بتول الخضيري في روايتها الثانية ( غايب ) :
غياب عناصر الشدّ الروائي
أحمد الحلي / بغداد
لم يتمالك الناقد الروسي الشهير بيلنسكي نفسه حال انتهائه من قراءة الرواية الأولى لدستويفسكي (المساكين) حتى هتف : يا للروعة ، يا للروعة ! وتنبأ على الفور بولادة أديب روسي كبير .
وهذا هو بالضبط الشعور الذي خالجنا حال انتهائنا من قراءة رواية بتول الخضيري الأولى (كم بدت السماء قريبة) لما تضمنته من لغة شعرية شفيفة وحبكة عراقية آسرة أخذت بألبابنا وأسرت أخيلتنا لدرجة إنها تستحق أن تبقى عالقة في أذهاننا ووجداننا إلى آماد غير منظورة قادمة .
وحين علمنا ، في فترة تواجدنا بعمان بأن الروائية العراقية منشغلة بكتابة عملها الروائي الثاني . استبشرنا خيراً وبقينا نترقب اكتمال عملها وصدوره، كنا تواقين أن نرى ما يمكن أن تفعله هذه الروائية المدهشة التي دخلت عالم الرواية عنوة ومن دون تمهيدات ، في ذات الوقت الذي كان يتسرب إلينا بعض من القلق المشروع من ان الكاتبة ربما لا تستطيع مواصلة ما بدأته في عملها الاول المذهل ، ثم تواردت الإنباء بعد عامٍ على عودتنا إلى العراق ، إثر سقوط النظام السابق بأن الرواية الثانية لبتول صدرت وان عنوانها هو (غايب) .
بنية رواية (غايب) الأساسية
تعتمد حبكة رواية (غايب) الأساس على عناصر متعددة رغم انها حاولت جاهدة ان تحذو حذو مرتسمات وخطوط روايتها السابقة ، وإن ظلت أحداثها محصورة تقريباً في مكان ضيق هو إحدى العمارات السكنية في بغداد خلال فترة الحصار الاقتصادي والسياسي الذي تمّ فرضه على العراق بعد هزيمة القوات الصدامية في الكويت ، حيث ورد على الغلاف الأخير ، [ (غايب) ، روايتها الثانية هذه ، تتناول أحوال عائلات عراقية تعيش في شقق سكنية بعمارة وسط بغداد ، كوميديا سوداء تزخر بمقارنات بين زمن الخير في عراق السبعينات والزمن المتعب في عراق الحصار والحروب ، اغلب الشخصيات نسائية بسبب اختفاء الرجال في ظروف غير طبيعية لتصبح ام مازن ، قارئة الفنجان ، بمثابة المحلل النفسي لنساء العمارة ] ..
الراوية بطلة الرواية
سرعان ما يعقد قارئ (غايب) مقارنات بين شخصياتها وتلك الواردة في روايتها الأولى، وسيجد أن ثمة توافقات وتواشجات كثيرة ما بين الروايتين ، ويأتي في مقدمة هذه السمات المشتركة اعتماد الرواية على ما تقوم بسرده بطلة الرواية الشابة بشأن تجربتها في الحياة خلال فترة محددة ، غير إننا في رواية (غايب) ومنذ الوهلة الأولى نجد الساردة قد تخطت مرحلة الطفولة والصبا التي ارتكزت عليها بشكل تامّ ثيمة روايتها الأولى ، سنجد إن بطلة (غايب) في مقتبل العمر تفقد أبويها في حادث تحطم سيارة في الصحراء ، حيث يرد ومنذ بداية السطور الأولى للرواية ، (جاء في التقرير الطبي ومذكرة الشرطة إن أبي مهندس النفط ، قد مات قبل أمي ، ربة البيت ، بنصف ساعة ، حدث ذلك أثناء سفرنا بالسيارة من بغداد إلى مقر وظيفته الجديدة في صحراء سيناء ، أدلى شهود عيان ، بأن لفافة صغيرة طارت من نافذة المقعد الأمامي مع فرقعة لغم منسي من بقايا حرب 1967 ، استقرت اللفافة على الرمل ؛ أنا !) .
ويمكن أن يُعدّ هذا المقطع الاستهلالي الأول في الرواية على انه مدخل جميل ومناسب تماماً وفيه من الإيجاز والاحاطة ما يكفي ويغني .
