( أيا .......... لا ..... ) ، سأل الأستاذ الدكتور ( محمد جابر شعابث ) أبن عمه رشيد قائلا ، متى تنهي شطر البيت لقصيدتك المنتظرة يا رشيد ؟ ، أجاب رشيد كلما وضعت قلمي بيدي لأكمل ، ينتابني الغثيان والدوار والصداع فأهملها ، ترى من الشجاع فينا وأكمل ما بدأه رشيد ؟!!!!. ( رشيد عبد الجليل علي شعابث الزبيدي ) حلي من محلة ( الجامعين ) ، ولادته بداية أربعينات القرن الماضي ، ذكي حاذق منذ نشأته وطفولته وصباه وشبابه ، يقول رشيد لست ذكيا ومتفوقا كما تظنون ولكني فقت الأغبياء فبُرّزت على الآخرين ، وهذه فلسفته ورؤيته الخاصة ، فقد والدته وهو لم يدخل المدرسة ، ورويدا رويدا بدأت أمه المتوفاة لا تأتيه في منامه إلا بين الحين والآخر ، حتى نسي ملامح وجهها ، وتزوج والده بأخت زوجته ( خالته ) ، له شقيق أكبر منه ببضع سنين ( جعفر ) ،كان والدهما رحمه الله يصحبهما لمحل عمله ( النجارة ) في السوق الكبير قريبا من مسجد ( الكطانه ) ، ولكن متى يصحبهما الى العمل ؟ ، يصحبهما للعمل قبل آذان الفجر ليئدوا الصلاة جمعا ومأتمين- صلاة الجماعة - بعالم دين ، وطفل هكذا عمر لابد أن يضجر من هذا الخروج المبكر فيقول ( أمشي نائما أو نائما أمشي ) ، وربما يسقط أرضا وهو يسير فينجده والده ، دخل أخوه الأكبر المدرسة ، ولأن رشيد يحب المعرفة لكل شئ بلا سؤال لذا يتوجب عليه أن يرى ما يضع أخوه من كتب ودفاتر وأقلام في جراره ، أذن كيف يتصرف ، تمارض صباحا مدعيا الحمى وتركه أبوه وأصطحب أخاه ( جعفرا ) الى الصلاة والعمل ، ما أن خرجا وثب رشيد من فراشه وبدأ يخرج كل ما تقع عليه يده ، ومرت بسلام ، طفولة شرسة وذكية ومشاكسة لابد سيكن لها حديث طويل ومعروف لكل المدينة ، ساهم والده كثيرا بصنع هذه الشخصية الغرائبية ، وكيف كانت تلك المساهمة غير المقصودة ؟ ، الوالد أمي لا يحسن القراءة والكتابة ، متوسط الحالة المالية ، لا يأكل أن لم يعمل ، عمله بسيط ( نجار ) يصنع ( الجاون ، وكاروك الأطفال – المهد - ، وربد المسحاة ) ، والحلة آنذاك لم تكن إلا هذا السوق المسمى السوق الكبير ، ويقابله سوق أصغر منه في الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، تزوج الوالد بثلاث نساء لا حبا في الزواج والإنجاب ، ولكن زوجته الأولى أم رشيد توفيت ، فتزوج بأختها لرعاية الأطفال ، ولأنها لم تنجب تزوج بأخرى ، لم يكن اهتمام الأب منصبا على رشيد صاحب الطاقات الجبارة الذكية ،بل وزع الوالد حنانه وعطفه مساويا للجميع ، وبما أن رشيد كثير المشاكسة والمناكدة مع أقرانه كان يُؤنَب – رشيد - كثيرا من والده وعمه وأصحاب والده ، دخل الصف الأول ابتدائي وسرعان ما سرّع له لينتقل لصف أعلى ومن ثم أعلى ، وهذا النبوغ المبكر جعله يفخر بنفسه ويجدها أفضل من الكثير ممن حوله بما في ذلك أصدقاء والده الكبار الذين يجتمعون بمحل النجارة ليتحدثوا بشؤون كثيرة منها الدين والسياسة ، لذا علق رشيد بهاذين البابين ، السياسة والدين ، ويقول الكثير ممن عرفوه أن رشيد كان ميالا للأفكار اليسارية والماركسية ولكنه لم ينتمي لحزب ما ، وبجانب ذلك كان محبا ومغرما بقوميته العربية ودينه ومذهبه ، ولحبه لهذا عشق العربية منذ نعومة أظفاره ، وكذلك تشجيع مدرس اللغة العربية له ، لأنه بدأ ينظم الشعر الفصيح وهو بمراحل الدراسة المتوسطة ، ومرة تحدى والده وأصدقاء والده ليعربوا له بيتا من الشعر عرضه على مدرسه ، ( فصاحة الأعراب زرع مثمر / وبها يصان العرض والوطن ) ، قال له أحد أصدقاء أبيه لمن هذا البيت يا رشيد ؟ ، ضحك رشيد ساخرا بهم لأن البيت من نظمه ، أحب وأعجب ( رشيد ) كثيرا بشخصية الزعيم الراحل ( عبد الكريم قاسم ) ، أجتاز المتوسطة والإعدادية بتفوق وقبل بكلية الشريعة ، وهنا تبدأ محطة الصراع الأول مع الذات ، المحاضرات التي يعطونها له تختلف كثيرا عن المفاهيم التي آمن وأقتنع بها ، ومع ذلك كان من المتفوقين ومن الطلاب الذين يشار لهم ، ومنحه أستاذه ( د مصطفى جواد )رحمه الله لقب شاعر الكلية ، وتوقع له أن يكون واحدا من أعلام اللغة العربية ، وكثيرا ما كان يطلب من رشيد أن يمر عليه لغرفته الشخصية في الكلية ليعيره من الكتب ما يضن بها على غيره ، رشيد جسم لا يحتمله عقله ، وعقل لا يحتمل أفكاره ، وأفكار ترفض الذل والخنوع وتريد أن تنشر ليستفاد منها ، فاضطربت عنده الرؤى ، لم يكن له صديق في الكلية ، أعتزل عن الطلبة ، وكلما حاولوا إخراجه لحياتهم أبت شخصيته الانصياع لما يريدون ، ولا أعلم لم كتب رسالة لوالده يخبره فيها أنه ينوي الانتحار ، جن الوالد لهذه الرسالة وأخذها لأخيه ( جابر ) لأنه الأقرب لرشيد ، طالبا منه الذهاب الى بغداد لمعرفة ما ينوي رشيد لنفسه ، يقول رشيد فوجئت بعمي بدار الطلبة ، كيف أتصرف ؟ ، وأين ينام العم ، وماذا سيقدم رشيد لعمه من طعام ؟ ، كان العم ذكيا لينجد رشيد من محنته التي يظن ، وأصطحب رشيد لأقرب مقهى في باب المعظم وتحدث مطولا مع أبن أخيه ، وكانت النتيجة أن ألتزم رشيد بدراسته وكليته ، لأن العم أقنعه بأن والده كبُر ويحتاج لمعونته لتربية بقية أخوته ، في العطل الصيفية كان رشيد يعمل لتلبية متطلباته الشخصية من ملابس وكتب يضاف لما يمنحه له الوالد ، ولكن أي عمل يعمله رشيد ؟ ، فرشيد شخصية متفردة ، يستنكر التعالي عليه من قبل الآخرين ، يرفض المعونات من الأقارب وخاصة العم شبه الميسور ، لأنه يعتقد أن المُنح تسلب الكرامة ، استأجر عربة لبيع المرطبات ( الموطا ) ، يدفعها بعضلاته وقوته المشهودة ويذهب بها الى خارج المدينة فجرا ، ويعود بعد صلاة العشاء بعد أن يبيع كل بضاعته ، عرف ( الجمجمه ) ، و ( العتايج ) ، و ضواحي ( النيل ) وغيرها من القرى المحيطة بالفيحاء الحلة ، كل ذلك كي لا يراه أحد من المعارف والأقارب ويستهجن منه ذلك ، بعد أربع سنين تفوق على الجميع وعاد الى الحلة يحمل شهادته الجامعية ، لا ينسى رشيد ذلك اليوم الذي قبل فيه يد والده ، وطبع الوالد على جبينه قبلة ابوية حنونة اعادت لرشيد كل توازنه وحرمانه ، ضحك الأب بوجه ولده وقال له ( بويه بعد لتكلي أعرب فلان شي ) وضحكا معا ، أقام عمه ( جابر ) وليمة لتخرجه ، مدت أم ( شوقي ) زوجة العم يدها لتعطي رشيد مبلغا من المال ليشتري له ( قاطا ) ورباطا وقميصا وحذاءا لأنه سوف يباشر عمله الوظيفي مدرسا للغة العربية والدين ، وكعادة رشيد رفض ذلك المبلغ ، دخل لمدرسته وبدأ الطلاب يلتفون حول أستاذهم لطريقته الحديثة والمسلية لإيصال المادة اللغوية لهم ، عصرا يذهب الى مقهى ( حسن علي ) في سوق العلاوي قرب مسجد الكطانه التي أحبها بل عشقها، وفي هذه المقهى يتواجد أصدقاء والده القدامى ، معارفه ، شباب من اليسار العراقي ، ولأن رشيد قد دلته بصيرته الثاقبة عن الأوضاع السياسية للبلد فقد بدأ يُصرّح هنا وهناك ، وفي صفه عن تلك الأوضاع ، ومعلوم أن صفوف الدراسة لا تخلوا من المتبرعين لنقل ما يدور للجهات المعنية ، ومعلوم أن المقاهي مرتع خصب لرجال الأمن ، يعرف رشيد ذلك ولكن رسالته التي يحملها تقول له عليك واجب الكشف والفضح لهكذا ساسة جوف ، لم يستمع لنصيحة والد أو عم أو أبن عم أو صديق ، عصر أحد الأيام ورشيد يجلس على أريكته بمقهى ( حسن علي ) وكثير حوله وهو يتحدث لهم عن العراق ومظلوميته حضر شرطيان سألا من ( رشيد ) ؟ ، صاح عاليا أنا رشيد ، قالا تفضل معنا لمركز الشرطة ، قال لهم وبأي تهمة ؟ ، أجابا لا علم لنا وطلب منا هكذا ، نهض رشيد معهما ومد أحد الشرطة يده ليمسك يد رشيد ، جذب رشيد يده وصرخ بوجه الشرطي ( أتركني كلب ) ، سار أمامهما وكأنه هو من يقتادهما ، وصلوا لنهاية شارع العلاوي – السوق الكبير – انعطفوا يسارا صوب مديرية الشرطة ، مقابل أسواق ( الأورزدي ) حاليا ، مجرد دخوله لمركز الشرطة وإدخاله لغرفة ( النذارة ) وهكذا تسمى وتعني غرفة الانتظار ، وموقعها يمين الباب الرئيسي للمديرية ، لم يكن رشيد مطلوبا للشرطة ولكنه كان بغية أمن بابل ، وهذان الشرطيان ما هما إلا مخبران سرّيان ، بعد دقائق دخل أربعة من رجال الأمن يحملون هراواتهم وانهالوا على رشيد ركلا وضربا بتلك الهراوات ، هل يُسلم صاحب الفكر والعنفوان الشبابي نفسه فريسة بهذا الشكل ، كلا ، أستطاع رشيد أن يصيب كل هؤلاء بجراح دامية ، وأحدهم كسر له رشيد يده ، والكثرة تغلب الشجعان العزل ، وهكذا سقط رشيد مغميا عليه في غرفة ( النذارة ) ، وهذا الشرطي الأمني المزعوم هو ضابط أمن يرتدي ملابس مدنية تعرفه أسرة رشيد ، ولطالما أرسلوا لأهل الضابط من يسترضيهم وتقديم الدية لهم ولكنهم بعنجهية أمنية يرفضون ، اليوم الثاني أفاق رشيد الذي أدمي من كل مكان بجسمه ووجد فوق رأسه والده وعمه ، وبدأت المعاناة الحقيقة لرشيد ، خرج من التوقيف ليباشر عمله في مدرسته فوجد نفسه منقولا الى القرى والأرياف البعيدة ، وضابط الأمن لم يكف عن متابعة رشيد وجلوسه بمقهى ( الكطانه ) التي يعشقها ويعشق سوقها الكبير وناسها البسطاء ، وتكرر استدعاء رشيد ولأكثر من مرة ، وقد يكون رشيد سببا بفقدانه ملاذه الوالد ، أحد الأيام حضرت سيارة من الشرطة لمدرسة رشيد ، وافق مدير المدرسة خوفا من الأمن أن يصحبوا رشيد معهم ، قال رشيد الى أين ؟ ، قالوا له الى المستشفى لأننا نظن أنك مريض ، لم ينفع معهم شئ ، أخذوه الى المستشفى وأجري فحص طبي صوري له ، قال له الطبيب أنك تحتاج لحقنة ، قال رشيد لا أشكوا شيئا دكتور ، قال الطبيب خذها من باب الاحتياط . يتبع رجاءا
الأربعاء، 15 أغسطس 2012
هل كان رشيد أو البهلول مجنونا ؟-أم نحن المجانيين !!!,حامد كعيد الجبوري
( أيا .......... لا ..... ) ، سأل الأستاذ الدكتور ( محمد جابر شعابث ) أبن عمه رشيد قائلا ، متى تنهي شطر البيت لقصيدتك المنتظرة يا رشيد ؟ ، أجاب رشيد كلما وضعت قلمي بيدي لأكمل ، ينتابني الغثيان والدوار والصداع فأهملها ، ترى من الشجاع فينا وأكمل ما بدأه رشيد ؟!!!!. ( رشيد عبد الجليل علي شعابث الزبيدي ) حلي من محلة ( الجامعين ) ، ولادته بداية أربعينات القرن الماضي ، ذكي حاذق منذ نشأته وطفولته وصباه وشبابه ، يقول رشيد لست ذكيا ومتفوقا كما تظنون ولكني فقت الأغبياء فبُرّزت على الآخرين ، وهذه فلسفته ورؤيته الخاصة ، فقد والدته وهو لم يدخل المدرسة ، ورويدا رويدا بدأت أمه المتوفاة لا تأتيه في منامه إلا بين الحين والآخر ، حتى نسي ملامح وجهها ، وتزوج والده بأخت زوجته ( خالته ) ، له شقيق أكبر منه ببضع سنين ( جعفر ) ،كان والدهما رحمه الله يصحبهما لمحل عمله ( النجارة ) في السوق الكبير قريبا من مسجد ( الكطانه ) ، ولكن متى يصحبهما الى العمل ؟ ، يصحبهما للعمل قبل آذان الفجر ليئدوا الصلاة جمعا ومأتمين- صلاة الجماعة - بعالم دين ، وطفل هكذا عمر لابد أن يضجر من هذا الخروج المبكر فيقول ( أمشي نائما أو نائما أمشي ) ، وربما يسقط أرضا وهو يسير فينجده والده ، دخل أخوه الأكبر المدرسة ، ولأن رشيد يحب المعرفة لكل شئ بلا سؤال لذا يتوجب عليه أن يرى ما يضع أخوه من كتب ودفاتر وأقلام في جراره ، أذن كيف يتصرف ، تمارض صباحا مدعيا الحمى وتركه أبوه وأصطحب أخاه ( جعفرا ) الى الصلاة والعمل ، ما أن خرجا وثب رشيد من فراشه وبدأ يخرج كل ما تقع عليه يده ، ومرت بسلام ، طفولة شرسة وذكية ومشاكسة لابد سيكن لها حديث طويل ومعروف لكل المدينة ، ساهم والده كثيرا بصنع هذه الشخصية الغرائبية ، وكيف كانت تلك المساهمة غير المقصودة ؟ ، الوالد أمي لا يحسن القراءة والكتابة ، متوسط الحالة المالية ، لا يأكل أن لم يعمل ، عمله بسيط ( نجار ) يصنع ( الجاون ، وكاروك الأطفال – المهد - ، وربد المسحاة ) ، والحلة آنذاك لم تكن إلا هذا السوق المسمى السوق الكبير ، ويقابله سوق أصغر منه في الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، تزوج الوالد بثلاث نساء لا حبا في الزواج والإنجاب ، ولكن زوجته الأولى أم رشيد توفيت ، فتزوج بأختها لرعاية الأطفال ، ولأنها لم تنجب تزوج بأخرى ، لم يكن اهتمام الأب منصبا على رشيد صاحب الطاقات الجبارة الذكية ،بل وزع الوالد حنانه وعطفه مساويا للجميع ، وبما أن رشيد كثير المشاكسة والمناكدة مع أقرانه كان يُؤنَب – رشيد - كثيرا من والده وعمه وأصحاب والده ، دخل الصف الأول ابتدائي وسرعان ما سرّع له لينتقل لصف أعلى ومن ثم أعلى ، وهذا النبوغ المبكر جعله يفخر بنفسه ويجدها أفضل من الكثير ممن حوله بما في ذلك أصدقاء والده الكبار الذين يجتمعون بمحل النجارة ليتحدثوا بشؤون كثيرة منها الدين والسياسة ، لذا علق رشيد بهاذين البابين ، السياسة والدين ، ويقول الكثير ممن عرفوه أن رشيد كان ميالا للأفكار اليسارية والماركسية ولكنه لم ينتمي لحزب ما ، وبجانب ذلك كان محبا ومغرما بقوميته العربية ودينه ومذهبه ، ولحبه لهذا عشق العربية منذ نعومة أظفاره ، وكذلك تشجيع مدرس اللغة العربية له ، لأنه بدأ ينظم الشعر الفصيح وهو بمراحل الدراسة المتوسطة ، ومرة تحدى والده وأصدقاء والده ليعربوا له بيتا من الشعر عرضه على مدرسه ، ( فصاحة الأعراب زرع مثمر / وبها يصان العرض والوطن ) ، قال له أحد أصدقاء أبيه لمن هذا البيت يا رشيد ؟ ، ضحك رشيد ساخرا بهم لأن البيت من نظمه ، أحب وأعجب ( رشيد ) كثيرا بشخصية الزعيم الراحل ( عبد الكريم قاسم ) ، أجتاز المتوسطة والإعدادية بتفوق وقبل بكلية الشريعة ، وهنا تبدأ محطة الصراع الأول مع الذات ، المحاضرات التي يعطونها له تختلف كثيرا عن المفاهيم التي آمن وأقتنع بها ، ومع ذلك كان من المتفوقين ومن الطلاب الذين يشار لهم ، ومنحه أستاذه ( د مصطفى جواد )رحمه الله لقب شاعر الكلية ، وتوقع له أن يكون واحدا من أعلام اللغة العربية ، وكثيرا ما كان يطلب من رشيد أن يمر عليه لغرفته الشخصية في الكلية ليعيره من الكتب ما يضن بها على غيره ، رشيد جسم لا يحتمله عقله ، وعقل لا يحتمل أفكاره ، وأفكار ترفض الذل والخنوع وتريد أن تنشر ليستفاد منها ، فاضطربت عنده الرؤى ، لم يكن له صديق في الكلية ، أعتزل عن الطلبة ، وكلما حاولوا إخراجه لحياتهم أبت شخصيته الانصياع لما يريدون ، ولا أعلم لم كتب رسالة لوالده يخبره فيها أنه ينوي الانتحار ، جن الوالد لهذه الرسالة وأخذها لأخيه ( جابر ) لأنه الأقرب لرشيد ، طالبا منه الذهاب الى بغداد لمعرفة ما ينوي رشيد لنفسه ، يقول رشيد فوجئت بعمي بدار الطلبة ، كيف أتصرف ؟ ، وأين ينام العم ، وماذا سيقدم رشيد لعمه من طعام ؟ ، كان العم ذكيا لينجد رشيد من محنته التي يظن ، وأصطحب رشيد لأقرب مقهى في باب المعظم وتحدث مطولا مع أبن أخيه ، وكانت النتيجة أن ألتزم رشيد بدراسته وكليته ، لأن العم أقنعه بأن والده كبُر ويحتاج لمعونته لتربية بقية أخوته ، في العطل الصيفية كان رشيد يعمل لتلبية متطلباته الشخصية من ملابس وكتب يضاف لما يمنحه له الوالد ، ولكن أي عمل يعمله رشيد ؟ ، فرشيد شخصية متفردة ، يستنكر التعالي عليه من قبل الآخرين ، يرفض المعونات من الأقارب وخاصة العم شبه الميسور ، لأنه يعتقد أن المُنح تسلب الكرامة ، استأجر عربة لبيع المرطبات ( الموطا ) ، يدفعها بعضلاته وقوته المشهودة ويذهب بها الى خارج المدينة فجرا ، ويعود بعد صلاة العشاء بعد أن يبيع كل بضاعته ، عرف ( الجمجمه ) ، و ( العتايج ) ، و ضواحي ( النيل ) وغيرها من القرى المحيطة بالفيحاء الحلة ، كل ذلك كي لا يراه أحد من المعارف والأقارب ويستهجن منه ذلك ، بعد أربع سنين تفوق على الجميع وعاد الى الحلة يحمل شهادته الجامعية ، لا ينسى رشيد ذلك اليوم الذي قبل فيه يد والده ، وطبع الوالد على جبينه قبلة ابوية حنونة اعادت لرشيد كل توازنه وحرمانه ، ضحك الأب بوجه ولده وقال له ( بويه بعد لتكلي أعرب فلان شي ) وضحكا معا ، أقام عمه ( جابر ) وليمة لتخرجه ، مدت أم ( شوقي ) زوجة العم يدها لتعطي رشيد مبلغا من المال ليشتري له ( قاطا ) ورباطا وقميصا وحذاءا لأنه سوف يباشر عمله الوظيفي مدرسا للغة العربية والدين ، وكعادة رشيد رفض ذلك المبلغ ، دخل لمدرسته وبدأ الطلاب يلتفون حول أستاذهم لطريقته الحديثة والمسلية لإيصال المادة اللغوية لهم ، عصرا يذهب الى مقهى ( حسن علي ) في سوق العلاوي قرب مسجد الكطانه التي أحبها بل عشقها، وفي هذه المقهى يتواجد أصدقاء والده القدامى ، معارفه ، شباب من اليسار العراقي ، ولأن رشيد قد دلته بصيرته الثاقبة عن الأوضاع السياسية للبلد فقد بدأ يُصرّح هنا وهناك ، وفي صفه عن تلك الأوضاع ، ومعلوم أن صفوف الدراسة لا تخلوا من المتبرعين لنقل ما يدور للجهات المعنية ، ومعلوم أن المقاهي مرتع خصب لرجال الأمن ، يعرف رشيد ذلك ولكن رسالته التي يحملها تقول له عليك واجب الكشف والفضح لهكذا ساسة جوف ، لم يستمع لنصيحة والد أو عم أو أبن عم أو صديق ، عصر أحد الأيام ورشيد يجلس على أريكته بمقهى ( حسن علي ) وكثير حوله وهو يتحدث لهم عن العراق ومظلوميته حضر شرطيان سألا من ( رشيد ) ؟ ، صاح عاليا أنا رشيد ، قالا تفضل معنا لمركز الشرطة ، قال لهم وبأي تهمة ؟ ، أجابا لا علم لنا وطلب منا هكذا ، نهض رشيد معهما ومد أحد الشرطة يده ليمسك يد رشيد ، جذب رشيد يده وصرخ بوجه الشرطي ( أتركني كلب ) ، سار أمامهما وكأنه هو من يقتادهما ، وصلوا لنهاية شارع العلاوي – السوق الكبير – انعطفوا يسارا صوب مديرية الشرطة ، مقابل أسواق ( الأورزدي ) حاليا ، مجرد دخوله لمركز الشرطة وإدخاله لغرفة ( النذارة ) وهكذا تسمى وتعني غرفة الانتظار ، وموقعها يمين الباب الرئيسي للمديرية ، لم يكن رشيد مطلوبا للشرطة ولكنه كان بغية أمن بابل ، وهذان الشرطيان ما هما إلا مخبران سرّيان ، بعد دقائق دخل أربعة من رجال الأمن يحملون هراواتهم وانهالوا على رشيد ركلا وضربا بتلك الهراوات ، هل يُسلم صاحب الفكر والعنفوان الشبابي نفسه فريسة بهذا الشكل ، كلا ، أستطاع رشيد أن يصيب كل هؤلاء بجراح دامية ، وأحدهم كسر له رشيد يده ، والكثرة تغلب الشجعان العزل ، وهكذا سقط رشيد مغميا عليه في غرفة ( النذارة ) ، وهذا الشرطي الأمني المزعوم هو ضابط أمن يرتدي ملابس مدنية تعرفه أسرة رشيد ، ولطالما أرسلوا لأهل الضابط من يسترضيهم وتقديم الدية لهم ولكنهم بعنجهية أمنية يرفضون ، اليوم الثاني أفاق رشيد الذي أدمي من كل مكان بجسمه ووجد فوق رأسه والده وعمه ، وبدأت المعاناة الحقيقة لرشيد ، خرج من التوقيف ليباشر عمله في مدرسته فوجد نفسه منقولا الى القرى والأرياف البعيدة ، وضابط الأمن لم يكف عن متابعة رشيد وجلوسه بمقهى ( الكطانه ) التي يعشقها ويعشق سوقها الكبير وناسها البسطاء ، وتكرر استدعاء رشيد ولأكثر من مرة ، وقد يكون رشيد سببا بفقدانه ملاذه الوالد ، أحد الأيام حضرت سيارة من الشرطة لمدرسة رشيد ، وافق مدير المدرسة خوفا من الأمن أن يصحبوا رشيد معهم ، قال رشيد الى أين ؟ ، قالوا له الى المستشفى لأننا نظن أنك مريض ، لم ينفع معهم شئ ، أخذوه الى المستشفى وأجري فحص طبي صوري له ، قال له الطبيب أنك تحتاج لحقنة ، قال رشيد لا أشكوا شيئا دكتور ، قال الطبيب خذها من باب الاحتياط . يتبع رجاءا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق