الأربعاء، 19 أكتوبر 2011
جسور وجسور-د.علي عبد الأمير صالح
جسور وجسور
علي عبد الأمير صالح
حين نشرع بالمسير أو السفر يتحتم علينا أن نعبر الجسور . جسور الحديد أو الكونكريت .
جسور بين المدن البعيدة .
وجسور بين المدن القريبة .
جسور عابرة للقارات والمحيطات .
جسور تمتد من أرضٍ إلى أرض ،
ومن قلبٍ إلى قلب .
جسور بين الشرق والغرب ،
وجسور أخرى بين الشمال والجنوب .
جسور بين الماضي والحاضر ،
وجسور أخرى تأخذنا إلى المستقبل .
ثمة جسور عدة بين كرخ بغداد ورصافتها .
وفي مدينتي الكوت يُشيد ، الآن ، جسران كونكريتيان .
ثمة جسور معدنية دأبتُ على تثبيتها في أفواه المرضى . إنها جسور الأسنان الصناعية من الفولاذ الصب والسيراميك والزاركونيوم .
حينما بدأت تعلم كيفية مد الجسور الصناعية كنتُ أضع خطواتي الأولى في طريقٍ طويل وجميل وقاسٍ . شرعتُ أمد جسوراً من نوعٍ آخر ، فريد واستثنائي . جسوري هذه لم تكن من الكونكريت ولا من المعادن الصلدة ، بل هي جسور معرفة وثقافة وفكر ووعي وتنوير وحوار وتبادل أفكار .
حصل ذلك في سبعينات القرن الماضي .
وإذا كنت أمد الجسور في أفواه ضيقة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أصابع فإنني عبر القراءة باللغة الإنجليزية طفتُ حول العالم وحلًق بي الخيال بعيداً ، وصار بوسعي أن أقضي ليلةً صيفيةً في جنيف تارةً ، أو يوماً ربيعياً في كارويزاوا تارةً أخرى ، أو نهاراً شتائياً كئيباً في لندن حيث يحتشد آلاف المتظاهرين احتجاجاً على الحرب ضد العراق ، أو أنزل إلى سردابٍ في دانزك وأرى رجلاً يبتلع دبوس النازية ، يتقيأ ، يصبح وجهه أرجوانياً ، وعيناه تجحظان من رأسه ، يسعل ، يصرخ ، يضحك . لم يكن بوسعه أن يسعل بشكل حسن ، فيبدأ بالرقص ويخبط بذراعيه . لقد اختنق بدبوس النازية قبل أن يقتله الروس .
هذا العالم الواسع ، الرحب ، عوّضني عن تلك المسافات الضيقة التي كنتُ محصوراً فيها خلال ممارستي للعمل الطبي . فقد أتاحت لي القراءة بلغةٍ ثانية ومن ثم الترجمة حرية السفر بين ينابيع الإبداع ، وكنوز الفكر والثقافة .. هذا الترحال الدائم بين ثقافات الأمم هواية أثيرة لديّ بدءاً من سنوات شبابي المبكر .
الترجمة هي جسري الخاص الذي أعبره نحو الآخر . الترجمة هي انفتاح على الآخر ، وحوار مع الآخر . إنك تقرأ الآخر وتطلع على ثقافته وفكره وعاداته ومعتقداته وطقوسه .. تعرف كيف يعيش هو ، بماذا يفكر ، وبماذا يحلم ، وما هي عذاباته وآلامه وهواجسه .
الترجمة هي بمنزلة الإبحار في عوالم الآخرين ، إنها اكتشاف عوالم جديدة ، والتعرف على ثقافات مختلفة ، وأناس يحملون فلسفات وأفكار وهويات مختلفة . المترجم في مجال الفكر والثقافة والأدب مثقف آخر ، ومبدع آخر يضيف إلى ما يترجم من روحه من دون أن يخرج بالطبع عن النص الأصلي . هو ليس قرد المؤلف كما يصفه ماركيز ، بل صانعٌ جديد للنص وليس ناقله ، مبدعاً كما مبدعه الأصلي .
بعد نحو ربع قرن من الزمن ، وبعد خمسة عشر كتاباً مترجماً نُشر في بغداد والقاهرة وبيروت ودمشق فضلاً عن عشرات المواضيع المترجمة ( قصص قصيرة ، نقد أدبي ، حوارات ، مقالات حول السينما ، ومتابعات ثقافية للكتب والروايات وجوائز نوبل وسواها ) في الصحف والمجلات العراقية والعربية ، أشعر بالسعادة والرضا وأنا أرى القراء يعبرون تباعاً من ضفةٍ إلى أخرى ، ويقرؤون صفحات كتبي المترجمة بشغف وولع .
بعد هذه المدة الزمنية أسائل نفسي أحياناً : لماذا قمتُ وأقوم بهذه المهمة العسيرة ؟ لماذا احترفت الترجمة مهنةً ثانيةً لي ؟ يُخيل لي أنني كنتُ مولعاً بأن أشيد جسوري الخاصة كي أتواصل مع الآخرين ، كي أحاورهم ، وأفهمهم .. لم يكنْ يهمني أبداً ما إذا كانت الرواية التي أترجمها ستنشر أم لا .. وما إذا كانت قد تُرجمت ونُشرت من قبل أم لا .. كان يفرحني أن أجعل قرائي يشاركونني ولعي بتلك العوالم الساحرة , والروايات الفذة ، والشخصيات الروائية الفريدة من مثل هانز كاستورب بطل رواية ( الجبل السحري ) ، والدكتور فيشر بطل ( حفلة القنبلة ) ، ورام محمد توماس بطل ( المليونير المتشرد ) .
مازلت أذكر ذلك الصيف القائظ من سنة 1996 وأنا أضع ( طبل من صفيح ) بنسختها الإنجليزية على سطح طاولتي وأصابعي تنز عرقاً على صفحات الرواية ، وحتى هذه اللحظة حين يزورني الأصدقاء ومراسلو المحطات الفضائية أريهم آثار أصابعي المتعرّقة وقد انطبعت على سطوح أوراق الكتاب وسوّدتها .. وما زلت أتذكر الجو العائلي حين كنت أترجم رواية ( البحيرة ) لياسوناري كاواباتا في شتاء 1992 . ابني سيف ، طفل السنتين ، يجلس أمامي على طاولة الكتابة بجنب رواية كاواباتا .. كنت أسليه بلعبةٍ من لعب الأطفال وأنهمك أنا في ترجمة النص الروائي .. لكنه يشاغلني غالباً فيخمش بأصابعه الرقيقة اللدنة صفحات الرواية أو مخطوطتها المترجمة .
كانت سنوات الحصار مضرجة بالعرق والإلهام . كنت أعالج السأم بالتخييل وأرسم على شفتيَّ ابتسامة الأمل . كان الأدب وما يزال يبث العنفوان في داخلي فتولد في أعمق أعماق روحي الدهشة . إبان تلك السنوات القاسية كنت أستمع إلى صراخ اليأس المبحوح . لكنني كنت أكافح كي أوازن بين حياتي وعملي الأدبي ، أن أحافظ على الجو العائلي الحميم وأن أعالج أطفالي وأرعاهم ، وفي الوقت نفسه أنشط مخيلتي وأطوّر أدواتي الإبداعية . كان من الصعب أن تحافظ على الأمل وأنت الجريح في قلب الغابة ، تكسرت سهامك وهدك التعب فهويت على ركبتيك .
ما أقوم به حالياً وما يقوم به زملائي المترجمون العراقيون جهود فردية حصراً ، لكنها ليست عديمة التأثير كما قد يظن البعض .. الكتب المترجمة يطالعها القارئ العراقي والعربي بنهم ولها حضور في المشهد الثقافي العراقي والعربي كما تسهم في تنمية ذائقة القارئ وتطوير تقنيات الكتابة لدى الشعراء والروائيين والنقاد .
في الختام أقول إنه ينبغي أن يكون المترجم متفتح الذهن ، واسع الأفق ، جريئاً ، خالياً من العقد ، ومتحرراً من التابوات كي يستطيع أن ينقل نصوصاً جريئة ، صادمة ، ومثيرة للجدل .. هذه النصوص تلعب دوراً حيوياً جداً في إرساء ثقافة ديمقراطية وتنويرية تحتفي بالإنسان وتحترمه ، كما تساهم في توعيته فكرياً وفلسفياً وجمالياً وتزوده بالمعارف الإنسانية الحديثة .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
مجهود رائع شكرا لك
إرسال تعليق