الجمعة، 27 مايو 2011
سفرطاس الزَّعيم درس في النَّزاهة -رشيد الخيون
سفرطاس الزَّعيم درس في النَّزاهة
رشيد الخيون
لست مِن الذَّين ادعوا رؤية الزَّعيم عبد الكريم قاسم (قُتل 1963) في قرص القمر، لكني مِن الجيل الذي ارتشف الشَّاي من صحن رسمت فيه صورته، ولا يداخلني الشَّك بأنه لم يأمر بهذا ولا يحبذه، وما زلت مقتنعاً أن هناك ما يمكن أن يفعله ويجعل للثَّورة معنى، لا مجرد إسقاط نظام ومجيء آخر محله، وإلغاء كل الأطر الدُّستورية على أمل إعادة الحياة البرلمانية بشكل أفضل، وهذا لم يتم. ما أريد قوله إن للزَّعيم ذنوبه ونواقصه، لكن ميزته النَّزاهة المطلقة في ما كان تحت يده مِن ثروة الشَّعب، ويصح لنا اعتباره مِن دراري النُّجوم قياساً بفساد هذه الأيام الصَّارخ.
لستُ بصدد مراجعة الحوادث، بقدر الألم عمَّا أسفرت، وما أوصلت العِراق إليه، بعد حروب وحصار وكوارث فساد نادرة في التَّاريخ، فالمعلن، حسب جلسات البرلمان العِراقي، أن أربعين مليار دولار (أربعين ألف ألف مليون) قد ضاعت، ولا أحد يعرف خبرها، والبرلمان نفسه صمت عنها.
شاعت قصة سفرطاس الزَّعيم حتى خلتها ضرباً مِن المبالغة، شأن رؤيته في قرص القمر، أو وجوده حياً بعد قتله، مثلما حصل مع الحسين الحلاج (قُتل 309 هـ)، وإنه سيعود، وقد سمعت مِن أحد زوار الإمام الرِّضا بأنه سمع بوجود عبد الكريم قاسم هناك، وقصص اخرى لا تعد ولا تُحصى، وكلُّ هذا مِن أسباب الحب، فليس لدى الفقراء سوى الآمال، فحسب العقيد محسن الرُّفيعي (ت 2004) أن الزَّعيم اصطحبه في جولته الليلية إلى خلف السَّدة وكانت ليلة ماطرة فقال له: «انظر يميناً ويساراً، هل يمكن لبشر أن يعيش وسط هذه الأجواء، والله لأسكنهم في دور عامرة مجهزة بالماء والكهرباء وتتصل ببغداد بطرق معبدة» (الرُّفيعي، أنا والزَّعيم). وبالفعل شرع بذلك، وأسكن أهل الصَّرائف بدور تليق بالإنسان.
قال المعمار محمد مكية، أطال الله بعمره ناهز الآن الخامسة والتِّسعين، أن دُعي إلى مقابلة الزَّعيم بمقر وزارة الدِّفاع، فطلب منه تناول الغداء معه، وإذا به يفتح السِّفرطاس، المحمول مِن بيت شقيقته أو شقيقه، ولا يزيد على ما حمله السِّفرطاس مِن طعام (وردت في يوميات السِّنين). بعدها قرأت في مذكرات الطَّبيب العالم فرحان باقر: «في إحدى الزِّيارات لمقر الزَّعيم في وزارة الدِّفاع دعا مَن كان حاضراً لتناول الغذاء، والذي يُجلب مِن بيت أخيه بالسِّفرطاس... وكان الطَّعام فيها متواضعاً وبسيطاً جداً»(حكيم الحُكام مِن قاسم إلى صدام).
المصادر المؤكدة لنزاهة عبد الكريم قاسم مصدقة مِن خصومه قبل محبيه، وقصة السِّفرطاس في المقدمة. ونكاد نصاب بالغيبوبة لشدة المفارقة بين سفرطاس الزَّعيم وثراء الوكيل أو المدير العام والعمولات (الكومشن) مِن صفقات النِّفط والمقاولات اليوم، إلى رفاهية الإيفاد وما يؤسس خارج العِراق لعقارات قصور ومنازل، أين نهب البلد مِن السِّفرطاس، إنه درس في النَّزاهة ولا نزيد!
أما المفردة فتركية النِّجار (سفرتاسي)، وهي أوانٍ مِن الألمنيوم أو النُّحاس تركب الواحدة داخل الأخرى بمشبك ذي مقبض، ويستخدم السِّفرطاس لأصحاب المهن والعُمال، ومنها ما يؤجر مِن محال خاصة (البازركان، الألفاظ الدَّخيلة في اللهجة العِراقية الدَّارجة). ربما غابت آلة السِّفرطاس عن الوجود وحلت محلها آلات حافظات للشَّراب والطَّعام، وألحقت المكاتب بالمطابخ الرَّاقية، يديرها أفواج مِن الطُّهاة والطَّاهيات، لكن السِّفرطاس ظل محفوراً في ذاكرة وطن تبتلع خيراته الحيتان والقروش، وشعب مبتلى إلى حد الهزال والفاقة.
ختاماً، اقترح على هيئة النَّزاهة أن تتخذ مِن سفرطاس الزَّعيم شعاراً تنقشه على بوابتها، لقد قل مثيله في ماضي الحُكام وحاضرهم.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق