الاثنين، 3 أكتوبر 2016

التحقيق لم يكتمل بعد- عادل كامل

قصة قصيرة


التحقيق  لم يكتمل بعد


" النصر...؛ هو الهزيمة التي لا يمكن سرقتها منا...."


عادل كامل

   ـ " حتى بعد سنوات طويلة جدا ً التي أمضيتها في عملي، فانا استطيع الاعتراف، بثقة، انه ليس لدي ّ أدلة صريحة تتحدث عن وجود هذا  الذي أطالب بالإفصاح عنه...، كالحديث عن جرثومة ما، غامضة، شبيهة بنظرية المؤامرة، أو بتلك الأسرار التي كلما تم تفكيها تزداد غوصا ً في الظلمات....، باستثناء هذا الذي لم يتغير، بعناد يماثل هذه المزاعم، ويحافظ على ديمومتها، حتى يمكنني القول: باستحالة قهرها...."
    وأصغت اللجنة المكونة من ثلاثة محققين، للبروفسور، بعد أن طلبوا منه الالتزام أن لا تتجاوز إجاباته، حدود السؤال، وتلافي مناورات التمويه، بدافع إضاعة الوقت، أو كسبه، بل الانضباط بشروط الأمانة، ودقتها. كان البروفسور، وقد أدرك، منذ وجد أن الصمت، بحد ذاته، تهمة، بل جريمة ليست بحاجة إلى شهود، أو أدلة، أن عليه مراعاة ما كان تدرب عليه: مادامت مهنتك تخص التقدم، فعليك أن تراعي ذلك بوضوح وشرف تامين..!
    اقترب المحقق الأول، وهو فأر متوسط الحجم، سمين، وفي منتصف العمر، وسأله:
ـ أنت قلت: لا توجد أدلة صريحة بوجود سر...، فهل تسمح لنا، قبل التقدم في التحقيق، أن تعّرف لنا السر...؟
   انتفض، مرتبكا ً، واحمر محياه، مصغيا ً إلى نبضات قلبه وقد بلغت قمة رأسه، وتمتم، مع نفسه، بشرود:
ـ هو ذا الذي لا يمكن التستر عليه...، انه هذا الذي نعرفه جميعا ً!
   ضحك الفأر الثاني، وهو نحيل، له رأس شبيهة برأس أفاعي الصحراء، حاد النظرات، وسأله:
ـ كأنك تريد القول: الجاذبية هي الجاذبية وليست هي القوانين التي يعمل بها الكون....؟
   رفع رأسه الصغير، الخالي إلا من خصلات متناثرة من الشعر الأبيض، عن سطح المنضدة المستطيلة ذات الغطاء الرمادي، وقال:
ـ لا ضرورة لاستبدال الكلمات، اعني المصطلحات أو المفاهيم، مع إن ذلك يساعدنا في التقدم...، فأقول.
صمت برهة وتابع:
ـ بالتأكيد هناك القوانين السابقة على وجودنا...، وبضمنها القوانين التي سمحت لنا أن نبلغ هذه الحدود، أو نهايتها...، أي أن نفكر في ما هو أصبح موضوعا ً للتفكير، أو خارج نطاقه، ولكن هذا لا علاقة له بالسر....؟
   تثاءب الفأر الثالث، وهو قصير، نحيل، له رأس دب، وأنياب تمساح، وسأله:
ـ كأنك تتنصل عن الزمن السابق على وجود الجاذبية؟
ـ لا. وأضاف:
ـ ضمن حدود عملي المهني، فانا مسؤول مسؤولية مباشرة عن هذا الذي يحدث....، وليس لماذا حدث...، وليس...كيف ستكون نهايته؟
ـ آ .
   اقترب الأول منه، ولكزه:
ـ اسمع، أنت قلت: لا أسرار هناك....، وقلت: فالخلية الجينية المركبة تعمل وفق نظام يسمح لها أن تقاوم غيابها، وأنت تقصد اندثارها...، أليس هذا، بذاته، يخص عمل السر...؟
ـ لا!
أجاب بثقة، وعلق:
ـ أين السر...؟ فانا أقول: 1+1= 2...، فأين يكمن السر...، وهل ثمة سر...؟
  اقترب الثاني منه:
ـ صحيح، الجاذبية لها أسبقية في الوجود، وليس لنا حق أن ننبش في ذلك، لأننا، لا نمتلك أدواتنا في النبش، ولكن دعنا ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى...
ـ تفضل.
ـ لو كانت الحقيقة، اقصد حقيقة الحياة، خالية من الأسرار...، كيف حافظ السر على أن يبقى سرا ً، ويحافظ على ديمومته الفعالة طوال هذا الزمن...؟
ـ سر ماذا ...، سيدي؟
ـ سرنا؟
ـ آ ....، أعود إلى مثالي السابق، لكن، على النحو التالي: ما هي نتيجة جمع ما لا يحصى من الموارد، أو قل الثروات، أو المال تحديدا ً...، مع ما لا يحصى من كميات مماثلة....؟ أليست النتيجة إننا  لا نعرف حاصل الجمع؟
ـ ممتاز!
نطق الأول:
ـ ها أنت تقربنا من السر....، ولا تبعدنا...، ولكن هل جمع الحقائق بلا عدد محدد يفضي إلى النتائج المطلوبة....؟
ـ ضمن شروط مهنتي، وحرفيتي، يا سادة، هو التزامي بالحقائق، ومنها: العدد....، فانا اشتغلت، مثلا ً، في تطوير خلية مركبة من خلايا مختلفة، فالعدد أس المعادلة...، كالخليط المنصهر الذي يستحدث خامة ليس لها وجود في السابق...، وهذا شبيه بمثال آخر معروف: إن جمع ناتج قوى عدد من البهائم...، خذ مثلا ً حاصل عمل الذباب، أو القمل، أو البعوض يختلف، تماما ً الاختلاف، عن حاصل عمل الأبقار، والأسماك، والنحل أو الدواجن...
ضحك المحقق الثالث:
ـ نقول لك غزال، فتقول لنا: غراب!
ـ لا ..، يا سيدي، لا أبدا ً...، لأن حاصل جمع قوى هذه الفصائل يتقاطع مع برنامجنا في الأصل...، فهناك كائنات لا تنتج شيئا ً، وهي المخلوقات المغتصبة، والمعرضة للافتراس...، وهناك الكائنات التي مهمتها تكمن في تبرعها بما تنتجه...!
ـ جميل!
   أمر الفأر الأول، باستراحة، للتشاور، تاركا البروفسور، وهو ابن أوى عجوز، لا يقوى على الوقوف، للتفكير بما دار من جدل حول ما لم يتم الانتهاء منه، بغية التوصل إلى قرارات اقل التباسا ً، ومضيعة للزمن.
     ما أسباب هذه الاستراحة، تساءل، وكأنها فرضت، ما دامت خاتمتها أقرت قبل الاستجواب:
ـ سأخبركم إذا ً إن وجود هذا ألجين لا يعدو أكثر من تلك القوة التي لا تدع الزمن يمضي بأكثر من وجود عوامل تسمح للضوء ـ اقصد ضوء مجموعتنا ـ أن يتسارع وفق برامج لا تتقاطع مع الأصل..!
    تخيلهم سيستأنفون التلويح بتأجيل التحقيق، وتركه معلقا ً، مما لن يسمح له حتى يتنفس الهواء، ولا الذهاب باستراحة يمضيها عند ضفاف البركة. فالحجر بات شبيها ً بقرار الإزالة، أو الإقصاء.  فأرغم فمه على اتخاذ تعبير يناسب من أفاق توا ً من كابوس:
ـ هذا السر...، بالأحرى ...، هذا ألجين، أو لنقل ...، هذه المؤامرة ذات الأبعاد المترامية ...، الكلية...، لا علاقة لها بالمتورطين، أو المؤيدين، أو المنفذين، أو المروجين، أو المراقبين...أو ....، بل ولا علاقة لها حتى بهؤلاء الذين اخترعوها:
ـ فالحياة تتحكم بها أدوات تحافظ على ما هي عليه...، إنها تكّون أسرارها كي تفندها، تعلنها للإخفاء، وتظهرها من اجل محوها! وهو ذا قانون الديمومة!
     وتخيلهم يفرطون في الضحك، بل يفطسون، ليس لأنه روى طرفة، بل لأن الفاجعة لا تحتمل إلا أن تكون سابقة على وجودها العنيد. ثم تخيلهم يكفون عن الضحك، ليسمعهم يقولون له بصوت واحد:
ـ أتتندر على الكارثة، وتبتهج لوقوع النكبات؟
ـ وهل بمقدوري أن افعل ذلك...؟
   استراحة...، لماذا تم فرضها علي ّ إذا ً...؟ وسأل نفسه: هل المطلوب الاعتراف بان دوري بلغ نهايته، وأنا أصبحت فائضا ً، وعلي ّ ـ بهدوء ـ الإدلاء بذلك؟
ـ لكنني لم أتفوه بعبارة صالحة للاستخدام...، كل ما اعترفت به إنهم تجاهلوه تماما ً، وشطبوا عليه، وكأنني لم أكرس حياتي ....، للعمل على إزاحة هذه الحواجز، وهدم الحدود الوهمية بين الأجنحة، وتحسين الخدمات في الزرائب والحظائر، وليس ترك الحديقة تغطس في المجهول.
ـ عدنا إلى الجرح...
ـ أي جرح؟
   وسمعهم ينطقون بصوت واحد:
ـ  لا ترفع صوتك أعلى ....، ولا تخفضه أكثر....، وامش كأنك لم تر شيئا ً، ولم تسمع بما حدث!
ـ وهل باستطاعة حيوان أن يصبح شيئا ً آخر...، هل بمقدوره أن يوازن بين العقل والغرائز، حيوان تم أسره وتدجينه وتهذيبه وأخيرا ً حجزه داخل حدود ترسمت بالدم، بعد أن كانت ترسم بالبول!
ـ لو سمحت..، أيها البروفسور، اختر كلماتك بأدب، كي نحافظ على عناصر التشويق، والتهذيب، فأنت ترى كم حرصنا على ما سيقال...، فلسان التاريخ ملعون، فلا تغادر الشفافية، وتحول جلستنا إلى مأتم!
ـ آ ...، نعم، التاريخ! الأعراف، الكرامة، وهل باستطاعتي مغادرة هذا الفضاء الرقيق...، الناعم؟
   وسأل نفسه، هل علي ّالعثور على إجابات...، أم على إضافة أسئلة؟ تخيل حوارا ً يجري بينه وبينهم.
ـ فانا لم أغادر السياق.... ، وانتم لا تعملون إلا على إلصاق ذنب لم ارتكبه أبدا ً...، فانا لم اقل، طوال حياتي، إن الجاذبية كانت سببا ً بحصول الكوارث، أو النكبات، مع إنني لم أوجه الاتهام إلى الديناصورات، أو إلى منقرض من المنقرضات، بعدم تدخلها بالأمر!
    بات الأمر أكثر وضوحا ً: هناك قوة ما تعمل على تدمير كل ما كان يسمح لهم  بوضع أفضل.
     وسأل البروفسور، ابن أوى، نفسه: أأبدو في وضع ملتبس، ميئوس منه...، وكأنني صغت نهايتي قبل إغلاق نوافذ هذه المغارة....، بل وقبل أن أرمى فيها؟
   كانت الحفرة شبيهة بسرداب له فتحة صغيرة، مضاءة بومضات حشرات مكثت تحّوم في فضائها، حفرة استطاع أن يحدد موقعها، في الحديقة، فهي تقع تحت جناح الخنازير مباشرة ..، وتحت جناح الجاموس...، لأنه مكث يحاول استبعاد رائحة الروث، والبراز الرطب المشبع بالبول، فكان جسده يتعرض لرجات قاومها بصعوبة، متخيلا ً انه سيعثر على إجابات تتوازن مع أسئلتها. فانا لم تكن لدي ّ أدنى فكرة عن اللا زمن الذي ولدت فيه هذه المخلوقات.
   اهتز جسده فجأة ثم شعر انه لا يقوى على التنفس: لا...، لا اعتقد إنهم نصبوا كمينا ً لي...، أو إنني قدت خطاي للوقوع فيه. فانا منذ سنوات بعيدة قلت: لا وجود لنظرية المؤامرة أبدا ً...، بهذا المعنى...، وقصدت....
   ضحك: ها أنا أصبحت أتحدث مع نفسي، وهذا وحده يشير إلى خلل...، فانا اسمح لهم بالعثور على دليل ضدي: جن !
ـ ولكنني أخبرتكم إن كل واحد منا...، بل...، وكل خلية أحادية، منذ وجدت...، قائمة على القانون الذي لا يسمح لها بالذهاب ابعد من شروط وجودها.....، فهي  خلية ماكرة! ماذا قلت؟
    أغلق فمه، وحدق في الحشرات الضوئية، وفكر من غير كلمات: راصدة...ـ فهي تتبع الأثر قبل تحوله إلى أثير، والى عدم! فلديها قدرة التقاط ذبذبات نظام عمل الخلايا قبل أن تصدر أية إشارة...، آنذاك أكون ارتكبت جريمة لا أساس لها، ولا حتى خطرت ببالي. فالمكر هو دلالة حيوية وعنصر ما يخص بنية الديمومة...، أما ذلك الذي لا يسمح للمخلوقات إلا بالحفاظ على ما هي عليه...، بل والارتداد إلى ما قبل الماضي السابق...، والأسبق، والسحيق، في مواجهة تعديل للعلاقات....، فهو ...
     ولم يتلفظ بكلمة، بل ابتسم وقال للحشرات: ضوء قمري مغذى بمجسات كونية!
     لم يكن مسموح لها بالرد. عمليا ً ـ دار بخلده ـ انتزعت منها حناجرها، وأجهزة التواصل التلباثي، وأصبحت من غير فرمونات، لا صوتية ولا فوق صوتية، للانشغال بإنتاج الطاقة الضوئية، وتلافي متاهة الأخطاء بهذا الشأن. كما لم يغفل، دار بباله، انه كان واحدا ً من برنامج العمل، الذي قاد إلى مشروع العبور من الظلمات إلى العتمة القرمزية، ومن ثم إلى الأنوار الرمادية، الشفيفة. فقد لخص نظريته بالاختزال، وباستحداث تعديلات لتوظيف الأصوات بالعمل على إنتاج الطاقة، وتحويل الأخيرة إلى أثير مشع ذاتي الدوافع، ولكن وفق النظام الكلي لمجموع السكان، وللمكونات كافة. وتذكر ـ بشرود طيفي ـ إن احدهم سأله: ألا ترى إننا كلما تقدمنا في تفكيك الأسرار  نكتشف إننا اكتشفنا ما لم يكن يخطر برؤوسنا أبدا ً...؟ بلى! قال بصوت واثق، بلا تردد، لأن الأسرار إن خمدت فإنها تفضي إلى غيابها، بل وكأنها هي والعدم سواء!
ـ يا للكارثة، يا للنكبة!
   أجاب بخوف تام. وتابع يقول لنفسه مجددا ً: آن لي ـ كما قلت ذلك ما لا يحصى من المرات ـ أنا هو من يقوم بتشذيب هذا النسق من الانحراف.... ، فانا مسؤول، بالدرجة الأولى، عن النتائج: توجد ارض ..، وتوجد مخلوقات...، فان غاب العمل فلا معنى لهما بالضرورة. ماذا قلت؟
ـ مرة أخرى أصبحت أتلافى ما يحدث لي لا إراديا ً...، هذا الذي طالما لمحت نهايته قبل التفكير حتى ببذور نشأته ....، وقبل الشروع بإجراء أي تعديل ممكن، أو ضمن التصور، والافتراضات المحتملة..
    أوقف عمل الخلايا الباثة لا إراديا ً: فانا سأنتقل إلى نظام آخر: وأغدو مثل صخرة تأخذ موقع حضورها في الاتساع الكوني...، ومثل حرف في كلمة يستحيل زحزحتها من الجملة في الصفحة المدوّنة داخل هذا الكتاب المركون في الظلمات...
  إلا انه ـ وفي السياق نفسه ـ شعر انه حقق انتصارا ً: هزيمة لا يمكنهم سرقتها مني...، كما سرقت حياتي! إلا انه ـ ردد من غير صوت ـ لا يرغب أن يوكل نفسه للدفاع عنها! فانا لست مذنبا ً، وأضاف، مع إنني أكدت دائما ً باستحالة وجود كائنات بلا ذنوب!
ـ إن لم تكن مذنبا ً...، فلماذا لا تحصل على البراءة؟
    عاد الثلاثة يتقدمهم رابع اكبر حجما ً، له رأس ثور، من غير مجسات، أو قرون، ودار من حوله. فتخيل انه استنشق رائحة البرية، واستعاد بعضا ً من صورها، الشمس تشرق من وراء الدغل....
  وسمع الرابع يتمتم مع نفسه:
ـ ما الفائدة...، ما الفائدة حتى لو أدلى بما نريد...، أو بما يريد... أو..؟
    اقترب الفار الأول من كبير المحققين، هامسا ً:
ـ هذه هي أوامر الزعيم، مع إنني أشاطرك الرأي...، سيدي.
حدق في عينيه:
ـ كان عليكم أن لا تأتوا به أصلا ً...!
   ودك ارض الحفرة واقترب من البروفسور:
ـ أنت قلت أن الموت فرضية فائضة.....، فما فائدة وجود المحرقة إذا ً...؟
    لم يجب، فسأله مرة ثانية:
ـ الم ْ تسمعني؟
ـ آسف ...، كنت أتصور انك تتحدث مع القادة الآخرين!
ـ ها أنا أتحدث، وما عليك إلا  أن تسمع...، لأنها ربما تكون فرصتك الوحيدة...، أليس كذلك...؟
ـ آ...
     حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع، فاضطر للكلام بصوت أعلى كي يسمعه:
ـ أنا اعتقد أن هناك جرثومة...، ثمة خلية، جزء ما لا يرى فيها..، مسؤول عن تنفيذ العمل...، لا إراديا ً، بمعنى، سيدي: يعمل كأنه طليق وقد كبل تماما ً بتنفيذ الواجب..، آسف...، لم يكبل، لم يكبل، بل هو حر تماما ً بالتخطي، لأن الحرية هي الذهاب وراء القيود.
   سأل كبير المحققين الجميع:
ـ عن أية خلية، عن أية جرثومة، يتحدث؟
قالوا بصوت واحد:
ـ ربما قصد أن يعثر على خيط للنجاة...، فهو يعرف إننا مخلوقات فوق ذكية!
ضحك كبير المحققين وسأل البروفسور:
ـ هل السنونو مخلوق أحمق؟
ـ كلا!
ـ والضبع، ثم ما هو رأيك بالغراب...، أول من علم القاتل أسلوب التستر على الجريمة؟
ـ نعم!
ـ مرة تقول كلا لتقول نعم، ومرة تقول نعم لتوحي لنا بـ: كلا...، فهل هناك مؤامرة...، اجب...، من غير نعم ومن غير ...لا؟
ـ هناك...، هناك، جرثومة تعمل لا إراديا ً بأعلى درجات الحرية...

ـ ماذا تعمل...؟
ـ  إنها تعمل...، اقصد إنها تعمل ضد العمل، وتفكر ضد أي شكل من أشكال التفكير!
ـ جميل! كأنك اكتشفت لغز العدالة؟
ـ لا ..، يا سيدي، أصغ إلي ّ...، أرجوك، أنا لا أهذي، فانا الآن اعمل ضد العمل كي أنفذه وفق البرنامج...
   اقترب المحقق الأول منه:
ـ هناك مؤامرة إذا ً...، وخارجية، أي هناك من يعمل فيها، فثمة أهداف لها،  ووسائل ...، أليس كذلك؟
ـ كنت أبديت تحفظي ...، التام...، والآن تأكد لي أن العاصفة ليست هي المسؤولة عن هدم الحدائق، واقتلاع أشجارها، وتخريبها، وإزالتها، ومحوها... من الوجود!
    تابع المحقق الثاني:
ـ ها أنت تدلنا على ... الممرات الخفية....، لطفا ً لا تتوقف عن الكلام؟
ـ أنا لا اقصد إن الحدائق هي المسؤولة عن عدم مقاومتها للخراب، بل قصدت إن ما سيأتي لن يترك أثرا ً دالا ً على ما حدث، وعلى ما مضى...، فحتى الرماد لا يعد دليلا ً...، وإلا من ذا يعرف ماذا تقول الفراغات، وما تكتمه، وماذا يقول ضوء هذه الحشرات...؟
    هز الثالث رأسه:
ـ انه يجدف!
ـ أبدا ً...، من أكون...، سيدي، والكل اللا متناهي لا يراني حتى قشة! فمن ذا أنا كي ابلغ هذه الدرجة..، درجة مذنب، أو جاحد، أو مجدّف...؟
ـ اعرف ...، ولكن موقعك هذا يكفي لإدانتك؟
   رفع رأسه قليلا ً وقال بصوت مرتبك:
ـ سيدي، أنا لم انطق بكلمة واحدة دفاعا ً عن نفسي، فلم أتحدث عن براءتي أبدا ً..! ولكنني مشغول بمساعدتكم لاستنطاق خلايا راسي النائمة، فربما أنا مازلت أغط في حلم عميق؟
ـ جميل.
   أضاف كبير المحققين:
ـ ها أنت بدأت بتفكيك العقد...، وتنبش في الممحوات!
ـ ولكن هذا يتطلب استنطاق جميع الحلقات، ومنها التي اندثرت قبل أن يكون لها وجود يذكر.
   ضحك المحقق الثالث وقال:
ـ ومنها التي لم تولد بعد؟
ـ صحيح، كيف عرفت؟
  هز رأسه متابعا ً:
ـ  فما دام المستقبل برمته هو جزء لصيق آليا ً بسلسلة هذا الذي بحكم المندثر الغائب الذي لا وجود له فان عمل هذه الجرثومة يبدو مبررا ً..، سيدي، وصريحا ً!
صرخ المحقق الأول:
ـ ها أنت تغطس في الوحل!
ـ تقصد في المستنقع الذي ولدت فيه، سيدي؟
ـ في الزريبة، أو في الجحر، أو في المجرى، أو في الحظيرة...، أو في أي جناح أو ركن من أركان حديقتنا الخالدة ...، فأنت اعترفت بالدليل القاطع...
ـ لا ...، أنا لم استخدم أية أداة للقطع!
ـ أصبحت تناور...؟
ـ سيدي.
  وخاطب كبير المحققين:
ـ ما دام المستقبل يمتد إلى ما وراء حافاته، فهو شبيه بمقدماته ليس باستطاعة احد أن يحدد مقاصده ..، وهذا تحديدا ً هو بيت الفرس!
ـ ها أنت تستخدم أمثلة العدو...، ولغته...؟
    أكد لهم انه لا يفعل ذلك إلا توخيا ً للدقة والموضوعية، فمربض الفرس لا وجود له بانتفاء وجود الشاهد!
   ربت كبير المحققين على كتفه:
ـ اخبرنا، يا سعادة البروفسور، كم علينا أن ننتظرك، وصبرنا بدأ بالنفاد...؟
   رفع صوته:
ـ فكوا قيودي.
   أمرهم كبير المحققين بإزالة السلاسل، وباقي القيود:
ـ آ ...، الآن أتكلم كأن الكلمات كانت مدفونة في كهف! فانا بودي، سيدي الموقر، أن أسألك: ما الذي تم استخلاصه من هذا التحقيق...، سوى إنني أمسكت بظل هذا المخلوق العنيد الذي يحافظ على ديمومة الماضي وصار يشتغل بوصفه مستقبلا ً؟
ـ أنا لن اعترض..، وأرجوك، يا كبير علماؤنا... لا تتوقف عن التدفق!
ـ فانا إذا ً ليس لدي ّ ما اخسره...، مادام الذي اربحه هو جزء من أجزاء الحلقة...، الخلية، الجرثومة، وقد بلغت ذروتها!
ـ قلت لك، لطفا ً، تابع، ولا تتوقف...؟
ـ لست أنا هو الذي توقف، ولا فمي، ولا خلايا دماغي، بل العمل ذاته يتطلب مثل هذه الاستراحات؟
   ووجه كلامه للجميع:
ـ تعرفون إنني لست مبشرا ً...، ولا صاحب نظرية، أو بدعة، أو واحدا ً من المجتهدين، الشاطحين، المفترين، من أصحاب بث الإشاعات، وقد سبق لي ولفتت نظركم إلى أن نظرية المؤامرة لها حضور الطيف، فهي مثل الشبح تولد وتزول وكأنها أحكمت قبضتها على لغز غيابها بالقوة ذاتها في حضورها الشفاف!
ـ آ ...، الطيف أم الشبح؟
  أجاب بصوت حازم حاد النهايات:
ـ لا احد منهما! وآسف إن كانت الكلمات سبقتني في التعبير!
ضحك المحقق الأول:
ـ ها أنت تقع في المصيدة، فاللسان مراوغ!
ـ تقصد العقل الكامن في خلايا الدماغ؟
ـ قل الخلايا التي أمضيت حياتك تعمل بها، وتستهلكها حتى بلغت درجة عدم صلاحيتها للعمل...، ودعك من اللسان بوصفه أداة عمل؟
ـ لا...، آسف...، لا يمكن عزل الأداة عن الموجه، ولا عن الوسيط،  فلا يمكن فهمهما إلا باستحالة استبدالهما بأداة أخرى. فاللسان لا يعمل طليقا ً!
قال المحقق الثالث:
ـ ها أنت تبرهن انك فقدت أي أمل بالحصول على البراءة؟
ـ سيدي، لا تصدر حكما ً قبل أن تدرك انه كان قد صدر منذ زمن بعيد...؟
ـ كأنك تقول المستقبل يعمل بمعزل عن ماضيه؟
ـ بل أقول: الماضي لم ينته بعد...
     فانا أكاد اشعر ـ من غير أدلة وبتوفرها كاملة ـ دار بخلده، انه لم يضع نهاية إلا لأنه مازال ديناميا ً..
سأله المحقق الثاني فجأة:
ـ كأنك تجري محاكمة لنفسك بمعزل عنا؟  هل تعتقد إننا خردة أم أدوات للقمع؟
ـ لا.. أبدا ً...، فالأمر يماثل السر، الذي يذهب ابعد من انتفاء دوره...، فهو يشتغل بوصفه يتجدد عبر علاماته...!
ـ انك تغوص أكثر مما كنا نتوقع...، وأكثر حتى مما كنا نرغب!
   ابتسم، للمرة الأولى، ووجد فمه يعمل من غير أوامر، إنما زمه، وشده، وأغلقه لبرهة، بقرار حازم، بانتظار الرد.
   سأله المحقق الأول بشرود:
ـ كأنك تقول إننا أدوات تعمل بمعزل عن إرادتها العليا؟
ـ ليس تماما ً.
     وسكت مرة ثانية، انأ لست من خرب هذه الحديقة، أنا لم اقتلع أشجارها، لم افسد هوائها، ومائها، وترابها، أنا لم اسرق كنوزها، وأبيعها، وأصبح ثريا ً من أثريائها، أنا هذا الذي ابحث عنه بعد أن كنت وجدته ...
ـ ماذا قلت؟
  وجد فمه ينطق:
ـ لأن هذا ينسحب بالضرورة على باقي الأجزاء!
   وأضاف بعينين مغمضتين:
ـ لو عدنا إلى البرية، إلى الغابات، فالأقوى وحده يفرض سيادته، لكن هذا لن يقلل أبدا ً من التصميم المحكم حتى لأضعف الصنوف، والأنواع: فالكل يمتلك نفوذه!
رد الأول:
ـ من غير قصد أم كي تبقى الهزيمة أبدية؟
ـ كلاهما، يا صاحب السيادة، يؤكد صواب الآخر، ويدعمه...، فلا هزيمة تامة، ولا انتصارات بإمكانها وضع خاتمة لها. فالبرمجة تسمح للمناورة بالديمومة حتى إنها لا تعلن إلا عن طيفها الذي يمتلك قدرات هذه الأشباح!
   اقترب المحقق الثاني منه:
ـ دعنا في الغابة...
ـ أمرك!
ـ الكل يموت ليتفسخ منتجا ً مضادات موته وتفسخه أيضا َ، فالكل إذا ً لا يموت، ولكنه يناور دفاعا ً عن موته!
ـ ها أنت تضع براءتك على  المحك؟
ـ ماذا تقصد...؟
ـ  اقصد تحديدا ً انك تمتلك هذا ألجين، الجرثومة،  السر الغامض الذي تحرص على ديمومته؟
ـ أرجوك، فلا يحق لك إثارة مثل هذا الشك، فانا لم أصرح أبدا ً بكلمة لا تدل على معناها...؟
    وهز البروفسور رأسه:
ـ نعم، وأنا لم اقل أن الأسد آثم لأنه لم يصبح إلا أسدا ً، بالعدوان...، أنا قلت إنها برمجة تؤدي دورها لأنها واعية بما هو ابعد من هذا الوعي! فلا احد باستطاعته وضع حد للعدالة؟
ـ تقصد: لطيفها، يا كبير علماؤنا...؟
ـ لا! العدالة ذاتها وإلا ما معنى أن نستبدلها بطيف؟
اقترب المحقق الأول منه وصرخ:
ـ انك تستحق المحو!
فقال المحقق الثاني:
ـ هذا يكفي لإرساله إلى المحرقة، فهو يدعو إلى عدالة بين النمر والغزال...، بين الغراب والصقر...، بين الضفدعة وزعيمنا الخالد؟
صرخ البروفسور:
ـ متى زل لساني بهذه الموبقات...؟ ومتى روجت لها....؟
رد الثالث:
ـ أنت تحدثت كفاية عن وجود جرثومة لا تسمح للأسد إلا أن يكون أسدا ً، والأمر لا يختلف عن الخنزير، أو العصفور...؟
ـ مثلما قلت أن الأقوى يستمد قوته من الضعفاء!
ـ هذا يؤكد وجهة النظر القائلة بان الملكية ما هي إلا حصل جمع الاغتصابات؟
ـ اخبروني...، كيف يحدث هذا التراكم....؟ أنا أقول لكم: انه يحدث للبرهنة على انه سيزول...، والعدالة، هنا، وحدها تنصف الجميع!
ـ أين ذهبت...؟ لأن ما نطقت به يرسلك إلى ابعد من الحرق..، وابعد من تحولك إلى رماد! فلا أمل لك حتى برد الاعتبار!
ـ سيدي، عندما استولى الأعداء على مصائرنا،  استثمروا قانون الأقوى وشذبوه...، فصاروا يتحدثون عن العدالة كحديثهم عن الفردوس ...، وهكذا نسجوا نظرية المؤامرة وكأنها سابقة في وجودها على وجودهم، ووجودنا.
ـ دعك من البشر الأشرار...، لأن لعبتهم تثير الغثيان، سمجة، خسيسة، فاسدة، محشوة بالجذام، والنذلات، ومكتظة بجرثومة عبادة المال، ومظاهر الفخامة، ودناءات داء العظمة...، لأنها قائمة على التمويهات، والخداع، وغسل العقول، ولا يمكن في نهاية المطاف إصلاحها...، فدعنا نتكلم في حدود حديقتنا، الغناء، المزدهرة، دائمة الاخضرار، حيث الغزال يتمتع بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها الذئب، والبلبل يغرد متى شاء مثل رفيقنا الحمار ينهق على مدار الساعة...، وهذه ليست دعابة، أو دعاية، نفاق، أو ترضية، أو خذلان، كي لا أرسل إلى المحرقة، بل لأن القضية برمتها لا تقبل الدحض!
ـ ها أنت تؤكد بوجود هذا ألجين، الجرثومة المشفرة بالأسرار، التي لا تسمح للمستقبل إلا أن يقع في قاع ماضيه...؟
ـ فسر لي، لو سمحت، يا سعادة المحقق، ما الذي أبقانا نرفع شعار: تقدم خطوة وتراجع ثلاث خطوات، كي نختزل الزمن، أو نحرق مراحله...؟
، نحن نسألك...، وليس أنت من يسأل...؟
ـ أنا لم ادع إنني آت من كوكب آخر...، ولا خرجت من النهر، ولا ولدت من غير ولادة،  ولم ادع إنني امتلك السر، كما لم أروج له...، بل أنا هو واحد من هؤلاء  الذين سكنتهم هذه الآفات!
ـ تقول إنها آفات وليس مؤامرات، ونذلات، وانعدام حياء...؟
ـ لا ...، لا توجد مؤامرة، مادام الجميع يؤكدون إن العمل بها يساوي العمل ضدها! فمادمنا جميعا ً، بدءا ً بالنمر إلى الذبابة، ومن الكركدن إلى البرغوث، ومن التماسيح إلى البعوض، ومن الفيلة إلى الضفادع، ومن النسور إلى الحشرات الضوئية، ومن الديناصورات إلى المنقرضات المستقبلية....، ستموت، أي ستهلك، فما معنى لو حددنا موقع هذا الشبح العنيد الذي أبقانا، نتنعم، بالضوء الكامن في الظلمات، ونحيا كأننا نجونا من جحيم المحرقة، ومن رمادها، ومن كل عقاب محتمل بعد ذلك..؟
    ابتسم كبير المحققين:
ـ لِم َ لا نخرج في نزهة...
ـ آ ...، عند ضفاف البركة، تحت ظلال أشجار الليمون، خلف زرائب الثيران، وحظائر المجترات ...، ما أمتعها!
   ووجد البروفسور انه لم يعد لديه ما يتستر عليه، أو يخفيه، ليس لأن الغاطس بلا نهايات، بل لأن العلاقة بينهما عفي عليها الزمن، فعبور كل ثانية من ثواني الزمن ـ مهما كان موقعها في التسلسل ـ تنتج نسجا ً مغايرا ً للنساج، ثم إن المغزل لا يدور بالأصابع من غير الغزل...، فقال:
ـ ها أنا ابلغ الذروة الحرجة...، فلم يعد لدي ّما أبوح به. ليس لعدم وجود ما يقال، بل لأنني لو فعلت فسأكون كمن أصبت بالاضطراب...!
   صمت لحظة وأردف:
ـ فكل ما يدور في رؤوس النمل، أو القمل، أو البرغوث، أو الصراصير، أو النعام، أو الكلاب، أو الغربان، أو النمور....الخ، مدوّن لدينا! بل لقد سبق أن استحدثنا آليات لا تتنبأ بما سيقع فحسب، بل تتحكم بما سيقع بنسبة تجاوزت ما كنا حتى نحلم به!
فسأله كبير المحققين:
ـ عند من ...؟
ـ الم ْ أكن أنا هو من اشتغل بقراءة خلايا حفظ ديمومة هذا الذي عمل على هزيمة مفهوم الاندثار....، وتفكيك بناءات الساكن بساكن متحرك فعّال كي ّ يحافظ على أنساقه المهددة بالاستبدال، والاستحداث...؟
ـ نعم، أعرف!
ـ وهذا يعني تماما ًأن هناك ذلك الجزء الصريح، بل والمباشر، الذي لا يدع المستقبل يتحرك بأسرع من زحف الماضي نحوه...؟ فالمستقبل، سيدي، كرثة!
ـ غريب....، أستاذ أعظم مثلك يهاجم الغد...، ويفند آمال هذه الكائنات التواقة للذي لم تره، ولم تسمع به، ولم تلمسه، وتتذوقه، وتستنشقه، وتحدسه، وتدشنه....، أستاذ أعظم يفند تطلعنا للذي لم يكتشف بعد...، ويقف مع من يضع العثرات...؟
ـ سيدي الكبير: أتقصد عمل ذبذبات الخلايا ...، أم محركاتها، بانتظار صدمات غير متوقعه مادامت النهايات بحكم المدوّنة قبل تخطيها مسافات العبور...؟
ـ وماذا سيحدث ...؟
    صمت. آ ......، متمتا ً: لرائحة الشمس وهي تتجمد...، وسكت، لينطق بمرح: فانا ما أزال أصغي إلى صدى أقدام الغزلان تهرول في البرية....، وصدى أصوات البلابل تغرد رغم نعيب الغربان ووصوصة الدواجن وفحيح الأفاعي..!
   قال كبير المحققين:
ـ لا يحدث شيئا ً البتة! لأن هذا اللاشيء المبجل وحده المسؤول عن هذه الجرثومة، هذا اللغز الكامن في أقاصي أدمغتنا العنيدة!
ـ أكاد اجن...، تارة تتحدث عن الفراغ الوسيط بين المقدمات ونهاياتها، وتارة تتحدث عن اللا نهايات وقد شملت مقدماتها، وتارة أخرى تتحدث عن أصداء أقدام الغزلان....؟
ـ أوووووه ...، تريث، أغلق فمك، امح هذا الذي لوث عقلك الجميل...، وصر كأنك لم تولد، كأنك لم تمت، ولن تموت...، صر...، مثلي: ذراع تمتد إلى ما قبل الفجر...، وذراع تذهب ابعد من الغروب...، وتجمد، فانا لا اعبد إلا هذا الذي لا يتزحزح!
ـ عدنا إلى الحفرة؟
ـ نحن...، سيدي، لم نغادرها!
ـ لا اقصد هذه الحفرة في هذه الحديقة...
ـ سيدي، طلبت منك ـ والآن اكرر طلبي ـ أن نعمل على إعادة بناء هذه الخلايا...، وتجاهل،  أو إهمال، أو إغفال وجود ذلك الجزء اللعين ...، أو تركه يعمل ضد العمل، تركه ساكنا ً، وفيا ً للذي سيأتي بعد هذه الحقبة من الزمن.....، كالذي مكث أمينا ً على القفل، فلم يترك يدا ً إلا وحجب عنها المفتاح،  فها أنا أدلي بشهادتي وقد أصبحت طليقا ً شفافا ًخارج المراقبة وقوانين الاضطراب وضرباتها القاصمة...، وكأنني أنا هو لغز البذرة وسرها...!
   وسكت، وامتد صمته. فاقتربوا منه، تأملوه، لمسوه عن بعد، استنشقوه، وانشغلوا بمراقبه باثاته، ومديات الموجات اللا مرئية الصادرة عنه، والمجاورة له، ليخاطبه الأول:
ـ  البذرة تفعل ذلك لا إراديا ًبالتناسق مع نظام قهر المتغيرات اللا متوقعة.
وأضاف الرابع بفزع:
ـ أخشى إننا لم نستكمل انتزاع ما تبقى من المخفيات، وانه تمكن من تشفيرها بتمويهها بخلايا قيد الاستحداث، والتكّون...؟
أجاب الأول:
ـ سيدي، ليس لديه، وليس لدينا، ما يمكن التستر عليه!
ـ ماذا قلت..؟
ـ سيدي، يبدو انك بحاجة إلى جلسة!
ـ آسف، آسف، آسف....، فهمت!
ـ دعك من الأسف...، ليس لأن الأخطاء تعدل مساراتها آليا ً، وليس لأن المسارات لا ترتكب الأخطاء، وليس لأن الصواب يذهب ابعد من متاهاته، وليس لأن المتاهات تعمل بعشوائية...، بل لأن ما كنا نبحث عنه شغلنا حتى لم نعد نفكر بالبحث عنه!
ـ آ ......، أنا لن افتح فمي! ولن ابحث في خلايا رأسي عن هذا ألجين الشارد العنيد، ولن ....
   وسكت كبير المحققين. فقال المحقق الأول:
ـ كان البروفسور على حق، بل كثيرا ً ما نبهنا عن تمويهات ضفاف اليقين، واستبعاد الشبهات...!
هز المحقق الثاني رأسه:
ـ فهو، أيها السادة، نبهنا إلى أن الغفلة، لا تحدث، إلا عندما نعتقد إننا تجاهلنها لحظة بعد تسترها  وسكنها وتواريها في المخفيات، وعبر مظاهرها الخداعة، فكاد الحق يندمج بظله، ويذهب الظل ممتزجا ً بالضلال، وكاد الوهم أن يتلبس أركان اليقين ونسيجه!
أجاب المحقق الثالث:
ـ طالما كان البروفسور يردد: لا تسرعوا..، لا تسرعوا، لا تسرعوا ... بمعنى: لا تسرعوا  فالذروة قادمة حتى لو كان خط شروعها لم يبدأ بعد.
     أفاق البروفسور، حدق في الوجوه، ثم تمتم بصوت ناعم:
ـ آمل إنكم، أيها السادة، لم تغفلوا تدوين ما مر علي ّ أثناء فترات الصمت، وعبر لحظات  الفراغ، فثمة بالفعل هناك هذا الذي يصعب انتزاعه من مناطقه المجهولة الكامنة بعيدا ً ووراء كل حدود، وخارج مدى الحافات.
     اقترب المحقق الثالث منه كثيرا ً وهمس في إذنه:
ـ لا تهذي! فلو دوّنا ما رأيته، وما مر بخلايا دماغك، وانتشر في جسدك، وما تحول إلى بلورات، وأطياف، ورذاذ أثير ....، لتحتم علينا الإسراع، أسرع فأسرع من كل ما نمتلك من قدرات، وقوى، ونوايا ....، لبلوغ الذروة، بله معانقتها!
   هز البروفسور رأسه: اجل... أجل، إذا ً أنا لم اخف عليكم حتى الذي كنت اجهله، لأن القضاء على هذا ألجين، أي هذا الداء، يعني، يا سادتي الكرام، القضاء علينا!
29/9/2016
Az4445363@gmail.com

الأحد، 2 أكتوبر 2016

قصص بغدادية العراق من خلال عيون الأطفال والجنود-بقلم أنا بيلغر ترجمة يوسف حجازي

قصص بغدادية
العراق من خلال عيون الأطفال والجنود
بقلم أنا بيلغر
ترجمة يوسف حجازي





من تصوير إبراهيم




وزع الصحفي الألماني فيليب أبرش أكثر من مائة كاميرا على أطفال وشباب وجنود أمريكيين في العراق ليلتقطوا مشاهد من حياتهم اليومية. الصور الفوتوغرافية تعرض حاليا في ألمانيا وفي الشرق الأوسط قريبا

تجمهروا أمام دبابة، خلف أسلاك شائكة وبالقرب من جنديين أمريكيين. الفتية العراقيون يبتسمون بنوع من الاستياء ويتخذون أوضاعاً مختلفةً أمام كاميرا سيف إبراهيم، البغدادي البالغ من العمر عشرة سنوات. سيف ابراهيم ومائة طفل وفتى آخرون من العاصمة العراقية تتراوح أعمارهم ما بين 10 إلى 16 عاما أصبحوا مصوري ما بعد الحرب.

بصورهم يوثّقون حياتهم اليومية بعد صدام ومع الجنود الأمريكيين، يعرضون الأنقاض والركام. ولكنهم يُظِهرون أيضاً بعض الفتيات الصغيرات اللواتي يستعرضن أثوابهن، أو فتياناً يلعبون كرة القدم في ساحة رملية مسيجة بشجر النخيل. هذه الصور تعبر عن أكثر ما يتمنوه جميعهم - السلام والاستقرار.

من خلال عيون أخرى

يريد فيليب أبرش أن يلتقط بواسطة هذه الصور نظرة اولئك الذين غالباً ما يكونون أشد المتضررين في الحروب. ويقوم هذا الصحفي من برلين بمشاريع تصوير مع أطفال وفتية في مناطق النزاعات بشكل رئيسي.

ففي العراق قام بتوزيع 170 كاميرا مخصصة للاستخدام لمرة واحدة على فتيات وفتية عراقيين وعلى عدد من الجنود الأمريكيين الشباب. ويقول الصحفي البالغ من العمر 28 عاما: "طلبت منهم أن يصوروا ما هو مهم بالنسبة لهم وما يريدون إظهاره للآخرين"، كما وأن "الصور تجعل التفاهم أمراً ممكناً بالرغم من كل العوائق اللغوية."

نشأت فكرة تقديم الحرب من زاوية نظر أخرى عندما كان فيليب أبرش جنديا. إذ عمل أثناء خدمة الاحتياط كمراسل لإذاعة الجيش الألماني عام 1997 في البلقان، وشاهد للمرة الأولى الأبنية المدمرة وحقول الألغام. هذه الانطباعات لابثته منذ ذلك الحين. فبدأ بعد عامين مشروعه الأول للتصوير مع أطفال ألبانيين وصربيين في الكوسوفو. معرض الصور "من خلال عيون أخرى" عرض في كل من الكوسوفو وألمانيا وفي مهرجان فن التصوير "فوتو – بيناله" لعام 2000 في روتردام.

خطرت للصحفي الشاب فكرة المشروع التالي أثناء إحدى رحلاته بالقطار. طرح على نفسه السؤال التالي: ما الذي يحدث في يوم معين في مكان آخر ما؟ عمل أبرش على إنجاز لقطة فوتوغرافية للعالم من منظور الأطفال، وذلك بالاشتراك مع المؤسسة الألمانية للتعاون التقني، حيث ضغط 500 طفلاً في 43 دولة على زر الكاميرا في 30 نيسان 2002. أجمل الصور التي التقطت في هذا اليوم تعرض في المعرض الجوال الذي يحمل العنوان "تخيّل أن صورك ستفتح لي عيني" "
Imagine - your photos will open my eyes" والذي سيعرض هذا العام في أكثر من 30 دولة.

قصص صغيرة هامة

وزع فيليب أبرش على الفتيان والجنود مع كل كاميرا أيضا ورقة استفتاء، ليتسنى من خلال الإجابات على الأسئلة إيضاح زوايا النظر المختلفة. على سبيل المثال يطرح السؤال التالي: "هل تعتقد أنه بإمكانك أن تغير شيئاً في العراق؟ " أحد الجنود يجيب: " نعم، إذا سمح لنا العراقيون بذلك ." أحد الفتية العراقيون يعتقد أيضاً بإمكانية التغيير ويشرح ذلك بقوله: " لأن صدام قد ذهب. ولكننا سنكون أيضاً مسرورين فيما لو رحل الأمريكان عما قريب."

هذه المنظورات المختلفة للحياة اليومية في بغداد يقدمها أبرش مع بعضها البعض في معرض "قصص بغدادية" "
Baghdad Stories" ، الذي يعرض حالياً في مدينة كاسل (Kassel) وعما قريب أيضاً في مدن ألمانية أخرى وفي الشرق الأوسط.

فيليب أبرش مسرور من تمكنه عبر عمله واهتمامه هذا من أن يروي لشرائح عريضة من الناس هذه القصص الصغيرة، العفوية والهامة من العراق (قصص بغدادية).

يجمع فيليب أبرش التبرعات لبناء مدرسة في بغداد بالإشتراك مع منظمة"
Architects For People In Need" "مهندسون معماريون لمساعدة الشعوب المحتاجة".

ـــــ

فرقة جهجوكة: مزيج من الصوفية والوثنية- أريان فاريبورز ترجمة عبد اللطيف شعيب

فرقة جهجوكة:
مزيج من الصوفية والوثنية

أريان فاريبورز
ترجمة عبد اللطيف شعيب



الفرقة التقليدية جهجوكة لا توجد فرقة موسيقية في العالم الإسلامي لها تاريخ غني بالتقاليد الموسيقية مثل الفرقة المغربية المسماة جهجوكة، ومع ذلك فإن الحضارة المعاصرة والتطور الاجتماعي ألقيا بالظلال عليها. تقرير أريان فريبورز.

تقع قرية جهجوكة الصغيرة والتي يبلغ عدد سكانها حوالي خمسمائة نسمة على أطراف جبال الرّيف في شمال المغرب، وجدران بيوتها مطلية باللون الأبيض وأبوابها ونوافذها مدهونة باللون الأزرق. وفي القرية طريق وعر يمر فوق تلة يؤدي إلى مسجد القرية والمدرسة ويكثر على جانبيه شجيرات الصبار والأحجار الصخرية.

لسنا بصدد قرية من القرى المألوفة، إذ أن جهجوكة أنجبت فرقة موسيقية ممتازة، يعود أسلافها إلى القرن التاسع والعاشر الميلادي، وهم قد جاءوا من ايران وما زالوا حتى اليوم مشهورين بموسيقاهم الساحرة والشافية.

أسطورة سيدي أحمد الشيخ

ينتشر بين سكان القرية الصغيرة العديد من الأساطير والخرافات، خاصة أسطورة أحد الأولياء المسمى بسيدي أحمد الشيخ، وهو من وضع الحجر الأساس لهذه القرية وجاء بالإسلام إليها. ليس هذا فحسب، بل إن سيدي أحمد الشيخ يعد من كبار الفلاسفة والشعراء الموهوبين أيضاً. فكان أول من مزج الموسيقى في فنه الشعري وأدخلها إلى القرية.

في القرن السابع عشر الميلادي أنشد مغنيوا جهجوكة قصائدهم الدينية في بلاط السلاطنة العلويين في المغرب، وعاشوا قي قصور الحكام المسلمين وعزفوا وأنشدوا بانتظام في المناسبات.

وفن العزف عند فرقة جهجوكة مرتبط بالصوفية والوثنية. وكانوا يعزفون على الطبول والرق والناي والمزمار والقيثارة. وعلى مدى ساعات من الترنيمات المتتالية تتحول الموسيقى إلى غناء، ويصبح المغني والجمهور في حالة غيبوبة. ويشهد سكان القرية وعشاق الموسيقى بالقدرة السحرية والأثر العلاجى لهذه الموسيقى.

وقد شاعت قدرة الموسيقى على العلاج في القرى المجاورة، لدرجة أن كثيرا من الناس يحّجون إلى جهجوكة سواء كانوا يعانون من شلل أو مرض نفسي أو عقم، ويأملون في الشفاء العاجل بالايقاعات الصوفية وبـ"بركة" سيدي أحمد شيخ.

بوجلود – أبو الرّعب

ليست الألحان الروحية والعلاجية هي من خصائص موسيقى الجهجوكة فقط، بل نجد أن للموسيقيين أهمية كبرى في العادات الريفية والوثنية والرقصات الصاخبة. وأهم شخصية هنا هو الإله الماعز بوجلود، ويسمى أيضا "أبو الرعب".

وبوجلود ما هو إلا إله يشبه "إله الماعز بام" عند الرومان، وهو رمز للخصوبة والإنجاب عند أهل القرية. وتصبح النساء قادرة على الإنجاب إذا لمسها بوجلود بعصاته أثناء الرقص.

وتشعل النيران في ساحة القرية مرة كل عام في نهاية شهر رمضان تكريما لـ "بوجلود" ، وتبدأ الفرقة في العزف ، والكل ينتظر بشغف مجيء "الإله الماعز".

وفجأة يظهر في شكل مخيف مرعب مرتديا جلد ماعز وقبعة من القش ووجهه مطلي بالسواد. ويمسك "بوجلود" بغصنين من الزيتون ويلوح بهما في الهواء ويبدأ في التمايل مع الإيقاعات الموسيقية.

مقابلات مع جيل البيت

لقد أثرت فرقة جهجوكة بموسيقاها على الفنانين الغربيين وخاصة الأميركيين في العقود الماضية. ومن الممكن أن نقرأ أسماء الذين ذهبوا إلى جهجوكة بحثاً عن الإلهام الروحي والموسيقي، فنجد أسماء الباحثين عن ثقافة البوب والأدباء والمتنقلين بين البلاد، بدءً من شعراء البيت الذين يعيشون في طنجة أمثال براين غيسن Brion Gysin ووليام س بوروز William S. Burroughs وباول بولس Paul Bowles حتى عازف الإيقاع برين جونس Brian Jones من فرقة رولنغ ستون Rolling Stones ورائد موسيقى الجاز الحرة أورنيت كولمان Ornette Coleman.

وفي الأربعينيات كان قائد وفنان فرقة جهجوكة هو المغربي المشهور محمد حمري وكان همزة الوصل بين الغرب وبين جهجوكة، وكان أيضا هو الفنان المغربي الوحيد الذي كان على صلة بـ بوروز وغيسن من وقت لآخر.

وبسبب المجاعة التي انتشرت في الأربعينيات في جهجوكة والقرى المحيطة بها في منطقة جبال الريف اقترح حمري أن يجعل هذه الموسيقى الرائعة متاحة لجمهور أكبر وأن تعزف في الميادين العامة بالمدن الكبيرة لكسب المال ومن ثم مكافحة الفقر في القرية.

ألف ليلة وليلة في طنجة

وعقب ذلك تعرف حمري في طنجة على كل من باول بولس وبراين غيسن اللذين اكتشفا موهبته الفنية العالية وشجعوها. وقام حمري باصطحابهما عام 1950 لأول مرة إلى جهجوكة، حيث شاهدا الفرقة. وكان براين غيسن منبهرا لدرجة أنه قال: "تلك هى الموسيقى التي أود أن أسمعها بقية حياتي".

ومن أجل دعم القرية ورفع المستوى المادي لسكانها ولدت فكرة إنشاء مطعم ألف ليلة وليلة في قصبة طنجة عام 1952، حيث تعزف الموسيقى.

وحسبما كتب الناقد الموسيقي جو أمبروز Joe Ambrose في تقريره فإن حمري كان مختصا بالمطبخ وخدمة الزبائن، بينما كان براين غيسن يتولى جلب الصفوة من الزبائن أمثال البوهيميين وموظفي السفارات والدبلوماسيين، كما كان مسؤولا عن تهيئة الجو العام.

وكان الموسيقيون يتعاقبون على العمل في مجموعات صغيرة، فكانت المجموعة مكونة من ست أشخاص تأتي لمدة أسبوع ثم تعود إلى القرية بالنقود التي اكتسبتها وتبعث المجموعة الأخرى. أما نساء جهجوكة فكن يقمن بأعمال المطبخ والقيام بالنظافة.

وإلى جانب المشاهير المحليين كانت زبائن ألف ليلة وليلة من رواد الثقافة المتأثرة بالغرب أمثال تيموثي ليري Timothy Leary والمتخصص في أدب البيت وليام بوروز الذي كان يقدر فرقة جهجوكة كل تقدير وأطلق عليهم ذات مرة لقب فرقة "روك آند رول البالغة من العمر أربعة آلاف سنة".

تجارب موسيقية مع موسيقيين من الغرب

وتعتبر زيارة براين جونس لفرقة جهجوكة في الستينات بداية للرحلات التي يقوم بها الموسيقيون الغربيون حتى اليوم إلى جهجوكة. وقد قامت "فرقة جهجوكة" عام 1968 بحفل موسيقي من نوع خاص لـ براين جونس، وقد سجلت الحفلة وظهرت كألبوم تحت عنوان "برين جونس يقابل موسيقي جهجوكة" ، وهو يعتبر من الألبومات الأولى للموسيقى التجريبية العالمية.

وفي يناير/كانون الثاني 1973 تبعه رائد موسيقى الجاز الحرة أورنيت كولمان وشجعه على السفر إلى المغرب روبرت بالمر الناقد الموسيقي، الذي كان قد زار جهجوكة من قبل. وكان كولمان يختلف عن براين جونس – الذي لم يقم إلا بالتسجيل لفرقة جهجوكة – حيث أراد أن يعزف معهم، ولكن الربط بين نوعين مختلفين من الموسيقى كان أصعب مما كان يتصور.

ولم يسمح نظام عزف الفرقة المغربية ذو الصبغة الدينية أن يتكيف بسهولة مع عزف كولمان الارتجالي الصعب. ويقال إن كولمان استطاع تأليف موسيقى تتناسب مع الجانبين، ولكنه لم يستطع نشرها لأن شركة الاسطوانات طردته قبل أن ينتهي من إنتاج ألبوم جهجوكة بوقت قليل.

وما شاهده أورنيت كولمان في جهجوكة كان له أثر على موسيقاه لمدة طويلة، وبفضل خبرته استطاع رائد موسيقى الجاز الحرة تكوين فرقة عازفي الغيتار الموسيقية "برايم تايم"، التي ظل مشهورا بها على مدى أعوام طويلة.

الإتّجار والتحول الموسيقي

وقد تغير وضع فرقة جهجوكة بطريقة مأساوية وعلى وجه الخصوص في العقدين الأخيرين، ذلك لأن الظروف الاقتصادية لم تعد تسمح لأحد أن يجعل حياته وقفا على الموسيقى؟ وأصبحت لحياة التقليدية في جهجوكة تتلاشى باطراد، حتى أن كثيراً من الموسيقيين قد ترك القرية بحثاً عن كسب العيش وطرق الحياة الحديثة.

ولم تكن التقلبات الإجتماعية وحدها هي التي أدت إلى انهيار فن الموسيقى التقليدي للفرقة، بل أيضا وفاة قائد الفرقة الوحيد الحاج عبد السلام عطار. وبعدها طالب ابنه بشير عطار لنفسه بحق قيادة الفرقة.

وطبقا لما كتبه الناقد الموسيقي أمبروز في تقريره فإن بشير عطار ذهب إلى فرقة جهجوكة في القرية وقال لهم إن والده كان قائدا للفرقة وأنه سوف يتقلد هذه الوظيفة من الآن، وأن عليهم شراء بعض الآلات الالكترونية لإدخالها في الموسيقى حتى تصبح تجارية بدرجة أكبر.

وكان صغيرا في السن آنذاك، وعلى ما أعتقد كان في بداية العشرين. أما الموسيقيون الذين اشترك منهم الكثير في ألبوم براين جونس فسخروا منه وقالوا له:

"من الممكن أن تصبح قائد الفرقة عندما يأتي دورك، ولكنك ما زلت صغيرا، ولن تحظ بالقيادة لأنها كانت مع والدك، وعلاوة على ذلك فإن هذه الآلات الحديثة ما هي إلا هراء."

مشروعات موسيقى عالمية غريبة

وبالفعل ذهب بشير عطار بطموحاته ليربط موسيقى جهجوكة مع اسمه وينشرها في جميع أنحاء العالم. وتعاون مع كبار نجوم موسيقى البوب الغربيين، وقدم تنازلات لدرجة أنه لم يبق إلا القليل من أصل موسيقى فرقة جهجوكة التقليدية.

وعلى العكس تماما من حمري لم ينفق أبدا بشير عطار من الدخول المكتسبة عن طريق الاتجار بفرقة جهجوكة على القرية وسكانها. كما أنه بدأ في تجنيد موسيقيين – ليست بينهم وبين جهجوكة أية صلة بهذا الخصوص - من المدن المجاورة مثل قصر الكبير وطنجة.

ويفتقد آخر ألبوم سجله عطار بعنوان "موسيقى جهجوكة تقدم بشير عطار" - بالتعاون مع دي جي تلوين سنغ - كل المعاني الموسيقية الجميلة لتقاليد فرقة جهجوكة التقليدية.

وأنتج عطار أعمالا أخرى بالتعاون مع عازف الساكسوفن ماكيو باركر Maceo Parker وفريق رولنغ ستون Rolling Stones ، وكانت مشاريع موسيقية كبيرة لا تمت لموسيقى جهجوكة بأية صلة.

ومع ذلك فلم يكن كل الموسيقين في جهجوكة راضين عن طريقة بشير عطار في الإتجار بالموسيقى الدينية والروحية، ولم يسلكوا طريقه لأنه عين نفسه قائدا لفرقة جهجوكة في الصفقات التجارية الموسيقية.

أما المعارضون لبشير عطار فقد كوّنوا فرقة ترتبط مشاعرها بفرقة جهجوكة التقليدية التي أسسها حمري. وهم يعزفون ألحانا موسيقية لها قالب يختلف عما كان قبل عشرين عاما، ولكنها لا تتناسب مع متطلبات نجوم الموسيقى والمنتجين التجاريين.

وبهذا يتواجد اليوم فرقتين تحت اسم "جهجوكة"، إلا أنهم لا يريدون التعاون فيما بينهما. كما أن حدة توتر العلاقة بين الفرقتين تلحق الضرر بجو التعايش في القرية لأن حدود الفرقتين ضائعة بين الإخوة وأولاد الأعمام.

ويعد انقسام فرقة "جهجوكة" حدثا مؤلما، ومثال ذلك يمكن أن يقع إذا دخل العالم الثالث في مجال صناعة الموسيقى. ومع ذلك فقد بقي في جهجوكة نوع من الثقافة الموسيقية العريقة جدا التي تعد فريدة من نوعها بكل المعاني، وهي موسيقى تجذب باستمرار خيال الفنانين والمتجولين بين البلاد بحثا عن التجربة والخلاص عن طريق القوى السحرية القديمة.


السبت، 1 أكتوبر 2016

حوار مع الشاعر السوري شوقي بغدادي- أجرت المقابلة: عفراء محمد


حوار مع الشاعر السوري شوقي بغدادي
"مطلوب تواصل حضاري من دون دونية أو فوقية"

أجرت المقابلة: عفراء محمد


يرى الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي أن الرؤية الإسلامية المنفتحة تجاه العالم لم تعد موجودة، وأن العقل العربي أغلق نوافذه واكتفى بذاته، كما يرى أن المسلمين هم من أخطأوا بحق أنفسهم وحرموا من الديمقراطية من خلال تعويلهم على الأنظمة المركزية. عفراء محمد حاورت شوقي بغدادي في دمشق.


هل يمكن الحديث عن ثقافة عربية رغم وجود 22 دولة ضمن الجامعة العربية لكل منها حالته الخاصة؟


Bild vergrössern"توقف الإبداع في الثقافة العربية يأتي في سياق صدمة الحضارة الحديثة وانبهارنا بالحضارة الغربية وعدم قدرتنا على مسايرتها"




شوقي بغدادي: مما لا شك فيه أن الفروق الثقافية كبيرة بين بلد وآخر إذا نظرنا إلى حصيلة إنتاج عناصر الثقافة المحلية من كتب وأفلام ومسرحيات. أما إذا نظرنا إلى الثقافة بشكل أشمل على أساس أنها سبل المعرفة البشرية باختلافها سواء أكانت كتابية أو شفهية أو ممارسة، يمكن الحديث عن ثقافة واحدة رغم أنها لا تسر الناظر إليها لتوقفها عن الإبداع منذ فترة طويلة.

وعلى ضوء هذه النظرة يدخل في سياق الثقافة التقاليد والعادات وطقوس الزواج والأعياد ووضع المرأة في المجتمعات، إضافة إلى المعتقدات الدينية والسياسية. وعلى ذكر توقف الإبداع في الثقافة العربية فإن ما زاد الطين بلة هو صدمة الحضارة الحديثة وانبهارنا بالحضارة الغربية وعدم قدرتنا على مسايرتها ومواجهتها بسبب اختلاف الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الذي جعلنا متفرجين ومتأثرين ومستوردين. والصورة الحقيقية للثقافة العربية تتمثل في أن هناك تشابه ووحدة بين 22 دولة ولكن من خلال علاقتها بالغرب وابتعادها عن بعضها.


ارتبطت الثقافة العربية سابقاً بالمضمون الحضاري الإسلامي، الذي حرّرها من اشتراط العرق أو الأصل القبلي أو الإثني، وجعلها ثقافة حاضنة واستيعابية لثقافات محلية وغريبة تنتمي إلى أعراق وأديان مختلفة. ماذا بقي من هذا الدور في أيامنا هذه؟

بغدادي: لم يبقى من هذا الدور شيء، الآن نحن مسلمون ونمارس الطقوس الإسلامية شكلاً، أما المحتوى الفكري والأخلاقي العميق للإسلام فقد ابتعد عنا. نحن نعيش حالياً حالة تمزق، فهناك متشددون ومتطرفون مما يجعل الآخرين ينظرون إلينا بشكل من الخوف. وربما لم يكن أحداً من المسلمين يريد أن تكون هذه الحالة موجودة ولكنها وجدت لأسباب خارجة عن الإرادة مثلاً النقمة على الاستعمار وتحولها إلى تعصب أحيانا، كما أن النضال التحرري تحول شيئاً فشيئاً إلى تطرف ديني.

وكردود فعل حضارية وجدت حالة من اليأس بسبب استيقاظ العرب والمسلمين على حاضر بائس في حين كانوا في ماضٍ عظيم، وهو ما يعود إلى عجزهم عن النهوض واللحاق بركب الحضارة، خاصة أنهم قاموا بإلقاء اللوم على الآخر بسبب تأخرهم. صحيح أن العوامل الخارجية لعبت دوراً في تخلف العالم الإسلامي، لكن هناك عوامل داخلية ساهمت أكثر من غيرها في تخلف العالم العربي كغياب الحرية والديمقراطية.



"صحيح أن العوامل الخارجية لعبت دوراً في تخلف العالم الإسلامي، لكن هناك عوامل داخلية ساهمت أكثر من غيرها في تخلف العالم العربي كغياب الحرية والديمقراطية" ما هي الأسباب التي تحول برأيك دون الانتماء إلى ثقافة واحدة مشتركة تحتضن مختلف الأقليات كما كان هو الحال على امتداد القرون الماضية؟

بغدادي: السبب هو فقدان الرؤية الإسلامية الأولى، التي كانت رؤية منفتحة أغنت الثقافة بعناصر جديدة أخذتها من الرومان واليونان والفرس بحيث شعر الجميع بانتمائهم إليها. هذه الطريقة في رؤية العالم والتعامل مع الآخر توقفت تقريباً مع قدوم الاحتلال والاستعمار والكفاح الوطني. وهو الأمر الذي جعل ردود الفعل تصبغ هذه العلاقة بحالة استفزازية غير طبيعية، فمن يقبل على الحضارة الغربية يتهم بالخيانة ومن يمتنع عنها يتسم بالتخلف ولذلك لم يكن سهلاً اتخاذ موقف حول ما يجري في العالم.


لكن هناك من يقول إن المشكلة تكمن في غياب الاجتهاد والتسليم بمعتقدات ومفاهيم غيبية منتشرة في العالم الإسلامي؟

بغدادي: العقل العربي أغلقت نوافذه وأبوابه واكتفى بذاته بسبب اعتقاده أن ظاهرة التقدم البشري هي ظاهرة ذاتية، في حين إنه لا يوجد في العالم من الصين إلى اليابان ظاهرة تقدم أبدعت وتفتحت وأنتجت إلا من خلال عراكها بين أخذ ورد بعيدا عن الاستفزاز والرفض. فاليابان مثلا استفادت من الغرب كثيراً، والآن يقوم الغرب بالاستفادة منها، وهذه هي الرؤيا المنفتحة على الآخر دون اتخاذ موقف العداوة منه.


يعتقد الكثيرون، حتى في العالم العربي نفسه، أن الثقافة العربية لا تستوعب القيم الديمقراطية بسبب طابعها الإسلامي. هل تتفق مع هذه المقولة؟

بغدادي: المشكلة هي في التاريخ الإسلامي، فالرسول لم يكاد يؤسس للدولة حتى وافته المنية وترك الناس في حالة ارتباك كبيرة. ما نوع النظام أو السلطة التي ستنشأ بعد ذهاب صاحب الرسالة. الرسول ترك للأمة القرآن وبعض الأحاديث التي اختلف المسلمون على تفسيرها. نستطيع القول إن الاتصال الديني والاجتماعي والسياسي للإسلام اثر إلى حد بعيد في حيرة المسلمين وظنهم بأن المرجع الديني الوحيد، أي الرسول، يجب أن يبقى المرجع الوحيد. وهذا أكبر خطأ لأن الرسول توفي والناس الذين تركهم متساويين وهذا ما يفسر قوله: " تركت الأمر شورى بينكم" بمعنى إن " شورى " تفسر المسلمين بكاملهم وليس ستة أو عشرة أشخاص. لكن المسلمين أساءوا الظن وما يزالوا يعتقدون إن النظام التالي شبيه بالنظام الذي كان موجود على أيام الرسول أي نظام العودة إلى مرجعية مركزية واحدة.


ولكن لماذا قطعت معظم المجتمعات في عالم اليوم شوطاً أبعد في الحياة الديمقراطية من الشوط الذي قطعته الدول العربية حتى الآن؟


Bild vergrössernيرى شوقي أن غياب الديمقراطية في المجتمعات العربية أثر بشكل كبير على مسيرة تقدمها بغدادي : هذا يعود إلى علاقة تلك المجتمعات بالغرب، مصر على سبيل المثال أتيح لها مبكراً أن تتخلص من الحكم العثماني المستبد وتلجأ إلى حكم آخر بريطاني ظنته سيحررها، لكنها وجدته احتلال آخر وبدأت تقاومه. هذه العملية الانتقالية من حكم استبدادي إلى حكم استبدادي حديث اضطر الإنكليز للقيام بتغيير صورتهم إذ سمحوا ببرلمان وانتخابات وحققوا شكلاً من أشكال الديمقراطية وإن كانت ناقصة.

كما أن الديمقراطية توفرت في سوريا بعض الشيء في فترة الانتداب الفرنسي، لكن تدخله المستمر في وأد الاتفاقيات جعل الديمقراطية غير مرغوب فيها. لكن دول عربية أخرى لم تتوفر فيها هذه الشروط، مثلاً الفرنسيون حاولوا تحويل الجزائر إلى مستوطنة وألغوا الشعب من المشاركة في الحياة السياسية حتى عن اللغة العربية ألغيت هناك.

أين ترى دور المثقف عموماً ودورك كشاعر بشكل خاص في النهوض بالثقافة العربية؟

بغدادي: دوري يتمثل في التعبير عن رأي بشجاعة، دورنا يتمثل في أن نقول الحقيقة ونتحمل المسؤولية في كل ما ننتجه من أساليب الكلام واللغة والتفاهم مع الناس. فإذا لم يوجد مثقف جريء ومؤمن بأهمية الحقيقة فهو متفرج على المجتمع وليس من المشاركين في صنع الوعي الديمقراطي الحقيقي.

هل بقي من دور للشعراء وللشعر العربي في الثقافة العربية مقارنة بثقافات أخرى كالثقافة الأوربية؟

بغدادي: دور الشعر تراجع كثيراً بعد أن كان الشعر ديوان العرب، لكنه أصبح الآن من الأجناس الأدبية المتخلفة. فالأمسيات الشعرية لا تجمع عدداً كبيراً من الناس إلا إذا كان الشاعر نجماً من النجوم أو تابعت للدولة التي تجيش له جمهوراً لا يفهم شعره. وعلى عكس فترة الخمسينات فإن الصالات كانت تمتلئ حتى في حال لم يكن الشعر من النجوم الكبار.



Bild vergrössernإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صحيح ما يقال إن هناك حرب ثقافية غربية ضد الثقافة العربية؟ أم إن هذا الكلام يستخدم من قبل البعض لاختلاق أعذار لما وصلت إليه حال الثقافة العربية؟

بغدادي: هناك عداوة، وهنا يمكن الحديث عن عداوة غربية عريقة، والحروب الصليبية نوع من العدوانية الذي تميز بها الغرب للسيطرة على الشرق باسم الدين، لكن القرون الماضية ولت من غير رجعة . هناك من لديه أفكارا عدوانية من المستشرقين، وهناك من لديه أفكار صديقة. وعليه فإنه لم يبقى من نظرية المؤامرة سوى الظلال والغبار.

العلاقة الحالية تجاه الآخر يجب أن تكون صحية وخالية من الأفكار المسبقة بحيث لا ينظر الغربي إلى الشرقي نظرة الدونية، ولا الأخير ينظر إلى الغربي نظرة فوقية. ولحسن الحظ إن هذه المسألة بدأت تؤثر في بعض وسائل الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والروائي.

كيف تنظر إلى محاولات إحياء الحوار بين الغرب والعالم العربي عبر الأنشطة الثقافية، مثلاً معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، أو الأسبوع الثقافي العربي الألماني؟

شوقي بغدادي: المعارض الثقافية تعتبر من أجمل التظاهرات الثقافية التي تتناسب مع العصر. عصرنا الآن هو عصر العولمة والتقارب بين الشعوب هو المطلوب بدلا من الهيمنة على الآخر، إما إذا كانت بمعنى تقارب الشعوب والاستفادة المتبادلة والدخول في نقاشات بناءة فمرحباً بها كونها تمثل دور العصر الحقيقي.




ولد في بانياس في عام 1928 .و تخرج من جامعة دمشق حاملاً إجازة في اللغة العربية وآدابها، ودبلوماً في التربية والتعليم - عمل مدّرساً للعربية طوال حياته في سوريا وخمس سنوات في الجزائر. شارك في تأسيس رابطة الكتاب السوريين عام 1951 والتي تحوّلت إلى رابطة للكتاب العرب عام 1954 وانتخب أمنياً عاماً لها حتى مطلع عام 1959. وبعدها شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب الحالي وكان عضواً في مجلس الاتحاد في معظم دوراته إلى أن اختير بعد انتخابات الاتحاد عام 1995، عضواً في المكتب التنفيذي وأسند إليه منصب رئاسة تحرير مجلة "الموقف الأدبي" الشهرية الصادرة عن الاتحاد. لديه العديد من القصائد الشعرية والقصص القصيرة والروايات المسرحية ومن مؤلفاته: - أكثر من قلب واحد، لكل حب قصة، أشعار لا تحب، صوت بحجم الفم، بين الوسادة والعنق.



الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة": سجن أبو غريب- مأساة باسم أداء الخدمة العسكرية-أريانا ميرزا ترجمة: يوسف حجازي






الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة":
سجن أبو غريب- مأساة باسم أداء الخدمة العسكرية

أريانا ميرزا
ترجمة: يوسف حجازي


حاز الفيلم الوثائقي "قواعد العمل المعتادة"
Standard Operation Procedure جائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي "برليناله" لهذا العام. الفيلم يعالج خلفيات ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب، بيد أن محصلة هذه المعالجة السينمائية جاءت متباينة كما ترى أريانا ميرزا.



Bild vergrössernيطرح الفيلم مسألة غياب الحدود الفاصلة بين الجريمة والشعور بالذنب وممارسة الخدمة العسكرية




ثمة صور فوتوغرافية تنحفر في الذاكرة الجماعية. والصور التي كشفت مشاهد التعذيب في سجن أبو غريب للرأي العام في عام 2004 تُعتبَرُ بالتأكيد من قبيل هذا النوع من الصور. "اللقطات الفوتوغرافية" للابتسامات الشامتة المرسومة على وجوه السجانين الذين يمارسون التعذيب أساءت للسمعة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، كما لم يحدث إلا من خلال الصور الفظيعة في حرب فيتنام. ولم يفضِ الانتهاء من التحقيقات الرسمية بهذه الأعمال الوحشية التي مورست في أكبر سجنٍ عسكري أمريكي في العراق إلا إلى إدانة عسكريين من ذوي الرُتب المتدنية. أما أن تكون مراكز قيادية على معرفة بالجرائم أو أنها ربما كانت قد أعطت التعليمات بنفسها فهذا ما تنكره الإدارة الأمريكية بشدة.

من هنا لا يمكن لرغبة صانع الأفلام الوثائقية الأمريكي الشهير "إرول موريس"
Errol Morris الحائز جائزة الأوسكار بتقصّي الحقيقة الكامنة وراء هذه الأعمال الهمجية والكشف عن العارفين الحقيقيين بها إلا أن تحظى بكل بالاحترام. بيد أن فيلم "قواعد العمل المعتادة" لا يكشف عن معلومات جديدة للأسف، مع أنه يؤكد مرارًا على الشك بعدم معرفة أو"ببراءة" الضباط القياديين والمسؤولين الحكوميين، إلا أن اهتمام "إرول موريس" ينصب على جوانب مختلفة تمامًا، إذ يلتفت المخرج بالدرجة الأولى إلى النواحي التي يستطيع تصويرها بطريقة مثيرة.

إعادة تمثيل الواقع بتقنيات عالية

بهرت تحريات المحققين "إرول موريس"، حيث يمكن بمساعدة التقنيات الحديثة معرفة الكاميرا التي التقطت صورة معينة وتحديد وقت التقاطها. فإذا كانت الصورة الأولى قد التُقطت عند الساعة العاشرة صباحًا والصورة الأخيرة عند الساعة العاشرة مساءً، يمكن حينئذ تحديد الفترة الزمنية التي جرى خلالها تعذيب الضحية. لا بأس من معرفة ذلك، إلا أن "إرول موريس" لا يكتفي بإيصال هذه المعلومة ببساطة وحسب؛ فهو يصنع مجددًا صورًا لمجمل مسار البحث مستخدمًا تقنيات الحاسوب المعقدة.



Bild vergrössernاعتمد المخرج على التقنيات الحديثة في إخراج مشاهد الفيلم وإيصال رسالته وتلوح على الشاشة أشكال مربعة تتكثف لتأخذ شكل الشبكة، وتُزاح الصور الفوتوغرافية وتُربط ببعضها بعضا بحسب الترتيب الزمني، لتملأ فراغات الشبكة. يُذكِّر فيلم "عمليات عسكرية تقليدية" في بعض مشاهده بالمسلسلات البوليسية القائمة على تقنيات عالية على نمط مسلسل "سي إس آي" مثلاً.

كما أن وقع مقاطع الأفلام المُدخَلة إشكاليٌّ أيضًا؛ فمشاهد ممثلة تطابق ما وقع، أُريد منها أن تُدخِل الرعب "إلى القلوب" بمساعدة حركة الصورة البطيئة ومقاطع الإضاءة المعاكسة واللقطات القريبة وخلفية موسيقية مخدرة، بيد أن تأثيرها بقي مصطنعًا ليس إلا.

هذه الألعاب الجمالية يجري استخدامها دائمًا، كلما رأى "إرول موريس" أن عليه أن يعرض إفادات الجناة بالصور. ويبدو أن المخرج لا يثق بأن الصور المعروضة بغزارة كبيرة في فيلمه الوثائقي كفيلة بإثارة الاشمئزاز والسخط لدى المشاهدين.

إلا أن فيلم "قواعد العمل المعتادة" لا يتألف من مشاهد مثيرة ومن استخدام أحدث التقنيات السينمائية وحسب، لا سيما وأنه دخل المسابقة بوصفه فيلمًا وثائقيًا في نهاية الأمر، بل يعطي الفرصة أيضا لعددٍ من المحكوم عليهم، ومنهم الجنرال التي كانت مسؤولة حينذاك عن السجن العسكري وأخصائي الاستجوابات وأحد المسؤولين الحكوميين الذين أوكل إليهم التحقيق بالقضية.


مشاهد المقابلات مع السجانين الذين مارسوا التعذيب مثل الجندية "ليندي إنغلاند" شكلت بالتأكيد المقاطع الأكثر فظاعة التي يعرضها الفيلم الوثائقي على المشاهدين، إذ لا يشعر المشاهد بأن لدى أيّ من هؤلاء أدنى شعور بأنه مارس الجور والظلم، ولا يرى السجّانون في أنفسهم إلا ضحايا للظروف.


إماطة اللثام عن الجرائم


Bild vergrössernغياب الإحساس بالذنب لدى السجانين ومن قام بعملية التعذيب يؤرق مخرج هذا الفيلم يُعتبَر فيلم "قواعد العمل المعتادة" في هذه النقطة فيلمًا قيِّمًا، لأنه يشرح بشكلٍ لافتٍ سبب غياب الإحساس بالجور والظلم لدى الجناة: فيعاد عرض صور سجن أبو غريب الفوتوغرافية الفظيعة، لكنها مدموغة هذه المرة بأختام حمراء. نقرأ على نصف الصور عبارة "عمل إجرامي"، وتحديدًا عندما يكون جليًا أن الأسرى قد جرى تعذيبهم جسديًا أو تم إذلالهم عبر الإساءات الجنسية.


لكن رؤية النصف الثاني من الصور الفوتوغرافية مؤلمة بدورها وهذه الصور مدموغة بالعبارة التي أخذ المخرج عنوان الفيلم عنها: "عمليات عسكرية تقليدية"؛ بمعنى أساليب استجواب مشروعة. ولدى استعراض هذه الصور تضيع الحدود الفاصلة بين الجريمة وممارسة الخدمة العسكرية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كتاب للصحفي الباكستاني أحمد رشيد:-توماس بيرتلاين ترجمة: رائد الباش


كتاب للصحفي الباكستاني أحمد رشيد:
"انزلاق إلى فوضى التطرّف"

توماس بيرتلاين
ترجمة: رائد الباش


في كتابه الجديد الذي صدر بعنوان "انزلاق إلى الفوضى - كيف تتم خسارة الحرب على المتطرِّفين الإسلامويين في باكستان وأفغانستان ووسط آسيا" يوضح الكاتب والصحفي الباكستاني، أحمد رشيد أنَّ المنطقة ما تزال بعد سبعة أعوام من سقوط حركة طالبان بعيدة عن الاستقرار وأنه لا سلام في أفغانستان من دون باكستان. توماس بيرتلاين يستعرض هذا الكتاب.



: لا يمكن إحلال السلام في أفغانستان من دون إشراك باكستان - يتَّضح هذا لكلِّ من يقرأ كتاب أحمد رشيد. وتعتبر الضغوطات والعزلة وسائل خاطئة من أجل كسب باكستان لا تنتهي في أفغانستان قائمة المشكلات، من مخدِّرات وتمرّدات وحكومة ضعيفة. ولكن كيف وصلت الحال إلى ما هي عليه؟ يحمِّل الكثير في أفغانستان الجارة باكستان مسؤولية ذلك، وفي المقابل يحمِّل معظم الباكستانيين الولايات المتَّحدة الأمريكية والرئيس المدعوم من قبل الأمريكان، حميد كرزاي المسؤولية.

ويكاد لا يوجد خبير يستطيع تقييم جميع جوانب هذا الوضع الفوضوي بشكل جيِّد مثل أحمد رشيد. وهذا الصحفي والكاتب الباكستاني الذي اشتهر بكتابه حول طالبان لا يعتبر خبيرًا فقط في شؤون إسلام أباد وكابول وواشنطن؛ بل يعرف أيضًا الدول المجاورة في وسط آسيا مثل أوزبكستان. وهو يثبت قبل كلِّ شيء بكتابه الجديد أنَّه محلِّل يفكِّر بوضوح ومن دون تحيّز على الإطلاق.

نقد حاد لإدارة بوش

وأحمد رشيد لا يخفي أنَّه يؤيِّد الاجتياح الذي تم في أفغانستان من أجل تجريد طالبان من سلطتهم. غير أنَّه يبيِّن أنَّ كلَّ شيء تقريبًا سار بعد ذلك باتِّجاه منحرف. وينتقد بصورة خاصة إدارة جورج دبليو بوش التي أهملت تمامًا وبسذاجتها غير المحدود بناء المؤسسات في أفغانستان ما بعد الحرب، أي "بناء الوطن".

وكذلك لا يسلم حميد كرزاي الذي يقدِّمه أحمد رشيد على أنَّه صديق شخصي من النقد؛ إذ يصفه أحمد رشيد بأنَّه رئيس ضعيف دائمًا ما يكون متردِّدًا، بالإضافة إلى أنَّ أمراء الحرب يغرِّرون به.

والأكثر إثارة في كتابه هو الجزء الذي يلقي فيه الضوء على الدور الباكستاني الذي كثر الجدال حوله في الأعوام الأخيرة. وأحمد رشيد يصف وصفًا دقيقًا التلاعب المزدوج لدى الرئيس الأسبق برويز مشرف الذي عاملته واشنطن على أنَّه حليف لا غنى عنه في "الحرب على الإرهاب" (وهذا خطأ فادح آخر).

تحالفات مشؤومة


شرائح واسعة من الشعب الباكستاني انتقدوا سياسة حكومة مشرف المستبد - أيضًا بسبب تعاونها مع الولايات المتَّحدة الأمريكية في "الحرب على الإرهاب" وهكذا فهو يشير إلى أنَّ الكثير من رجال المخابرات الباكستانيين وأشباه العسكريين كانوا بعد اجتياح الولايات المتَّحدة لأفغانستان يقدِّمون يد العون لحليفهم السابق، أي الطالبان - على سبيل المثال عندما حاصر تحالف الشمال في نهاية عام 2001 قندوز. ويصل أحمد رشيد بناءً على اتِّصالاته مع بعض من رجال المخابرات الباكستانيين السابقين إلى نتيجة مفادها أنَّ الدعم الباكستاني لحركة الطالبان الأفغانية استمرّ من دون انقطاع، وتحديدًا بمساعدة منظومة جديدة تعمل بصورة شبه سرية.

لا سلام في أفغانستان من دون باكستان


رجال مخابرات باكستان وأشباه العسكريين كانوا يتعاونون مع حليفهم السابق، أي طالبان - على سبيل المثال عندما حاصر تحالف الشمال في نهاية عام 2001 ويثبت أحمد رشيد أيضًا بمثال عكسي مقنع أنَّ الجيش الباكستاني تنازل وبمحض إرادته لحركة الطالبان عن سيطرته على المناطق القبلية المستقلة المتاخمة لأفغانستان؛ حيث كان الجيش الباكستاني يقمع في بلوشستان في الوقت نفسه المتمرِّدين القوميين بغاية العنف وبشكل فعّال. والفرق بين القوميين في بلوشستان والطالبان هو أنَّ البلوشستانيين ليسوا إسلامويين، كما أنَّ إسلام أباد تعتبرهم موالين للهند مثل حكومة الرئيس حميد كرزاي في كابول.

ولا يمكن إحلال السلام في أفغانستان من دون إشراك باكستان - ويتَّضح هذا لكلِّ من يقرأ كتاب أحمد رشيد. وكذلك تعتبر الضغوطات والعزلة وسائل خاطئة من أجل كسب باكستان. فلا بدّ من حمل مصالح باكستان الأمنية محمل الجدّ. ويعقد أحمد رشيد كلَّ الآمال على الديمقراطية، كما أنَّه يعارض بشدّة أساليب الدول البوليسية على غرار ما يجري في غوانتانامو في محاربة الإرهاب.






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




أدونيس ... والمباغتة السرية والسريعة- قيس مجيد المولى


أدونيس ... والمباغتة السرية والسريعة

 قيس مجيد المولى

لاشك بأن التجديد هو إدامة ومضاعفة التفرد في الطاقة الشعرية وهذا التفرد نابعٌ من استثناءات لم تطرق من قبل على صعيد مايحتويه اللفظ وما يتجدد من معنى أي أن المغايرة هنا ليست باستخدام كلماتٍ غير مسبوق استخدامها بل و‘نما بشحذ القدرات اللافتة لمتشابهات أوبدائل تسطيع خلق غير المألوف وهنا يكون حراك اللغة  ضمن السعة النفسية القصوى واستخدام المباغتة السرية والسريعة لما تجول به النفس دون التورط بخداع الأنا بشكل مكشوف حيث الدلالات يُكتفى بإضاءتها دون إعطاءها بنيتها الوصفية وكذلك الإنهماك مع الوسائل المنتجة حد التعقيد كشفاً للمخبوء من رقتها ، وهو شكل من أشكال التقصي أو شكل من أشكال الأسئلة الحرة التي يريد أدونيس أن لاتعوم إجاباتها ضمن منطق أسئلته التي تتصل أحيانا بغرضها وأحيانا بغرض بعيد ولكنه يصب في غاية ما :

سألَ الفجرُ عنها
سألت سريري
كي يُجيبَ
الوسادةُ مالت
والغطاءُ تكومَ في صمتهِ
كانت الشمسُ تلقي على جسد الفجرِ
في غرفة النومِ
قفطانها ،


يقدم أدونيس  إضافة للشكل الذي ذكرناه بالتقصي  شكلا أخر من أشكال تحشيد الصور الشعرية بتحريك أخر لوظائف الحواس ليتمكن من تحريك تطور لغته في النص وهذا النسق من التجريب يستدعي وجود مساحة فائضة من الحرية وغير مقيدة بتأثير الوعي المسبق لتتمكن العاطفة من الاستدلال على أماكنها السرية وخلق مفهوم الضرورة الداخلية لبناء سرية النص الذي يحافظ على خصائصه داخل وحدته وهو شكل أخر من أشكال الاطمئنان على تحييد العقل لإستغلال قدراته الفلسفية التي تنعكس بفلسفة أخرى ضمن مجريات الحدث الشعري ، أن أدونيس يذكر ويتذكر مايجب التوقف إزاءه لمنحه المزيد من متطلبات الرعاية سواء بحجم العاطفة أو بحجم المدرك المحسوس أو الحاجة لنسب ما من الحركات الإنتقالية ومن شاء أن يأتي الخاص ضمن جغرافية شعرية غير مكانية وكأنه يريد أن لايكون التعبير بها عن إيحاء لتطبيق أو إطلاق خزين مرئي أو عرض ذاكرة أو تجريد لقصد كوني ، وبذلك يكون الإحساس بالمفارقة أولوياته هذا الصراع الذي يعول على
وجود رابط ما بين متحسسين متقابلين متحاورين ينأيان ولكن بينهما صلة مشتركة :


هوذا بيته
كلُّ أبوابه جراحٌ
والنوافذُ مكسوةُ
بستائرَ أطرافها
نسجُ ورد غريب
لاتويج له
في ظلام الستائر ليلٌ
ليلُ هجر ويأس
تترسبُ أشباحه النازفه
في قرارة أحشائي العاصفة


إن تصريف اليأس وتسويقه للمعنى من خارج المعنى أحد إشتغالات أدونيس ويريد بذلك التعويض عن الإستعانة بالرمز الدال القصدي والذي سرعان مايقف عند مدلوله لذا فأنه وضمن مساحة الجسد ومساحة البحر أراد تقديم متطلب أخر من متطلبات الإغراء وكمن للقارئ في وسيلة تشتيت الإنتباه الوقتي أي الكتابة في حيز من التغريب ضمن عتمة مفرحة ينتظر منها المتلقي شيئا ما يربك فيه ذائقته ليطمأن على صلاحيتها وأدونيس قد نظر للمتعة من عليانيها بتصعيد عمل بؤرها الخاملة وكأنه يقول ليست هناك مناطق عازلة وغير منتجه وغير داعمه شريطة أن تلتقي حلقات المكون وتترابط بعضها مع البعض الأخر:

تلك مرآتك : الجحيم وأبوابها
وأدراجها
سُفنُ من دمِ
لإله الجحيم وأبنائه وأحفاده
ومرافئُ مخبوءةٌ
في شواظٍ وطين
لمجيئك في جلدك الأن ينمو
قلقلٌ أكلٌ للرحيل – الرحيل السؤال الذي
لاتقول لك الأرضُ ، من أين جاء
لاتقول السماء

إن أدونيس لايقرر بل أن موجوداته تدركه حين تفتح باب عاطفته على أيما طريق يؤدي ولايؤدي في أي شئ عبر مراجعة مستمرة لغيبياته ،،
ليملئ حلمه الذي يعيش فيه وينهي صراعه مع الفراغات ،


شاعر عراقي- مقيم في قطر