السبت، 29 أكتوبر 2011

كلمات الإمبراطور الأخيرة-عادل كامل

كلمات الإمبراطور الأخيرة


عادل كامل
إشارة

[ هذه الأوراق ، عثر عليها مصادفة في خزانة لم تدمر بالإشعاع الكوني ، تعود إلى أمير الكلام ، يبدو أنه دونها قبل اختفائه من الوجود بقليل . وإذ نعيد نشرها ، بعد مضي ألف عام ، فليس في الأمر من حذر أو مس بسلالة الإمبراطور ، لأن نسله كله تبعثر وتلاشى إلى الأبد . أما عن ضرورة تداول هذه الأوراق أو ما جاء فيها من كلام ليس لدينا رغبة نفيه أو نقده أو تعديله ، فليس ألا بدافع التوثيق ، وحرصنا العلمي ونحن نتعرف على ماضٍ قديم ، قد لا يكون له أي وجود في حاضرنا . ]

الكاتب



لا أحد يعرف جوهره ، أهو نبات أم من مملكة الحيوان .. أم هو آت من كوكب بعيد .. ؟ في الواقع ان سكان البلاد لم تعد تلفت نظرهم هذه الأسئلة أو سواها .. أنهم ، على مدى قرن من وجوده كإمبراطور ، فقدوا أو تنازلوا عن أسئلتهم . وهذا ما لخصه أمير الكلام بقوله ان الناس في غاية السعادة وهذا يكفي لهدم النظريات السابقة . وهي للحق لا وجود لها منذ زمن بعيد .. والإمبراطور الذي دعا شعبه الى هذا الاجتماع لم يعد يفكر في أمر من هذه الأمور ، أو في قضية من هذه القضايا . فهو يصدر أوامره التي تنفذ قبل ان تدور بخلده .. ومن هنا انتفت الأسئلة لديه أيضاً .. مثلما عند الناس .. ألا أنه من النوع الذي يحب الظهور مرة كل عام ، يتكلم خلالها بضع كلمات ، ثم يعود الى مكانه الخفي ، الذي لا يمتلك أياً من الأمراء أو أبناء الشعب أي تصوّر عنه . يقال أنه يذهب الى الغابة ويعيش مع النباتات .. وقيل أنه يذهب الى أعماق البحر لممارسة دوره الإمبراطوري على أبناء البحر .. وقالوا أنه يختفي في كهف بعيد ليتلذذ بمشاهدة الأعداء في عالم الظلمات . أنها شائعات سرعان ما نساها البشر .. حتى الأعداد ضجروا وأصابهم الملل من شن الدعايات والوشايات والكلام الغريب العجيب ، ذلك لأنه ظهر على شيء عجيب من إرادة اللا مبالاة ، وقوة الشكيمة . فكف الجميع عن اختراع النوادر أو المبالغة بالقصص الخيالية عنه .. فمملكته التي سيطر عليها لم تكن سوى بقعة صغيرة من الصحراء ، سرعان ما حولها الى غابة ، وضم أليها عناصر الحياة كالنار والحجارة والهواء والذهب الملون وغير ذلك كثير . تم حولها ، بعد عقد من الزمن ، الى الإمبراطورية رقم واحد في العالم القديم وفي العالم الجديد أيضاً . على الرغم من أنه لا يعترف بوجود دول أو أقاليم أو تجمعات سكانية في أي مكان من الكوكب .. وذلك اليقين لا يشغل بال الشعب أيضاً .. فالناس سعداء لأمر جد بسيط ، وتلك كلمات أمير الحياة ، ذلك لأن الإمبراطور منحهم الحياة من العدم .. وكل ما منحهم إياه هو فيض من فيض . وليس الناس بحاجة للشك أو الشعور بالضجر من سعادتهم ، آو أنهم ، لأن سبب من الأسباب ، يفكرون بالسعادة القصوى . كما ان الناس هجروا عاداتهم القديمة .. فالإمبراطور نجح بالقضاء على مخلفات الماضي كالغرائز ومنحهم رغبة الولاء بعد ان طهرهم من عوامل التمرد وبذور الشك ، فاليقين بأزليته تماثل قناعتهم ان لا بداية للعالم مثلما لا نهاية له . فلم التمرد ولم الصراخ في غرف موحدة . ومثل هذه الفكرة جاءت من الأعداء أصلاً .. هؤلاء الذي شنوا عليه الحرب تلو الحرب حتى صار عملياً من أقوى الرجال تحدياً لهم ، الأمر الذي دفعهم بمرور الزمن الى التلاشي . ومنذ ذلك الزمن حدث ما يسمى بالنسيان المطلق .. لا هو يتذكرهم ولا هم يتذكرونه . فتاريخه لا علاقة له بهم ، بل أصلاً ، كما فسر أمير الزمن ذلك ، ان جلالة الإمبراطور أعظم من التاريخ نفسه . لهذا لا معنى الى التاريخ ولا الى الذاكرة .
نظر الملك الى شعبه الذي أحتشد لرؤيته بالدرجة الأولى ، وأبتسم ، حيث فكر ان يتخلى عن الإمبراطورية ، بعد ان بذر روح الإمبراطورية فيهم . فكر ان يصير مثلهم ويعود الى الصحراء .. لأن الدولة الدولة الحديثة ، كما همس لزوجته الأخيرة ، رقم 999، تحكم نفسها بنفسها ومن غير أوامر .. فالأشياء كلها تعمل مثل الموسيقى ، الدولة التي لا فقراء ولا أغنياء فيها هي التي حلم بوجودها . ولا أحد يعرف هل نجح حقاً ببناء دولة ليست بحاجة الى العدل بعد ان زال منها الظلم كله : ولا أحد يعرف أهناك ظلم أم لا .. مثلما لا أحد يعرف من الناس جميعاً أصل أو انحدار جلالته . فالجميع ليس لديهم أي وقت فراغ أو مشاكل .. فهم يحلمون حتى في ساعات العمل . ويعملون حتى في الأحلام .. أي ليس لديهم دقيقة واحدة من الفراغ ليفكروا في صغائر الأمور .. أو القضايا التي بلا معنى .. فهم مسرورين بإبسط النعم .. وفرحهم يأتي بأقل الأشياء قيمة . أنهم على كل حال لا يعرفون ماهي التعاسة أو الحزن . فالعلماء اخترعوا عقاقير نادرة وحيدة لإزالة مثل هذه المشاعر الوضيعة .. فالدولة الحديثة استطاعت القضاء على المخاوف ، أو مشاعر الحزن أو هول الموت . حتى الشعور بالجوع غدا قضية عابرة أو لا ترد في ذهن أحد . وكان جلالته على وعي بهذه القضايا كلها ، حتى أنه لم يعد يفكر أيحبه شعبه أم لا .. لأنه لم يعد بحاجة الى ذلك ، كما أنه ذاته لم يعد مهتماً بمشاعره الخاصة تجاههم . كل ما في الأمر أنه يغادر مكانه الخفي مرة واحدة لأمر يحدده في آخر لحظة قبل ان يعود الى مكانه السري . ومثل ذلك الأمر هو الأخر لا يثير قلق السكان أو الحيرة لديهم .. لأن أساس الدولة الحديثة ، كما كتب ذلك في المناهج التعليمية ، قد تجاوز المصادفات المرتبة .. أو القدر الذي لا محالة أنه القدر .. أنها مشاعر غير ذات قيمة في الحالات كلها ، ولا أحد يسمح لها ، ان تشغله لحظة واحدة .. بينما يكون جلالة الإمبراطور قد نهض ولوح بيديه مباركاً المليار نسمه التي رسمت صورته في القلب وفي الروح التي حفظت كلماته كلها عن ظهر قلب . فالناس لطفاء لا تصدر عنهم أية ضوضاء أو مشاكسات أو مظالم .. ان سعادتهم تقودهم الى الوجود ، وتحلق بهم بعد الموت . وللحق ان هذا الشعب لا مثيل له في الأزمنة كلها ، لأنه الشعب الوحيد الذي لا يعرف الخوف وهو بعد ذلك لا يعرف لماذا يموت الناس ، من الأعداء طبعاً .. كما ان هذا الشعب يحيا بغير حاجة الى وجود جيش أو شرطة أو أي نوع من أنواع الأسلحة أو من يحرسها .. فقبل نصف قرن أمر جلالته تحطيم السجون والمؤسسات العسكرية وإذابة كل أنواع الأسلحة قائلاً ان السلاح هو الذي يصنع حامله . وقال ان القضاء على الفقر هو القضاء على الأغنياء ، فالجشع والقتل حالتان قديمتان وهكذا تم القضاء على المشاعر الموّلدة للبغضاء ، وهنا أدرك ، ومنذ توليه العرش ، ان الإمبراطورية الحديثة ليست بحاجة الى إمبراطور .. ولا الى سلطة ، بل بحاجة الى شعب يحكمه الخيال الراقي والتهذيب الجمالي، وبالفعل أدرك الآن مقدار سعادته ، لأنه الوحيد الذي له الحق بهذه المشاعر . هذا القانون الذي يتيح له مراقبة السلوك العام ، وهو يحكم العالم من مكانه الخفي .
وقال لزوجته ذات الرقم 198 ان عملية التخلي عن العرش هي أرقى أفعال الدم الإمبراطوري ، لأن كل فرد من أبناء الشعب هو الإمبراطور نفسه .. انظري .. ورفع صوته الواهن قليلاً :
- أنهم يشبهونني تماماً .. بل أكاد أعتقد أنهم في عمري أيضاً .. فقالت هامسة :
- هذا أكيد .. أنهم أبناؤك .. ومن صلبك .
- ولكن ألا تعتقدين بأنهم سيضيعون .. ترى من يرتب لهم مسراتهم .. أم أنهم اعتادوا عليها .. أني أرغب ان أؤجل إصدار هذا الأمر الى العام القادم ..
وأنشغل في تأمل مليار فرد .. وهم كتلة واحدة لا تتخلخل أبداً .. لا يحكمها أحد سوى قانونها الروحي ورضاها المطلق بالسعادة والمسرات . إنما رغب ، لسبب ما ، أن يصير مثل عباده ، فقالت زوجته التي عرفت ما دار بخلده :
- أنك لم تقض على عوامل الماضي في نفسك ..
- أجل !
وشعر بالخوف . تعرق .. واختفى المشهد من أمامه . وقال متابعاً :
- أني لا أريد القضاء على الدم الذي يشتعل في جسدي .. وقال بصوت أعلى :
- أني أرغب لو أعدت لهم الماضي .. ان هذه الدولة الحديثة السعيدة الراضية المرضية تثير فيّ القرف ..
فقالت بحزم وهو تتسلم إشارات عدة من الأمراء الذين يحيطون بالإمبراطور :
- أن الأمر الأول الذي سيحدث ، يا ملكي المفدى ، ان هذا الشعب سيسحقك .. وستدمر قوانينك .. تهدم قصورك .. وتخرب الأراضي وسيتلف الزرع . لن يدعوا امرأة لرجل .. ولا رضيع لمرضعة .. الولد ينحر أباه . والحفيد ينفي أجداده . لا حيوان على الأرض ، ولا ما بنيته له ذكر .
أرتج جسد الإمبراطور ، وكاد يسقط أرضاً . فقد جعلته الخيبة منهكاً . وغاب عنه الوعي نصف غياب . فأمر أمير الأشباح ، وفعل ذلك بدافع التسلية ، لسلخ جلود الأمراء كافة ، بعد بتر الرؤوس ، وإقامة أعظم وليمة مازال الناس يتلذذون بذكراها الوحيدة التي أمر جلالته ألا تنسى الى أبد الآبدين . كانت وليمة كبيرة برهنت لسيادته ان الشعب مازال يحن لتخيل سلوك الجياع وحب ملذات الطعام . فقد كان الناس يلتهمون الطعام من الصباح حتى صباح اليوم التالي .. فقد أجاد الطحان بفن الطبخ ، كما قيل ، لكن بعض الإشاعات سرت وهي تتحدث عن نقاء اللحم الأميري .
فرح الإمبراطور كثيراً في ذلك اليوم ، وبسبب عنف مسرته طلق جميع النساء اللائي فقدن قدرة الإنجاب .. بدأ بنفسه ثم صار الأمر يخص الرجال كافة . بعدها جرت حفلة العرس الخالد .. حيث تزوج نصف نساء الأمة ، وهو رمز قاوم الزمن كله .. وقد قال الأجداد والأباء والأبناء الإمبراطور له الحق كله فيما يعمل . فالأرض ، مثل الناس والزرع والجبال والهواء والماء من بركاته .. له ما يشاء منها .. وله الحق وحده في إهمالها أو توزيعها حسب ما يرد في ذهنه من خيال عنيد .
ومضى نصف نهار .. وهو يكفي لإنجاب ربع مليار مولود جديد .. بعد ان شعر بالحاجة الى أبناء تسري في أعماقهم موسيقى الأزل . وجاء أول الليل . كان يحدق في الرؤوس وهي تنظر أليه كأنها لم تره من قبل . لأن الجميع بالفعل كانوا يعرفون أنه سيختفي مدة عام كامل .. وهم على وعي بأن اختفاء صورته من الدم والخيال سيورثهم بعض الأسى ، هذا الشعب الذي شيّد أعظم إمبراطورية خالية من الأمراض السارية والذي لم يتعرض للأمراض المزمنة الفتاكة بل والذي عاش بصحة لا تعرف الوهن وبأجساد خالية من الشوائب .. وبذاكرة صافية كالماس . شعب لم يعرف الأسلحة ولا الحرب ولا الجوع ولا البرد ولا العواطف القلقة ولا حب الاستطلاع ولا أي شيء آخر من مخلفات عصر الانحطاط . شعب لا يهتف ولا يصفق ، لا لأنه لا يمتلك فماً أو أيدي بل لأنه تدرب بالخبرة والتحكم بالوراثة الإمبراطورية ان المستقبل هو الشيء الوحيد الذي يمكن ان يصنعه الإنسان ، وهو المستقبل الذي لا يجادلون في أمره ، أنه المستقبل حسب . فالناس ، منذ زمان بعيد ، أهملوا عادات كالجدل أو الحوار أو النقاش أو كل ما يؤذي خلايا رأس أي مواطن من هؤلاء سيكون الإمبراطور على علم به ، بل هو يعرف ذلك قبل ان يحدث . فقد تم توزيع الخلايا بعدل لا يثير حسد أحد ، أو فضول من له راس إضافي لدى الآخر الذي اكتملت لديه خلايا رسم صورة جلالة الإمبراطور وانتظار بزوغه مرة كل عام وتناول وليمة ما تارة للأمراء وتارة للنساء اللائي ضجر منهن أو أحياناً كان يخترع الولائم اختراعاً لأنه جعلهم يحفظون عن ظهر قلب أنه لا يمكن له ان يعيش ألا بين أبناء شعبه الأوفياء .. شعب لا يصفق ولا يهتف ولا يذهب الى الانتخابات ولا يعرف الوهن هو الذي كان يراه على امتداد الصحراء ، مثل رمال فوق رمال ، ومثل موجة فوق موجة . لكنه قبل ان يلقي خطابه الأخير ، آمر ألا تكون هناك أوامر في إمبراطوريته ، وفي الواقع كان الناس يزاولون أعمالهم بهدوء تام ، وبدقة لا مثيل لها في أي مكان آخر .. كانوا يولدون ويموتون من غير ان يترك ميلادهم أو موتهم الذي لا يتذكرون تفاصيله لأنه غدا غريزة فيهم ألا وهو عزل الإمبراطورية بصحراء كبيرة تحميهم من جيرانهم ، ومن مختلف الشعوب والأقوام . ومثل تلك الحقيقة الوحيدة آنستهم ان هناك بشراً ودولاً وإمبراطوريات ، بل جعلتهم ، في إطار آخر ، لا يصدقون ألا بوجودهم الوحيد فوق ذلك الكوكب ، ومن الصعوبة بمكان البرهنة على عكس ذلك أو نفيه ، لأنه لم يحصل مثل ذلك الأمر ، أو ان تكون حاجة أليه . وهذه واحدة من خطب الإمبراطور في زمن سابق ، تماثل مقولته الشهيرة بأن تجاهل الأعداء يعني الكف عن الحرب أو الاستعداد لها ، مثلما ان الكف عن ذكر الموت يعني الحياة الأبدية .
وأكتمل نصف الليل الأخر . واختفى الإمبراطور من غير علم أحد . فلا أحد يصغي لأوامر لا يصدرها أحد ، بعد ان تم تطهير البلاد من آخر شرور الماضي ، الأوامر ، أو فكرة السيد والعبد ، فالإمبراطورية المحاطة بصحراء عظيمة شاسعة لا تحكمها الأوامر ، فلا شر في القوانين ولا في نفوس الناس ولا في خفايا مكونات الدولة الحديثة .
أما متى يظهر جلالة الإمبراطور ، أو من يلفت النظر الى ذلك ، فأنه سيحدث من غير عناء ، مثلما يولد الناس ويموتون بهدوء ودقة وصمت ومسرة أزلية ، ومهما سيكون خطاب سيادته في العام القادم فأنه ، ولا أحد يستطيع نفي ذلك أو المبالغة فيه ، فهو من الأسرار التي لا اعتراض عليها ، فالأعداء يقعون في مكان مجهول ، ثم أنهم أنفسهم غير قادرين على إثبات ان هناك ، في ذلك المكان من الكوكب ، إمبراطورية بهذه السعة والازدهار . فكيف سيتاح لهم الاعتراض على خطابه الأخير ، الذي أخذ مكانته في خلايا رؤوس السكان ، هذا الخطاب الذي لا أحد يعرف ، متى ألقاه ، أو متى سيتكرم سيادته في أذاعته على الناس ، لأنه الحدث الوحيد الذي على الجميع ان يقدروا مغزاه من غير حذر ، وبحرية خالية من الرقابة .

ليست هناك تعليقات: