الخميس، 2 أغسطس 2012

قصة قصيرة- عصفور في الرأس-عادل كامل

قصة قصيرة عصفور في الرأس
لا أتذكر متى ماتت جدتي .بل ربما إنها لم تمت بعد وإنها مازالت تروي قصتي القديمة ، قصة العصفور الذي دخل رأسي. لكن جدتي ماتت.. وربما، أنا الآخر، لا أمتلك إلا حكاية وهمية وخالية من عناصر الإغراء . في الواقع لم تعد ثمة تسليات لدينا،نحن الموتى ، سوى قتل الوقت بعيدا عن الفضائح. فالجسد لا يحتمل متاعب مضافة. إنما لا أعرف لماذا أتذكر حكاية هذه الجدة وهذا الرأس. هل لأن الموتى يمتلكون الهواء، أو انهم، بدقة، لا يجبرون على دفع الضرائب، ولا يخافون من الموت. إنني منذ كان الفجر بلون الأحلام ، وهذه مقولات جدتي في الغالب ،كنت أعشق العصافير.وحتى عندما كبرت ، وسكنت في الطابق العاشر،من العمارة التي شيدتها على مدى سنوات ، كنت أبحث عن مؤسسات لحماية العصافير وهي ليست طرفة عابرة، ارويها لقتل الوقت،كلا، فالثمن غال حتى عند حساب فوائد النوادر، فعندما ذهبت إلى مؤسسة خيرية، وشرحت لهم موقفي من الكائنات الحية، وإمكانياتي بوضع أية مبالغ لإنقاذ الطيور، قالت لي سيدة وقورة: وما هي النسبة التي تطلبها؟ فزعت فقلت لها: أنا أتبرع بثروتي كلها من أجل إنقاذ الطيور.. وخاصة العصافير المهددة بالانقراض.على كل، لم تسخر مني،عندما عرفت اني امتلك ثروة أكبر من رصيد مصرفها كله. بل قالت لي :حسنا.في تلك اللحظة قلت لها: لست أنا العصفور المقصود ! ومنذ زمن أبعد،أبعد بكثير من حكاية جدتي، وتقسيم العالم او لم شمله، قبل تلوث البيئة، وقبل اختراع حدائق الحيوان والسجون الشرعية لحماية هذا كله، كان العصفور يسكن الغابة . هكذا أفكر: العصفور سبقني إلى الهواء .. وكان العصفور يسكن في مكان ما من رأسي الذي يتعرض الى الصدمات،فلماذا أتخلى عنه، أو عن هذه الاضطرابات الجميلة . كانت القصة قديمة، ولكنها كانت تتجدد بين فترة وأخرى.لقد بدأت وأنا كنت في العام الثالث أو الرابع من عمري، أي قبل نصف قرن تقريبا، على نحو عفوي، إلا أن جدتي هي التي أخبرت أفراد العائلة بأن العصفور الذي أختفى من القفص دخل رأسي. ومنذ ذلك اليوم أخفيت على الجميع فكرة أن هناك عصفورا صغيرا داخل رأسي. أمسكني والدي وسألني أمام أفراد العائلة: ـ " هل سرقت العصفور؟" ـ "كلا.. بالتأكيد." ـ "إذاً..تركته يذهب إلى الغابة..؟" ـ "كلا..أبداً.." ـ " أين ذهب العصفور إذا؟" ولا أعرف ماذا حدث لي بعد ذلك،تقول جدتي انهم نقلوني الى المستشفى، وأني لم أفق من سباتي إلا بعد أشهر. ماذا حدث لي بالضبط.؟ إنها حكاية غريبة وغير جذابة أيضا ً.فأنا ضجر من الحديث عن العصافير والحكايات القديمة..لكن النحس الذي رافق حياتي كاد يقضي عليّ. فبعد أن أفقت من سباتي، هربت من البيت باتجاه الغابة، وكنت أرغب أن لا أعود إلى البيت.كنت أحلم أن أتحول إلى عصفور،صغير، وأسكن شجرة عالية،بعيداً عن الضوضاء، لكن المشكلة بدأت في ذلك اليوم،عندما سقط فوقي أحد العصافير وهو يرتجف خوفا وفزعا .. ماذا بك؟ قلت له.قال: انهم يطاردونني..أنظر .كان المسكين يهرب من الصبية المشاكسين..هؤلاء الذين كنت أراهم كيف يصطادون العصافير ويبترون رؤوسها. كان الدم ينزف فيتحول لون السماء إلى شلال دماء حمراء فسفورية صارخة، فأصرخ، وأفقد الوعي ثم أعود وأتنفس الهواء. قال العصفور لي:ماذا حدث لك ـ قلت : لم يحدث لي أي شيء. وسمعت أصوات الأطفال المشاكسين تقترب، وكانوا يبحثون عن العصفور.. ولم أكن امتلك قوة الهرب من الغابة.. فماذا افعل. لا أعرف كيف طرأت في فكري فكرة إخفاء العصفور داخل رأسي.وبالفعل لم يعثر الأطفال على شيء .قالت جدتي لي: وماذا فعلت بعد ذلك؟قلت: رحت أبحث عن العصفور الذي اختفى في حياتي ومنذ ذلك الوقت، كانت تتكرر هذه القصة. حتى أمي قبل اعوام وجيزة، قررت ان أتخلص من الكائن الذي راح يربك حياتي.. فذهبت الى احد العلماء وشرحت له،بالتفاصيل الدقيقة، كيف حدثت الحكاية ،ماذا تعني لدي الآن، أجاب الرجل بهدوء عجيب: لا توجد مشكلة، أيها السيد..من الأفضل ان تبقي العصفور في مكانه..ثم قال: ـ بل أرى ان وجوده عندك هو الامتياز العظيم لك.. ـ ماذا تقول أيها البروفسور؟ ـ هذا كل ما في الأمر. وهكذا كنت أعيش حياتي بهدوء يتخلله الاضطراب المفاجئ. ذاك الاضطراب الخاص باستيقاظ العصفور داخل راسي.فاجلس أبكي أو اصمت أو أتكلم مع الأشجار .. كانت جدتي في الواقع ،هي التي تراقب حياتي، وهي التي تشرف على إصدار الأوامر، بعد وفاة والدي .ولم يعترض عليها أحد من أفراد عائلتي ،بل كانوا هم المنفذين لأوامرها. هكذا قادوني. على الرغم من وجود معاملات تجاريةغير منجزة، وفكرة انشاء اكبر حديقة للعصافير في عالمنا،الى المستشفى. وكانت هناك بانتظاري اكبر مفاجاة ، حشد كبير من البشر.. من هم؟ قال كبير الاطباء هامسا: إنك شخصية مهمة للغاية.. وعليك أن تتكلم. قلت له: من هم..ولماذا اراهم يتجمعون حولي؟ لكن احد الصحفيين سألني بصوت مباغت:نعرف انك لاتؤمن بوجود العصفورداخل رأسك..ولكن الاترى..؟ صرخت: كلا.ثم هدأت..قلت له:لكن الاتعتقد أن في رأس كل منا عصفورا ؟ ضجت القاعة بالضحك.فكنت أبكي.قال كبير الاطباء:إننا سنقوم بإجراء أكبرعملية ذات ابعاد تخص مستقبل البشرية كلها..والسيد سيحدثكم عن حالته..فالعصفور الذي عاش معه سنوات طويلة سيغادره وسنسلط أضواء على هذا المرض.كدت أجن .لكن كبير الاطباء تابع قائلا:وسوف نسلط الضوء على العصفور ذاته. وستقوم وسائل الاعلام بشرح أدق التفاصيل..كان ذلك تمهيدا نفسيا جعلني لاأتوقف عن الاعترافات. في الواقع لاتوجد في حياتي أسرار.وحتى هذا العصفور ـ قلت في نفسي ـ سأتركه يعود الى الغابة..همس الطبيب في أذني:والان عليك أن تهدأ . لاأعرف لماذا تذكرت طرفة جعلتني أضحك. وقد رويتها للطبيب .. قلت كانت امرأة وهي ذاتها زوجتي بالطبع، سبب كارثة كبرى في حياة زوجها، وقد طلبت منه، بعد شجار، أن يثبت لها أنه شخصية مرموقة وموقرة وإنها عمليا متزوجة من رجل حقيقي.. فغادر الزوج البيت ووقف وسط أكبر ساحات المدينة وراح يخطب في الناس. كانت الزوجة ترى الاف المحتشدين وهم يصغون لكلام زوجها. وكان الرجل يتكلم بحسب عادته في الكلام.في الليل، بعد ذلك الامتحان، سألها عن احترام الناس له. فقالت له، ببرود:كانوا،بالفعل، مؤدبين عداك كنت الثرثار الوحيد.قال الطبيب:لن تشعر بالألم.. استسلمت لفريق الأطباء ،فماذا سيحدث لي:لست الأول الذي سيفارق الحياة، ولا الأخير.لكن العملية الجراحية الكبرى نجحت. قال كبير الأطباء: الآن..بإمكانكم التحدث الى السيد الذي عاش حياة المحنة. قلت:إني مسرور للغاية، ان أعود الى الحياة مرة ثانية ورحت اروي لهم حكايات كثيرة، وطرائف، حسب الأسئلة. فقد كان هناك حشد من الفضوليين حسنا.. وماذا بعد ؟ لا أعرف كيف نهضت من سريري، أمامهم بخفة نمر، وأمسكت بالعصفور الذي أخرجوه عنوة من رأسي، وأعدته الى مكانه وعدت دون اعتراض للحديث عن الغابة القديمة وكيف إني، بعد نصف قرن قد قررت إنشاء أكبرحديقة خاصة بالطيور واني سأكون صاحبها واني في واقع الامر، لم أكن إلا هذا العصفور الذي تعذب كثيراً ونجا من الهلاك بأعجوبة.

ليست هناك تعليقات: