموتو أول الذين ماتوا ألما وحزنا وتعاطفا مع شعبه, مات (هاشيموتو) لأنه كان يستحي من نفسه, وهو يرى أبناء مدينته يمزقهم الزلزال من دون أن يقدر على انتشالهم وإسعافهم ونجدتهم. . ما كان على (هاشيموتو فوكودا) أبو الغيرة والحمية أن يقتل نفسه حزنا وألما على شحة مياه الشرب بعد الزلزال الذي حطم مواسير مياه مدينته, ودمر محطات التحلية فيها, كان يتعين عليه أن يتريث قليلا, ولا يقدم على شنق نفسه تحت تلك الشجرة البائسة عقابا لتقصيره, لو نظر (هاشيموتو) لمصيبتنا لهانت عليه مصيبته, فما حدث في اليابان بفعل الزلزال اللعين, يحدث في قرانا ومدننا كل يوم من دون أن يمر بها الزلزال, ويحدث في قراننا ومدننا على الرغم من توفر كل المستلزمات المالية والتشغيلية والاجتماعية, فيمر المسؤولون علينا بمصفحاتهم المدرعة, وسياراتهم المظللة, ومواكبهم الاستفزازية, وقواتهم المبرقعة, بوجوههم المقنعة, ورؤوسهم الحليقة, فتتعالى صيحاتهم الزاجرة, تأمرنا بإخلاء الطريق للمسؤول المبجل المتوجه إلى قلعته الحصينة, المحاطة بالسواتر الخراسانية, والكتل الكونكريتية, فيسد الطرق والمنافذ المؤدية إلى ثكناته المعززة بالمراصد والموانع والكاميرات والأسلاك الشائكة. . إن أرقى ما يتعلمه المسؤول الشريف في حياته: أن يتحمل المسؤولية مهما عظمت طالما تصدى لها بكل إرادته الحرة المخلصة, ويتحمل كافة نتائجها, وأن يكون النجم الذي يقضي عمره في بث النور للجميع دون أن ينتظر من أحد رفع رأسه ليقول له شكراً لك. . رحل هاشيموتو بعد الزلزال العنيف الذي ضرب مدينته ودمرها بالكامل, لكن إخوانه في طلائع الساموراي أعادوا بنائها بأبهى حلة في غضون أربعة أعوام, وأصبحت اليوم قبلة للسياح والزائرين. فمتى ينتفض إخوان السامري (فرهودو حورامي فرهودو), وينهضوا من غفلتهم فيقدموا الحد الأدنى من الخدمات لأبناء مدنهم التي تنتحر كل يوم بسبب انقطاع الكهرباء, وشحة الماء, وغلاء الغذاء, وفساد الدواء ؟؟؟. . رحم الله هاشيموتو أبو الغيرة وصاحب الحمية, وألهم أهله في مدينة كوبي الصبر والسلوان.......... ولك الله يا عراق. . --
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)