جحيم وقصص قصيرة أخرى
عادل كامل
[1] جحيم
ـ لِم َ لا تريد أن تغلق فمك...، ألا تخاف...؟
ـ بلى..، أخاف، كيف لا أخاف...، حتى إني صرت أخاف من اللا خوف..، فانا أخاف من البرغوث، من البعوض، من الصراصير، صرت أخاف من الكلاب السائبة ومن التي حجزت وراء القضبان،، من عقارب البيت، من أفاعي البرية...، صرت أخاف من الصديق وما يخفيه ، من العدو وما يسقطه علينا من حلوى ونيران وتمويهات، من الصواريخ بعيدة المدى ومن الأحزمة الناسفة والبراميل المتفجرة والمفخخات، صرت أخاف من الجار ومن بائع الطائرات الورقية، من الشحاذ ومن الطبيب، ومن كل من ليس له مخالب ظاهرة، وأنياب معلنة...، صرت أخاف الذين هم على قيد الحياة، وصرت أتجنب الموتى، حتى أني من غير خوف لا اشعر إلا بالخوف الأعظم، كيف لا أخاف من بنات أوى ومن التماسيح ومن الضباع...، من الصامتين ومن الخطباء، من الضعفاء ومن الأكثر ضعفا ً، من الأقوياء الأتقياء والأكثر تقوى، ولكني، اقسم لك، إني لم أجدف، لم اعص، لم اكذب، لم ازن، لم ازور، لم أغش، لم اقتل، لم اعتد، ولم استنشق حتى رائحة الهواء! فانا حفظت وصايا الأولين والآخرين، كأنها سبقت وجودي، فكيف لا أخاف لو شطحت، أو أخطأت، أو زل لساني اللعين هذا...؟
ـ غريب ...، ألا تخاف من الذي يخاف منه الجميع؟
ـ لا!
ـ ها أنت تعترف بالذنب بنفسك الذي يقودك إلى الجحيم، بعد أن يقطع رأسك بالمقصلة، وبعد أن تفترسك ديدان الأرض جسدك، وتنخر روحك ظلمات القبر...!
ـ ولماذا أخاف من الذي أحبه؟
ـ ها، ها، ولكن من أرسلني للقبض عليك، أيها المغفل؟
ـ هو ذا السؤال الذي لم يعد يعنيني....، فانا ذاهب إليه قبل أن يوجه الدعوة للمثول بين يديه. فأرجوك ابتعد عني ...، ولا تركب معصية التمويه!
ـ ولكن من قال انه طلبك؟
ـ أرجوك، دعني، ولا تشكك باليقين الوحيد الذي سمح لي باحتمال العيش في هذا الجحيم.
[2] احتفال
قال الطير الذي وجد جسده الصغير محاصرا ً بمخالب القطط وأنيابها:
ـ الآن فقط علي ّ أن احتفل بنصركم!
وكان يود لو قال: بهزيمتي، لكنه أضاف:
ـ لأن التاريخ لا يمتلك إلا ذاكرة واحدة عمياء!
فسأله الهر الأكبر زعيم وقائد جحافل القطط:
ـ وهل لنصرنا معنى من غير إنزال الهزيمة فيك...، بعد أن كاد صوتك يصل إلى السماء...؟
هز الطير رأسه باستسلام:
ـ السماء وحدها لا تسمع...، فهي أعلى من أن تكون عالية، ثم إننا أكثر التصاقا ً بهذا الوحل. فنحن خرجنا من عفن التراب واليه نعود!
فقال الهر بصوت آمر:
ـ أنت حر، حر مثلما ولدتك أمك بذنوب لم ترتكب!
حوّم الطير بجناحين واهنتين، ثم هبط، ووقف أمام زعيم القطط:
ـ أرجوك، اقض علي ّ!
ـ لن افعل بعد أن أمرت بإطلاق سراحك، وغفرت لك ذنوبك!
أجاب الطير بصوت مرتجف، واهن:
ـ أما أنا فسأبحث عن حفرة احتفل فيها وحيدا ً بنصري، لأن بعض الهزائم تبقى عصية على النسيان، والمحو!
[3] وهم
سأل الابن والدته:
ـ لِم َ يا أمي ولدنا قردة، ولِم َ نعيش قردة، ولِم َ لا نموت إلا قردة أيضا ً...؟
قالت بمرح:
ـ وهل حال الغزلان أفضل منا، أم حال النعاج، أم حال باقي الزواحف والمواشي والدواب..؟
فقال بصوت حزين:
ـ آ ...، لو كنا ولدنا بشرا ً...؟
قالت إلام بصوت غاضب:
ـ وهل كنت تفكر أن نولد في الوهم، ونعيش فيه، ولا نموت إلا وقد صار الوهم حقيقة؟!
[4] طلقاء
سأل الشبل والده السبع:
ـ أحيانا ً اسمعهم يقولون: هذا الشبل من ذاك الأسد..؟
ضحك السبع:
ـ لو كانوا يقولون الحقيقة لكانوا تركونا في البرية بدل أن يحتجزوننا داخل هذه الأقفاص...؟
[5] الحقيقة
ـ لِم َ يا جدي كلما حاولت الإمساك بالحقيقة أجدها توارت...؟
ضحك الجد:
ـ أما انه لا توجد حقيقة أصلا ً...، وأما إنها ابعد من تكون بحدود الرؤية...، لأن الحقيقة بوسائلها!
ـ وأنت، يا جدي، بعد هذا العمر الطويل، ماذا تقول؟
ـ بعد أن أمضيت عمري كله...، في هذه الحديقة، استطيع أن أقول أما إنها توارت أثناء بحثي عنها، وأما كان بحثي ذاته قد أضاعها!
ـ والله، حتى سقراط لن يفهم ما قلت؟
ـ آ ....، قلت: لو لم تكن هناك حقيقة فلماذا يتحتم علينا أن نبحث عنها...، أليست الحقيقة مثل الآلهة...، كلما حاولت البرهنة على وجودها أعلنت عن جهلك فيها، بل وعن سخرتك منها..، فمن أنت كي تبرهن على وجودها..، والآن أسألك: من أنت...؟ فأما أن تكون حمارا ًمهمته حمل الأوزار، أو بشرا ً مهمته أن يجد حميرا ً يحمل فوقها أثقاله.
ـ قسما ً بالآلهة جمعاء حتى مديرنا قد لا يفهم كلمة مما قلت، يا جدي..!
ـ آ ...، المدراء، مدراء هذا الزمن..، يا حفيدي، لا عمل لديهم سوى البحث عنا، نحن الحمير، وليس بحثا ً عن الحقائق، فهل فهمت؟
ـ المشكلة إن الكلام الواضح ما أن يتم شرحه حتى يزداد وضوحا ً، فيفقد غايته، أما ما شرحته لي، فقد جعلت الوضوح ابعد من أن يدركه حمار صغير مهمته، كمهمة أسلافه، حمل الأوزار، ولكن ليس بحثا ً عن الحقيقة، بل لتجنبها!
[6] كابوس
استيقظ السبع فوجد انه تحول إلى بغل، فراح يحدق في الدواب، والبهائم، وهو يراها طليقة، وهو مازال داخل قفصه، فصاح:
ـ أخرجوني... فانا أصبحت واحدا ً منكم!
اقترب المدير منه:
ـ انتظر!
قال السبع:
ـ من أنت؟
ـ أنا المدير.
ـ آ ....، يبدو انك لم تعرفني أيها المحترم...؟
أجاب المدير:
ـ لا ضرورة لمعرفة انك كنت بغلا ً وصرت سبعا ً...، ولا معنى أيضا ً لو عدت إلى أصلك!
ـ ولكني ولدت عن عائلة سباع، وصولا ً إلى جدنا السبع الأعظم!
ـ آه...، أرجوك عد إلى النوم...، لعلك تحلم انك تحولت إلى ديناصور...، فنخاف منك، أو تختار أن تتحول إلى غزال فنذبحك، أو تحلم انك تحولت إلى فأرة لتبحث عن حفرة وتتوارى فيها بعيدا ً عنا..
وأضاف المدير:
ـ فلولا وجودكم في هذه الأقفاص من كان باستطاعته أن يحلم بطلاقة وشفافية، وكما يشاء ومن غير قيود، وان يختار أي صنف إلا أن يتحول إلى بغل نجهل من هي أمه الأتان، ومن هو والده بين هذه الخيول؟
[7] الجلاد والضحية
مكث الضحية، كلما أذاه الجلاد، يزداد ضحكا ً، حتى أوشك أن يحطم سلاسل الحديد المكبل بها، ويسقط أرضا ً. فسأله الجلاد:
ـ ما الذي يضحكك...، وأنا ابتر أصابعك، بعد أن سلخت لك جلدك، وكويتك بالجمر، وجدعت انفك، وكسرت عظامك...، وبعد أن كنت اغتصبت نساءك، وغلمانك، وأنت الآن في الطريق إلى الموت؟
ـ أنا لا امتلك قدرة على منع نفسي من الضحك...، أيها المغفل!
ـ وما اثر كل هذا الألم الذي أنزلته فيك...؟
ـ لا يساوي شيئا ً!
وأضاف بصوت هادئ:
ـ لأنني أراك تموت!
ـ أموت...، وأنا أرسلك بعد قليل إلى الجحيم؟
ـ نعم، فبعد ستة آلاف عام، ومائة سنة، وتسعة أشهر، وثلاثة أسابيع، وخمسة عشر يوما ً، وسبع ساعات، وثماني دقائق، وأربع ثوان، وجزء من الألف من أجزاء الثانية...، أراك تقطع، واراك تحرق، وارى رمادك يذر في الريح...، فلا أرى سوى فراغا ً لا اثر له حتى بين الفراغات، الآن، فعذاب من منا أشد قسوة؟!
[8] بهدوء تام
قال الغراب لرفيقه وهما يشاهدان الحرب تجري أمامهما:
ـ غريب أمر هؤلاء البشر...، يقتلون بعضهم البعض...، بدم بارد، ولكن بمشاعر صادقة! فهم يحرصون على إنجاب الملايين من الأبرياء كي يسحقونهم في هذه المجازر..، بهدوء...، بهدوء تام!
ـ رفيقي، هذا ما تفعله الذئاب، النمور، وهذا تفعله باقي المفترسات، وهذا ما يفعله الطير الذي يطير في السماء، وهذا ما تفعله كائنات البحر، وهذا تفعله باقي الحشرات، والبهائم، والدواب!
ـ كلا! إنها لا تفعل ذلك إلا بحدود سد رمقها كي لا تموت جوعا ً...، فهي تحرص بالحفاظ على عدم الإسراف في العدوان..، إلا أن هؤلاء البشر، أصحاب العقل والمعرفة والحكمة، لا يفعلون ذلك إلا للبرهنة بان الجوع ليس إلا سببا ً هامشيا ً، إن لم يكن وهميا ً!
ـ آ ...، أتقصد أن هؤلاء البشر لم ينحدروا من المكان نفسه، من عفن سواحل المستنقعات والآبار الأسنة...؟
ـ لا تكترث، يا رفيقي، فان كانوا هبطوا من كوكب آخر، أو انحدروا من عفن المياه الضحلة، فانا وأنت لن نسمح لجرثومة القتل أن تصيبنا بداء الغرور، والعظمة، والمجد!
ـ وهل هم عظماء؟
ـ أذهب وأسأل القاتل الذي سيصبح ضحية، اذهب وأسأل الضحية الذي سيصبح قاتلا ً...، لماذا فعلتم ذلك بإسراف، فاق الجور، وتجاوز كل نوع من أنواع الخساسة؟
ـ أتمزح معي...، وهل سأنجو من مكرهم القاتل لو فعلت، كي أضاف إلى ضحاياهم؟
ـ لماذا فكرت إذا ً...، ولماذا أربكت علينا استنشاق هواء الفجر العليل هذا...؟
ـ أنا لم إربك عليك نهارك الجديد، يا رفيقي، بل هؤلاء العقلاء، العظماء، الحكماء، هم من فعل ذلك!
[9] القطيع
بعد عراك انتهى بالمصالحة، سأل الكلب الذئب:
ـ على م َ كاد احدنا يقضي على الآخر؟
رد الذئب بصوت خفيض:
ـ للحصول على شاة، أو على حمل!
اقترب الكلب منه وقال:
ـ لا! أنت لم يكن هدفك اقتناص شاة أو حمل..، بل هدفك كان العدوان...، أما أنا فكان عملي أن أردعك، وأدافع عن القطيع.
ضحك الذئب:
ـ بل لأنك كنت تحمي قطيع الراعي...، هذا الذي سيرسلها إلى السوق، لتباع، كي تذبح!
ـ لم افهم!
ـ كنت طلبت منك أن نتعاون بالقضاء على الراعي!
ـ آ...، أيها اللعين، كي تقضي علي ّ بعد ذلك، وتصبح زعيما ً أوحدا ً تنتقي ما تشاء من النعاج السمينة...
همس الذئب:
ـ اسمع: إن راعيك يرسل القطيع كله إلى الذبح...، ولا يبقي إلا النعاج كي تلد خرافا ً، هي الأخرى، ستلقى المصير نفسه...، أما أنا وأنت، لو تعاونا، فسنشرف على القطيع، ونكتفي بما يسد جوعنا!
نبح الكلب غاضبا ً:
ـ اسمع، لا أنا، ولا الراعي، ولا أنت...، يتمتع بالبراءة! فاغرب عن وجهي، مادام القطيع ذاته لا يمتلك رغبة بالتمرد!
[10] توق
نظر الببغاء إلى صاحبة الثري وهو يعد النقود الذهبية، وسأله:
ـ ماذا تفعل بها، فقد أصبحت كثيرة، وأنت عجوز هرم ووحيد لا احد يرثك؟
ـ حتى أنت، أيها البهيمة، تتضامن مع أعدائي!
ـ بل أنا أتضامن معك..!
ـ اخرس...، غدا ً سأبيعك في السوق وأتخلص منك!
فلم يجد الببغاء إلا أن قال له بصوت حزين:
ـ لتجعل من ثمني، بعد خدمتك الطويلة، قطعة ذهبية تدفنها في قاصتك..، كي يأتي اللصوص ويسرقونها؟
اقترب العجوز منه:
ـ آ ..، أنا اعتذر منك، لأنني الآن فهمت قصدك!
ـ لا اعتقد ذلك...!
ـ لأنك كنت أنت الوحيد الذي يحرسني، ويحرس نقودي من الغرباء ومن اللصوص!
ـ لا..، يا سيدي، بل لأنني كنت اعمل عبدا ً عندك! وأحيانا، يا سيدي، أنا أيضا ً اشعر بالتوق للتحرر من العبودية. فانا لا أريد أن أبقى عبدا ً عندك إلى الأبد، مثلما حلمت ورغبت أن لا تكون أنت عبدا ً لهذه النقود أيضا ً!
25/8/2016
Az4445363@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق