الثلاثاء، 12 يوليو 2011

تعساء حتى في أوطاننا -كاظم فنجان الحمامي



تعساء حتى في أوطاننا


جريدة المستقبل العراقية في 11/7/2011

كاظم فنجان الحمامي

أتعس ما نمر به اليوم هو هذا الشعور بالغربة ونحن في بيوتنا وأوطاننا, وهذا الشعور بالخذلان بين أهلنا وذوينا, أما كيف تكون الغربة في الوطن ؟, وكيف يعيش الإنسان غريبا في بلده ؟, فتلك مسألة لا يفهمها, ولا يحس بها إلا الذين يعيشون في البلدان التي اهتزت فيها معايير المبادئ والقيم الوطنية, وانقلبت فيها معاني الإيثار والإخلاص رأسا على عقب.

في العراق نعيش تعساء في نومنا, تعساء في يقظتنا, وكأننا خلقنا تعساء, وكتب علينا أن نعيش غرباء, ونموت غرباء. رافقتنا التعاسة والغربة منذ زمن بعيد, والتصقت بنا حتى صارت اكبر كوابيسنا الثقيلة المزعجة.
تتقاذفنا اليوم تقلبات السنوات الخداعات, التي يؤتمن فيها الخائن, ويخوّن فيها الأمين, ويُصدّق فيها الكاذب, ويُكذّب فيها الصادق, وظهرت علينا تماسيح بشرية خبيثة من ذوات الوجوه الزئبقية, طعنوا العراق في ظهره, وباعوا تربته بثمن بخس في أسواق النذالة السياسية, وانحرفوا عن المسارات الوطنية الثابتة, فكانوا أول من وقف مع الكويت في زحفها الحدودي التوسعي, وأول من تطوع للدفاع عن مشاريعها المينائية الاستفزازية في جزيرة (بوبيان), ومشاريعها النووية المستقبلية في جزيرة (وربة), فالتحقوا بصفوف الذين سبقوهم في تقديم فروض الخنوع والخضوع والتواطؤ, وسبقوهم في السقوط في بورصة الولاءات الرخيصة المعلنة لصالح أعداء العراق والطامعين بثرواته, وظهر علينا في الوقت نفسه طابور آخر من المتخاذلين الذين فقدوا مروءتهم, وفضلوا الصمت والسكوت, واختاروا الهروب من المواجهات والتحديات الخطيرة المحيطة بالعراق, ولم يكترثوا بتجاوزات دول الجوار على مسطحاتنا المائية وممراتنا الملاحية, ولم يقفوا معنا في المطالبة باسترداد حقوقنا السيادية الضائعة في شط العرب وخور عبد الله, أحياناً نرى بعض الأكاديميين وهم يتحدثون بحزن في الفضائيات, ويذرفون الدموع على الدمار, الذي خلفته موجات المد البحري التي اجتاحت اليابان, وضربت جنوب شرقي آسيا, وكانت بعض المراكز العلمية العراقية تتابع بشغف تغيرات قيعان البحار المصاحبة لزحزحة القارات, وتسجل تصدعات الصفيح القاري في المحيطين الهادي والهندي, لكن العاملين فيها لم يعيروا اهتماماً لزحزحة الحدود البحرية الزاحفة نحو سواحلنا في الفاو, ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الدفاع عن قنواتنا البحرية, وبحرنا الإقليمي المنكمش تحت ضغط الانتهاكات الحدودية المتكررة.

يتحذلق بعضهم كثيراً في دراساته المعمقة عن جغرافية جبال الأنديز, وتضاريس البحيرات المرة في كندا, وهجرات السلالات البشرية من هضبة التبت, وارتفاع مستويات الرطوبة النسبية في غابات الأمازون, لكنهم يبخلون علينا بكتابة بضعة أسطر عن جغرافية شط العرب, ولا يتطرقون لظاهرة الاختزال الساحلي عند مقتربات رأس البيشة, ويتجاهلون المواضيع المرتبطة بمياهنا الدولية المتقلصة, وممراتنا الملاحية المنكمشة, والأغرب من ذلك كله أنهم يعرفون أدق تفاصيل البحار والمحيطات والمضايق والممرات الملاحية الدولية, لكنهم لا يعلمون أين تقع قناة (الروكا), ولا يعرفون أسماء الجزر العراقية الكثيرة المتناثرة عند منعطفات شط العرب, ولا شأن لهم بما آلت إليه ظروف المسالك الملاحية الضيقة المؤدية إلى موانئنا النفطية في عرض البحر, ولا يريدون التحدث عن أزمات العراق الحدودية والبحرية والسياسية مع الكويت, حتى لا تغضب عليهم وتحرمهم من تأشيرة التسكع في أسواقها, وتحرمهم من تأشيرة السفر لدول مجلس التعاون كلها.
اما نحن الفقراء الذين نذرنا أعمارنا لخدمة قضايانا الوطنية العادلة, فكانت حصتنا التهميش والتسطيح والتسفيه والتكميم والتعتيم والتخويف والترويع بالأدوات التي يمتلكها أصحاب الوجوه الزئبقية في هذا السيرك التنكري الكبير, الذي فقدت فيه القيم, وضاعت فيه المبادئ, وانتهكت فيه القواعد, فلم نعد نشعر إلا بالغربة في وطن تكاثرت في جسده الخلايا السرطانية الخبيثة, وشوهت صورته بؤر الفساد , فتعمق شعورنا بالغربة, حتى صارت غربتنا حقيقية, وتعددت مواقف الخذلان لتعتري أنماطا جديدة من حياتنا اليومية البائسة, لكننا وعلى الرغم من ضعفنا لن نخذل العراق أبدا, وسيبقى العراق أقوم البلدان قبلة, وأطهرها دجلة, وأقدمها تفصيلا وجملة. .

أما والذي أعطاك أسمى هِباتِهِ
وأرسى علَيكَ الفُلْكَ والماءُ يَزخَرُ
لو الأرضُ كلُّ الأرضِ شاهَتْ وجوهُها
فبالماءِ في نهرَيْكَ يَوماً تُطهَّرُ

ليست هناك تعليقات: