الأحد، 3 يوليو 2011

التغيير بلا وصاية-د. جابر حبيب جابر




التغيير بلا وصاية
د. جابر حبيب جابر
"
لثماني سنوات كان العراق يتصدر أجندات الأخبار العربية، ويخضع لتغطية مكثفة ومتابعات متواصلة بحيث بات الشأن العراقي، كما كان الشأن الفلسطيني واللبناني قبله، موضوعا يجذب الكثيرين للكتابة فيه والتعليق عليه بل والمضي لتقديم النصائح بشأنه حتى من قبل أشخاص لم تطأ أقدامهم أرضه يوما وربما لم يقرأوا كتابا واحدا عنه. يدخل ذلك في إطار ما يمكن تسميته بلعنة المناطق الرخوة، حيث يؤدي غياب نظام سياسي قوي وقادر على الدخول في منظومة التسويات الإقليمية إلى تحوله إلى مجال للصراع وبالتالي ساحة مفتوحة للنقد وللتنظير وربما للشماتة. من المؤسف أن قليلين حاولوا النظر بتمعن وحيادية للتجربة العراقية ولإشكاليات الوضع العراقي، لربما كان ذلك قد وفر مشقة تكرار الكثير من المشاهد والأحداث التي نشهدها الآن في دول عربية أخرى.

لقد كانت ميزة الوضع العراقي أنه البلد العربي الوحيد الذي جرت فيه عملية إسقاط النظام لأول مرة في التاريخ العربي على مرأى من كاميرات التلفزيون التي نقلت الحدث بشكل مباشر، وربما كانت هنالك مرارة كبيرة في أن التغيير قد جرى على يد قوات احتلال أجنبية، لكن من اللافت اليوم أننا بتنا نرى بعض ممن انتقد ما سماه بالاستعانة بالأجنبي وبالتعاطي مع نتائج الاحتلال يفعل الشيء نفسه، كما نرى مع بعض الإخوة الليبيين اليوم الذين لا يرون غضاضة من الاحتماء بطائرات الناتو للتخلص من الديكتاتورية المقيتة، وفي كل بلد عربي حصلت به احتجاجات سمعنا «المحتجين» يستصرخون «المجتمع الدولي» للتدخل أو لسحب شرعية النظام القائم. والكل يعرف جيدا أن المقصود من عبارة «المجتمع الدولي» هي الولايات المتحدة وأوروبا بشكل خاص. ليس ذلك دفاعا عن التدخل العسكري الذي حصل في العراق والذي يستحق النقد الكثير (لا سيما عندما اختار أن يتحول إلى «احتلال» وعندما لم تظلله شرعية دولية كافية) ولكنه محاولة لرصد كيف تتغير المواقف من الضد إلى الضد عندما يتعلق الأمر «بنا» لا «بغيرنا».

ظلت المروية السائدة في الإعلام العربي عن العراق أن كل شيء يجري على نحو سيئ وأن هنالك حربا مستمرة بين الاحتلال والمقاومة، بين السنة والشيعة، بين العرب والأكراد والتركمان، وصل الأمر لدى البعض أنه استسهل تقديم الديكتاتور السابق بوصفه شهيدا وبطلا اغتيل بمحاكمة «غير عادلة» وهو الذي لم يعط أيا من ضحاياه، بمن في ذلك أصدقاؤه وأقاربه الذين غضب عليهم، فرصة المحاكمة أو الدفاع عن الذات.

لقد كان العراق موضوعا شيقا للبعض في منطقة عرفت بركود مياهها، فكل شيء في الشرق الأوسط كان يوحي بالجمود. القادة هم أنفسهم لم يتغيروا منذ عشرات السنين، السياسات هي نفسها، والأنظمة لا يطال التغيير فيها أحيانا حتى الوزراء الذين يبقى بعضهم دهرا طويلا في منصبه. أما في العراق فقد تغير كل شيء فجأة، وكان على الإعلام أن يخلق روايته عن التغيير، ولأن «التغيير» ليس أمرا محمودا في منطقتنا، كان لا بد وأن يتم تصوير ما يحصل في العراق على أنه سيئ بكل جوانبه وأسوأ من الماضي. كثير من العراقيين يصعقون بالسؤال المجازي الذي يواجههم في بلدان عربية: ألم يكن صدام أفضل لكم. هكذا ببساطة تم وضع العراقيين بين خيارين، إما صدام أو الفوضى، هكذا تم إقناع المشاهدين والمستمعين الذين تحول بعضهم اليوم إلى ثوار ومنتفضين بأن العراقيين لا يستحقون خيارا ثالثا. ترى ماذا سيكون ردهم إن ذهب عراقيا نحوهم وقال لهم ديكتاتوركم الحالي أو السابق أفضل لكم؟؟

لا أحد يمكنه الادعاء بأن ما شهده العراق لم يكن كارثيا، كان كذلك ومنذ زمن طويل، الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق بدأت منذ أن أصبحت السلطة بيد القتلة، والكارثة الأكبر منها بدأت حينما صار بعض «المثقفين» ينظرون إلى هؤلاء القتلة بوصفهم زعماء وطنيين. ألا نتذكر كم كتابا عربيا وضع تمجيدا بصدام، وبعض الكتاب هم معارضون للديكتاتوريات في بلدانهم؟!. مسلسل الكوارث استمر منذ ذلك الوقت ولم يكن وليد 2003، وكان بإمكاننا جميعا أن نستفيد من دروس تلك الكوارث ومن الإخفاقات الكبيرة التي واجهها مشروع بناء الدولة في العراق بعد نهاية الديكتاتورية، لكن للأسف، لم نشهد سوى القليل جدا من النقاش العقلاني والكثير جدا من الصراخ واللامعنى.

العراق اليوم ليس الخبر الأول، فالمنطقة كلها تغلي، ومشاهد 2003 طغت عليها اليوم مشاهد المنتفضين في تونس واحتجاجات ساحة التحرير القاهرية والانتفاضة اليمنية والحرب الليبية والحراك الشعبي السوري، بات على الجميع أن يرى على الأرض وأمام منزله ما الذي يعنيه تغيير النظام في منطقتنا وكم هو مكلف ومربك ومعقد تأسيس نظام جديد بعد عصر الدول البوليسية وحكم أجهزة الأمن. كثيرون بدأوا مراجعة قواميسهم السابقة وتفصيلها على قياس التحدي الجديد، ولم يعد سهلا قط إطلاق الأحكام والتعبير عن بعد وعبر الأقمار الاصطناعية عن «الرفض والشجب والتنديد».

كما قلت في مقالة سابقة إننا اليوم في الزمن الرمادي، ليس هنالك معيار جاهز للصواب والخطأ، وخارطة طريق واحدة للتغيير، ورواية واحدة لطبيعته، المعيار الوحيد الذي يستحق أخذه بالاعتبار هو الوقوف إلى جانب الشعوب الثائرة، أيا كان البلد الذي تنطلق منه وبغض النظر عن المآل الذي ستنتهي إليه. فليس أسوأ في منطقتنا من ذلك الجمود الذي أطبق على كل شيء لزمن طويل. لا أحد يتوقع فردوسا بعد التغيير، تلك أهم خلاصات التجربة العراقية، سيكون مخاضا طويلا وعسيرا وربما مؤلما ومكلفا جدا، وقد تحصل ارتدادات وينشأ تذمر ويظهر أناس يعلنون حنينهم للزمن السابق، فهنالك ضغوط تجعل الإنسان يفقد ذاكرته البعيدة ويصبح موقفه وحديثه شرطا انعكاسيا للحظته الراهنة.

ولكن من يدعي التجانس مع نفسه، ويزعم رفضه للانتقائية، لا بد وأن يقبل بحق كل شعب في انتزاع حريته من دون ممارسة أي وصاية، لا سيما من أولئك الذين لا يعرفون عن ما يحصل سوى ما يرونه عبر شاشات التلفزيون، فهذه الأخيرة ليست بحاملة اليقين. ما نحتاج إليه في هذه اللحظة أن نفهم ما يحصل برؤية موضوعية وعقلانية تشخص المشكلات القائمة والتحديات القادمة والاستعداد لزمن حافل بالتغيير ومتحرر من جمود الماضي، وقبل كل شيء أن نترك للشعوب نفسها رواية قصتها ففي الكثير من الأحيان هي أرشد ممن يدعون إرشادها.

ليست هناك تعليقات: