الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

من يحمي الأطباء من بطش الدهماء ؟-كاظم فنجان الحمامي



من يحمي الأطباء من بطش الدهماء ؟
جريدة المستقبل العراقية 12/10/2011
كاظم فنجان الحمامي
ربما سيأتي اليوم الذي نسمع فيه بتأسيس منظمة جديدة على غرار منظمة (أطباء بلا حدود), يطلق عليها منظمة (أطباء بلا جنود), لكي تكون ملاذا للأطباء, الذين لم تتوفر لهم الحماية في بلدانهم, والذين هربوا من بطش الدهماء, وهاموا على وجوههم في أرض الله الواسعة خوفا من طيش المتمردين على الأعراف والقوانين, فلاذوا بالفرار خشية الموت بخناجر الأشقياء, وبنادق القبائل البدائية الغاضبة, التي لا تعرف الرحمة. .
أننا نتحدث هنا عن غول متهور استيقظ فجأة من سباته العميق في الكهوف القبلية المتحجرة, واطل برأسه كما الأفعى من بين مخالب بعض الشراذم العراقية المتسلحة بالباطل.
ظاهرة اجتماعية خطيرة نمت وترعرعت في رحم الأوضاع الأمنية المتأرجحة, وسمحت للمنفلتين باقتحام المستشفيات, وتهديد الأطباء بالخطف والقتل من دون رادع, والتطاول عليهم بالسب والشتم, وابتزازهم لأتفه الأسباب, والضغط عليهم لاستنزافهم, وإجبارهم على دفع الأموال الطائلة, والاعتداء على العاملين في المختبرات والصيدليات والمراكز الصحية بالضرب والاهانة, وسمحت للصعاليك بوضع قواعد جديد مهدت الطريق لطغيان الشر على الخير في لعبة الغارات, التي يشنها خفافيش الظلام خارج نطاق السيطرة في انقضاضهم الجشع على ملائكة الرحمة, لعبة تلهوا بها عفاريت الشقاء في ترويعها لرسل الشفاء, ويمارسها أقطاب الجهل والتخلف في تعاملهم السيئ مع أرباب العلوم والمعارف. . .

في كل مستشفى قصة مختلفة من هذه القصص المروعة التي كان الأطباء فيها هم الضحية, وكانوا هم الطرف الخاسر, وهم الطرف المضطهد في معظم الحالات التي سنأتي على ذكرها هنا باختصار.
هذا طبيب أجرى عملية جراحية لتثبيت كسر الأنف, نجحت العملية وخرج المريض من المستشفى, لكنه فارق الحياة بعد بضعة أسابيع بسبب تخثر الدم في ظروف لا علاقة لها بالعملية, فيتلقى الطبيب اتصالا هاتفيا من ذوي المتوفى, يتهمونه بالتسبب بقتل ابنهم, ويطالبونه بالرضوخ للسياقات العشائرية الجائرة, ويجبرونه بدفع مبلغ (الدية) المتفق عليها في جرائم القتل الخطأ, والتي لا تقل قيمتها عن خمسين مليون دينار, أو دفعها لهم بالعملة الأجنبية الصعبة, وبخلاف ذلك يكون مصيره الموت المحتوم رميا بالرصاص بإحدى أساليب الثأر الشائعة.
وفي الفلوجة طبيب آخر اضطر لدفع التعويض المالي لمريض من البدو لا يفقه شيئا في الطب, ويجهل تعقيدات الجراحة.

وفي ضواحي ديالى وصل مبلغ الفصل العشائري إلى ربع مليار دينار دفعتها أسرة الطبيب نقداّ وعداّ, وتمادى بعض أفراد القبائل في ممارسة الابتزاز ضد الأطباء, مستغلين مصائبهم بوفاة ذويهم في الاعتداء على الأطباء وتغريمهم بالقوة, وحتى لو كانت الوفاة طبيعية, في بعض الحالات التي فارق فيه المتوفى الحياة في بيته, وبين أسرته, فان قيام الطبيب بإبلاغهم بوفاته يترتب عليه التعويض بذريعة أن الطبيب لم يستطع إحياء الميت, أو لأنه لم يذرف الدموع, ويلطم على وجهه, ويشق جيبه مثلهم, ويبكي بحرقة على المتوفى, أو لأنه لم يكن متواجدا في الردهة ساعة وصول الميت إلى مركز الطوارئ. فالقاعدة السائدة تقول: (عزرائيل يحصد الأرواح والأطباء يتحملون نتيجة الحصاد). فالمتخلفون عندنا لا يؤمنون بآجالهم ومصائرهم في الحياة والممات, بسبب ضعف إدراكهم, وعدم احترامهم لأحكام الشريعة والقانون, حتى صار موت الناس مدعاة لإلقاء اللوم على الأطباء, وذريعة لمقاضاتهم عشائريا لأخطاء لم يرتكبوها, وحتى وإن كانوا ارتكبوها من دون قصد, فلا يجوز أن يكونوا فريسة سهلة في قبضة بعض العشائر المارقة. .
في ذاكرة العيادات الطبية, وغرف العمليات الجراحية حكايات ومواقف مؤلمة يطول شرحها, تحكي قصص العنف المفرط, الذي مارسه أرباب الشر ضد الأطباء وبخاصة في المناطق الريفية البعيدة عن مراكز المدن, ما أدى إلى تخوف الأطباء من التعامل مع الحالات الخطيرة, التي يتعرض لها المرضى, خوفا من قيام ذويهم بتهديدهم بالقتل بعد وفاة المريض أو المصاب, وأدى هذا الخوف إلى هجرة الأطباء, وسعيهم للبحث عن عقود عمل خارج العراق, ومنهم من فضل البقاء في منزله بعد أن قرر الاعتزال عن مزاولة مهنته الإنسانية الشريفة.

والملفت للنظر أن الوسط الطبي نفسه يتحول أحيانا إلى أذن لسماع اللغط والتشويشات, التي تطلقها الأصوات المغرضة, ففي (ذي قار) مثلا خرج علينا (أبو محمد الشطري), وهو اسم وهمي لكاتب أو كاتبة, يتحدث في المنتديات الالكترونية بألفاظ وعبارات ووقائع ملفقة تسيء لأطباء (ذي قار), ويتجنى عليهم, والحقيقة أن الاسم الوهمي عبارة عن رديف غير واقعي لاسم المخبر السري, وينبغي عدم الاعتماد عليه في اتخاذ القرارات الإدارية, سيما أن القوانين النافدة تصر على عدم التعامل مع الأشباح والشخصيات الوهمية الملفقة في المرافعات والتحقيقات والتحريات, بيد أن مديرية صحة (ذي قار) كانت سباقة لتشكيل اللجان التحقيقية في ضوء ما نشره (أبو محمد الشطري) في المنتديات المفتوحة. .
من المؤكد أن الساحة لا تخلو من العابثين من الذين دأبوا على تشويه الصورة العامة للنشاطات الإنسانية, فمثل هذه الافتراءات تحدث في كل المجالات, ولا تنحصر بالمجالات الطبية وحدها دون غيرها, فإذا أخطأ الطبيب, خطأ طبياً, أو مهنياً فلا يصح التعميم, ولا يجوز تشويه صورة هذه المهنة الشريفة, ثم أن الاعتداء على الآخرين من دون وجه حق, وتصديق كل ما يقال, تعد من الأساليب الهمجية المتخلفة في التعامل الإداري, فكم من حادثة كتبت عنها الصحف, وتناقلتها الألسن بروايات مختلفة, وساهم الوسط الطبي في تسريب بعض فصولها, من دون معرفة الحقيقة كاملة من مصادرها الأصلية, فوصلت إلى الناس محرفة, مشوهة, لا تمت إلى الواقع بصلة, وكأن القصد منها إعلان الحرب على هذه الشريحة, التي لا يمكن التخلي عنها والتفريط بها بهذه البساطة. .
نحن نعلم أن أصحاب الاختصاص يخطئون, ويرتكبون الهفوات, فالطبيب يخطأ ويقصر في عمله أحيانا, تماما مثله مثل غيره, لكنه ينبغي أن يحاسب في ضوء القوانين والقواعد الطبية على قدر خطأه, أما إذا كان الذي يحاسبه من المتسكعين على الأرصفة, أو من المراهقين والأميين, فتلك هي الكارثة الحقيقية, التي ستزلزل كيان المجتمع كله, وتقلب عاليه سافله. . .

الأطباء بشر مثلنا, لكنهم يختلفون عنا, فالأمانة التي حملوها على ظهورهم, وأفنوا من أجلها زهرة شبابهم, وضحوا في سبيلها بالكثير الكثير, تجعلهم ينفردون عنا بمهنتهم العظيمة, بيد أن هذا التفوق المهني لا يجردهم من خصائصهم البشرية, فهم يصيبون, ويخطئون, ويغضبون, ويرضون ويزعلون مثلنا تماما, ولا يعني هذا أن نسمح لمن هب ودب بالتجاوز عليهم, وانتهاك حقوقهم. .
من غرائب الأمور أن هذه الظاهرة انتشرت هذه الأيام على نطاق واسع في معظم البلدان العربية, ومن نافلة القول نذكر أن محكمة سعودية أصدرت حكماً يقضي بجلد شاباً سعودياً اعتدى بالضرب والصفع على طبيب لسؤاله زوجة الشاب عن مكان الألم. .
حدثت هذه الواقعة في السعودية, ترى ما هي الأحكام, التي صدرت ضد الذين خطفوا الأطباء, وعذبوهم ثم قتلوهم بوحشية, ورموا جثثهم في المزابل, أو ضد الذين شردوهم من منازلهم, وصادروا أموالهم, واستولوا على ممتلكاتهم ؟؟. . .
نحن مع المريض قلباً وقالباً, لكننا مع الطبيب في مزاولته لمهنته الشريفة النبيلة, ونرفض الوقوف مع الدهماء في مضايقاتهم الاستفزازية الباطلة ضد الأطباء, ونرفض غاراتهم المسلحة على العيادات والمراكز الطبية مهما كانت الأسباب والمبررات والدوافع والذرائع, ونرفض ابتزاز الأطباء, ومساومتهم, واخذ الإتاوات منهم بقوة السلاح, وينبغي أن لا نسمح للأميين والجهلة بمحاسبة الأطباء على أرواح ذويهم, الذين توفاهم الله, فهو الذي يتوفى الأنفس حين موتها, والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسمّى إنّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لقومٍ يتفكّرونَ. . .

ليست هناك تعليقات: