حكايات ولدي الشاطر
عادل كامل
إشارة
في العام 2005، وأنا أراجع بعض النصوص التي كتبتها، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلى ( الأطفال) وجدت هذا النص المنشور في عدد من المجلات، ومنها مجلتي والمزمار الصادرة عن دار ثقافة الأطفال ببغداد، النص الذي كتب في سياق رصد العلاقة بين عالم ( الكبار) والعالم الذي مازال يتشكل بدوافع الحلم ومساحات الخيال المتحركة .. وجدت ، باستثناء الحكاية الأخيرة، التي كتبت بعد تحول ( الولد الشاطر) إلى عالم الكبارــ أي بعد عشرين سنة ــ إن أسئلة البراءة لا تمتلك ديناميتها وصدقها، أو دهشتها فحسب، وإنما جمالياتها في الارتقاء بوظائف الموجودات في وجودنا .. فهل استطعت، بصفتي أشتغل في حقل الفنون الجميلة، والكتابة الأدبية والنقدية، أن أعالج تلك الفجوة بين أسئلة ( البراءة) وما بعدها.. الفجوة التي انجذبت إليها،لا لاستعادتها، أو تأملها فقط ، وإنما لإقامة فيها : فكم ( نحن ــ أنا ) بحاجة إلى البراءة كي تبقى أحلامنا تمتلك طراوتها، ونبضها الذي لا يتعرض للإرباك أو التوقف. !
[1]
غناء
كان ينظر إلى الغيوم البيض، عندما سألني :
ـ سأغني .. بابا .. أتسمح لي بذلك ؟
سألته :
ـ لمنْ تُغني ؟
ـ لتلك الغيمة البيضاء ..
ـ لماذا ؟
أجاب بهدوء :
ـ في كل يوم ٍ، عندما تمر ٌ، تغني لي ..!
[2]
نزهة
ـ " هيا " وقال ولدي :
ـ " نذهب إلى النهر "
فذهبنا معا ً. وجلسنا نتأمل الأمواج، وأشعة الشمس الذهبية.. أنا كنت اصطاد وهو ينظر إلى ماء النهر الجاري .. سألني :
ـ ماذا تفعل ؟
ـ أصطاد .
فقال بحزن :
ـ لا .. لا يا والدي .. دع أصدقائي يتنزهون في النهر !
[3]
صداقة
كان يسقي شجرة صغيرة، خضراء، ويحدق فيها بحنان. سألته :
ـ لماذا تفعل ذلك ؟
ـ أريدها أن تكبر، لتصبح صديقتي !
[4]
برد .. وجليد
لماذا يلوثون البرد ؟ تساءل ولدي، وهو يستمع إلى أخبار اعتداء جديد على أرضنا. لكني قلت له :
ـ إلا ترى ان الجليد يغطي ارض قريتنا ؟
ـ نعم .. ماذا تقصد ؟
ـ ان الجليد يحمي أرضنا من قذائف الأعداء .
لكنه تساءل، مرة ثانية :
ـ لماذا يلوثون الجليد ؟
[5]
حب
كان ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم عندما سألته :
ـ أي شيء تحب : السماء أم الغيوم ؟
أجاب حالا ً :
ـ الغيوم !
ـ لماذا ؟
ـ لأنها تأتي بالمطر !
[6]
ضجر
كنا نتنزهة بمحاذاة النهر، عندما قفز إلى الماء، واختفى تحت الأمواج الزرق.. ثم عاد إلي ّ ومعه سمكة جميلة:
ـ أين كنت ؟
ـ في النهر!
ـ وماذا كنت تنفعل ؟
ـ ضجرت !
ـ وهذه السمكة ؟
ـ ضجرت من النهر !
ـ والآن ؟
في تلك اللحظة رأيته يودع سمكته وهو يحدثها :
ـ عودي إلى وطنك .. فكل منا له وطنه الجميل !
[7 ]
نجوم حزينة
كان ينظر إلى النجوم المتناثرة في سماء الشتاء، عندما سألني :
ـ بابا ..أرى النجوم حزينة ..!
ـ كيف عرفت ذلك ؟
ـ إنها متناثرة مثل جثث قتلى في ميدان الحرب ..!
قلت له :
ـ لكنها تضيء السماء .. والأرض ..؟
قال : من شدة حزنها تفعل ذلك ..!
[8]
مستقبل
بعد ان عدت متعبا ً من العمل، إلى البيت، كنت أحوّم فوق فضاء القرية حالما ً بغفوة بين بشاتين الخيل .. لكن ولدي جعلني أفيق.. حدقت فيه طويلا ً .. ثم سألته :
ـ عندما تكبر.. هل ستصبح طيارا ً ..؟
أجاب :
ـ كلا.
ـ هل تصبح بحارا ً ..؟
ـ كلا ً .
ـ ستكون مقاتلا.. ؟
ـ كلا .. كلا .. كلا .
فسألته وأنا مازلت في الحلم :
ـ ماذا ستصبح إذا ً ؟
ـ شمسا ً تنير السماء والبحر والأرض !
[9]
غناء
ـ يا والدي .. ماذا تفعل عندما تتعب ؟
ـ أرقد .
بعد صمت قصير سألته :
ـ وأنت ماذا تفعل ؟
ـ قبل ان اتعب .. أغني للشهداء !
[10]
سعادة
صحت مندهشا، وأنا انظر سعيدا ً إلى أشعة الشمس.. قائلا لولدي :
ـ الآن .. سأكتب قصيدة جميلة..
ـ لماذا ؟
ـ لأنني لم أرْ، منذ زمان، أشعة الشمس الذهبية تملأ القلب نشوة سعيدة ..
فأجابني بهدوء:
ـ لكني يوميا ً أراها !
[11]
أزهار
سألني وأنا اذهب إلى الحرب :
ـ عندما تذهب إلى الحرب.. لماذا لا تأخذني معك ..؟
قلت له :
ـ ومن يحرس الحديقة ؟
ـ الأزهار تجيد الدفاع عن نفسها !
[12]
حلم
جلست وحيدا ً أحدق في محيا ولدي ..عندما سألته :
ـ إذا كبرت .. هل ستذهب إلى المدينة ؟
أجاب حالا ً:
ـ كلا .
ـ لماذا ؟
ـ لأن قريتنا ستصبح مدينة كبيرة !
[13]
كوكب آخر
فجأة وجدت نفسي في كوكب آخر.. وعلى نحو غامض شاهدت ولدي يلهو بالذرات الترابية الفضية ويتحدث معها :
ـ ماذا تفعل هنا ؟
سألته .. ثم سالت نفسي : ماذا يفعل هذا الولد الشاطر في هذا الكوكب البعيد ؟
قال :
ـ أبتاه .. لماذا جئت ؟
لم اجب. وعندما استيقظت لحظتها رأيت ولدي ينظر إلى الكواكب البعيدة..
ـ أرجوك .. ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
ـ أحلم !
ـ غريب .. ماذا تقول ..؟
ـ أحلم .
ثم عدت إلى النوم، بعد ان اختفى.. ومرة ثانية كنت في كوكب آخر.
[14]
موقد
سألني ولدي، والشتاء شديد البرودة:
ـ لماذا لا تبتسم ؟
فسألته :
ـ لماذا لا تروي لي طرفة..
قال :
ـ بابا أنت رجل حزين ..!
ـ كلا .. من قال ذلك ؟
ـ لأنك إذا فرحت تموت !
آنذاك نهضت ووضعت حطبا ً في الموقد .. ورحت اتامل اللهب المتصاعد من خشب البلوط .. وفي تلك اللحظة ذاتها فكرت ان احمي ولدي من الجنون.
[15]
الحديقة
سألني: لماذا لا نزرع النباتات المفيدة في بيتنا ؟
قلت : هذا جيد .
قال : لماذا لا نزرع الحديقة إذا ً ..؟
قلت : عندما تكون لنا حديقة في بيتنا يا ولدي الشاطر .
فقال حالا ً :
ـ أليس العراق هو هذا البيت ؟
[16]
بلبل
فتح ولدي باب القفص، واخرج البلبل منه.. لكن الطائر الذي حوّم قليلا ً، عاد إلى القفص حالاً.. وهكذا .. كان يعود البلبل إلى قفصه، في كل مرة.. أغلقت باب القفص .. نظر ولدي إلي ّ قائلا ً:
ـ لماذا فعلت ذلك يا ولدي ؟!
آنذاك نهضت وحطمت القفص !
[17]
عيد ميلاد
في عيد ميلاده الأخير، أوقدت الشموع الخمس له.. تساءل :
ـ لماذا تفعلون ذلك لي ؟
ـ لأنك كبرْت عاما ٍ.. أيها الولد الشاطر ..
بكى ..
ـ لماذا تبكي ..؟
أجاب :
ـ بل أنا أسالكم : من قال أني أريد ان أصير مثلكم ؟!
[18]
بلا عنوان !
سألني : أتستطيع ان تمشي فوق الماء؟
قلت : أستطيع ان امشي فوق النار !
قال: لا .. يا بابا ..
قلت : لماذا ؟
قال: عليك ان تعود إلى النوم ..
قلت: ماذا تقصد ؟
قال: من لا يمشي فوق الماء لا يمشي فوق النار !
[19]
فقدان
سالت ولدي وهو يقلبُ الدفتر الذي الصق فيه مجموعة من أوراق الأشجار :
ـ ستحتفظ بها مدة طويلة .. أليس كذلك ؟
صمت وقال فجأة :
ـ لكنها فقدت سعادتها الخضراء !
[20]
لا تفعل ذلك
سأل ولدي الوردة البيضاء التي قطفها من الحقل:
ـ لِمَ أنتِ حزينة ؟
ـ لست حزينة.
ـ لكنك ذابلة ؟
ـ نعم ْ.
ـ ماذا افعل لك ِ حتى تعودي إلى سعادتك ؟
ـ أن ْ لا تقطف شقيقاتي من الحقل !
[21]
أحلام
وسألني ذات مرة: لماذا لا تموت؟
لم اجب .. وكدت أغادر البيت .. إلا أني سألته، بعد أن هدأ غضبي الداخلي:
ـ لماذا ؟
قال : أود أن تروي لي ماذا يحدث هناك ؟
صحت حالا ٍ: يا ولد .. لقد كبرت !
قال حالا ً: لا .. يا بابا .. هذه هي أحلامي..وأنا أود أن اعرف أحلامك ؟
[22]
أزهار الحديقة
سألني وأنا أحدق في أزهار الحديقة:
ـ لماذا تنظر إليها هكذا ؟
قلت: لأن الأزهار تحب الصمت.
قال حالا ً: لا .. بابا.. لأنها تتكلم بصوت هاديء..!
[23]
حلم
رسم ولدي ذئبا وحملا ً وأسدا ً وشاة ونمرا ً وأرنب إلى جانبها دب ابيض وغزال وطيور مختلفة ..
فسألته :
ـ ماذا ترسم ؟
ـ أرسم حلما ً رايته ليلة أمس .
صمت قليلا ً ثم سألني :
ـ لكنني عندما ذهبت إلى حديقة الحيوانات رأيت الجميع داخل الأقفاص .. لماذا ؟
ـ حتى لا يفترس احدها الآخر .
فأجاب مدهوشا ً:
ـ لكنها حيوانات لطيفة..أنظر إليها، إنها تغني أغنية جميلة!
[24]
الصديق
زارني أصدقاء قدماء، ومعارف..مساء احد الأيام . وكانوا يتحدثون عن أشياء كثيرة فيما كنت اعتكف منزويا مع نفسي.. في تلك اللحظات قفز ولدي نحوي هامسا ً:
ـ لقد مر من أمام البيت .. ولم يدخل .
ـ من ؟
قال وهو يحدق في ّ:
ـ الم ْ تره ؟ قلت لك من ؟ قال:
ـ انظر .. انهض .. إلا تراه .. انه ..
نهضت ..ونظرت : كان احد أصدقائي الشهداء..آنذاك غادرت البيت تاركا الأصدقاء والمعارف يشاهدون فلما ً حربيا ً.
[25]
نوافذ
رغم أني كنت مرهقاً، فلم أرقد حتى الصباح. كان ولدي يعيد قراءة دروسه.. ويعيد كتابة واجباته .. وفي الفجر سألني :
ـ مع من كنت تتحدث ؟
ـ معهم.
وساد الصمت بيننا فترة أخرى من الزمن، لكني سألته :
ـ لماذا كنت تفتح النوافذ .. والدنيا برد ؟
ـ كي يدخل أصدقاؤك الشهداء، الذين كنت تتحدث معهم، طوال الليل .
[26]
عناق
بعد أن عدت من الحرب..مؤخرا ً .. استقبلني ولدي مبتهجا ً.. وعانقني .. وبعد الاستراحة سألني، وهو ينظر إلى قرص الشمس الذهبي :
ـ بابا .. هل تضيء أشعة الشمس ارض الأعداء..؟
قلت له :
ـ نعم .
فقال بصوت حزين :
ـ لماذا إذ تتقاتلون..؟!
[27]
استمتاع
قال ذات مرة :
ـ تعال نذهب إلى الشمس ..
ـ إنها بعيدة ..
وقلت له :
ـ هيا ادخل إلى البيت ..الهواء شديد البرودة ..
فقال:
ـ بابا .. دعني استقبل أشعة الشمس ..فإن كنا لا نستطيع الذهاب إليها فلماذا لا نستقبلها في بيتنا ؟!
[28]
خجل
في طريقي، مع ولدي إلى المدرسة، طلبت منه أن يغني .. فقال:
ـ الشارع يخجل مني.. !
[29]
حزن
قال : يقولون انك رجل حزين !
قلت : نعم .
فقال ضاحكاً: لكنك تعلمني الفرح يوميا ً..
قلن : ذاك هو سر حزني !!
[30]
أشجار
في ليلة باردة جداً، كنت أتأمل النار، وذلك اللهب المتصاعد منها عندما دخل ولدي وجلس بالقرب مني. كنت احسب ان ولدي الشاطر سيتأمل ، مثلي، جمرات النار، والصوت المنبعث من احتراق الخشب.. وما يوحي به الشتاء من أسرار لذيذة.. إلا انه سألني فجأة :
ـ بابا .. لماذا نحرق الأشجار المسكينة.. ؟
ـ لأن الدنيا باردة جدا ً .
فقال بصوت عال ٍ:
ـ لا ..بل لأن الأشجار لا تستطيع الهرب !
[31]
بكاء
بعد ان زار حديقة الحيوانات، مع طلبة صفه، وعاد إلى المنزل، سألني:
ـ هل تتكلم الحيوانات ؟
ـ لا ..
فقال :
ـ بل كانت تتكلم .. وكنت أتكلم معها ..
ـ ماذا كانت تقول ..؟
ـ كانت تبكي بصمت عميق !
[32]
أصدقائي
ذات مرة ذهبنا إلى الصيد .. في الصحراء .ز معا ً.. لكنه كان، كلما اكتشفت صيداً، يمنعني من إطلاق النار،أو يشوش الهدف علي ّ.
صحت به :
ـ ماذا تفعل ؟
حدق في ّ، قائلاًن بحزن:
ـ هؤلاء هم أصدقائي.. لماذا تطلق النار عليهم .. يا والدي الطيب ؟
[33]
وصية
ذات مرة مرضت، وشعرت باني سأموت في اليوم القادم.. فقلت له :
ـ يا ولدي اعتن بالحديقة .. والطيور.. وبقطتنا الجميلة.. وبالكلب الرائع .. و.. و..
ـ نعم .. سأفعل ذلك .. لكنني سأعتني بالكتب التي جمعتها لنا..
ثم رفع صوته :
ـ علي ّ ان اعتني بك أولا ً .. يا والدي العزيز !
[34]
أحلام
سألته عن آخر حلم مازال يتذكره .. قال :
ـ إنها كثيرة .
ـ وأخرها ..؟
ـ ذهبت إلى قاع البحر .. فجر احد الأيام الجميلة. كنت أتجول بين الأعشاب والمحار.. فجأة سمعت سمكة ذهبية تقول لي : أيها الولد الشاطر لماذا لا تبقى معي في البحر .. فأنت ولد لطيف ؟
أجبتها : أقترح عليك ان تعيشي معي في الغابة .. حيث الأزهار الملونة تملأ الأرض .. فقالت بحزن : لا أستطيع ان أغادر البحر . قلت : وأنا لا أستطيع ان أعيش تحت الماء! قالت السمكة الذهبية : لكن حاول ان تتذكر صداقتي لك . قلت لها : في الأحلام !
[35]
ذنوب
ذات مرة طلب مني ان نذهب إلى النهر للاستحمام .. فذهبنا .. وأمام الأمواج الفضية سألني :
ـ هل تستطيع ان تمشي فوق الماء ؟
قلت :
ـ لا ..لا أستطيع ان امشي فوق الماء ..!
فقال وهو يحدق في وجهي :
ـ ما أثقل ذنوبك يا بابا ..!!
[36]
رجاء
ذات مرة طلب ولدي مني :
ـ أرجوك ألاّ تكبر.. ألاّ تصبح مثل جدي العجوز ..!
ـ ولكني .. لماذا ؟
ـ كي أبقى، أنا، في هذا العمر !
[37]
قمر
سألني : لماذا لا تحب القمر ؟
قلت : ومن قال أني لا أحبه ؟
قال: لكنه لا يأتي ويجلس معنا في الحديقة !
[38]
ليل
قال لي : الشمس تنام في الليل ..
قلت له : إنها تنام في الليل ؟؟
فقال : لا .. نحن الذين ننام في الليل ..!
[39]
اسماك
وطلب مني ذات مرة :
ـ أريد أن تأتي لي بحوت !
ـ انه كبير جدا ً .
ـ ويسكن البحر .
ـ أجل !
لكنه سألني :
ـ حسنا ً .. لماذا تأتي لنا بالأسماك الصغيرة فقط ؟!
[40]
حوار
ـ لماذا يموت الإنسان ؟
قلت له : لأنه تعِب من الحياة .
قال : لا .. لأنه يريد أن يحلم !
[41]
عذاب
سألني وهو يحدق في الجمر :
ـ هل تتعذب النار عندما تتوهج ؟
ـ لا أعرف .. ولكن لماذا هذا السؤال؟
فكر بعض الوقت ثم قال :
ـ أنا أفكر في الأشجار التي قطعـت..!
[42]
طيور
بعد أن أكملت رسم لوحة جديدة فيها مجموعة من الطيور .. سألني :
ـ لماذا رسمت هذه الطيور داخل هذه اللوحة؟
قلت : لنتأملها..
فقال حالا ً: لا .. بابا ... دعها تعود إلى الغابة !
[43]
غناء
ونحن نتجول بمحاذاة النهر، سألني :
ـ بابا .. ما الذي تسمعه ؟
نظرت في محياه قائلا ً:
ـ اسمع الريح تداعب الأمواج .
فقال :
ـ لا أقصد هذا .. أقصد ماذا تسمع ؟
لم اجب .. فقال :
ـ أنا أسمع الأسماك تغني .. وهي تهرب كلما رأتنا نقترب من النهر !
[44]
صراخ
قال لي : عندما تتكلم يا بابا لا تصرخ ..!
ـ ومتى تكلمت .. ؟
ـ أمس .. وأنت تحلم !
[45]
لماذا؟
سألني : لماذا يذهبون إلى الكواكب البعيدة ..؟
قلت : لدراسة العالم البعيد .
فقال معترضا ً:
ـ لا .. إنهم هاربون من دراسة أرضنا..!
[46]
صوت
ـ بابا لماذا تنظر إلى الصخور كثيرا ً ؟
ـ أصغي لصوتها.
ـ وهل تتكلم الصخور ..؟
ـ نعم .. لكنها لا تؤذي أحدا ً!
[47]
واأسفاه
ذات مرة رفض أن ينام، وذهب إلى الحديقة. فسألته :
ـ ماذا تفعل في هذا الليل ؟
قال بهدوء:
ـ أتعلم من أحلام أشجارنا النائمة..!
سألته:
ـ وهل تحلم الأشجار ؟
قال حالاً:
ـ واأسفاه ..يا والدي .. لقد كبرت مبكراً !
[48]
أسئلة
عندما بلغ ولدي السابعة من عمره، لم يعد يوجه الأسئلة لي .. فسألته:
ـ لماذا لم تعد تسألني ؟
قال:
ـ ألان ..يا بابا.. أفكرّ في الإجابات !
[49]
استمتاع
ذات مرة رآني، على غير عهده بي، مسرورا ً جدا ً، فسألني ك
ـ أراك سعيدا ً جدا ً يا بابا ؟
ـ إنني ..الآن.. تعلمت لغة الغيوم ..!
فقال بأسف :
ـ لكنني يوميا ً استمتع بنشيدها !
[50]
[ بعد عشرين سنة ]
بعد انتصاف الليل، وأنا استعد للنوم، رأيت ولدي يقف أمام النافذة، يتأمل النجوم في السماء .. سألته :
ـ ماذا تفعل .. وماذا اكتشفت ؟
أجاب، وهو مازال يحدق في الفضاء:
ـ أتذكر انك حدثتني، ذات يوم، عن جسيمات الضوء.. وكيف.. كلما اتسعت المسافات، بينها، تبقى الجسيمات تبحث عن ظلام تبدده .. حتى لم اعد أر ظلاما ً في هذه المساحات الشاسعة ..
ـ وآلان ..؟
ـ ها أنا بدأت أرى حبيبات الزمن..أمامي..
تساءلت مندهشاً :
ـ ماذا ؟
أجاب بصوت خفيض:
ـ الزمن، كالضوء، كلاهما يخفي أسراره ولا يعلن عنها. إنهما ،معا ً، إن مرا ولم نمسك بهما، كأننا كنا بلا وجود !
كأنني كنت لا امتلك إجابة، ولا أسئلة.. وأنا أعيد تحليل عبارته.. ولكنه قال لي بهدوء:
ـ مازلت اكرر كلمتك القديمة: ليس السر هو الذي نجهل ما فيه.. وإنما ـ هو ـ الذي يبقى يجذبنا إليه ..!!
آنذاك كنت اكرر في نفسي : لا اعرف من يدوّن كلمات الآخر. لكنه قال، وكأنه سمعني:
ـ كلانا، يا والدي العزيز، نصنع الكلام، لكي يتكامل حضورنا.. فالكلام، مثل الضوء والزمن: حلقات تتجانس فيها الإقامة : انه عمرنا الجميل!
بغداد ـ الغزالية
1980ــ 2005
[1]
أحلام
كنا نتجول في الغابة، المجاورة لقريتنا، وكان ولدي يغني بصوت خفيض، عندما سألته :
ــ لم أسمعك تغني قبل هذا اليوم ؟
فقال مبتسما ً:
ــ تعلمت ذلك من الأشجار وليس من البلابل !
قلت بتعجب :
ــ ماذا تقول ؟
ــ لقد تعلمت الغناء من الإصغاء إلى أحلام الأشجار النائمة!
[2]
حوار
وأنا أحدثه عن كوكب بعيد تم اكتشافه مؤخرا ً، سألني :
ــ هل توجد في هذا الكوكب الجديد ، كما في الأرض، غابات، وبحارا، وبشرا ؟
ــ لا أحد يعرف .
فسألني :
ــ لماذا لا نذهب إليه ونعرف الحقيقة ؟
قلت :
ــ هو الذي سيأتي إلينا..!
فقال :
ــ لا اعتقد أن هذا هو السبب.. بل لأنك قلت لي : ألا تكفينا غابات وبحار الأرض..!
[3]
مشاركة
قبل أن يذهب إلى النوم، رآني ارسم مجموعة من الطيور .. فطلب مني أن لا أطفأ المصباح، فقلت له ــ لماذا؟
قال :
ــ كي تراني الطيور وتشاركني أحلامي ..!
[4]
هل يتكلم الماء؟
ــ هل يتكلم الماء ؟
سألني ولدي وهو يداعب أمواج النهر.. فقلت :
ــ لا .
فقال :
ــ بل يتكلم عندما يجد من يصغي إليه ..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق