قصص قصيرة جدا ً
عادل كامل
[1] بحث
ما الذي يفعله، وهو، منذ أيام، يحفر في الأرض...؟ قلت: ربما يصنع ملجأ، أو بئرا ً، أو يبحث عن كنز! بعد أيام ... عدت أراقب، فلم أجد الرجل، فذهبت إلى الأرض التي كان يحفر فيها. لقد دفن جسده فيها، لكن جارنا لم يمت بعد، بل قال لي: يا ولد...لماذا أزحت التراب عن رأسي، ماذا تريد، من أرسلك...؟
ـ لا أريد شيئا ً، لكن لماذا تركتننا وغادرت ..؟ لم يجب. فسألته:
ـ هل الحياة لم تعد محتملة؟ لم يجب أيضا ً. بل أومأ برأسه ان لا افتح فمي، وان أعيد التراب إلى موضعه، بهدوء.
منذ ذلك اليوم، وبعد قرون، كلما دفنت جسدي، أجد أنني ... انتظر ان أعود إلى الحفرة ذاتها!
[2] هذا ما حدث تماما ً
لم ْ استطع ان احدد ما اذا كانت بقع الضوء مستطيلة أو مربعة، أو محض مثلثات تراكمت أمامي. أنا لم افعل ذلك لأنني لا أميز أآنا هو الذي كنت امنعها من الاقتراب مني، أم هي التي قد ابتعدت عني، الأمر لم يعد مثيرا ً للفزع، فالخطوط تداخلت نهاياتها وتلاشت في العتمة، لأنني ما ان أفقت لم أر إلا مخلفات أعشاب لم تزل طرية، لها رائحة بذور، وقد جذبتني إليها، ثم لمحت أنني أنا الآخر لم يقاوم الذوبان. لا أحد قال لي ماذا حدث، ولا أنا كنت منشغلا ً ما اذا كانت الحرب قد وضعت أوزارها أم بدأت توا ً. خطوط لها حرارة رماد داكن، وأنا مازلت أقف عند النافذة، لصق سريري الخشبي، عندما توارت. كان ذلك هو الذي حدث، تماما ً، وقد غدا نائيا ً عني، بعد ان أخذني معه. منذ قرون لم أبح بكلمة، لأن فمي انشغل يتتبع رائحة الأعشاب، ويأمل ان يمسك بالبذور، بجوار المثلثات التي استطالت وتكورت حتى استحالت إلى بقع داكنة اللون. أنا قلت أنها لم تكن غير ذلك، مع أنها أصبحت شبيه بالمكعبات، وإنها أصبحت عديمة الشكل، تجاور أشكالا ً تمتد دائرية حول ظلها. منذ ذلك اليوم لم أبح بكلمة فقد كان فمي غادرني معها ولم يترك إلا بقعا ً عديمة اللون.
[3] قصاص
عندما أفقت من الموت، ورفعت راسي قليلا ً، شاهدت صبية يحفرون قبرا ً بجوار قبري. هل تكلمت ...؟ احدهم لمحني فاقترب مني، بهدوء، أعادني إلى الموت، لكني سمعته يخاطبني: لم يحن أوان القصاص منك!
[4] رصاصة
هل ينبغي علي ّ ان اعرف ماذا حدث بالضبط، أم ان الرصاصة التي اخترقت جمجمتي، واستقرت في القاع، لم تسمح لي إلا ان امسك بها، دون النظر إليها، وان أعيدها إلى الثقب الذي انطلقت منه. كانت رصاصة مدببة ليس لها رائحة محددة، فلما أبعدتها عني، رأيتها تعود لتبحث عن رأس إنسان آخر.
[5] زاوية
كان شبيها ً بالهرم، الذي طالما رسمته في درس الرسم، عدا انه يتكون من حبيبات بالغة الصغر شبيهة برؤوس موتى، عديمة الملامح. نظرت إليه من الأسفل إلى الأعلى، وبالعكس، فلم يكن شبيها بالهرم الذي كنت ارسمه في طفولتي، لأنني بعد ذلك اليوم لم أر ْ هرما ً، مثلما لم يخطر ببالي ان ابحث عن رأسي أيضا ً.
[6] الدورة لم تكتمل
أمر قائد المجموعة زمرته بإطلاق سراحي. وقال موجها كلامه لي: اذهب ...! أين يمكنني ان اذهب، وأنا بلا رأس..؟ قلت له: أعيدوا لي راسي، لكنه قال لي: سنعيده إليك في الوقت المناسب. فلم اعترض. لم اشكره. ولم اسأل أحدا ً ما اذا كانوا يعرفون ماذا حدث لنا، لأن احدهم التصق بجسدي، ثم ما ان لمسته، حتى وجدت آخر يقترب منا.
بعد قرون، في ذات صباح، وأنا أغادر البيت، تعثرت بشيء شبيه بصخرة! عندما لمسته ظننت ان خطأ ما حدث، فالرأس ـ هذا ـ لا يعود لي، فأعدته ـ بهدوء ـ إلى موضعه، لكن احدهم لكزني بعصاه، ووضعني في صندوق. آنذاك عرفت ان عملهم، معنا، لم ينته بعد.
وبعد قرون أخرى، لم يعد لي جسد، ولا رأس، ولا ... إلا هذا الشبيه بالذي يصعب رؤية مروره، فسألت ما تبقى مني: أتراه تركني وصرت أتتبع اثر خطاه، أم تركته ولم يتخل عن تتبع ما تبقى مني؟
[7] سكن
أخذونا، أنا وجاري، وعدد آخر من المارة، إلى الإمبراطور. كانت ليلة باردة جدا ً، وثمة عاصفة ترابية كانت تمنعنا من الرؤية. أنا لا أتذكر ماذا قال جلالته، لكن جاري الآخر الذي لم يأخذوه معنا، سألني، في اليوم التالي، ماذا قال لكم الإمبراطور...؟ قلت: قال لنا، نحن الذين نجونا من الموت، يحق لنا ان نبقى على قيد الحياة! ثم سألني جاري: وماذا قال أيضا ً..؟ لا استطيع ان أقول انه قال شيئا ً آخر. أبتسم، وقال لي: لم يجد سواكم كي يبقى في الذروة! لم اجب. لأن جاري لم يجد آخر يستجوبه، غيري. منذ ذلك اليوم وأنا أتدثر بغبار العاصفة، بعد ان وجد البرد سكنه في روحي.
[8] الحرية!
للمرة الثالثة، آن لهم ان يطلقوا سراحه، لكن آمر القلعة طلب منه ان يكتب تعهدا ً يؤكد فيه انه سيكون معهم. سحب أصابعه من الورقة وقال للآمر: ألا ترى ان سنوات السجن كافية! لا، قال الآخر، وأعاده إلى زنزانته.
في المرة السابعة، وجد السجين نفسه بانتظار مغادرة القلعة, تغير الآمر، الذي كرر السؤال نفسه: هل ستتعهد...؟ نظر السجين إليه وقال له: ألا ترى أنكم أخذتم أصابعي مني. أعادوه إلى زنزانته. في المرة التالية، وجد آمرا ً آخر، ولكن السؤال تغير. لم يبتسم السجين، فقد ترك رأسه في القلعة، وخرج طليقا ً. قرون وهو ينشد للحرية، ثم، في يوم من الأيام، وجد حشدا ً من الناس، من النساء والشيوخ والأطفال، بينهم أمراء القلعة، وأمراء سجون أخرى، يحدقون في عينيه، تحت أشعة الشمس، وفي الهواء الطلق، وهم يصغون إليه. كانت كلماته تتناثر مع موجات الريح، وتمتزج برذاذ عطر ورود المتنزه، فيما انشغل أمراء القلعة وباقي سجاني المدينة في حوارات لم يلتفت إليها، ولم تثر انتباهه. احدهم سمعه يقول: لا يمكن للحرية ان تحتجز خلف القضبان، أو داخل الجدران. وسمعه آخر يقول: ولا ان تقبع في تمثال!
[9] مع من ...؟
ـ مع من أنت ...؟
ـ معهم!
بعد سنوات، سمع السؤال نفسه:
ـ مع من أنت ...؟
ـ معكم!
آنذاك تركوه ينزف حد الموت. قرون وهو لا يعرف مع من كانوا، هؤلاء الذين، لم يكن معهم، وقرون أخرى مضت، لم يستطع ان يعرف مع من كان، إنما لم يستطع ان يجد من يكون معه!
[10] هو وهي أيضا ً
عرفها. كان لها صوت مبلل برائحة القداح، ولون امتزجت فيه عطور البراري النائية. قال:
ـ أنا لم اختر الدرب الذي سلكته.
ـ وأنا، يا حبيبي، لم يخترني الدرب الذي سلكته!
فكر انه مازال يجهل هل هو صمتها الذي مكث لا يقدر على محوه، أم فرحها المبلل برذاذ الفجر.. فكر أنها لم تدعه يفكر!
ـ اقسم لك َ، الدرب هو الذي أخذني .. وأنا لم اذهب معه...!
ـ أنا، يا حبيبتي، لم اختر دربي، ولم ادع الدرب يأخذني أيضا ً. فانا مازلت، في كل فجر، أرى الطرق تشتبك بالعابرين، وارى، في كل ليل، الومضات تمضي في طرقها ..! لا احد يمر بالدرب أكثر من مرة! ولا درب سلكته الأقدام ذاتها إلا مسح أثرها.
فكر في نفسه، إنها لم تكن إلا محض حكاية محاها الرجل، وتركها تغيب، لتمحوها الأنثى، وقد أعادت إليها حضورها. لكن المرأة قالت:
ـ أنا لا اقدر ان أمحو محوك.
ـ وأنا ... هو الآخر، لا اقدر ان أمحو هذا المحو!
[11] أوامر
قطعوا اليد التي كان يكتب بها. فدوّن بالأخرى. بتروها. عندما حاول ان يبصر، حجبوا عنه الضوء. ترك قلبه يومض، لمحوه، أوقفوا نبضات القلب. فلم يعد لديه إلا خلايا ذاكرته، ترفرف، لمحوها أيضا ً، نثروا رأسه وتركوه يذهب مع الريح. آنذاك لم يعد يعرف انطق أم ترك صمته يدوّن ان شيئا ً ما يقول لهم: حياة فيها انتم، غير جديرة إلا ان تذهب من غير آسف!
عندما، بعد قرون، حاولوا العثور عليه، لم يجدوه، كي يتم وضعه خلف القضبان، لكن قرار الاتهام، مكث معهم، بانتظار التنفيذ.
[12] لا احد
بعد مسافة لا يقدر مداها التي قطعها كي يصل إلى كوكب لم يجد فيه أحدا ً، قال في نفسه: لو عدت إلى كوكبي، يقينا ً، لن أجد أحدا ً في استقبالي، كي اخبره بالأمر. ثم خاطب نفسه: لن تجد من يشك فيك، ولن تجد من يصدقك أيضا ً. يا لها من لعبة فقدت سلاستها! كان ذلك محفزا ً آخر كي لا يموت، لكنه لم يقل قط، انه انتظر ان يجد شيئا ً آخر!
7/7/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق