شهادات
الحبيب السالمي :
بيت
لا كتب فيه
الحبيب
السالمي، تصوير صموئيل شمعون
ولدت في بيت لا
كتب فيه. كان والداي أميين لا يعرفان الكتابة والقراءة تماما مثل كل الأجيال التي
سبقت جيلهما والتي نشأت فــي الأرياف والأقاليم النائية. وحتى المصحف الــــذي لا
يكاد يخلو مــنـــه أي بيت تونــسي فــــي الوقت الحاضر ليس للقراءة فحسب وإنما
أيضا للتبرك به والتظاهر بالإيمان بل والتفاخر به فهو لم يكن موجودا في بيتنا. في
تلك الفترة كان المصحف في القلوب. لم يكن الناس في حاجة إلى التباهي بالإيمان كما
الآن. كانوا يمارسون إسلامهم ببساطة وتلقائية وحميمية وأكاد أقول بخفر وحياء
جميلين.
ولذلك فأنا لم
أكد أقرأ شيئا قبل سن الرابعة عشرة. وكل ما قرأته يقتصر على ما كان يوزعه علينا
المعلمون من قصص أطفال لمطالعتها وتلخيصها ضمن واجباتنا المدرسية. وكانوا نادرا ما
يفعلون ذلك فحتى هذه القصص (أذكر منها بالخصوص قصص كامل الكيلاني) لم تكن متوافرة
بالقدر الكافي في مدرسة ريفية نائية في بلد فقير مثل تونس في مثل تلك الفترة من الخمسينات التي أعقبت الإستقلال.
والحقيقة أن
شغفي بالقصص الذي ولد في نفسي فيما بعد الرغبة في كتابة القصة القصيرة ثم الرواية
لا يعود إلى قراءاتي القليلة والمتباعدة للقصص التي كان يوزعها علينا المعلمون في
المدرسة وإنما إلى شيء آخر وهو مجلس الشيوخ الذي كان يلتئم كل يوم بعد الظهر تحت
زيتونة الكلب. تقع الزيتونة خارج بيوت القرية. وكانت بمثابة مقهى خاص بكبار القرية
يلتقون فيه لتبادل الأخبار وتزجية الوقت وللخوض في ما يعنيهم من مسائل. في البداية
كانوا لا يسمحون للصغار من الإقتراب من المكان خصوصا وأنهم كانوا يروون أحيانا
قصصا فاحشة ويتداولون في مواضيع يعتقدون أنها لا تليق بعقول الصغار مثلنا.
كنت الوحيد
الذي كان يتلصص على مجلسهم. وما كان يساعدني على ذلك هو أن أبي كان قد كلفني بأن
أملأ الإبريق بالماء حالما تبلغ
الشمس وسط السماء وأحمله إليه للوضوء قبل صلاة الظهر. وكنت حالما أقترب منهم أصغي
السمع. أناول أبي الإبريق وأغادر
المكان فورا. ولكن بدلا من أن أعود إلى البيت أختبيء خلف سياج من أشجار الصبار
العالية وأبقى هناك لأستمع إلى ما
كانوا يروونه من حكايات.
وكان من بين
الرجال واحد يمتلك مقدرة هائلة في رواية الحكايات. كان فنانا بارعا في طريقة
السرد. وفيما بعد عندما كبرت وقرأت ألف ليلة وليلة وملحمة "الجازية
الهلالية" و"الزير سالم" اكتشفت أن الكثير من الحكايات التي كان
يرويها هي من "ألف ليلة وليلة" وهذه الملاحم الشعبية التي كانت رائجة
إلى حد بعيد في مثل ذلك الوقت. وكل ما في الأمر هو أنه أدخلت عليها تغييرات تتعلق
أساسا بأسماء الأشخاص والأمكنة وأضيفت إليها عناصر لإبهار السامع وإثارة الدهشة
والمتعة خصوصا ما كان يتعلق منها بوصف المعارك والحروب والكوارث.
لقد ابتدأت
علاقتي بفن السرد عبر الشفوي أساسا. ولا أدري إلى أي حد أثر هذا في الطريقة التي
كتبت بها فيما بعد نصوصي القصصية
والروائية. كل ما يمكن أن أقوله هو أنني أدركت منذ تلك الفترة المبكرة أن السرد
يوفر متعة هائلة. هناك بالطبع مستويات عدة يطمح إلى بلوغها النص الأدبي وهناك آفاق
كثيرة يريد أن يقتحمها. هناك أيضا أهمية الكتابة بالنسبة للكاتب ودورها في اكتشاف
هذا العالم المعقد الثري الرجراج الذي نكتب عنه وفي سبر أغوار الذات البشرية بكل
ما فيها من خبايا وأسرار وتضاريس وتناقضات إذ أن الكتابة هي أيضا أداة معرفة
واستكشاف. لكن كل هذا لا يتحقق ولا يكتمل خارج شرط الإمتاع.
وإذا كانت
طفولتي في القرية قد اقترنت بالإستماع إلى القصص والحكايات والخرافات الشعبية
الشفوية فإن انتقالي إلى بلدة "حفوز" لمواصلة دراستي الثانوية قد اقترن
بالشروع في القراءة الحقيقية. وأول كاتب قرأته هو مصطفى لطفي المنفلوطي. لا أعتقد
أنني أشكل استثناء في هذا فأغلب الكتاب العرب قد قرأوا هذا الكاتب الذي لا يمكن
الإفلات منه لأهميته في فترة التكوين. حتى نجيب محفوظ فعل ذلك. وقد أشار في العديد
من أحاديثه إلى إعجابه بأدب المنفلوطي وتأثره بأسلوبه في الكتابة الذي كان يعد
آنذاك من أجمل الأساليب.
ولكن أهمية المنفلوطي
بالنسبة لي لا تتجلى فحسب في أنه أول كاتب قرأته ولا في إعجابي بلغته المتينة
والبسيطة في آن واحد وإنما في أن قراءتي له تزامنت مع "كتابة" أو بلفظة
أدق "خربشة" أول نص أدبي لي وكان عن عاصفة ترابية هبت على
بلدة حفوز. أذكر جيدا أنني كنت في إحدى غرف التدريس بالقرب من النافذة أتطلع إلى
الساحة الخالية التي تقوم في وسطها بضعة أشجار حين
هبت العاصفة المفاجئة. انتابني خوف شديد فأنا أرى لأول مرة في حياتي عاصفة ترابية.
بعد وقت قصير وجدتني آخذ قلمي وأشرع في وصف تلك العاصفة.
والطريف أنه كلما تذكرت
المنفلوطي الآن لا أتذكر "العبرات" و"النظرات" و"الفضيلة
أو بول وفرجيني" التي أمضيت وقتا طويلا في قراءتها وإنما تقفز إلى ذهني صورته
الوحيدة. ويبدو في هذه الصورة بالجلابية التي يرتديها والعمامة البيضاء التي تلف
رأسه وشاربه الأسود الكث ونظراته التي تشيع الإطمئنان والراحة في نفس من ينظر
إليها أقرب إلى إمام مسجد في إحدى قرى صعيد مصر منه إلى كاتب ترك أثرا في أغلب
الكتاب العرب في مرحلة ما من حياتهم.
إلا أن الكاتب الذي أحببته
كثيرا وأثر في لفترة طويلة هو الطيب صالح. لم أكن أسمع به إطلاقا عندما قرأت
بالصدفة روايته المشهورة "موسم الهجرة إلى الشمال" حدث ذلك عام 1968.
أذكر أن طبعة الرواية التي وقعت بين يدي هي طبعة دار الهلال المصرية وهي إحدى
الطبعات الأولى للرواية. ولا أدري كيف وصلت تلك الطبعة إلى مكتبة مدرسة ثانوية
صغيرة توجد في بلدة ريفية مثل حفوز. الأمر يشبه المعجزة. كأن الأقدار أرسلت لي ذلك
الكتاب لأقرأه في مثل تلك الفترة وخصوصا في تلك المرحلة المبكرة التي شرعت أتدرب
فيها على الكتابة!. حقا لقد كنت محظوظا عندما وقعت على رواية عربية في مثل هذا المستوى
الراقي. هل كانت الرقابة في تلك العوام البعيدة أقل صرامة؟ وهل كانت الإجراءات
الجمركية أقل تعقيدا مما هي عليه الآن بحيث تسمح للكتب بأن تنتقل في البلدان
العربية بقدر من السهولة ؟
من المؤكد أن رغبتي في
الكتابة التي لم تكن قد توضحت بعد قد ترسخت بقراءتي"موسم الهجرة
للشمال". أعجبت بالرواية إعجابا شديدا. التهمتها في أيام قليلة. قرأت بعض
فصولها عدة مرات وحفظت عن ظهر قلب عددا من جملها التي سجلت الكثير منها في دفتر.
انبهرت بلغتها الجميلة التي تمزج بين الجزالة والحداثة وبأحداثها البسيطة والغريبة
في الآن ذاته التي تذهب بالخيال بعيدا وبشخصياتها الشديدة التميز التي رسمها الطيب
صالح ببراعة نادرة فبدت قريبة جدا مني كما لوأنني كنت أعرفها. وما جعلني أزداد
تعلقا بالرواية قربها الشديد من البيئة التي تحدرت منها. كنت أشعر أن القرية التي
تدور فيها أغلب أحداث الرواية هذه القرية السودانية الصغيرة على منحنى النيل هي
قرية العلا. بعد سنوات عديدة لما كبرت وتعرفت على الطيب صالح قلت له ذلك في أول
لقاء جمعنا في باريس وكان يشتغل آنذاك مستشارا ثقافيا في مقر اليونسكو. أجابني
بأنه هو أيضا فوجيء بالشبه الشديد بين قرى السودان وقرى تونس التي تعرف إليها من
خلال قراءته لرواية الكاتب التونسي البشير خريف "الدقلة في عراجينها"
التي أعجب بها كثيرا حتى أنها كتب مقدمة لإحدى طبعاتها.
وفي مدينة تونس
التي انتقلت إليها بعد أعوام قليلة لإتمام دراستي اكتشفت كاتبا آخر أثر في تأثيرا
عميقا وهونجيب محفوظ. حدث ذلك في مكتبة كنت أتردد عليها. لم يدلني أحد على نجيب
محفوظ بل أنني لم أسمع بإسمه أبدا من قبل. اكتشفته بالصدفة. وما دفعني إلى ذلك
هوأنني لاحظت كثرة كتبه في المكان المخصص للقصص والروايات. كانت تحتل رفا بأكمله، وكانت كلها صادرة عن دار واحدة: دار
مصر للطباعة (سعيد جودة السحار وشركاه). وكل أغلفتها مزينة برسوم ملونة لجمال قطب.
لأول مرة أرى ذلك العدد الهائل من الكتب لكاتب واحد. ولم أكن أتصور أن هناك في
العالم العربي كاتبا قادرا على تأليف كل هذه القصص والروايات.
بدأت بقراءة
"زقاق المدق". أحببتها لكنني لم أنبهر بها كما حدث لي مع "موسم
للهجرة للشمال". بعدها قرأت "السراب" ثم "بداية ونهاية".
وشيئا فشيئا بدأت أتسلل إلى عالم نجيب محفوظ. أحسست تدريجيا أن شيئا ما يشدني إلى هذا العالم الزاخر المتلاطم الصاخب رغم
هدوئه الظاهري. إنه عالم متميز ثري معقد يحيل إلى الواقع ويستمد قوته منه. عالم
يحتفي بالبسيط وبالعابر لكنه يعبر بنا في الوقت ذاته إلى ما هو جوهري وأساسي لدى
الإنسان. عالم شديد الإتصال بالحياة في تجلياتها الطازجة في سيلانها في حركتها
التي لا تتوقف أبدا.
وفي نفس الفترة
اكتشفت كتابا مصريين آخرين أهمهما يوسف السباعي الذي وجدته مملا وإحسان عبد القدوس
الذي أعجبت بلغته البسيطة
السهلة الصافية القريبة من الحياة اليومية وبجرأته في الحديث عن الحب وعلاقات
الغرام بين الذكر والأنثى في مجتمعات تحكمها التقاليد. قرأت أيضا قصصا لطه حسين.
لكنني لم أغادر عالم نجيب محفوظ. قرأت العديد من رواياته ومجموعاته القصصية. وكلما
توغلت في عالمه ازددت تقديرا لهذا الكاتب الذي يبدو لي أحيانا مثل راهب أدار ظهره
لملذات العالم ولهوه ونذر حياته للرواية. وطبعا لم أعجب بكل روايات محفوظ التي
قرأتها. هناك روايات بدت لي ثقيلة مملة. وفي الحقيقة فإن ما أفضله من أعمال محفوظ
ليس الروايات المشهورة كالثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق ، السكرية)
أو"أولاد حارتنا" بالرغم من أهمية هذه الأعمال وإنما الروايات قصيرة مثل
"اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل".
وبعد أعوام
طويلة اكتشفت أن قيمة محفوظ لا تتجلى فقط في أهمية العديد من رواياته وفي أنه مؤسس
الرواية العربية الفعلي وإنما أيضا في أمر آخر لا نتحدث عنه كثيرا في حين أنه
يكتسي أهمية بالغة في نظري وهو أن نجيب محفوظ كاتب حداثي بمعنى ما. وهذه الحداثة
تتمثل في لغته التي تبدو الآن للكثير من النقاد والكتاب العرب كلاسيكية وجافة
وتقريرية..
لقد استطاع أن
ينحت من لغة مصطفى لطفى المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين أي اللغة كانت
سائدة في عصره لغة روائية. أي لغة تسمي الواقع. فإذا كان الشعر يوحي ويلمح ويرمز
ويكني فإن الرواية تسمي. تسمي ما نراه وما يحدث وما نعيشه وما نتمثله من تفاصيل في
حياتنا اليومية في البيت. الشارع. المقهى. الحديقة. القطار. الباص.. أي في كل
الفضاءات التي لم يعرفها العرب قبل ظهور الرواية وأوجدتها الحداثة. ولم يكن للأدب
الأجنبي حتى المترجم منه إلى العربية أي حضور في بداية حياتي الأدبية. هذا لا يعني
أنني لم أقرأ لكبار الرواية
الغربية وتحديدا الفرنسية مثل بلزاك وفلوبير وزولا. ولكن ذلك كان يقتصر على نصوص
قصيرة مقتطفة من أعمالهم المشهورة ومدرجة في المنهاج الدراسي. ولم أطلع حقيقة على
الأدب الأجنبي إلا بعد سنوات عندما التحقت بكلية الآداب.
لقد كانت
الفترة التي أمضيتها في الجامعة من أخصب فترات حياتي. خلالها اكتشفت كتابا آخرين
ليسوا من مصر وإنما من بلدان عربية
أخرى كنت أجهل آدابها كالعراق وسورية ولبنان وفلسطين والمغرب والجزائر. في تلك
الفترة أيضا قرأت "
مائة عام من العزلة " وقد كان انبهاري بها شبيها بل يفوق انبهاري قبل أعوام
ب"موسم الهجرة إلى الشمال". لم تكن الرواية معروفة في العالم العربي لما
اكتشفتها (بالصدفة أيضا). قرأت عنها مقالا في الملحق الأدبي لجريدة
"لوموند" الفرنسية. وبعد
أسابيع قليلة وجدتها في مكتبة مختصة في بيع الكتب الفرنسية. كان ثمنها باهظا مثل
كل الكتب القادمة من فرنسا. ولم أتردد لحظة واحدة. تناولت الرواية من الرف وخبأتها
تحت قميصي وخرجت. أذكر جيدا غلاف
الرواية. كان أبيض يحيط به خط رقيق مثل كل الروايات الصادرة عن دار "لو
سوي". أعجبت بالرواية إعجابا شديدا إلى درجة أنني حفظت منها عن ظهر قلب نصف
صفحة بدون أن أتعمد ذلك. وقبل بضعة أعوام زرت كولمبيا وتحديدا مدينة كارتاخينا حيث
يقيم غابريال غارسيا ماركيز تلبية لدعوة من مهرجان "هاي" العالمي. وفيما كان المصور الأرجنتيني الفرنسي دانيال وهو
صديق لغابريال غارسيا ماركيز يلتقط لي صورا على الشاطيء أشار فجأة بيده إلى بيت
بالقرب من الشاطيء وقال لي إنه بيت ماركيز. نظرت إلى البيت وأخذت أتلوما بقي عالقا
في ذاكرتي من "مائة عام من العزلة" فيما كان دانيال يتطلع إلي بذهول.
هذه الشهادة كتبت خصيصا لمجلة "بانيبال"
ونشرت في العدد 44 قام بترجمة الشهادة وليم هيتشينز.