إذن حاولت الكاتبة ترسّم وتتبع مواطن القوة والتصعيد في روايتها السابقة من حيث اعتمادها على العفوية المقتضبة والخالية من الرتوش البلاغية والإطناب واستعراض العضلات اللغوية التي غالباً ما رأينا كتاباً كباراً يقعون فيها مع سبق الإصرار ، وبينما كان استعمال الأمثال الشعبية باللغة الدارجة مناسباً وحيوياً تماماً في (كم بدت السماء) رأيناه في (غايب) يجنح بها نحو الهبوط والإسفاف الواضح .
جوانب من الضعف والإخفاقات
تعج (غايب) بالكثير من الإخفاقات التي وقعت فيها الكتابة يأتي في مقدمتها اختيار موضوع الرواية ، حيث أتضح ومنذ البداية إن الكاتبة وقعت في ذات المطب الذي وقع فيه روائيو الصف الثاني أو الثالث من الكتاب العرب ، ألا وهو اختيار احد الأمكنة السكنية في العاصمة او أية مدينة كبيرة أخرى ، ثم الحديث على لسان شخصيات الرواية عن الوضع العام مع بعض المفارقات الصغيرة التي تحصل لهم ، على ما في ذلك من حتمية الوقوع في التسطيح وعدم إمكان الغوص في أعماق النفس البشرية وتخليق المنلوج الداخلي الذي كان لابد للروائية أن تستثمره باعتباره مصدر قوة واضحاً لديها ويمكنها التعويل عليه .
معلومات خاطئة
لعل من أفدح الأخطاء التي وقعت فيها الكاتبة ، هو أن حصيلتها من المعلومات والتفاصيل عن الأوضاع في داخل العراق إبان فترة الحصار كانت غائمة وشحيحة وغير دقيقة ، ويبدو أن مصدرها الأساس كان يعتمد بشكل كبير على ما تبثه أجهزة السلطة ذاتها ، ومن ثم وسائل الإعلام العربية المحابية لهذه السلطة ، ولم تكلف الكاتبة نفسها عناء سؤال أي فرد من الأعداد الغفيرة من النازحين والمشردين العراقيين المتواجدين بوفرة في عمان ، حيث اختارت الكاتبة أن تقيم ، وحيث كتبت روايتها هذه عن الأحوال في العراق ، فعلى سبيل المثال ، المعلومة الواردة في الصفحة (9) حول ظاهرة انقطاع الكهرباء ولجوء مواطني العراق إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية الأهلية ، حيث يرد ، (الكهرباء ستنقطع بعد قليل لمدة ثلاث ساعات ، زوج خالتي يرفض أن يشتري امبيرات من أصحاب المولدات الخاصة ، سعر الأمبير الواحد المعروض في السوق حالياً ألفا دينار ، عشر امبيرات تشغل المراوح فقط ، والأربعون أمبير تشغل الثلاجة والتلفزيون وربما مروحة واحدة ) .
وهذا كما هو معلوم فيه مبالغة كبيرة غير مسوغة ، أو ما تورده حول المصعد الموجود في العمارة ، حيث تحكي لنا بطريقة تنم عن استخفاف واضح بمستوى فهم ووعي القارئ من أن خالتها كلما شغلت مجفف الشعر يتوقف المصعد .
مشاهد مقززة
تستمر الكاتبة بالتخبط ، حتى تصل إلى مرحلة تعرض علينا من خلالها مشاهد مقززة ومنفردة لا مبرر لها ، فبالإضافة إلى داء الصدفية المصاب به زوج خالتها والذي من أعراضه تقشر جلد الإنسان المستمر وتساقطه ، والذي ربما استطاعت تسويغه لنا من خلال عدد من التعليقات الساخرة الموفقة ، لم يتورع خيال الكاتبة عن الإتيان بمشاهد أخرى لا تتوفر على الحدود الدنيا من المنطق الروائي ، حيث تورد لنا على لسان أحد أبطال روايتها ، إن داء الصدفية ربما أمكن علاجه من خلال شرب المصاب لبول الآخرين ، أو حين تكشف لنا الرواية ، إن (الهام) التي تعمل ممرضة في إحدى المستشفيات والتي هي أهم صديقة لبطلة الرواية ، يتم إلقاء القبض عليها من قبل السلطات لأنها تقوم بتهريب أعضاء بشرية مستغنى عنها (مستأصلة) لغرض إعطائها لعشيقها (القصاب) ، الذي لم تشأ الكاتبة إلاّ أن تسمية (اللحّام) ، حيث يقوم بفرمها ضمن لحم الغنم والبقر وبيعها على الناس ، وغاب عن الكاتبة انه وفي ظل أقسى الظروف لم يُؤْثَر عن الباعة العراقيين إنهم وصلوا إلى هذا الحد من التدني والهمجية ، ولعل أسوأ ما رأيناه هو قيام بعضهم وفي حالات نادرة جداً بذبح الحمير وبيع لحومها على اعتبار انها لحوم عجول ، وحتى في هذه أتضح إن الذي كان يقوم بذلك العمل الشائن هم المصريون الوافدون إلى العراق ، وإذا كانت الكاتبة تتذرع بأنها تفعل ذلك ضمن إطار ما صار يُسمى بالواقعية السحرية في الرواية ، فإن لهذا الفنّ اشتراطاته الخاصة جداً ، وهو ليس فناً منفلتاً تماماً .
ومن الأخطاء (المعلوماتية) التي وقعت فيها الكاتبة إن بطلتها حين تصاب بمرض (الشرجي) في مرحلة صباها ، والذي هو عبارة عن التواء يصيب عضلة الفم ، فتورد لنا إن علاج هذا المرض يتم من خلال عملية جراحية ، وتستحضر لنا قول البروفيسور التركي الذي يقول لخالها (أثناء سفرهم إلى تركيا) ، إن أجرينا العملية الآن ، ستستمر حالة اللاتناسق لديها ، لأن العضلات في الجزء السليم من وجهها ستتابع نموها . وكما هو معلوم ومتعارف عليه (طبياً)، فإن علاج هذا المرض العصبي لا يتم على الإطلاق من خلال إجراء أية عملية جراحية.
وأثناء ذلك تُضمّن الكاتبة روايتها الكثير من القفشات والطرائف المبتسرة ، التي هي أقرب إلى أساليب الصحافة منها إلى روح الكتابة الروائية ، فمثلاً حين تتكلم عن السرقات المتنامية في ظل الحصار ، تورد ما يلي : (أهل العمارة يروون إن احد سارقي الإطارات كان منهمكاً في فك إطارات سيارة ما ، في هذه الأثناء اكتشف إن سارقاً آخر يفتح إطار الجهة الثانية ، قال السارق للسارق الثاني الغريب ، اليمين لك واليسار لي ، ما تسوه نتعارك !)
أو حين نقرأ في خاتمة الفصل الثاني :
(سيدة تقول لصاحبتها : ابني هاجر !
- إلى أين ؟
- وصل بالسلامة إلى نيوزلندا .
تشهق السيدة المستمعة ، ماذا ؟ كيف ترسلينه إلى نيوزلندا ، ماذا عن ثقب الأوزون ؟ ألا تخافين عليه ؟
- عيني ، هو اللي يطلع من ثقب صدام حسين ينخاف عليه من ثقب الأوزون ؟
قراءة الفنجان وتربية النحل
يبدو أن الكاتبة فكرت طويلاً قبل أن يرسو تفكيرها على محوري الرواية ، قراءة الفنجان وتربية النحل ، لما يمتلكه هذان الموضوعان من خصوصية معينة لدى كثير من الناس ، الذين غالباً ما يتملكهم الفضول لمعرفة المزيد عن هذين العالمين .
حيث تضطلع (أم مازن) بقراءة الفنجان ، والتي هي احد ابرز شخصيات الرواية ، والمحور الذي تدور حوله معظم إحداثها ، لاسيما وان (أم مازن) هذه تقوم تحت مظلة عملها كقارئة فنجان بعمليات عديدة ، أعمال السحر وتحضير الأعشاب الطبية ، ومعالجة تهتك غشاء البكارة عند النسوة اللواتي فقدن عذريتهن ، فيذيع خبرها في أجزاء من المدينة ، مما يدفع السلطات إلى أن تدسّ لها من يقوم بمراقبة نشاطاتها بدعوى إنها تقوم بعملية تخريب المجتمع من الداخل . أما المحور الآخر ، والذي هو تربية النحل ، فيضطلع به زوج خالتها المصاب بداء الصدفية ، والذي لم يرزق بولد ، حتى تعارف الجميع على تسميته بـ(أبو غايب) حيث يتضح إن هذا الخال يفشل في بواكير شبابه في أن يحقق ما كان يطمح إليه وهو أن يصبح فناناً ، فيصارحه بعض أساتذته في معهد الفنون في ما يشبه النصيحة والمواساة (عينك ترى جمالية الفن الحقيقي ولكن مع الأسف خطوطك ضعيفة !).
سعد وعادل وجهان لعملة واحدة
ما تلبث بطلة الرواية أن تتعرف على (سعد) الذي يفتح له صالون حلاقة نسائياً في العمارة ، بينما هو في السر يقوم بعمله التجسسي على ساكني العمارة ومراقبة نشاطاتهم ، وتعمل لديه كمساعدة ، ثم يبرز أمامنا شخص آخر في الصالون هو (عادل) الذي يعرّفه سعد عليها ، حيث ينجح في عملية إغوائها رغم التواء فمها المصاب بداء الشرجي بحجة إعجابه بعينيها ، واثناء احتساء الثلاثة للخمر وبعد أن يثملوا يمسك سعد بقلم الكحل ويقوم برسم عين ثالثة لعادل واستقرت ما بين حاجبيه فتقول هي لسعد : فسر لي إذن ، فيقول هذا : لا حاجة للتفسير ، كل الذي قمت به هو عملية تغميق بالكحل لشيء موجود أصلاً ، وبعد أن تتم عملية مداهمة شقة خالتها التي تسكن فيها معهم من قبل رجال الأمن تفاجأ دلال بمشاهدة عادل وهو يرتدي (زيّه العسكري !!) مع رجال الأمن ، وتحاول التكلم معه لكنها لا تستطيع ، إذ هو منهمك بأداء واجبه الأمني لتكتشف الحقيقة المرة أمام عينيها بأن عادل هو احد ضباط الأمن الذين وشوا بخالها بتهمة متعلقة بتهريب التراث العراقي ، وفي اليوم التالي تذهب إلى سعد فيجري بينهما حوار مائع : ويدخل سعد يده في جيبه ليخرج رزمة منتفخة من دولارات وضعها إمامي : هذه لك ! ويقول لها إن هذا المبلغ مرسل من قبل السلطات إليها وهو بمثابة تعويض عن الذي حلّ بعائلتها ، ولا ندري من أين جاءت الكاتبة بهذه الفذلكة المضحكة ، لاسيما وان جميع شرائح المجتمع العراقي تعلم إن السلطات ذاتها لم تكن تتورع عن قبض ثمن الإطلاقات من أهل ذوي الضحايا المعدومين بعد تسليمهم جثث موتاهم !
والانكى من ذلك ، ما يسوقه (سعد) من تبريرٍ لما فعله زميله عادل بعائلتها وبأم مازن ، فبعد أن تسأله ، لماذا فرط بي (عادل) ؟ يقول لها : في اعتقادي انه تعلق بك ، لكن الوطن غالي يا دلال ، وعادل يسهر على راحتنا ، وهو يعلم إن عادل هذا قام بافتضاض بكارتها في إحدى السهرات معها في شقته ، مع ما يعنيه ذلك من إثم وشناعة وبخاصة في مجتمعات عربية وإسلامية كمجتمعاتنا ، فكيف يستقيم منطق من يدعي السهر على حماية الآخرين ، فيما هو يقوم في ذات الوقت بانتهاك حرماتهم وهتك أعراضهم ، على أن ذلك هو بالضبط ما كان يقوم عليه منطق السلطة ذاتها في تعاملها مع مواطنيها .
والذي يمكن أن نخلص إليه بشأن رواية (غايب) ، هو إنها أخفقت تماماً ، ولم تستطع مجاراة المستوى الفني الرفيع الذي بلغته روايتها السابقة (كم بدت السماء قريبة) ، ومع ذلك فإن القارئ يستطيع أن يتلمس إن أداء الطاقة الخلاقة لدى لكاتبة لم يزل موجوداً لديها ، رغم إنها لم تستطيع توظيفه بصورة صحيحة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق