الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

أختام عراقية معاصرة-الجزء الثالث-عادل كامل






أختام عراقية معاصرة

الجزء الثالث

عادل كامل

[ا] المسافة ـ الغائب حاضرا ً
ببساطة: أنا امسك بما أراه يغيب، لكنني، في الوقت نفسه، أرى هذا الغائب يحدق في ّ. إنها ليست لعبة ـ بحسب شلر في الأقل ـ مع ان أصابعي لا تكف عن اللعب، إنما هي شبيهة بأداء عمل الدورة: تتوارى الأشياء كي تنبثق. قطعا ً لم ْ اعد منشغلا ً بما سيقال، وإلا لاخترت أي درب وسلكته غير مكترث لنهايته، فانا ـ كما في عملي ـ لا امسك إلا بالذي انتزع حريتي وقيدني بقيودها: المسافة التي كلما أعدت التدقيق فيها أجدها تنبني بالاختيار الذي لم اختره. باستطاعتي ان أجد يقينا ً ما بوسائل غير (التفكير) لكنها ـ بعد نصف قرن ـ فقدت غوايتها، بمعنى: وهمها. ذلك لأن كل من قيدته حريته وحررته منها يدرك ـ في سره ـ برغبة العثور على مفتاح لا للدخول ـ ولا للمغادرة ـ لأنهما العلة التي أكملت بعضها بالبعض الآخر ـ بل لدمجهما والنظر إليهما كما المح ـ في شرودي ـ القفل نائيا ً. فانا لا أقع في النهار ولا في الليل، وإشعاع الشمس يعلن لي عن سواد توارى فيه، بمعنى: لا مخفيات هنا ـ ولا هناك. على ان الحضور، في سياقه، يخفي اندثاره.
ليس لدي ّ إلا القليل من النور يسمح لي برؤية الحروف فوق الورقة، فالغبار يكاد يعلن عن لغز الأرض في نشؤها البكر: دخان مركزه جمرة. إنها عاصفة رملية وأنا أكاد المس ـ بروحي ـ حباتها تنتشر من حولي، فيما جسدي أراه يقاوم موته، بحثا ً عن هواء غير ملوث، وعن تراب لا يتراكم، بحثا ً عن قطرات ماء بكر! ولكن هذا الذي أتتبع اختفاؤه أراه فاجري ـ بنظري أو بروحي ـ خلفه، انه ـ مثل تلك اللاحافات التي قيدت موجوداتها بها ـ يسبقني كي اكتشف أنني أترقب حضوره. لأنه لم يغب إلا وقد منح غيابي شيئا ً ما منه! هل هذا كل ما تريد الحياة ان تقوله لي، أم هو ما أريد ان أقوله ـ لنفسي ـ في الحياة، أو ما تقوله الحياة لشخص وجد انه لا يمتلك إلا مسافة خاتمتها سابقة على مقدماتها بمنطق الدورة: دورة اللازمن، وان يدا ًعابثة صاغت (الصفر) كي يكون للعدد موقعه معنا في غياب ـ وحضور ـ وغياب المسافات؟
بشرود وليد انجذب إلى رائحة ما فأتشبث بها، كالطوفان ـ كالطوفان المثبت في الألواح، وفي الأساطير، وفي الذاكرة الجمعية ـ وقد توارى تاركا ً لنا ـ وليس لي ـ هذه الرمال تهطل مطرا ً ذريا ً جافا ً لا يشع إلا بالنسبة ذاتها في أشعة الشمس. ما معنى هذا..؟ ولماذا تمتد الصحراء وتزحف بعد ان غمرها ماء الطوفان الأكبر.؟ ولماذا علي ّ أن أموت غرقا ً، كي أموت، مرة ثانية، في هذا الجفاف...؟
تحفر أصابعي قبرا ً مزدوجا ً سأغادره، بعد أداء مراسيم الدفن، فانا فيه، وأنا ناء ٍ عنه. فهو كقبر شبعاد ومن معها ذهب إلى العالم السفلي، لا وجود له بعد ان شاركنا في المراسيم، وشيدنا ـ بما يدحض كل احتمال لوجود المصادفة ـ أو لسلاسل المصادفات ـ مأوانا، وقد وجدنا ـ حد الصهر ـ بين المحو والتدوين، بين نهاية المسافة وأولها، غياب هذا الذي يحفر حضوره في امتداد المكتمل ـ من مرارات المرض والشقاء ، فالموت ذاته، كالرمال ـ مشفر بالطوفان، لن يسمح إلا لرفيف ما يلامس من يجد نفسه عثر على سفينة لا مرسى لها، فهي ذاهبة ابعد من مسافتها، برمال اخفت لغز ما لا يحصى من العناصر، وتحولاتها، لأنه سيكون هو السفينة، خالية من السفان، والريح لا تجري في الغمر، قبل تكّون الليل والنهار، وقبل ان تكون للعدم أيامه، وأسابيعه، وأشهره، وقرونه، ومطلقه، فالأخير سابق على نهايته، ومقدماته سابقة على خاتمته، ولأنه هو السفينة والسفان والمسافة، فهو يكون وقع ميتا ً عند الذي أعطاه النور: وأصغي إليه ـ من غير صوت/ رآه من غير صورة/ أدركه من غير تفكير/ حيث عشقه خال ٍ من الحبيب، فأجد الشيء الوحيد الذي علي ّ ان أراه توارى بما قبل الغياب، وغاب قبل الحضور، لأن البرهان وحده غدا شيئا ً ما كهذا الذي نراه يدحض سكونه، وما فيه من ثبات.
ولكنني أعود بما في الغفلة من ضوابط، لتلمس حدود الموت، داخل هذا الذي اجهله (إن كان رمالا ً أو طوفانا ً أو كلاهما) وارتب مائدة شبيهة بالشاخص تدل على من فيها، ومن فيها لا وجود له. هل بلغت لغز ان الموت مكث يحرسني مني وليس منه تارة، ومنه وليس مني تارة أخرى، كي تأتي الرمال ـ بعد ان غمرنا الطوفان العظيم ـ بالبرهان ان الشاخص وحده لا وجود له إلا في حدود وجوده العابر، كالذي شيدته، من اجل استكمال بناء/ هدم ما لا يحصى من المدافن، ونثرها، كأثير، ومثل هذه 0الرمال) مازالت تحمل طاقة بعثها الأولى: أم تراني ـ في سياق الاستحالات ـ سأستنجد بالخطوط، والألوان، وبباقي العناصر لإخفاء بلوغ اللغة صفرها الذي بدأت منه؟ لكن اللغة أراها تراني فألبي لها نداءها بما لا امتلك إلا ان أنجزه، كاستبدال الكفن بمنديل، واستبدال الراحل بظله، والدوي بما هو اشد منه: ألا تبدو المقاربة من الختم زيادة تتطلب التطهر، والحذف، كي لا أرى ـ ولا يرى الآخر ـ إلا ما اخذ موقعه في البرهان: نستيقظ كي نجد العدم له حافة السكين، وقد كف القلب ان يبقى منجذبا ً إليها! حقا ً ان اللا متوقع ـ هو ـ وحده من نسج لنا غوايتنا، لكنه، حقا ً هو وحده كان تاما ً بلا حافات، وقد صاغ منا هذا الذي أبدا ً لن نمسك به بعد ان امسك بنا، وقيدنا إلى ألتوق:الموت بعيدا ً عن الموت، والاستيقاظ بعيدا ً عن حافات النهار، وبعيدا ً عن ومضات الليل.

[2] انصهار أم تصوّرات أم عزله؟
من غير إحساس بالصفاء، ومن غير بياض خال س من مكوناته، ومن غير شرود، لم أجد جسارة ان أعيد بالخطوط ذاتها الأولى: نسج الأثر الوحيد الذي أدرك انه هو وحده قد قيّدني! هو وحده حماني، كي لا أرى إلا الذي وحده لا وجود له تماما ً! ليس هو العدم السابق على الوجود، وليس هو الوجود الكامن في عدمه، وليس هو أية حكمة تدوّنها الكلمات، بالحواس أو بالعقل أو بالانجذاب والأسر، بل لهذا اللا متوقع وقد شيّد مأواه، كما تفعل المجرات، والنجوم، ومملكات النمل، ومجاميع الحشرات، والبشر، والأشياء: انه انجذاب مهد نحو داخله، بالقوة التي لا تقول شيئا ً تصوراتنا عنها سوى الانجرار، فهل الكون يفكر...؟
الكلمات شواخص في مدفن، والمدفن لا يقع بين ماضيه، وغده، فالميت ليس حيا ً، والحياة، في هذا التتابع، ليست جزءا ً من الموت، وليست حتى جزءا ً من الكلمات: إنها ـ ببساطة ، لم تستنفد لا أسبابها ـ عبر الأسباب ـ بعد، ولا وهمها العميق وقد غدا كالحقائق، وإلا لماذا صرت عدما ً ممتدا ً، أو نهارا ً خرج من الليل؟ هل قلت: كان علي أن لا أجد عذرا ًكي أقول أنني برمجت لحمل هذه الأثقال كلها، وفي مقدمتها تلك التي لا وزن لها، بمعنى: لا وجود لها إلا عبر انعدام الحركة، ولكن في ما لا تستطيع الكلمات إلا ان تقوله: هذا الذي وحده الغفران قفله، وهو مفتاحه الذي توحد فيه!

[3] السكن: دينامية اللغز

قبل الولادة، وبعدها، لا امتلك قدرة نفي وجود أصابع أدمية غير مشفرة بما يمنح عملها الامتداد عبر الآني. إن النحل ـ كالنمل ـ وكالطيور، وقد شيدوا مساكنهم لا للسكن فحسب، بل لجعل المستقبل خارج عمل إرادتها. وأصابع البشر، منذ اشتغلت في السياق ذاته: الديمومة، بحثت عن مفاتيح لا تفتح بابا ً، بل لمغادرته. فالأصابع ليست أداة عمل، واكتشاف، وحفر، وبحث، وتعبير، وتفكير فحسب، بل أداة عبور. فالتاريخي ليس وليد (الدماغ) إلا لأن الأصابع دمجت الرقص، والعبث، واللعب، بالآخر الذي غدا إمبراطورا ً (مركزا ً) أسير مكوناته. فهي وحدها لا تؤدي دور الجسور/ المعابر/ نحو الرأس، بل ستمنح الرأس مغادرته حدوده نحو العالم/ ونحو الكون.
لا اخفي ان ريلكه، الشاعر الألماني ـ بترجمة فؤاد رفقة ـ سمح لي ان أعيد التجربة. لقد شغلته أصابعه، حتى ظن أنها كائنا ً غريبا ً، لمخلوق آخر، وقد لصقت بجسده للأسباب ذاتها التي جعلت من وجوده: لغزا ً.
تلك الأصابع التي سبقت العقل، بعملها غير التخصصي، لم تكن تلهو! فبعد ان انفصلت عن النوع، أدركت أنها غير قادرة إلا على ان تتمثل لغز الكون، النمل لم يشّيد اعقد الأشكال وأكثرها ملائمة لحياته فحسب، بل أرسى قانون التكرار، فقصور النحل لم تتغير، لا في الغابات ولا في الجبال ولا في المدن، ولا في الحقوا التجريبية. أصابع البشر، بعد التخصص، منحت معمارها امتيازا أكثر ملائمة لقدرته على التكيف من ناحية، وقدرتها في الانفصال عن تحويل الواجب إلى حرية.
ولا اخفي ـ عندما أعيد تأمل أصابعي تلهو بالحجر، والماء، وشقوق الطين ت تذكر طفولة برمجتها تلك الأصابع، قبل ان تكون بإمرة العقل! فكانت أصابعي تبصر أكثر مما كانت تشم، وتلامس، وتنشغل بالأسئلة. لهذا كنت احلم ان أكرس حياتي للفيزياء ـ باشتغالي في تأمل ومضات المجرات والنجوم ـ وكنت ارغب ان أكون جراحا ً، بعد ان تجاسرت وشرحت جثة ديك مات، اضطرني ان أتتبع شريانيه وصولا ً إلى القلب: لقد لدغته عقربا ً، وسببت موته، بتخثر الدم! لاكتشف احد أكثر خواص شخصيتي: تجنب العنف. ولكي ادحض اعترافي، فان أصابعي كانت تأخذني نحو المجهول. فالرغبة في النحت وجدتها عندما أمسكت أصابعي بالمطرقة (الأزميل) فلم امنعها، مثلما انشغلت بلذة الصيد! لا انوي الحديث عن طبيعة بشرية مشتركة، لكنني كنت اكتشف ان أصابعي لم توجد للرقص، بل للاشتباك! فهل حقا ًلم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط ! هذه الرهافة في المحاكمة، حفرت في ّ ذعرا ً مكتوما ً في لحظة مشاهدة جسد قطع ووضع في كيس. كان قتلا ً بدافع غسل العار، لفتاة جرجرتها رغبتها فدفعت الثمن، كي لا تضطر للقبول بشقاء ما تبقى من العمر. الأصابع مزقتها، أصابع الأهل، لكن أصابع شريكها لم تفكر بالخاتمة، فأصابعه اشتغلت بالعناق!
ربما ـ هنا ـ اكتشف عبد الباسط النقاش ـ خلال تسعينيات القرن الماضي ـ سر انشغالي بالنحت، كي ادفن عويلي في الخامات، بدل إثارة الانتباه.
ها أنا أراقب أصابعي العاجزة، الواهنة، الحزينة، ولكنها مازالت صلبة، ورقيقة، بل وأليفة. إنها عقدت معي صداقة سمحت لي بإدامتها، في العمل. لكن ليس كما يفعل النمل، بل وكأنها تقودني إلى الذروة: اللا عمل. فالعمل غدا مميزا ً لا لبناء مصيره، بل لترك البرمجة تأخذ انشغالها بما هو ابعد من ماضيه ت وابعد من حاضره.
وها أنا أدرك ـ بالوعي ـ أنها شاهدة علي ّ: فانا اعرف إنها تعمل عمل العين،لكنها لا تبصر السطوح، ولا الحركات، بل تذهب نحو المخفيات، والنوايا، والمجهول الذي سكن القلب ـ والرأس. فهي شاهدة ـ لكنها ضحية أيضا ً ـ على سلاسل من الأعمال مضادة للحياة في المدفن. فأصابعي عبر سلاسة ونشوة تمثل عالمها الجنيني وتعبر: عن انشغالات يمكن عزلها عن البرمجة. فإذا كان دور الأصابع صريحا ً في الحروب، والقتل، فإنها اشد وضوحا ً في أداء دور الصياد، لا في اقتناص الضحية، بل السكن فيها. فهل الموت وحده يخفي نفيه، كما تختفي النار في قطرات حليب الأم ـ أو مذاق جسد الحبيبة ؟ الأصابع تشهد، من غير ضوء أو إنارة، أصابعي تحديدا ً، عن المشهد المزدوج للفناء ونقيضه. ولكنها ستجد حرية مماثلة في صياغة العقل ذاته عبر الخامات. إن الأصابع تلبي نداء الكون، عبر لغز عمل القلب، وباقي المتوهجات. لكنني اكتشف ان الأصابع لا تعمل بدافع الإثم، أو البراءة: إنها ـ كامتداد ترتد إلى مركزها: خلايا بعدد نجوم المجرة! لا حرية لديها إلا ان تبقى غير قادرة على الاستسلام!
[4] اللغز ـ ممتدا ً
ما المسافة بين النافع والجميل، وما المسافة بين التخبط وبين من يمتلك نظاما ً له غايات، وما المسافة بين اللا متوقع ـ والمشروط بعوامل وجوده ـ وبين ألقسري، والحتمي، والمحدق في المجهول..؟ بالأحرى، كيف حدثت البرمجة من غير غاية ابعد من وسائلها، اندماج المقدمات بالنهايات من غير انغلاق أوان تصبح خارج الحافات، كما يراها المحدود، من المجرة إلى الأرض، والى أدق خلايا الإنسان؟ اللغة تقول ـ كما قال بوذا الحكيم ـ أنا لم اخلق للانشغال بهذه الأسئلة! وفي حدود معرفتي فاللغة لا تذهب ابعد من نظامها في الاتصال، والرموز، وان محاولات التأويل ما هي إلا جزء من طاقتها، فهي غير منفصلة عن لا ماضيها الذي كّون حضورها. بمعنى لا معنى للانشغال بأسئلة لا تبدو اللغة ـ مثل وسائل الاتصال كافة ـ إلا انشغالا ً لا يقود إلى الحقيقة. لكن كلمة أو مفهوم أو معنى (الحقيقة) لا يخصها إلا بحدود ما في الكلمة من حروف، واليات عمل، وضوابط لن تعزل عن الوعي ـ والدماغ ـ أو ما يكمن في لغز الإنسان نفسه!
ما الفن اذا ً...ان لم يكن مستحدثا ً بشروط الايكولوجيا الكلية بين الصانع، وحضوره ـ وجوده ـ في الدورة. فالفن لن يمتلك أكثر من هذا المدى: اللا متوقع ضمن كليته. الأمر الذي يجعل التحولات/ المتغيرات/ والقوانين غير القابلة للتكرار إلا في صياغة نظامها الضامن لغايتها، والمقيد لا بالمصادفة، بل بنظامها حد ان المصادفة ليست إلا احد شروط نظامها هذا. فكما المرئيات ـ وقد أصبحنا جزءا من بنيتها ولغزها ـ ليست إلا احد ظواهر لا مرئياتها، فان اللامرئي ما هو الا الحاضر الدائم الغياب في حضوره.
ألا يبدو تعريف (الفن) ـ كتعريف اللغة ـ متصلا ً/ ومنفصلا ً، عن ذلك الذي تقع حدوده خارج العقل، وخارج التصوّر، أي خارج عمل هذه الوسائط، والوسائل، والتصدعات، والأقنعة، التي من ضمنها اللغة ـ ومن ضمنها الفن تحديدا ً..؟
على ان هدم التكرار، وان كان شاملا ً، إلا ان شيئا ً ما سيحدث تحت قوة الغواية: عمل الإرادة بما تمتلكه. فانا أتنفس، وأتغذى، وأتناسل، لأنني ان لم افعل فسأكون خضعت لنظام آخر، كالفارق بين نظام جسدي ميتا ً أو وجوده قبل الموت. لكن ما المسافة بين انجازات لم أنجزها، وأخرى تحمل هويتي: شخصيتي، ضمن ترليونات الأنواع من الفيروسات إلى عادل كامل! لكن ما معنى ان تكون لي علامة ـ مشفرة ـ وما معنى ما أنتجه من أشكال وأفعال ومواقف وعلامات؟
ان إرجاعنا لكل نص ـ لا فني ـ إلى صانعه، سمح لنا بالاقتراب من تلك الصناعات غير العامة، الصناعات التي يقوم بها عدد محدد تتوفر لديه مهارات محددة أيضا ً، مما يجعل الفارق واضحا ً بين صناعة الطيور لأعشاشها، وبين رسومات رسمها الإنسان الحديث عن رسومات الرسام الفرعوني أو إنسان المغارات. فالبصمات تعلن عن حدودها: وحدة الغاية بوسائلها. فالختم ـ وكل نص مماثل ـ دال ـ وشاهد ـ على صانعه، قبل ان يتحدث عن غايته، ووسائله. لكن هل هناك نملة تشبه نملة أخرى، وهل هناك سمكة يمكن ان تشبه سمكة أخرى في ما لا يحصى من النوع نفسه، وهل هناك ورقة في شجرة التوت تتميز عن الأوراق في الشجرة ذاتها ...؟يأتي الجواب: ثمة اختلاف صريح لا يسمح بوجود التماثل أو التطابق! وفي السياق نفسه فالمثلث الذي وضع في رأس الرمح، للصيد، الشبيه برؤوس الأوراق المدببة، والحادة، ولكن لا التماثل يبقى عاما ً، في التعريف، ولا الخصائص الفردية في فرديتها.
ها أنا لا أبدو كنملة، بين ترليونات النمل، كي يأتي عملي منسجما ً مع نوعي ـ كنملة أو كانسان ـ وليس مستحدثا ً إلا في حدود الإضافات المتكونة بشروط حضورها في هذا الوجود. مرة أخرى يبقى الغائب ـ والمتخفي ـ حاضرا ً عبر هذا الذي لا امتلك إلا ان أكون حاضره الغائب!
فانا لا اصنع فنا ً! أنا أتنفس، وأتغذى، والنظام الرمزي وحده سيشكل حدا ً فاصلا ً بين الوظائف. فانا أتكلم بنظام الانتقال من عشوائية الأصوات إلى عملها البنائي، كي اشتغل بالكتابة، ووفق أنظمتها، وثوابتها، ومتغيراتها في حدود هذه الأنظمة. فالفن ـ هنا ـ ليس مرآة ـ ولا ايكولوجيا سلبية ـ ولا وظيفة كالتنفس، والتغذي، والتناسل، بل عملا ً للحفاظ على ما لا استطيع تحديد غائيته، ولا أهدافه. فهو أداء منظم لصراع لا خسائر فيه ولا مكاسب إلا بحدود استحالة ان امتنع عن التنفس. فالمستحدث محكوم بالشروط التي صاغت للتنفس نظامه، كما صاغت العوامل الاجتماعية أدوات اللغة، وأدوات صنع أسلحة القتل، وفنون العنف، وباقي مظاهر الرهافة ـ والمؤانسات!
[5]الختم ـ الدافع ديناميا ً

ما ان يكون الختم قد بلغ نهايته، حتى أكون قد انفصلت عنه، ويكون قد غادرني! هل هذه مشاعر أكيدة، أم لأن الأختام، كالشاخص، تنتظر من يعيد إليها حياتها؟ لكنني أدرك أنها أصبحت ترسم لي حدودي، تطوقني، لا حماية لي، بل كي أكون شريكا ً معها في الذروة! لكنني ـ في الوقت نفسه ـ لا امتلك قدرة التحرر من منفانا المشترك: العمل لأسباب لا تمتلك إلا مبررات اللا عمل! فمادامت المصائر تمضي، كما ولدت، بما تمتلك من دينامية، أكون مضطرا ً لاستكمال خاتمة أجد مقدماتها بدأت توا ً... تجرجرني إليها. فاستعين ببصري في المراقبة، كي تكف الكلمات عن الوساطة، فها أنا ارقب ذرات الغبار، وحبيبات الزمن، وأصوات نائية شبيهة بضربات قلب لا تعمل بإرادته، اجمعها، بالأحرى هي التي تمسك في ّ، لصياغة هذه الوحدة: غواية تبلغ استحالة البحث لها عن علل، أو مبررات!


[6] ما بعد الربح/ ما قبل الخسران
ليس ما أراه، من سطوح ومجسمات وأبعاد إضافية، كالزمن وما يجري داخل خلايا الدماغ، إلا مسافة ـ ابتعد ـ واقترب ـ فيها من الدافع نحو العمل. أنا لا أؤدي دورا ً أمام المتلقي، ولست حارسا ً شخصيا ً لأحد، أو مستأجرا ً، أو أقوم بدور القابلة، أو المعالج، أو التابع ...الخ أنا ـ بما امتلكه من حياة ـ اخترت خسارتي فيها بروح من كسبها! أنا أحدق في ومضات تأتيني بعد ان تكون قد انفصلت عن أسبابها، إنها مجموعات أو ذرات أو إيماءات لمغيبات، ولمندثرات، تبلغ درجة الموازنة بين يقين الواقع ومداه في الامتداد، حلم مائل يعيد تركيب الأصول، والمصادر، ليكف (الفاعل) ان يندرج في الوظائف، وسلم الترقيات. فانا أحدق في ما يشبه البذور التي تأبى ان تكون فائضة. بذور في ّ أو نائية عني، لا فرق، إنما الجسر بينهما هو الآخر لا يؤدي الدور نفسه: كيف أفكر في قضية ما لا وجود لها، كوجود العدم، لو لم يكن اللامرئي ذاته قد اخذ موقعه في الدورة. إنها ليست فلسفة، في عصر موتها، وفي عصر موت الإنسان وقد غدا شاخصا ًن لا لعمل مشفرات البذرة فحسب، بل السياق برمته أدى إلى هذه الخاتمة: هذا الابتداء. فالسلسة مترابطة ومن الصعب معرفة حد من غير آخر يكمله أو تنفيه.
هذه الومضات، وقد تحولت إلى ذرات لها سطوح، وأبعاد، ومنحنيات، بما تخفيه من عمل الانجرار إلى داخلها حد الصفر، تجعلني أرى الحقيقة بصفتها ـ كانت ـ ذات وجود، وليس بصفتها تتكون توا ً، كصانع لها. لكن هذا الذي يمتد مني إلى الختم، يغيب فيه، كي يأخذ غيابه حضورا ً آخر. حضور الفن في عصر موته، أو انقطاعه عن الفاعل. فالمضي وحده يمتلك دينامية الغواية في تحوله إلى امتداد: هذا الذي لا حضور له الا بغيابه، وما يخص من الأسباب التي جعلتني لا امتلك إلا شرودا ً وأنا افقد تماما ً إلا ضراعة التشبث! (وسأعود إلى مواقف يتوازن فيها المعنى عن لا معناه بحضور هذا الغائب وهو يتحكم بما فقدت السيطرة عليه) هل لي وجود سيتم استرجاعه، كما افعل مع عناصر الكون ...أم ان وعيي برمته ليس إلا بذور لها عملها خارج حدود هذا الوعي، وان كلماتي، لا تمثل إلا جزءا ً من المعادلة؟
ها أنا لا امسك إلا بما أراه غدا مندثرا ً. لكن كيف يحدث ان أجد أصابعي تغويني بأداء الأدوار التي طالما أربكت (صدقي) مع ذاتي، في الفهم، وفي الإدراك؟ أجد أنني أتحمل مسؤوليتي مع هذه البذور، ومع موتها، ومع الآخر الذي اجهل من يكون وماذا يريد بعد ان بلغ الوعي لدي ّ درجة دحضه؟
هل تراني لا امتلك، في الأصل، وفي خاتمة السعي وفي ذروة الاستنتاج، إلا الاعتراف بان ما حدث ـ لم ْ يحدث ـ إلا وكأنه سيحدث بقوة ما لم استطع إلا ان أنفذها؟
يا للحرية، وقد قلبت، كي تؤدي دور السجّان، لكن حريتي تسمح لي ان أرى سجاني مكبلا ً ـ هو الآخر ـ بقيود وجودي مندثرا ً، أو قيد المحو، من ناحية، وبقيود نشترك فيها، خارج جدراننا، من ناحية ثانية. فأي سلوى بلغة المرارة، هذه الحرية، إلا ان تثمر زوالها بهذا العناد!

[7] الديمومة والفن

لكن الاشتغال في الفن، لا يشبه الاشتغال في الفلسفة! فالفن جزء من مسار معقد يتضمن موروثات السحر/ المعتقدات/ والحدوس ذات البعد السحيق، فيما الفلسفة، لا تعمل على حب (الحكمة)، كما منحها هذا الواجب، سقراط، بل ما الحكمة، كي تحب، وكي يكون الطريق إليها، طريقا ً فلسفيا ً..؟
أعلم جيدا ً ان القرن 21 لم يرث شيئا ً يوازي استحداثه للسلع ـ: نظام الإنتاج الفائق/ والتداول الفائق/ والاندثار الفائق أيضا ً. أي العودة إلى ما قبل الفن، والى ما قبل السحر، والى ما قبل المعتقدات: الديمومة!
لأنها وحدها ستعمل على اختراع الوسائل، اللصيقة بغاياتها. وعندما يبلغ الشك ذروته: ما الغاية؟ سيقال: الغاية في ذاتها، وفيزيائيا ً ـ بهذا المسار اللاهوتي وليس الفلسفي وليس الفني ـ نجد الجواب يقودنا إلى الأسباب المكتفية بذاتها أيضا ً. إنها عملية لن تسمح بفك الازدواجية ـ والثنائية، لأنها وحدها تجعل حب الحكمة قضية غير قابلة للدحض. لكن ما الحكمة، في هذه الحدود، ان لم تعمل على استبدال الازدواجية ـ والثنائية ـ بتفكيك التشوش الحاصل بين عمل التخصصات، أولا ً: هناك أوامر صادرة لن ينشغل في مناقشتها إلا المشتغل في الفلسفة، وليس الفنان، أو الساحر، أو من يؤدي دوره القائم على الأسرار، والغموض، والأشياء العصية على الفهم، أو التي ـ هي ـ خارج حدود الجدل. لكن الفلسفة ـ كباقي التخصصات ـ ستعمل لصالح عصر مؤسس على التراكمات. فالحروب/ والتصادمات، مع أنها تجاور كثيرا او قليلا ً ـ ما يحدث في تراكمات الأشياء ـ وتفكيكها ـ إلا أنها لن تسمح لأي نظام بالعمل على وجود سواه! وبالمقابل، تغدو الحكمة نادرة، ولا يتمتع بها إلا الأكثر ندرة من البشر. ألا تبدو هذه الفلسفة قد فقدت قوتها، وأصبحت جزءا ً من الخطاب المرافق لعمليات التراكم، والتصادم. لأن البدائل لن تمتلك إلا وعودا ً قائمة على الانتظار. فإذا كانت جنة (عدن) من صنع الخيال، كحال المدن الفاضلة، فان هذه الصناعة ليست منجزا ً فلسفيا ً، بل، بل على العكس، إقصاء ً لها، كي ينقسم البشر، مرة بعد مرة، إلى: من في المقدمة ومن في الذروة، إلى هامش يستخدم البيولوجيا بزيادة عدده أو الحد منه، بحسب بقاء الحكماء يتربعون فوق الفلسفة.
ليس من المؤكد ان الفن يؤدي هذا الاندثار، بما يضمن للحكماء من استبعاد أي درب يقود إلى سؤال: أليس العالم صيغة واحدة من التحولات، وان الثنائية، ليست إلا صيغة موازية للواقع، كيفت، لتبقى أبدية، دون ملاحظة ان للتراكم حدوده، ولا وجود، في الأصل، لهذا الثابت الأبدي! ففي المعتقدات، التماعات فائقة تجعل الموت ينبت من الحياة، والحياة ذاتها لا تخرج إلا من الموت. لكن لصالح من استثمر هذا المنهج؟ للفقراء ام للذين هم التجار/ رجال المال/ والساسة، في ركلهم للفلاسفة، واستبعاد أي تفكير يشتغل بالعثور على مناطق لا ينقسم فيها الناس إلى حفنة من الصيادين، ونمل من الضحايا!
في الغالب لم اعمل لوضع هذا الشرود، بصيغة الإعلان، في صناعة أختامي، بل، غالبا ً، كنت اسكن المكان الذي آمل ان يحررني من ذعر دائم لن يراقب من بعيد فحسب، بل من قبل تلال النمل وهي تدك كل ما هو جدير بالانتقال من الظلمات إلى الفجر!

[8] الغائب حاضرا ً
وأنا أتتبع الأشكال ـ من اللا شكل إلى المثلث والى الأشكال متعددة النهايات ـ لم المح ان لا وعيا ً كليا ً بالإمكان ان يتحكم بتحديد المسافة بين الوظيفة والجمال، كي يعزل الرهافة، أو اللا نافع، عن الشكل بصفته يؤدي العمل ذاته الذي يؤديه الصياد ـ أو حالات الدفاع النفس. على ان الجمال ـ وكل ما هو جذاب وسحري وعلامة كونتها مكوناتها بما ترمي إليه ـ ليس وليد الرهافة أو النظام بالغ الدقة، لقصد الإشباع غير المباشر للديمومة، وإنما سيبقى يلفت النظر إلى ذات المكونات السابقة على وجودها كعناصر ـ من أجزاء لا مرئية للذرة إلى المجموعات ـ وقد شكلت علاقات تنتج عنها أنظمة الجماعات ـ من النمل والنحل إلى نظام القرية ـ وما يتطلبه من ترابط في مواجهة الجماعات الأخرى، أو الحيوان، أو الطبيعة.
ما هو ذلك السابق على الوظيفة، وهل باستطاعتي ان ارتقي إلى النرفانا ـ أو إلى الفرح بما قصده ألنفري ـ أو اللا عمل عند الطاوية...؟ لأن جميع هذه النتائج تسعى للتخلص من آلية: الإنتاج/ الاستهلاك، أو: الولادة/ الموت.
انه في نهاية المطاف إشكالية إدراكية خاصة بعمل الدماغ، وليس خاصا ً بإرادتي ـ وأنا لا استبعدها عن وعيي/ دماغي ـ التي لا قدرة لها في تتابع كامل العمليات.
ففي المسعى المستحيل لبلوغ ذروة اللا عمل، تكمن إستراتيجية مشفرة للعمل، لكن ليس للاستلاب، أو للاغتراب عن عمليات النمو (الإنتاج) بل لديمومته. انه ملكية مضادة لمفهومها المبتذل، بما تسببه من تصادمات، واشتباكات حد إباحة استخدام العنف، والتدمير، والتعالي. لأنها ملكية تتكون بوحدة أجزائها، حتى يصبح الموت نفسه، معبرا ً، من السابق على الولادة، إلى ما بعده.
هل يمكن ان نجد هذا المعنى عندما يختزل ـ كالحياة ـ بتركيب عناصر تريد ان لا تتوقف عند حكاية، أو عند حكمة، أو عند موعظة، أي عند (الختم) أو كعلامة لها ما تريد ان تخفيه أو تعلن عنه..؟
أم أن 999% من الناس يرغبون ان تقول، كما قال الجرجاني: "ان لفظا ً لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء" لأن الختم ـ متمثلا ً بما حفر فوق العظام، ورسم فوق الجدران، وما صنع كتوقيع شخصي ..الخ ـ لا يتضمن ديالكتيك الدال ت المدلول، بالطريقة ذاتها في التداول اليومي. فالكلام الذي يعالج ـ على سبيل المقاربة ـ ان شيئا ً ما يكمن في الزمن، ولا علاقة له بالزمن، سابق في الحضور، ولاحق على غيابه، تبدو عبارة شبيهة بقطرات ماء تنزل فوق رأس سجين تحولت قطرات الماء إلى مطارق تنهال عليه! ليقول انه غير مسؤول عن موته أو مصيره ما دام الأمر قاده ليقول ما لا يمكن ان يكون له معنى عدا ان تصدعا ً لن يحتمل أدى إلى هذا الانتهاك. كالعقم أو اليباب سواء بسواء! فإذا أنجبت العقيم بزواجها من المخصي كائنات لها قدرات التحول من مصاصي دماء إلى ضحايا، ومن أبرياء إلى جلادين، وان الأرض اليباب الجدباء باستطاعتها ان تنتج قمحا ً وبقوليات تكفي لتلافي آثار مجاعة قضت على سكان الأرض، فأي معنى بالإمكان ان يكون له صلة بلفظة ان يقيد الآخرين بها! الم ْيكن الظلم في زمن الجرجاني هو الظلم ذاته السابق على ذلك الزمن، والذي ليس باستطاعة احد ان يوقف ازدهاره غدا ً...؟
هل نسبة واحد إلى ألف دالة على ان الضوضاء ليست خالية من المعنى، أم لأنها لوجودها دالة على معنى، أعاد صياغته الفنان ـ أو الشاعر أو الحكيم أو النبي ـ وراح ينطق بكلام يخلو من الأدلة، ومن الأسباب، ومن المنطق، بحسب 999% من الناس! لكن 999% في الوعي الجمعي لن ينحازوا إلا لهذا اللا معنى، تاركين الختم الذي حول اللا متوقع ـ من غير طلب فائدة أو طاعة أو فرض عقوبات ـ إلى خرز، ومثلثات، وحزوز، وشخابيط منتظمة حركتها دوافع مغايرة للنافع ـ أو للجميل، كي توثق شيئا ً ما ـ كالذي سكن الزمن ـ: مكث حاضرا ً في غيابه، ولا مرئيا ًغدا أشكالا ً، وصورا ً، ومرئيات!
[9] تحولات
ما الذي يدعوني إلى الاطمئنان، وليس أمامي ـ باختفاء ما أنا بصدد الإمساك به ـ، إلا ان أجد دربا ً اقل تيها ً، في مساحة اللاحافات! فالانتقال من الاضطراب إلى النظام ـ ليس إلا تأجيلا ً ـ للذي ـ هو ـ هناك، لا يسبقني، مثلما هو لم يعد في طي المندثرات، إنما في اللحظة الشائكة للاعتراف بأقنعتها، واشتباكاتها، بالدرجة الأولى. فالاطمئنان إلى المنجز، سيغدو قبولا ً بالعمى! فأي اكتشاف هو هذا الذي سيأخذني معه إلى ابعد مما تخيلت: القبول بالعيد لا بصفته مقدمة للذي لم يدشن، بل للذي هو بحساب المجهول.
في ذروة اكتشاف ان الفن (الحديث) مرورا ً بالحداثات وما بعدها، حتى نبلغ ذروة التصادمات، لا يمكن عزله عن كل ما حول اللا فن إلى علامات تؤدي دورها لا في معرفة ما حدث/ وما يحدث، بل لبناء فواصلن وفجوات، لن ترجع الفن إلى ـ: اللا فن ـ بل إلى الأصل الذي ـ هو ـ أصل الاختلاف. فهل لدي ّ (معنى) ـ غير نسبي/ غير منحاز لفريق ـ يجعل من عزلتي ـ وأنا أراقب ـ ألفة، أو قناعة بأنني غير (صياد) آخر وضع الفن حماية له، في مشهد الاشتباك، أم لا اعمل إلا على جعل الموت ممتدا ً ...؟ أم ـ ثالثا ً ـ لا يقع المعنى لا في النص، الخام/ ولا في رؤيتي فحسب، بل ولا مغزى للتنصل مما أنجزت!
إنني أصل إلى الوضع ذاته السابق لـ (حالة) المراقبة:واقع الحضور. على انه اطمئنان زائف. فانا لا اضبط ما اعرفه إلا بما كنت منشغلا ً بدحضه. وهكذا افقد كل ركيزة لي في التقدم، بل وفي الارتداد.
إنها ليست تصوّرات تجري عبر خلايا تعمل مراكزها على محاكاة ما يجري بين الموجودات، وفي الوجود. فالميتافيزيقا ـ كمفهوم ـ لن تمارس نقدا ً، وإنما تثبت ولاء ً للذي لا تستطيع الانفصال عنه.
وليس لدي ّ إلا حياة الأستاذ شاكر حسن آل سعيد وفنه مثالا ً لاضطراب عميق توخى ـ بانتقالاته ـ ان لا يتجنب الشهادة عليه. فمنذ رسم الجسد، الجسد الأنثوي، مرورا ً باستثمار مناهج التعبيريين، والتكعيبيين، والرمزيين، وصولا ً إلى ضرب من الايكولوجيا، سمح للفن ان يدخل في إقامة علاقة غير منفصلة عن الظواهر، وفي صميم المأزق الوجودي للإنسان المعاصر، أو في ماضيه. على ان الاطمئنان الذي شفر به، قبل سفره إلى باريس، في خمسينيات القرن الماضي، كان يشارك حقبة الرواد: تدشين مقدمات التحديث في شتى مجالات الحياة البغدادية/ والعراقية عامة. لكنه سيصدم في باريس، ولن يحصد، إلا ما زرعه: الشروع بالبحث عن طرق تتطابق مع أحاسيسه المرهفة. فلم يكن البعد الواحد، منحى شكلانيا ً ـ كما بدا لي في عام 1970 ـ بل مثالا ً للغطس في ذروة الحداثة، والتشبث بما بعدها، كي لا يعزل مصيره عن الفن، ولا الفن عن هذا المصير. بيد ان سنوات شاكر حسن الأخيرة، لن تجد دربا ً صريحا ً للتمسك بأي حل من الحلول السائدة، فاعتزل، وكف عن الآخرين: ماذا يريدون، وما كان يريد، حتى علل ذلك ـ في آخر حوار لي معه ردا ً على أسئلتي التي بعثتها له مع زميلة صحفية ـ بأنه لا يريد ان يكون مؤذيا ً لأحد! لكنني كنت قلت له قبل أربعين عاما ً، ان التصوف ـ وأشكال الانسحاب الأخرى ـ لها مغزاها السياسي، ولا يمكن عزلها عن موقف الاحتجاج ضد الاضطراب، والتمهيد لفوضى ستبلغ ذروتها، بعد رحيله، بأعوام قليلة. أتذكر انه كان يود لو تخلى عن الفن، وبني مسجدا ً، وتخلى عن الدنيا. ولكنه لم يفعل ذلك لأنه سيجد في مجموع نشاطاته انسجاما ً مع ما كان يغلي داخله من أسئلة دمجت إجاباتها فيها وكفت ان تكون أسئلة!
مثال الأستاذ شاكر حسن، لم يدرس، فقد ترك لنا هذا الذي بدا لنا غائبا ً، في الوقت الذي صاغ حضورا ً لحقبة (التدهور) وليس لعصر الازدهار. فكأنه أراد إعلان نهاية جيل الرواد، بجيل ما بعد (الحداثة)، لكن الواقع، في هذه المرة، كان يأخذ اتجاهه نحو الصفر: نهاية نظام.
[10] تصادم ـ وقطيعة
ولأن 999% مبرمجون حد ان الاختلاف معهم سيقود إلى خلاف (تصادم)، والى قطيعة والى القانون الأول(الصياد ـ الضحية)، فان القبول بما هو عليه سيشكل فجوة بين من يدّب الشك ليسكن وعيه، وبين من مهمته تكمن في الحفاظ على الثابت الأبدي. فلا جدوى من العلم، والمختبرات، والوثائق، والشهود ..الخ في زحزحة الوعي (المبرمج/ الأحادي/ المنغلق)، ولا جدوى من الاشتباك مع 999% لا يمتلكون خصائص التقدم بعيدا ً عن ثوابتهم. الأمر الذي يجعل المعادلة غير متكافئة، وباطلة في نهاية المطاف! باطلة، بمعنى، أنها ستساوي بين المزارع واللص، وبين من قدره جعله لا يؤد ورقة في شجرة، وبين من يحول البشر إلى رماد، والى قطيع من الجمال، أو الجاموس، أو الماعز: إلى نمل. مع ان الأخير،كالنحل، كلاهما يتمتعان بأنظمة لن تقارن بأنظمة الإنسان الذي تحول إلى صياد، وآخر إلى طريدة.
فالخطاب غير النفعي، غير السلعي، غير المبتذل، الخطاب القائم على إدامة ان العدالة لن تحقق مع مخلوقات عجنت بالدم، وصنعت من الوحل، وان الحياة ما هي إلا ان تمضي، للحفاظ على تراتبيتها، من الهرم إلى الرمال، ومن المركز إلى الهامش، هذا الخطاب سينتج، رغم ذلك، عبر القرون، وفي مختلف المواقع، الإشكالية ذاتها، ولكنه، في النهاية، لن يغادر المدفن ذاته الذي ضم هؤلاء الـ 999% مع ذلك الغريب الشبيه بزرقاء اليمامة، أو غاليلو، أو سبينوزا، أو المعري، أو طرفة بن العبد، أو جان دارك ..الخ فالمدفن، من وجهة النظر الجمعية، محض مدرج للعبور إلى العالم ذاته الذي صاغ مشاهده وقوانينه الجالس في أعلى الهرم.
السومريون لم يصنعوا أقنعة، ولم يستبدلوا الحضور بالغياب، لكنهم ـ وكانوا على علم بذلك ـ أكملوا دورتهم بعدالة تكاد يغيب عنها الظلم! لكن سومر، بعد ذلك، نهبت، وخربت، لتصبح أطلالا ً، لم يبق منها إلا المراثي ـ ونصوص عصورها الذهبية.
لكم أبدو إزاء قضية ما ان أراها حتى ارتد! فما اصنعه، لا اصنعه غائبا ً، أو في طريقه الى الغياب، والاندثار، بل كي يسرق منك، يغتصب، ويرحّل، كي لا تجد، في نهاية المطاف، إلا حدود القبر، وأحيانا ً، يصبح الحلم بسلام الموت، مستحيلا ً!
ان تسرق أصابعك، ان يسرق راسك، وان تترك معزولا ً بين فجوات آخذة بالاتساع، هو ذا نهاية تلك الومضات التي سكنت الختم، وان كان صنع قبل نصف مليون عام، أو ـ وهو يصنع ـ في مواجهة الغبار البشري، أو في مواجهة أنظمة لا يحكمها إلا الثابت الأبدي. لأن الـ 999% يحولون الفناء نفسه إلى: غنيمة! هكذا تتحول الأختام إلى سلع، وثروات، بعد ان تحتجز داخل جدران المتاحف، وتكف ان تكون إلا أثرا ً، كي تحافظ البرمجة على استكمال نظامها: تتمات تستكمل تدشيناتها بتتمات. مدافن اثر مدافن وليس على النمل البشري إلا ان يرى كم جدران القبر محكمة، وهي خالية من السلالم، ولا وجود لها إلا هناك، في ذهن الصياد، وفي صمت الضحية: الأثر محملا ً بمشفرات في ما يعلن، وفي ما يخفي!

[11] الختم: الزوال في امتداده/ أعالي الضجات: الصمت!

بعد ان يقع الحدث، إن كان إطلاق سراح أو إلقاء قبض، فان النتيجة ستقود إلى أسبابها، على أنها النتيجة التي ستصبح سببا ً، لاستكمال حلقة في السلسلة. فما الذي ميزني، ليس ان أفكر، بل الانشغال لا بالبحث عن الأسباب، في جذرها، بل للحفاظ على الفجر بعيدا ً عن الذوبان في غبار النهار، وضجته، بل ما مغزاه كي اسلك هذا الدرب وليس غيره...؟
في الثانية من عمري، عام 1949 أو في عام 1950 ،لا اعرف لماذا غادرت الغرفة، على عجل، كي يسقط سقفها بعد لحظة، وتنهار الغرفة! لا أتذكر ملامح وجه والدي، بل مازالت أمي تحدق في ّ بشرود تام. ماذا لو كنت قد اندثرت، ولم امضي عمري أتعقب هذه الأسئلة كـ: هل يحق للمحدود ان يضع المطلق في القفص، ليحاكمه؟ هل كانت الأسباب الأولى في ذاتها، كي تأتي النتائج، كالعدم الممتد، مكملة لها؟ ما الذي حصدته، وأنا لم ازرع شيئا ً عدا هذا الذي واصل إقصائي من الحصاد! هل كنت، لو مت، امتلك الدافع ذاته، بالحفر في نتائج الأسباب، وفي المقدمات وقد بلغت ذروتها؟
لن اعزل وجودي عن أي وجود آخر، أو أميزه. فالذين لم يفكروا، كانوا احد أسباب ان توجد زمرة لا عمل لها إلا الاستئناف. فثمة عدالة ـ كهذا الذي سكن الزمن وكان علة له ولم يصر خاتمة ـ لا وجود لها لكنها شغلت المظلوم والظالم معا ً، فجوة بين العبد والسيد، شكلت الحدود والفجوات، لكن هل كنت استطيع استبعاد لماذا لم أمت، ولماذا، قبل لحظة انهيار السقف، غادرت الغرفة؟!
في حادث مماثل، نجوت من الغرق، أي انتشلت من الماء في اللحظة الأخيرة. كهذا الحادث، بعد نصف قرن، سيقع لولدي سيف؛ لقد سمعت صوت ارتطام جسم ما بالأرض، وأنا كنت اكتب أو ارسم، فقفزت، مسرعا ً إلى الحديقة. لقد صعقه التيار الكهربائي، وهو يشتغل في مبردة الهواء، وسقط من الأعلى إلى الأرض. لم يمت. لأنني ـ بخبرة مكتسبة ـ كسرت لوحا ً خشبيا ً على جسده. آفاق، تحت شرود شقيقته التي قالت لي: لم يمت!
مرة، قبل أربعين عاما ً، اختطفت من الشارع. وهكذا طلبوا مني ان أتخلى عن راسي. بشرود قلت: ليس لدي ّ رأس ما يستحق التخلي عنه، لا لكم ولا لأية جهة في هذا العالم. كان التهديد بالموت، يفوق الموت، فهو نتيجة أنني كنت لم اقدر ان اقبع بين الجدران!
في الحرب، مرات لا تحصى، كانت بعض القذائف تسقط على بعد أمتار، وليس فوق راسي. وفي حادث آخر تم سحبنا من ارض المعركة، وإعادتنا إلى بيوتنا، فنجوت من الأسر، أو من الموت!
إنها نهايات كونتها أسبابها، وأسبابا ً تممت بعضها البعض الآخر، بمعزل عني، مع أنها لم تكن لتحدث لو لم أكن موجودا ً. فالأخير، ليس حالة، أو وضعية، بل حلقة في سلسلة، فما الذي كان يعبر مكملا ً استحالة ان تكون له نهاية، عندما جعلني ـ ومنحني ـ ان أعيد الحفر في قبر لم ُيشغل بأحد، مع انه سيكون شاهدا ً على موتي.
مع الشاعر فيصل جاسم، في نهاية عام 2006، في طريقنا إلى آفاق عربية ـ حيث عملنا ـ أوقفتنا مفرزة للشرطة، كانت المهمة معروفة لدينا: الذبح العشوائي، تحت غطاء الانتماء الطائفي. عندما كانوا يجرجرون فيصل إلى الصندوق الخلفي لسيارته، كنت اسأل نفسي: كم الزمن الذي تستغرقه الرصاصة كي تحولني إلى جثة، .! ثم كنت منشغلا ً برؤية جسدي فوق تل من النفايات، كان من الصعب حتى ان ادفن ـ كما يدفن الموتى في الظروف الاعتيادية ـ قبل ان تمزق جسدي أنياب كلاب الليل، وقطط النهار!
ولكنني أدرك تماما ً أنني لست استثناء ً، فالملاين نجو من الغرق، ومن عشوائية الموت في الحرب، ومن عنف عصابات الرصد، والاغتيال بالسمن أو بالكاتم، أو بغيرهما، ملايين كانوا يعيدون ترتيب ربط النهايات بمقدماتها، لأجل ان تكون ـ أنت ـ سببا ً، لنهاية ما من النهايات، وكأن المشهد عبارة عن وثيقة دوّنتن كي تجري أحداثها بحكم أنها ماض ٍ، عدا الاستعادة.
الختم ـ أو ذلك الذي يجاور ختما ً أو شبيها ً بالختم ـ يتضمن نهاية عملها صناعة المقدمات. فالميت يخرج من الحي، والحي يخرج من الميت. لكن: ما الموت..؟
ها أنا المحه، كما لمحت ذلك الذي سكن الزمن، بغياب تام، بجعله حاضرا ً في المشهد.
قبل نهاية القرن الماضي، بأسابيع، عزمت ان أضع حدا ً لحياتي، بدا ً بحضور أو تكّون خلايا الخلق حتى احتفالات أسياد العولمة بتدمير عالمنا من اجل عالمهم، وسرقة أحلامنا من اجل أحلامهم ـ لكن شيئا ً ما شبيه بنسمة فجر، أو ظل صوت، أو لمسات ومضات، أوقفت موتي! كي اسمع ـ هل سمعت ؟ ـ أم كان راسي مزدحما ً بالأصوات ـ من يقول لي: لست أنت من يحدد ذلك! فدار بخاطري ـ في تلك اللحظات كما الآن ـ إننا نولد في الحزن، كما حكماء الصين، بل نولد في الخوف، ونعيش فيه، ولن يقتلنا إلا الخوف. كي أتساءل، كما تتساءل الأطياف في لحظات تحولها، اذا كانت ثمة قوى الأكوان غير المحكومة بحافة، تأمل ان انحني إليها، وأؤدي لها الواجب، فلماذا لن تكون النتائج إلا مشروطة بظلم الإنسان للإنسان، حد اللهو، والانتشاء بمحوه حد العبادة؟!
هل كان اختياري للأختام، شبيها ً بعمل آخرين لا عمل لهم إلا على دفن مصائر أحفادنا، من اجل مصائر أحفاد سكان قارات أخرى، محض نهاية ستنتهي إليها الأسباب، كي تكون نهايتها دورة في امتداد هذا الذي منحني الخوف، وتركني أراقبه، وأنا لا امتلك إلا ان انجذب إليه، كأجزاء أجزاء ذرة لا تمتلك إلا ان تؤدي دورها بنظام اتساع المديات بين الثقوب السود والبيض والمجرات والكوزرات وما لم اعرفه في هذا الضيق! الم ْ يقل منعم فرات: ما الحياة إلا سرداب خال ٍ من السلالم! وهو يرى ما أراه ـ كيف تندمج المقدمات بنهاياتها ـ كيف تطبق الجدران على ما كنا نعّول عليه!
يا لها من حرية ان أرى هذا كله، خال ٍ إلا من (حرية) رؤيتها، أو لمس رفيفها، أو تنفس ومضاتها السابقة على الضوء، والممتدة ابعد منه! وقد استحالت إلى مدى بين المديات، وليس بين الحافات!

فجأة اقرأ لزميل ـ واحد من 999% ـ يكتب بأنني طالما كتبت ـ مقدمات معارض أو حول تجارب الزملاء ـ بماعون من الفاصوليا! لن ابتسم، فانا لا امتلك قدرة ان افتح فمي، فانا غاطس في الإثم أنني عشت كي اسمع من يتهمني بأنني لم اطلب الأجور التي استحقها! ما الجحيم، ان لم يكن هذا الزميل ـ مع 999% من الآخرين ـ يحفرون بكل الوسائل مدافن للذين لم تحبل بهم العقيم من زوجها المخصي، بعد ..!
لأنه وحده ـ مع 999% من الآخرين/ وقد وصفهم سارتر بالجحيم ـ يمتلكون إيديولوجية المحو، تحت لافتات البياض، ومقاومة الرداءة، فاترك أصابعي مقيدة باستكمال حريتها، عذرا ً، باستكمال عبورها من الخوف، كي تكون للحافات حافة تسمح لنا بالحفر في أبديتها، لحظة بين زوال لم يدشن بعد، وبين زوال سابق على حضوره، وحضورنا معه أيضا ً!
هل حقا ً انها، أيها الجرجاني الموقرـ: " ان لفظا ً لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء" أم لأنك، لم تصغ، إلا لضوضاء خافتة، لامست رهافتك، كي تأتي وتصغي إلى ما بعد (الضوضاء) لا كخاتمة، ولا كمقدمات، بل كاستحالة ان تجد نظاما ً إلا وقد محانا جميعا ً: أصواتنا/ أحلامنا/ أجسادنا/ وأختامنا قبل ان نراه ينبثق للشهادة علينا، بأننا مُنحنا قليلا ً من الضوء كي لا نرى إلا اتساع مساحات أعالي الضجات: الصمت!
[12] الحاضر مرتدا ً ـ مجهولا ً
كيف اقهر هذا الهاجس: ما أنجزه ليس حاضرا ً، وليس قابلا ً للبقاء، بل لا أراه إلا وقد عاد إلى (المجهول) الذي بزغ منه، ليتوارى، مع زمنه الوجيز: أما يهرب منه، وأما يختفي فيه؟ كيف اقهر، لا موتي، ولا موت تحول الختم إلى أثير، أو إلى جزيئات لا مرئية، بل عندما تبلغ الإرادة خاتمتها: الصفر! كل هذا ماض ٍ، والحلم، هو الآخر، كالغواية، لا يقول شيئا ً يعّول عليه...؟ فانا اعمل في زمن لا وجود له، وحضوره لم يعد مقترنا ً إلا بالذي ينبثق منه: المجهول. وها أنا ـ مع إرادتي ـ اجهل لغز هذه المقاومة. فاكف ـ لبرهة ـ عن العثور عن سياق، عدا الماضي ـ ذاته ـ وقد غدا مضادا ً لماضيه. فانا لم يخطر ببالي ان استرجعه، أو احّن إليه، ولا هو فعل ذلك، إنما ثمة قوة ما لا زمنية تجعل الماضي طيفا ً لا يقيّد بالحركة، والأصوات، والمعاني: الطيف اللا بشري، لكنني لم اعد اجر مقارنة بين موتي ـ السابق ـ هذا الذي أنا عليه ـ وبين ما انسجه من حبال لا وجود لها إلا بما يتوارى فيها من أطياف، وومضات، وظلمات كفت ان تتركني خارج مساحتها، لأنني تحررت من الماضي، ومن المرور، وأكاد اعبر نحو الماضي ذاته، وهو يتكون بلغز أبديته، فأدرك أنني اصنع ماضيا ً، وليس جسورا ً، وليس لغوا ً، وأنني غير مشغول بالدفن، أو باستجداء العون، أو طلب المساندة، لأن الختم، ان كان بلا لغز، يكون بلا آخر، وعندما يكون بلا آخر، يكون بلا مفتاح. ها أنا في أعيد الاشتغال ـ بكامل إرادتي ـ بالقفل، تاركا ً موتي يؤدي عمله برهافة!
[13] الديمومة: الختم وضده
فإذا كنت أميز بين ثلاثة أبعاد ـ الأول ينحدر نحو الماضي، والثاني يتتبع مسارات سابقه، والثالث: ماض مؤجل، وإذا كنت استطيع ان أضع الاسم بحذافيره لجدي/ ولوالدي/ ولولدي/ ولحفيدي، وإذا كنت استطيع ان أميز الصمت في الكلام، وان أعزل الكلمات عن أصواتها، وإذا كنت أميز بين جسد: أمي/ زوجتي/ ابنتي، وإذا كنت امتلك بقايا مقاومة لمعالجة ارتفاع درجة الحرارة، في يوم 14 تموز / 2011 ـ التي بلغت 49درجة مئوي ـ ، وإذا كنت استطيع ان أرى المرآة تحدق في وجهي بالمقلوب، من اليسار إلى اليمين، وهي تنثر ومضات أجزاء وجهي في وجهي، وتعزله عني، عني أنا الذي طالما حاولت استبدال برمجتي بأخرى، أجد أنني لا امتلك إلا حث خطاي الخفية تتبع المسارات ذاتها، فمن يخبرني بان هذا كله ليس إلا ذبذبات مضطربة، وتصادمات لا علاقة لي إلا بحدود ما يتم تنفيذه، تجعلني لا أتمسك إلا بالوهم الذي سمح لي ان اشتغل للعثور على يقين غير الموت: غير ان اصنع هذه الظلال المائلة، المتوارية أبدا ً، والتي طالما صاغت أسلوبي، وهو لن يستطيع قط ان يذهب ابعد من حافته.
أتساءل: كيف تمضي الومضات (وأنا أمضيت حياتي منشغلا ً بمراقبتها، من انعدام الأسباب إلى اندثارها/ إلى انبثاقها) ومن ذا يبعد عني الضرورة أو الجبر ليجعلني اصدق مرة واحدة ان الحرية ليست أكثر من علامات للمراوغة، وان الأولى وحدها ما هي إلا ترتيب في الرفض أو في القبول!
ها أنا أرى كيف تجرجرني أختامي ـ وضمنا ً كلماتي ـ إليها، فأغيب. لكن لتبدأ المسيرة ذاتها التي لا أبعاد أخيرة لها، وهويتها غير قابلة ان تسكن في ختم!
[14] مفارقة:عندما تكون اللاحافات حافة

هل تنعدم ـ أتساءل ـ المسافة بين من يغتصب ختمك ـ أي ماضيك وما هو سابق على هذا المضي/ وعلى مصيرك، وما هو مكمل له ـ وبين ديالكتيك الكون/ والطبيعة جزء منه ـ بصورة يتم الخلط فيها بين حتميات كبرى، وبين سلوك هو من صنع الاشتباك البشري..؟
بمعنى هل لا جدوى من الحديث عن ذلك اللغز الكامن في لغز (الختم): جمالياته وما يتضمن من تقانات متقدمة في الأسلوب..؟ ولا جدوى من مقاومة كل ما سيأخذ منك بعد ما كنت رايته بحكم العدم..؟
الوعي يناور. فالوعي ذاته يتضمن انشطاراته ـ في خلايا الدماغ وصولا ً إلى أعماق النفس ـ تارة يقاوم اندثاره، وتارة لا يتقدم إلا ليضع أطيافه فيها. هذا الوعي العنيد بجعل الحياة برمتها تبدو (متحفا ً) كونته البصمات؛ من الجسد إلى الطيف، ومن النفس إلى الروح، يخفق للاندماج بوجود سابق على وجوده!
إنها ليست مناورة لغوية، مع ان الكلمات لها قوة الموت التي تجرجر الضحية إلى حتفها، انما هي حال وجد الساكن سكنه خارجه. فانا أدرك تماما ً أنني لم اعش إلا كي اشهد كيف لم اعش إلا هذا الذي رايته غائبا ً. وهي ـ بالمناسبة ـ تجربة غير قابلة للتعميم. لأنها ـ كما لكل ورقة كيانها في الشجرة ـ تخص هذا الشديد الخصوصية: النائي، الذي لم يشهد إلا حفلا ً لم يدم إلا بومضات حضوره.
مناورة تفرق بين من يسرق منك حروفك المدوّنة فوق هذه الورقة ـ الختم الكتابي ـ كما تفرق بين من يغتصب مصيرك، وما توهمت انك صنعته، وبين ذلك الذي سكن الزمن ـ وسكن خارج مسافاتنا المحدودة. فالأخير لم يغتصب، لم ْ يلوث، لم ينبني علة العفن، أو الخسارات، بل هو أنت كما ظهر الوجود في لا حافات المرايا. الم ْ يتحدث نيتشه عن الوجه في المرآة، المبعثر، والغائب عبر حضور الوهم، إنما ليس لدي ّ مرآة (اجتماعية) و (بشرية) قائمة على مكر ان يمحو الإنسان الإنسان الآخر، لا يسرق أحلامه وأصابعه ورأسه ومصيره فحسب، بل يتمتع بإنزال عفنه فيه كي يحصل على أوسمة تقلب المصائر كافة. فعندما تؤول الأمور إلى لصوص يتحكمون بمعايير الجمال، والحقائق، تكون لا حافات مرايا الكون قيد الشك!
فهل المسافة واحدة، وهل الجزء البشري المنحدر من مستنقعات العفونة، شبيه بالأصل الذي رايته في قلب الشمس! ليس هذا سؤالا ً للتندر، للأسف، بل مشهدا ً للتاريخ ـ من غير استثناء حد الفجيعة ـ لا يمكن التحقق من حضوره إلا وقد توارى بحكم الشمس، وليس بما صنعته في نظامها العنيد!
[15] ماذا خلف الذي لا وجود له..!
في الختم القديم، وفي ما أصبح نصا ً معاصرا ًـ مع تزايد مناهج القراءة وتنوعها حد التقاطع ـ لم يتم إعلاء شأن اللا قصدية/ والعشوائية/ والنص في ذاته ـ درجة التأليه إلا للأسباب ذاتها الخاصة بالقصد، وأنظمته. إن انتشار المبررات الخفية للفوضى لا تذهب بعيدا ً عن قانون الاشتباك. فالمنتصرون الجدد ـ كما انتصر الصياد في النظام البري ـ لديهم ما يكفي للإيقاع بطرائدهم. فالحرية ليس ان تخرج الى الشارع وتطلق النار عشوائيا ً، أو تكشف عن المكبوتات الداخلية، الحرية، ببساطة، كيف يستعيد النظام عمله، لا ان يعرقل. والمفارقة، هنا، لا تثير التباسات. فالمركز ـ بالدرجة الأولى ـ يلعب دوره، إن كان الهامش ـ أو الهوامش ـ قد مهد لضرورة حضوره أو لأن المركز أدى دوره في فرض القواعد.
على ان الختم لن ينغلق عند القصد: قصد الصانع، قصد الفن، بوحدة العناصر، وقصد المتلقي في التأويل. فمع انه أنتج في لحظة زمنية تضافرت فيها دوافع الانجاز، لن يصبح فائضا ً إلا بانتفاء العوامل التي كونته. على ان المندثرات تختفي كي ترفد حضورا ً منبثقا ً عبر تراكماته ـ وتحولاته، في أختام لها أنظمتها في: القصد ـ البناء الفني. أما الاضطراب ـ خذ مثال تصادم مجرتين ـ خارج حدود الأرض ـ ومجموعتنا ـ ونوعنا ـ فانا لا أراها إلا بعد ان تكون قد تركت ختما ً لا وجود له الا في تشكيل هذا الذي أكونه ـ وهو قيد الغياب. إنها سلسلة مترابطة تحكي ما لا يمكن فك ترابطه، إلا بحدود ما نمتلك من أدوات للعمل.
ولنأخذ مثالا ً آخر قيد المشاهدة: احتراق متحف وتحول محتوياته إلى رماد، فمن ذا سيعيد قراءة تلك المحتويات؟ انه مثال شبيه باستنطاق قائد معركة هلك هو وجيشه لسبب ما من الأسباب. هل كانت أهدافه تكمن في محق الآخر، لدوافع محددة، تمت بقصد، علما ً ان نزعة القائد كانت (إنسانية) على سبيل المثال ...؟ ان رماد المتحف، كرماد القائد، كلاهما يقودان لا لمعرفة أسباب الحريق ـ ولا ما يكمن في الرماد، ولا في الأصل، ولا في المشتغل بالعثور على الأسباب المباشرة، او الاقرب الى منهجه، بل للضرورة ذاتها التي منحت فعل المحو الدور الموازي لفعل الانبثاق.
لنأخذ كوكبا ً كالأرض استحال إلى صخرة بحجم طابوقة بناء، كم من النتائج بإمكانها ان تجرب لفك شفرات القفل؟ لكن ماذا عن أثير نجم اضطرب وفقد ما كان عليه، هل ستولد العلاقة السببية ـ ذاتها ـ بين المفتاح والقفل ـ في نزعتنا للاستحواذ، والتملك ـ والفقدان؟
أرى ان مجتمعات الصناع المهرة، ومجتمعات النخبة، ومن يؤدي دور كاتم السر ـ من الصياد إلى الزعيم ـ لن تسمح ان تتعرى أو تكون مكشوفة للآخر ـ إلا بحدود دفع القفل بعيدا ً عن عمل المفاتيح. إنها عملية لن تتوقف عند مقدماتها، كي تكون نهاياتها قابلة للفض ـ والتفكيك، بل لأنها كائنة في الصيرورة. وعشوائية المناهج، سترافق النظام ذاته في استحالة تحديد المقاصد، وسلاستها. فالتعقيد شبيه، مرة بعد أخرى ـ بمعرفة مكونات ما في الذرات من أجزاء لا مرئية كانت في لحظة سابقة ذات معان محددة!
فهل باستطاعة 999% التعرف على ابعد من المعنى في ديمومة هذا التتابع، كقطيع وجد نفسه يمشي خلف قطيع، وكعناصر تشكلت لتكّون عنصرا ً آخر، وفي ظرف مغاير، كي تنتج شيئا ً مغايرا ً تماما ً! فأين هي تلك (الحرية) التي يتم المناورة فيها، وهل لها صدق حروفها بما تدل عليه الألفاظ...؟
ستتعدد المفاتيح، لفتح القفل، لكن ماذا وراء الباب، هذا اذا كانت ثمة باب في الأصل!
[16] بحكم السابق على الغياب/ والحضور
هل أصبحت مقيدا ً بالختم، كعلاقة المفتاح بالقفل، أم أصبح الختم أسيري، ولا مناص احدنا سيكمل وجوده مع/ في الآخر، حضوره وغيابه معا ً...؟ لقد سحرني بذهول الاتصال بين الشاخص وما يتضمنه، فلا الأخير صنع الراحل، ولا للراحل إرادة في هذه الديمومة. فلزمن طويل كان الماضي هو حركة مسار دار فيها مفتاح الزمن، تارة للدخول، وتارة للمغادرة. وها أنا اشعر ان (اللغة) لا تؤدي إلا ما تعارفنا عليه: القطيعة. فهي تسمح لي برؤية فجوات بيني وبين المنجز. فجوات لا يمكن فصلها عن المنهج: الأسلوب بمكوناته. فالذرة لا تقع ابعد من ماضيها؛ هذا الذي لا يمكن تحديد ماهيته إلا وهو ممتدا ً ـ نحو ـ ماضيه المستحيل، لكن المؤكد تماما ً.
بعض الموتى يموتون غرقا ً، والبعض يستحيل إلى رماد، وثمة من يتحول إلى أثير، عبر تحرر الذرة من ضوابطها، الأمر الذي يهدم مفهوم الحدود ـ ومفهوم الأشكال، ولا يجعل من التوهم إلا نسبية اضطرارية، فهل أكون قد عبرت عن نهاية عصر، بعد (حقبة من الصراع نسجت فيها اشتباكاتها تاريخها بالعلامات: آثار دالة على موقعها في المعادلة، وهي، أبدا ً، لا تخفي إلا ما سينبثق وكأنه يمتلك مسارا ً محددا ً. كالبركان ينفجر ويتفكك، من ثم، لن ينفجر هو ذاته، إنما ستكون ثمة براكين تمحو سابقاتها. حركة لا تعلن إلا عن محركاتها النائية. كوجودي لا يختبأ الموت فيه، إلا بحدود ما في الزمن من قوى لا زمنية. قوى لا مرئية ـ في الأخير ـ تعلن عن استحالة بلوغ خاتمة/ ذروة) أتساءل: هل تكون الحقبة ـ لا أنا حسب ـ قد غابت، بعد ان اعلنت عن حضور لا يمتلك الا كل ما انا ناء ٍ عنه..؟
لأن التفسير، التأويل، لن يذهب ابعد من شاخص لا يخفي شيئا ً، وما دوّن فوق الصخر، وما دفن في التراب، لا يعني إلا ما ذكرته، سواء بسواء..!
هل قلت شيئا ً يدل على لاشيء، أم اللاشيء غدا يقول شيئا ً؟ لنأخذ أي مثال: رأس في العراء/ نسوة يرقصن/ موتى/ امرأة وباب..الخ أشكال دالة على كيانات، وكيانات نسجت في أشكال: ليس لها طول أو عمق أو زمن أو عرض أو مشفرات فحسب، بل ما تتمتع فيه من قوة متجانسة (مبنية) بما يستحيل تحديد ما أعلنت عنه، أو ما أخفته. فأنا لا امتلك القبر إلا كعمل (الأنثى) لا تنجب إلا موتى، لكن التتابع، للحظة سكنها هذا كله، تبدو مضادة لعملها. فمن الرماد ـ كما من الماء وكما من القبر ـ تنبثق النار، إنما ليست هي العلاقة ذاتها، فالذي تغير، ليس القانون، بل الأشكال الدالة عليه.
يا لها من نهاية درب سرت فيه مع 999% من الذين ولدت معهم، لأن اثري/ هذه الأختام، لن تعزل عن حفرتنا، وثمة من هو في مواجهة المصير ذاته، إنما قد تقلب المعادلة، وتتغير النسبة: 999% يعّولون على أمل ما، هو ذاته الذي تمسك به ذلك الذي صنع الأشياء الشبيهة بالختم: نقوش فوق عظام، ورسومات فوق الجدران، وليس هناك ضحية واحدة اشتغلت ان تمسك بما لا وجود له، إلا في حدود انبثاق نهاية للذي غدا بحكم السابق لا على الغياب، بل على الحضور!
[17] عبور: ناء ٍ عن الآثام!
هل سمحت للخبرة، في القراءات وفي الممارسة، لأكثر من نصف قرن، ان تترك (الكيان) ـ كياني، لمناورة كل ما تعلمته، وان ترسخ في ّ، كي لا ادخل أقنعة الفن، وفجواته المشغولة بقوانين السلع، والدعاية، والانتشار..؟ وان شيئا ً ما، كالذي يسكن الزمن، سكنني، كي أحافظ على براءة سابقة على الاضطراب، والتراكم، والمكر، والمراجعة؟
بدائية متجّذرة ذات أصول ضاربة بأنثوية الأرض، تمنح الإشكال، والعلامات، ذلك السابق عليهما، وجودا ً شبيها ً بالحقيقة، أو بما لن يقارن بالعقم، أو بالاخصاء؟
ذلك لأن دورة حضارة الاستهلاك ـ حضارة العولمة ـ ستبلغ نهايتها ـ ككل دفن حتمي لصانعي عبادات المال ـ وتسمح لحياة تعمل فيها البراءة، كعمل طائر يغرد وهو بتمام النشوة! ضرب من عمل العبادة، وضرب من العبادة لا تعمل فيه على التصادم، حد المحو: وحدة تجعل التاريخ سلسا ً، ناء ٍ عن الاشتباك، ومكر الصيادين، وفنون صناعة لذائذ العنف..!
قد يجد المشتغل، بغير الصيد، غير الآثم، الخالي من الضغينة، شيئا ً ما كمرور ومضات لا مرئية، عبر الغابة التي مررنا ـ بشرود ـ نحو حافاتها المستحيلة، ويكمل مسيرته في الدورة..!
[18] تتابع: اللا مادة وأطيافها
كم أود لو بلغت القناعة ذاتها بان هذا الذي أراه، لا يخفي موتي، ولا يخفي اندثاره، بل ولا يخفي قدرته على مقاومة الانبثاق. بمعنى هل من سبيل لدحض قانون: المادة لا تفنى، وعمليا ً: اللا مادة الدائمة، كالعدم، وككل ما هو خارج حدود الحواس ـ والوعي. أم ان الأسباب التي شكلت حدود وعيي هي وحدها تمتلك لا حدودها ـ عبري ـ وعبر عملي ـ كي تمتد، بصفتها احد عناصر لا محدودية البرمجة؟
يأخذني الشرود إلى التوقف عن العمل، وأنا أغادر متطلبات الحياة ـ وبضمتها التفكير في مصائرنا كبقايا بشر ـ والتوقف حتى عن مراجعة ظل الحرف الملتصق بالحرف الملتصق به، فلا معنى ان أتساءل ما اذا تجمدت الأرض، أو استحالت إلى كتلة بحجم دمية أطفال ـ أو أنا هو الذي سيتحول إلى رمل، وذرات في كائنات أخرى، أو ان أتحول إلى أثير، فالمعادلة واحدة: لا وحدة لقياس زمن بين لا زمنين، وقياس حاضر بين مجهولين... وان لعبة الفن، كأي لعبة، لن تدوم إلا بمرورها في الطرق ذاتها التي مرت فيها الألعاب الأخرى! وليس هذا الذي يحدث من حوار: مع لا احد، أو مع النفس/ أو مع من عبثا ً سيحاول العثور على فك شبكة الاشتباكات، ألتي شكلتها عوامل تتابعها، وإلا هل كان باستطاعتي ان افعل إلا هذا .. ذاته .. الذي أراه يتكون، ويأخذني معه، وأنا أتطلع للعثور على خطاه غائبة في هذا التتابع.

[19] القيد: المسافة والعلامات
أنا لا اعمل عند أحد، ولا لأحد، ولا آمل ان احصل على حماية، بل ـ ربما ـ لا أريد ان أبدو هدفا ً كي امحق! تجاربي تسمح لي ان لا أعمم مثل هذا (التصوّر)، وأنا ابلغ لحظة أنني لا اعمل من اجل نفسي، ولا من اجل إنسان آخر!
طالما كنت أقول لزميل ـ لا اذكر اسمه لأنه كان قد عمل فترة من حياته في شراء الكتب العراقية وبيعها كي تحرق، مع انه لم يكن بحاجة للقيام بمثل هذا العمل، كما لم يكن في ضائقة مادية تدفعه لشراء مجموعة من كتبي لم أكن بحاجة لبيعها ـ ما الذي يجعلني اعمل، وأنا أرى مصائر أعمالي غير متوازنة بين غيابها وحضورها، وبين حضورها وغيابها أيضا ً. ولأنه شديد التمسك بما يكتم، لم يجبني، مثلما كنت أود ان أجد من أحاوره وأنا داخل المنفى أتلهى بأسئلة وانشغالات تبدو خالية من الطرافة! لم يجبني إلا لأن خطأ ما في السؤال: فكيف كنت أرى غيابي ـ وغياب هذا الذي يدل على هذا الغياب، وأنا لست بحاجة للبرهنة على ما اذا كان لهذا برمته ضرورة!
وبمعنى ما مجاور: ما الذي كان يغريني بصياغة نظام هذا الحضور وهو كالعدم سواء بسواء! ألا تبدو بزوغ الأشياء، عبر تحولاتها، وأبنيتها المشفرة، بحتميات تبلغ ـ وتتستر ـ وتمحو ما يدل عليها، قيدا أقيد فيه كل ما حلمت ان أتحرر منه؟ لست اكرر ـ وضمنا ً ـ ما قاله أبو العلاء المعري حول ضيقه من الجسد، بل أؤكد، ان شيئا ً ما لا مركزيا ً يمضي وفق هذه اللامركزية. ومعنى هذا ـ كما حاولت العثور من الآخرين على مقاربة/ أو كما حاولت ذلك في القراءات/ والمحاورات/ والنبش ـ لماذا بدا لي ما يصنعه الإنسان، كما لفتت أسطورة (سيزيف) لقوة المعاقبة في تتابعها. فانا أعيد ـ لا استنسخ ـ بل أصبح شاهدا ً على استحالة اختيار شيئا ً آخر، عدا هذا المقيد بقانونه. حقا ً ان النسبية، كرؤية، تسمح لي ان اختار: ان لا أصبح نذلا ً، أو اعمل بأجور تحت فزع الندرة، أو قاتلا ً باسم الحرية، أو بأي اسم آخر! ولكني لم اعد أجد سوى (الاندثار) معادلا ً للتسوية. إنها كلمات جلجامش عند أسوار أوروك، في خطابه إلى الموتى. كان ـ كهاملت ـ قد أدرك ان (سيزيف) وجد ان العبث لا يعمل إلا على ديمومة النظام ذاته: السلطة بدءا ً بأعلى هرمها نزولا ً إلى ما تحت السطح، وان كل من يعمل على مسها، أو زحزحة جزء من أجزائها، لن يمنح حتى فرصة الإقامة في السجن. فكيف ابرر، وأنا اجري محاكمة لذاتي، ديمومة كل ما قيد الاندثار، والزوال، وفي الوقت نفسه، يسهم بالبناء القائم على جدلية: صياد وجد مصيره يتأسس على فن الصيد!
فهل النسبية كمين؟ ها أنا أرى أشعة الشمس (وسأعود إليها في الفقرة 14) أكثر من حجاب عند مرور ومضات إشعاعات غاما، مثلا ً، أو عند مقارنتها بما ترسله الكوزرات ـ من 8 ـ 12 أسرع من أشعة الشمس ـ يا لها من تسلية! بمعنى: يا له من عيد لا أجد أحدا ً يشاركني، أو أشاركه فيه. فانا لم اعد امتلك (الصدق) الذي أغواني بأنه ضد الغواية/ وضد الأقنعة/ فانا كلما أزحت قناعا ً، ظهر آخر، حتى أصل إلى الذروة التي وصلها فلاسفة بابل ـ بجذورها السومرية ـ: ليس للإنسان ان يذهب ابعد من حدوده، الآلهة وحدها وجدت لتكتم سر وجودها، أما البشر، فمن الوحل إلى الوحل!
لكن هذه الذروة، ستتصدع، بنسمة هواء باردة في تموز ـ وقد تجاوزت درجة الحرارة الخمسين درجة مئوي ـ أو بدخان تبغ مر، أو بملامسة بذور عطر فتاة طالما أغوتني بسفرات نهرية، وقد استحال مصيرها برمته للرضا بالمعاقبة في هذه الاستعادة ...!
ذلك لأن النصوص السومرية ـ المدوّنة عبر ترجمات بابلية، أو التي أخذت سياق التناص فيها ـ لم تهمل لغز غياب العدالة أو حضورها. فالإنسان جزء لا يتجزأ من مصير لا يمتلك ان يفلت منه أو يتجنبه، مع ذلك، تسلل هذا الإحساس ـ وهذا اليقين ـ إلى القوة الملغزة الكامنة في إدامة كل ما هو ماض ٍ إلى مصيره: الزمن المفتوح ... لكنه ليس زمن الضحية، ولا هو زمني، إلا بحدود أداء ارتداء ملابس سوداء والمشي في ظلمات ليل بلا حافات!
لكنه ـ هو ـ السياق ذاته الذي يقود الضحية للرضا بالحكم، موته من قبل الآخر، ذلك لأنه سيرى الآخر ـ: الجلاد ـ في الزمن، وفي المرض، وفي الهرم، وفي القهر، وفي الموت! فلماذا ـ هكذا لم يعد يفكر الذي أمضى حياته في التفكير ـ بأبعد من لذّة الإصغاء إلى بلبل يلفت رهافته انه ليس فائضا ً، أو زائدا ً، لكن هذه الأجزاء من الزمن ـ في الإصغاء أو في الرؤية أو في شرود الذهن ـ محكومة بما في الزوال من دينامية!
فهل الرضا بالحجز داخل جدران لا نافذة لها، إلا بحدود نافذة زنزانة، واستبعاد أية مقاومة للذهاب إلى ارض لا حريات عشوائية فيها، ولا شفافيات تدفع 999% من السكان لذبح كل من لا يشاركهم احتفالات دفن أحفادهم، أتساءل: وهل لسيزيف، في اختيار عدا حمل الصخرة، من القاع إلى القمة، ناء عن رؤية مصيره يتدحرج، حتى لو أدار المفتاح في الباب الذي خلفه لا أبواب ولا مسافات!
لأن سيزيف، لم يختر ان يجعل من العبث نظاما ً لسلطة تراتبية، من الآلهة إلى الإمبراطور إلى العبيد، ولكنه ـ في لاوعيه ـ أدرك ان أي اختيار، حتى لو اصبح كاتما ً لأسرار الإمبراطور ـ بله الإمبراطور نفسه ـ ان الإله، عبر خطاب السيزيفيين ـ يهدم منطقه، بإعلانه ان التراتبية، قدرا ً، وليس نظاماً! ذلك لأن الآلهة لا تتكلم، وأخيرا ً، لا وجود لها إلا عبر استحالة ان نخاطب ضحايا بواجبات: النذور، والأضاحي، لأن الأخيرة، تذهب للمسك بالمفتاح، مفتاح الباب الذي دارت فيه أساطير استبدال الوهم باليقين، واليقين بكل ما يدحض من يحاول هدم التراتبية، ولا مركزيته في النهاية التي لا احد له حتى قدرة تخيّل حافاتها!
فهل يليق باله سيزيف، ومن قبل، عندما بلغ عدد الآلهة أكثر من خمسة آلاف اله، في سومر، وصولا ً إلى آشور، ومردوخ، ومن قبل بديموزي ـ الذي ذهب ضحية فعل هو جزء من آليات لنسق الديمومة ذاتها ـ مع استذكار ما لا يحصى من البناءات المماثلة: إله للقمح، وآخر للمطر، وثالث للهواء ...و.. للماء، وللنار، وللنبات، ولكل مرض، ولكل طيف، ولكل مجسم له بعد، وله ظل، وله وهم! أتساءل: هل لهذا التصوّر غير ما يتوارى فيه ـ ابعد من المعاقبة ـ وابعد من الثواب، يسمح باسط أشكال المخلوقات، نصف الميتة ونصف الحية، أو اللا حية واللا ميتة، إلى ظهور الزواحف، والثدييات، وصولا ً إلى تكون القشرة التي هي في أعلى الجمجمة، بما يجعلها تجرجرنا بما لا يحصى من الغوايات ـ مع أنها، وقد بلغت هذه الذروة، لا تستطيع ان تذهب ابعد من ختم توحد بصانعه، أو بنيزك حول 99% من المخلوقات إلى لامرئيات! أو بحرب شاملة لن تشهد احتفالات توزع فيها المكرمات، أو علامات المجد، والنصر!
لكن، لا العلم، ولا التفكير الأسطوري، وجد أكثر من علم لا يقود إلا إلى ما لا يعرفه، وأساطير تقول ما لا تعرفه، تداخلا ً بينهما، حد الاشتباك تارة، وحد القبول بما هو ابعد من الخرافة، وابعد من تدريبات العلماء، تارة أخرى. لأنهما ـ في رحلة الانتقال من العلم إلى الأسطورة، ومن الأساطير إلى العلم ـ لا مسافة للمنجز ـ الشاهد/ الوثيقة/ الصرخة/ وكل ما ينجزه الوعي، وآليات قواه النائية، إلا وقد غدا طي المجهول،سواء كان نسبيا ً، أو خال ٍ من الحدود، سواء بسواء!
[20] المحركات ـ ورد الفعل
لست بصدد إثارة سؤال: كيف تكّونت الرهافة، وكيف اقترنت بما سندعوه بالعد الجمالي، وما اذا كانت جميع الفنون ـ قبل بدائية، مرورا ً بإنسان المغارات، وصولا ً إلى النزعات المضادة للفن ـ تتطلب قدرا ً من التنسيق، الخاص ببنية العمل، وما يمثله من معان، وجسور مع الخارج، بل بصدد: هل ثمة مقاربات لمفهوم شامل لهذه المنجزات، غير التهذيب، والتقانة، والشفافية، يشترك في تحديد ماهية الفن، وعلاماته، ومشفراته، كوجود واكب الحياة البشرية منذ ظهور المجموعات المصغرة حتى تحول عالمنا إلى قرية قائمة على شبكة من العلاقات، الاتصالات، والمصير شبه المشترك!
ما المشترك ان لم يكن فيه قوى مازالت تجدد اقتران الفنون بالدوافع، وبنا يسمى: الحضارة. فأي (القوى) بإمكانها ان تكون موازية لقوى مضادة لها، والمتلقي المعاصر تتوفر لديه ما لا يحصى منها من: وثائق، وأرقام، وصور مباشرة تجعله يدرك انه يعيش في عالم لا احد يتوقع نهايته خلال عقود...؟!
فالإنسانيون الكلاسيكيون، من فلاسفة وحكماء وعلماء وخبراء ..الخ يؤكدون مسارا ً تصاعديا ً للقوانين ذاتها التي نشأت فيها ـ وعليها ـ وتمثلتها قوى الصراع.
ولست بصدد كيف استطاع الإنسان ان يحافظ على حياته خلال المليون عام الأخيرة، ولا كيف صنع وسائله في الحماية، والتكيف، والتقدم المعرفي، بل أنا أسير حالة قسرية لأفكار جهنمية لن تترك لي استراحة ان أرى أملا ً ما يعيد لي توازني في وجود يصعب رؤيته إلا عدما ً! قد يكون الجواب الوحيد شبيه بجواب: الأشياء/ النبات/ الحيوان، بعدم الاكتراث، المتضمن تعديلات دفاعية لمواجهة التلوث، والاحتضار المتواصل، والسلبية بصفتها دفاعا ً أخيرا ً لتجاوز أزمات فاتحة الألفية الثالثة. ذلك لأن إمكانية السيطرة على الخط المتصاعد لتراكم أدوات الاشتباك، والصراع، مازالت تغذي قانون الصياد ـ الطريدة.
والمصورات الوثائقية توضح بجلاء كيف بدأت الحروب باشتباكات الوسائل الطبيعية: الأسنان، والمخالب، والأصابع، من ثم بالعصي والحجارة، مرورا ً بالمعادن والبارود، تمهيدا ً ـ بعد أسلحة الدمار الشامل ـ لأنظمة ذاتية عالية البرمجة، وربما بالغة الرهافة!
والواقع البشري، عمليا ً، مكث يتقدم من غير تعديلات تذكر. فعندما كانت هناك مجاميع بشرية متناثرة بحسب توفر موارد الغذاء، وصولا ً إلى عالم تحكمه الشركات العملاقة، مكث قانون الصياد يبدع أقنعته في الحفاظ على التراتبية، علما ً ان الخسائر البشرية، من الحرب بالمخالب إلى الحرب بأسلحة المحو، الأكثر فتكا ً، لا تجد مبررات لها وكأن شيئا ً لم يحدث!
برتراندرسل كتب في مطلع ستينيات القرن الماضي:
ـ" انه لمن الغريب والمثير لأقصى درجات الأسى ان نلاحظ كيف ان سباق التسلح يدمر الحس الأخلاقي. فانا لو تسببت عمدا ً بإصابة شخص بالسرطان وجب ان اعتبر وحشا ًن غير أنني اذا ما تسببت عمدا ً بإصابة آلاف الناس بالسرطان اعتبرت وطنيا ً نبيلا ً"
مثال مضاد لنزعة التدمير، ولأي دافع من دوافعها، إن كانت متأصلة أو مستحدثة، ان كانت الأسباب اقتصادية، أو ثقافية، أو رمزية، فان أشكال الدمار ـ بتنوعها ـ تترك نسقها في عزل الإنسان، وتجريده، ودفعه بعيدا ً عن معالجة نزعات التصادم، وما تتركه من أسى، ولا مبالاة في مواقف مليارات البشر، حيث ان أكثر من مليار إنسان يعيشون بدرجات لن تقارن برفاهية المحميات الطبيعية للحيوان، أو في حدائق الحيوان، أو حتى في بعض السجون! فضلا ً عن المليارات الأخرى، غير بعيدة عن اثر التلوث وما تؤدي إليه في ظهور أجيال مناعتها أخذة بالاضمحلال! إنها تقارير معلنة يحرص النظام (الحر) على نشرها، كنقد ذاتي، لكن مبادرة مغايرة لها لا آمل ان توقف حتمية التدهور.
هذا كله ولدّ لدى الأكثر رهافة، وعند المتضامنين مع البيئة (في النشاط الايكولوجي) كالجماعات الخضر، والنضال ضد التلوث، والضوضاء، ولأجل الأطفال، وحقوق النساء، والقابعين في المحتجزات، ووراء القضبان، وسجناء حرية التعبير ...الخ هذا كله له أثره في شتى أساليب التعبير التي لا استطيع تحديد معاييرها الجمالية، تحافظ ـ بالدرجة الأولى ـ على ما قصده شوبنهاور، بالحياة كإرادة، كامتداد، ومتابعة، واستكمال الدورة، حسب الفكر السومري، و (الحلولية) و (المثنويات) و (المرجئة) و( الدهرية) و...الخ عندما عملت كل جماعة ـ عادة ما يعبر عنها حكيم أو زعيم أو فيلسوف أو من يؤدي هذا الدور ـ على إيجاد توازن لديمومة الاشتباك، وليس لتشذيبه، في الأقل.
كيف يحافظ الجمال ـ والجميل ـ على تماسكه، داخل النص الفني، وما يميزه عن عبث الأصابع وباقي الحواس وهي تحدق في السفينة، الأرض، عندما لا يكون هناك من ناج ٍ، والطوفان ليس وهما ً!
أنا لم اصدم بمواقف المشتغلين في الكتابة، والفنون، والفكر، بصفتهم يعملون كموظفين في الأجهزة ذاتها التي صاغ نظامها أول قاتل، صياد، تميز بالمكر والدهاء، ومن سيؤدي دوره عبر التاريخ فحسب، بل لأن الأمل بوجود (أمل) غدا منجزا ً تشرف عليه المؤسسات ذاتها التي حولت العالم إلى زنزانات اما مزدحمة بالبضائع، وأما بمثابة (علب) تم حشوها بالفائض من السكان! أو إلى عالم انشطر إلى نظام لتصنيع: الأسلحة/ السينما/ المخدرات/ الدعارة/ والمتاجرة بالأعضاء البشرية/ وغسل العقول/ والتلاعب بالمشفرات الوراثية/ والأحادية ...الخ وإما إلى إمبراطوريات ومملكات ومعسكران من (النمل)، لكن بعيدا ً عن رؤية مصيرها، وهي ترجع إلى العناصر التي كونها، إنما باليات بالغة الدقة، وخالية إلا من رحمة الموت، أو بحياة أخرى يمسك بلغز نظامها الصياد ذاته، بعد ان يكون قد تحول إلى أثير، ورجع إلى العناصر ذاتها، التي كونت باقي الأنواع!

[21] حدود ـ ولا حافات
مازال هناك (اثر/ أو ما يشبه الفن/ نص) ـ من الخدوش فوق الجدران إلى كل ما هو مضاد للفن، وضمنا ً التجارب غير المنفصلة عن العبثيين، والبدائيين المعاصرين والعشوائيين ـ غير مكتشفة، فهي مازالت أما تحت الأرض، أو بعيدة عن التحقيق، والنشر. وفي الوقت الذي تتنوع فيه المناهج، واليات القراءة، واستحالة سيادة مدرسة أو برنامجا ً أخيرا ً للقراءة، أو حتى المفاضلة، أو الدحض، والإلغاء، والتهميش، فان عملية إعادة قراءة (الخزين)، وفق النقد الأقل انحيازا ً لفلسفة ما من الفلسفات، فإنها تقوم بإعادة تخليق ما تم دفنه، دون إغفال ان هناك اندثارا ً حتميا ً يتوازن بين (الموت/ البعث) في الديمومة. فهذا الذي حمل (ميتافيزيقا) السلعة، ذاته، بحسب ومضى فلسفية لكارل ماركس، مسبوقة بسياق: لا ـ سلعي، لأن عصر (السلعة) ـ عصر الصراع حد المحو ـ ليس قانونا ً أبديا ً، أو غير قابل للتشذيب. لا لأن مشروع (الحضارة ـ التشذيب ـ الارتقاء الجمالي ـ والإقامة في عالم محتمل ..الخ) له سلطته فحسب، بل لأن الآليات الكلية للإرادة تسهم بعزل الأقل أهمية، كالموضات، والإعلانات التجارية، وملصقات حقب الانحطاط والتدهور.
هكذا يتسلل إلي ّ، في لحظة شروق أولى بذور الشمس، من الأزرق العميق إلى الفضي إلى الذهبي إلى البياض المتوهج، في صباح هذا اليوم من تموز (22/7/2011) مفتاحا ً لقراءة ما وراء الأبواب: ذلك المجهول الذي اسمه النص ـ واسمه، في الأصل، علامة وجود: اثر!
لقد أشرت إلى نصوص تمجد سلطة أعلى الهرم، عبر تقديم الأضاحي، والنذور، والطاعة، حد ان المقارنة بين الطرفين، لا معقولة، وغير منطقية، عندما يقوم 999% من بسطاء الناس، المجهولين، كالنمل، الفانين، غير المدربين على التفكير، ولا على حب الحكمة، بإعلاء شان آلهة، أو من يؤدي دورهم، بأنه سياق شيّد، كما شيّد الكوخ! فهل سنستغني عن ما لا يحصى من تلك العلامات الشبيهة بالفن، والنفعية الاستهلاكية ذات السمات الجمالية، لأننا لم نعد نسكن الكهف، أو الكوخ، أو الخيمة؟
ان أعظم المدن المشيّدة بالتقانات الحديثة، المتحركة، والتي تلبي متطلبات الرفاهية، إلى جانب الوظائف، لا تخفي نظام الكوخ فحسب، بل لا تستطيع دحضه!
فهناك السقف، الأساس، الجدران، النوافذ، والباب! فهل سيكون الفردوس أو الجنة شيئا ً آخر...؟ وهل ستكون نساء، وطعام، ولذائد العالم الآخر، للمكرمين بدخول الفردوس، مغايرا ً لتصورات الحواس، والحدس، والمخيال، والعقل...؟
ان وسائل التحليل، والحفر، والتنقيب، والتفسير، والتأويل، لن تضع برنامجا ً سيستغني عن مراحل ما قبل الطفولة، أو عن طفولة الإنسان ... هذا اذا كان الزمن قد وضع كطرف في: اللا زمن. لا لأن المصادفة وجدت بالمصادفة، ضمن دورة محكمة بما فيها من نظام فحسب، وبعيدا ً عن تاريخ التكيف، والديمومة لأجل الديمومة، وتقدمها، وارتدادها، وإنما لأن شيئا ً ما لم يسمح للزوال ـ وللذي ينبثق منه ـ ان تكون له خاتمة.
ألا يلتقي، بإحكام، البرنامج العلمي المتفوق، بالرهافة الجمالية، وبالمعتقد الذي تتمثل فيه، وتتوارى، دينامية الخلق؟ وان أي قراءة 0احادية) مهما بدت محكمة، إنما ينقصها التعرف على نفيها، فضلا ً عن الذي أهملته، أو استغنت عنه.
فقد يأتي زمن تتم فيه معرفة تلك المناطق التي لم ترها أبصرنا، ولا حواسنا، ولا أجهزتنا المختلفة، ذلك الكامن في ترليونات ترليونات المشفرات المشعة، والباثة للأصوات والخطوط والألوان، ولغز اشتغالها، كي تمضي في الوجود الذي وجد بما هو ابعد من وسائلنا في الإدراك.
وليكن، من وجهة نظر الميتافيزيقا، اسمه (الرحمة) أو (العدل) ولكنه، من وجهة نظر العلم، ومختبراته، لن يكون لا معقولا ً، أو نسقا ً عشوائيا ً حرا ً، وهو السياق الذي كانت تنقصه، حتى فاتحة الألفية الثالثة، هذا التوحد الذي طالما تجسد في ومضات حكماء أو شعراء أو علماء أو فلاسفة أو فناني أو سحرة، أو خيميائي الأزمنة منذ عصر صناعة الأكواخ، إلى عصر السكن بلا جدران، وبلا سقف، في الفضاءات..! ذلك لأن السكن القادم ـ عندما يبلغ تعداد سكان الأرض المائة مليار نسمة ـ لن يستغني عن المفتاح الذي يبحث عن القفل، والذي لن يكون ـ كتأويل ارغب ان لا يكون طوباويا ً، أو أحاديا ً أو باذخا ً بلغز الرهافات ـ خاتمة إلا اذا كانت دورة الحياة تكون قد بلغت ذروتها: الوجود ممتدا ً بلغزه، الذي طالما سكن فعل الاشتباك، ولكن الذي صاغ طرقه، من غير ان تكون له خاتمة، أو نهاية.
أليس هذا سببا ً طالما منح عزلتي ان لا أرى أفواه هؤلاء الذين ينتزعون الطعام من أفواه الأطفال والفقراء والنساء للتمتع بأخلاقيات الصياد ـ وصولا ً للذين يمسكون ـ ويمارسون ـ سلطة الاجتثاث، والمحو، والإبادة. وهل لو كان كارل ماركس، أو رامبو، أو نيتشه، وقبلهم المعري، أو الجنيد، أو محي الدين بن عربي، أو منعم فرات، أو ملا عبود الكرخي، أو جواد سليم، أو مدني صالح، سيقولون شيئا ً آخر...؟!

ليست هناك تعليقات: