الجمعة، 3 يونيو 2016

قصة وتعليق-اسماعيل غزالي




قصة وتعليق
هذيان المثلّثات

اسماعيل غزالي
(1)

نجمة زمردية عزلاء في سماء النهار المصطخد .
بجعة أضلت طريق السرب .
امرأة تتأمل وجهها في غدير فاسد على قنطرة آيلة للسقوط .

(2)
في سماء النهار دائما غيمةٌ مرقّطة شبيهة ببقرة
كأنما يحلب ضرعها لقلاق شريد
فيما ضفادع الغدير الزرقاء تترقب بحماس أفول جمرة الشمس .

(3)
الرجل الذي رصد كل هذا من مرآة سيارته الجانبية
لفته دخان سيجارته التي قفزت منه في لحظة غامضة
بعد أن ابتسم لذرق غراب لطخ زجاج النافذة على شماله

(4)
لم يكن يتوقع ما حدث بعدها لأن فراشة دامغة الألوان
دخلت من النافذة على يمينه رفرفت طويلا قريبا من عينيه
رست على أنفه قليلا وخرجت من النافذة على شماله

(5)
كان بانتظار لحظة صغيرة لاغير
هي اطلالة فتاة من شرفة البيت المنعزل
في تلك الضاحية القرمزية
(6)
صفير غريب في شجرة الصفصاف
شد انتباهه
فيما السراب يرقرق كماء تفتقده الجداول اليابسة

(7)
تمنى لو كان زرزورا
يقف على قرميد شرفتها
حتما ليرصد كل يومها عن كثب

(8)
شيء ليس عاديا تماما
ألاّ تطل الفتاة الخمرية من شرفتها
حتى البهائم الشاردة في الظهيرة لاحظت ذلك

(9)
أجل وقفت جفلة تلك البهائم
فالقطار مر في وقته الأكيد
والفتاة أخلفت الموعد للمرة الأولى

(10)
فجأة خبت نجمة الزمرد في سماء النهار الصاهد
البجعة سقطت جثة هامدة في غدير الجسر
المرأة على الجسر ركضت فزعة صوب الهضبة

(11)
الغيمة المرقطة الشبيهة ببقرة أجهشت بالرذاذ
اللقلاق الشريد عاد إلى عشه فوق البيت المنعزل
الضفادع ترقص مرحا على طحالب الغدير الفاسد

(12)
الرجل في السيارة يخرج رأسه من النافذة مستعذبا زخات الغيمة
عقب سيجارته مايزال مشتعلا في بعر كلب
ذرق الغراب على الزجاج يذكره بخارطة البلد الذي أتى منه .

(13)
تتبع تحليق الفراشة وهي تأخذ وجهة الصفصافة
فكر في أن الأيام المتبقية له في هذه البلاد
رهينة بحياة الفراشة و تمنى لها عمرا أطول .

(14)
استغرب حين نظر مرة أخرى
إلى البيت المنعزل
لم تكن هناك أي شرفة !

(15)
الصفير في الصفصافة
تحول إلى طنين دبابير
السراب لملم لعابه وغادر منتصف النهار

(16)
تمنى لو كان زرزورا
فيتسرب من مدخنة البيت
كي يطمئن على وجود الفتاة الخمرية

(17)
أجل ، شيء ليس عاديا تماما
ما من شرفة أصلا في البيت حتى تطل منها الفتاة الخمرية
والبهائم تغط في نوم قيلولة

(18)
أمر لايصدق
حتى القطار الذي مر قبل قليل
كان بلاصوت يذكر .

(19)
أمر أشد غرابة حقا
فما من وجود حتى للبيت المنعزل
وشجرة الصفصاف أيضا

(20)
مؤكد
لم يحدث أي شيء من كل هذا
والرجل لم يكن سكرانا أو يحلم أو يتخيل

(21)

كل ما في الأمر
أن الرجل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة
داخل سيارته المقلوبة على جانب الطريق بسبب حادثة مميتة .


***

قراءة معينة في قصة ( هذيان المثلثات ) لإسماعيل غزالي




 




عدنان المبارك

قد تكون هذه القصة شغلا سرديا فلميا. فالكاميرا تطوف في شتى الإتجاهات : السماء ، الأرض بنجمتها تلك والبجعة والمرأة. ثمة بضع لقطات ليس بالضرورة أن تتعاقب كما الزمن البطيء / المتباطيء ، بل هناك تزامن من النوع الصعب لكن ظاهريا حسب ، فللكاميرا الحق / الحرية ، في أن تتمازج ، بفضلها ، الغيمة الشبيهة بالبقرة ، واللقلق المفترض وتلك الضفادع التي لقامت بإختصار الإنتظار ولركسّت الشمس تحت الأفق...
بعدها تروح الكاميرا الى الرجل الذي ( سرق ) ما كان مرصودا قبل قليل ، لكن ها قد عثرت على أكثر من إكسسوار واحد ل( حكايتها ) : السيجارة والنظرة الى الذرق مما يعني أن ( الحكاية الأولى ) على وشك أن ُتختم بفعلة فراشة ( نزقة ).

بدءا ً ب( 5 ) أخذت الكاميرا تنسج حكاية ثانية : فتاة الشرفة التي طال إنتظار رجلنا لإطلالتها ، لكن لايهم ، فها أن صفير صفصافة يرسم له صورة أخرى للإنتظار ملؤها ذاك السراب الرقراق ، وفيها تنداح أمنية الوقوف على قرميد الشرفة كي يغفر له عشقه أفعال البصّاص ! الرجل محظوظ ، والكاميرا أيضا : مشاغل جديدة للإثنين : تيار وعي تجسّده البهائم الشاردة ، قطار مارق ، حقيقة مؤسية عن الفتاة التي أخلفت الموعد للمرة الأولى. الكاميرا ترصد الآن إحباطا معيّنا : خبو نجمة الزمرد ، جثة البجعة ، فزع المرأة الهاربة ، رذاذ البقرة المرقطة ، اللقلق الذي رحل عن المشهد الى عشّه ، الضفادع الراقصة إحتفالا بإختفاء الشمس.

(12 ) : الكاميرا تعود الى الرجل الذي دخن سيجارته. شاغله الآن الذرق – الخارطة ( لتقم الكاميرا هنا بمونتاج ، بمزج سريع / بطيء للذرق والجغرافيا ). تيار الوعي يجرف الفراشة كي يرهن حياة بأخرى ( ولتقترب الكاميرا من فم الرجل عندما يطلق التمنيات بعمر أطول )...

( 14 ) : الكاميرا تعد لنا المفاجأة : لا شرفة هناك ! ( وقد تجسّدها الكاميرا بنظرة الرجل الخائب صوب شرفة شيّدها خيال المحب ) الصفير إنمسخ الى طنين ، السراب ولى الأدبار. الكاميرا ترصد الآن المخيلة من جديد : زرزور - ( حمار ذهبي ) يحشر نفسه في المدخنة كي يعرف ، كي يطمئن ، غير أن الكاميرا تحذر من أن لا وجود للشرفة ، وأن البهائم في قيلولة ، وحتى القطار الذي كان قد مر قبل قليل فقد ( صوته ) و أصبح إكسسوارا ل( الفلم الصامت )...

( 19 ) الكاميرا تعمق الخيبة : لا بيت هناك ولا صفصافة ! لم يحدث أي شيء سوى أن الرجل كان يحتضر في سيارته المقلوبة. هكذا صارت الكاميرا الشاهد الوحيد لرحيله …

مشروع مكتبة بدون المصرية: الاستشراق كثقافة شعبية وشكل فني- أميرة العال ترجمة: عماد مبارك غانمم




مشروع مكتبة بدون المصرية:
الاستشراق كثقافة شعبية وشكل فني


أميرة العال
ترجمة: عماد مبارك غانمم


أثرت منطقة الشرق الأوسط منذ وقت طويل على الكثير من الفنانين الغربيين. الرابطة الثقافية المصرية "بدون" جمعت قرابة 1000 ملصق وفهرس وصورة وكتب طريفة ونادرة في معرض متجول يوضح كيف أن القوالب النمطية كانت حاضرة بقوة هي الأخرى في الشرق بعد عام 1945. أميرة العال في استعراض لأبرز جوانب المعرض المقام في القاهرة.

صور نمطية من ألف ليلة وليلة: روايات أوروبية رخيصة عن الشرق، موثقة من قبل مشروع مكتبة بدون.

في الغالب يعرف المرء كتب الأدب التافه من الصور الملونة على أغلفتها، التي تظهر في الغالب نساءً جميلات يرتدين ملابس قصيرة، يُنقذهن رجال مفتولي العضلات ويقبلونهن. رواية "الابن السري للشيخ" تنتمي بشكل واضح للغاية إلى نوع روايات الإثارة الرخيصة. لكن ما أن تضاف إلى هذه الرواية روايات أخرى مثل "عروس الشيخ السرية" و"عروس الشيخ العذراء" و"عشيقة الشيخ"، إضافة إلى غيرها من التحويرات الأخرى، حتى يصبح الأمر مبعثاً للدهشة والاستغراب. وفجأة لا يصبح الأمر يتعلق برواية رخيصة بسيطة بل بوسيلة من وسائل الدعاية التي لا تعمل إلا على تعزيز الصور النمطية عن الرجل "الشرقي" المتخلف وتعزيزها.

إن سلسلة روايات الشيخ التي يمكن مشاهدتها في "مشروع مكتبة بدون" Bidoun Library Project، وهي مجموعة من قرابة 1000 مطبوع، بعضها صدر في منطقة الشرق الأوسط ويسلط بعضها الآخر الضوء على هذه المنطقة. وجميع هذه الأعمال تقريباً صدر في القرن العشرين وتتناول بشكل خاص للغاية بالفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، تلك الفترة، التي تم فيها إعادة تعريف العلاقة بين الشرق والغرب وتأثير التغيرات التاريخية.

ثقافة معاصرة في منطقة الشرق الأوسط


: تقدم مكتبة بدون في قاعة تاون هاوس للفنون كتباً فنية وثقافية ومجلات للجمهور العربي، تتناول بشكل خاص منطقة الشرق الأوسط.

أُطلق مبادرة هذا المشروع من قبل ناشري مجلة بدون الفصلية التي تعنى بالثقافة والفن. وتدعم منظمة بدون الفن المعاصر والنتاجات الثقافية في منطقة الشرق الأوسط. وإضافة إلى المجلة ينظم المحررون أيضاً معارضاً ومكتبات متجولة وبرامج مصورة وغيرها من الفعاليات الأخرى. ومكتبة بدون في القاهرة تعد أحدث مشاريعهم.

وهذه المكتبة تقدم مجموعة متنقلة منوعة من كتب ومجلات وأغان مصورة، تُعرض في الوقت الراهن في قاعة تاون هاوس للفنون Townhouse في القاهرة. وأبصرت مكتبة بدون النور في خريف 2009 في أبو ظبي. وكانت الفكرة منها تقديم كتباً ومجلات عن الفنون والثقافة لها علاقة بمنطقة الشرق الأوسط للجمهور في العالم العربي، وهذه المجلات والكتب من تلك التي يصعب أو يستحيل إطلاقاً الحصول عليها في هذه البقعة من بقاع العالم. وإضافة إلى ذلك كان هناك دافع لإنشاء أرشيفاً، يتم فيه حفظ إصدارات هذه المنطقة، التي لم تعد تطبع أو تلك الموجودة في المجموعات الخاصة فقط، ما يبقيها بعيدة عن تناول العامة من القراء.

ومن البداية كان واضحاً أن مكتبة بدون ستكون مشروعاً متغيراً على الدوام، ومجموعة متغيرة الأشكال بشكل مستمر. ولهذا السبب لا يمكن مقارنة المعرض المقام في القاهرة بمثيله في أبو ظبي أو مثيلاته في دبي وبيروت ونيويورك.

كتب نادرة وطريفة


مجموعة من الكتب الساخرة والدعائية في قاعة تاون هاوس للفنون بالقاهرة. كما يضم المعرض سلاسل مصورة وكتباً فنية والمجلة الرسمية لشركة النفط السعودية العملاقة أرامكو. ومن هذه الكتب النسخة العربية لكتاب آدولف هتلر "كفاحي".

ومنذ 2009 عرضت مكتبة بدون أشياء مختلفة للغاية، كما وثق ناشرو هذه المجلة الطفرة الفنية في منطقة الشرق الأوسط في الألفية الجديدة، وجمعوا أعمال دار الفتى العربي، وهي دار نشر مصرية كانت ممولة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، أصدرت في سبعينات القرن الماضي كتباً للأطفال. كما جمعوا طليعة المجلات الفنية في العالم العربي، مثل مجلة "فنون العربية"، التي كانت تصدرها في ثمانينات القرن الماضي مجموعة من المهاجرين العراقيين في العاصمة البريطانية لندن.

أما المعرض الذي أُقيم في نيويورك فكان نقطة تحول بالنسبة إلى مكتبة فنون، فقد كان يخاطب جمهوراً غربياً، كما أشار منظموه إلى التناقض الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، الذي كان كتصميم أقوى بكثير في تقديم الغرب في القاهرة وبيروت ودمشق. جلس منظمو المعرض أمام كومبيوتراتهم وبدؤوا البحث عن مادة تتناول منطقة الشرق الأوسط، مستخدمين في ذلك مصطلحات مثل "العرب" و"إيران" و"النفط" و"1970" في محركات البحث على شبكة الإنترنت. وكانت النتيجة خليطاً من الكتب عن النقاب والعنف في الإسلام وأزمة النفط العالمية وروايات الإرهابيين وفيديو الأغنية الشرقية الأسطورية "تذكر الوقت" Remember the time، التي أداها الأمريكي مايكل جاكسون. وعلى الرغم من أن منظمو المعرض وجدوا بمصطلحات البحث هذه أكثر المعلومات انتشاراً، لكنها ليس الأكثر وثاقة.

تفسير مفتوح

نكت فاضحة عن ملالي مجانين. من بين المعروضات كتاب سيف لاينينغر عن النكات الإيرانية. لم يجر البحث وفق نموذج محدد وكان لا يجب أن تقدم المعروضات رسالة محددة، كما توضح المحررة في مجلة بدون نيجار عزيمي مضيفة بالقول: "جمعنا هذه الكتب بشكل حيادي للغاية وفق المعايير العملية. لكنها ما أن تجتمع، حتى تنتج شيئاً جديداً ومستقلاً. لكن التفسير يبقى بيد الناظر إليها".

الكثير من المعروضات، التي شوهدت في نيويورك، تم نقليها إلى القاهرة أيضاً. لكن على الرغم من ذلك فإن المعرض المقام في القاهرة يعد شيئاً مميزاً مرة أخرى، ومستقلاً في تركيبته. إذ أن هذا المعرض يقدم فكرة إنسانية منحت هذه المجموعة أهمية أكبر. كما أنها تقدم الخطاب الذي وجه إلى الجمهور في نيويورك.

في قاعة تاون هاوس للفنون بالقاهرة عُرضت سلاسل عربية مصورة وكتب فنون والمجلة الرسمية لشركة النفط السعودية العملاقة أرامكو وغيرها من الكتب التي تتناول الحجاب وكذلك نسخة من الترجمة العربية لكتاب آدولف هتلر "كفاحي". ويطمح منظمو المعرض أن يقوم الزائرون بالبحث هنا والبدء برحلة استطلاعية خاصة. وسيبقى في مكتبة تاون هاوس بشكل دائم قرابة 50 كتاباً، تم التبرع بها من قبل دور نشر الكتب الفنية في سويسرا وألمانيا، وهذا سيعمل على تلبية جزءا من الفكرة الأساسية التي انطلقت منها مكتبة بدون.

مجلة كموضوع فني

إنها إيماءة صغيرة، لكنها مع ذلك مساهمة مهمة في مدينة، أصبح من غير الممكن فيها تقريباً الحصول على مثل هذه الكتب في المكتبات العامة، فقريباً ستشد مكتبة بدون الرحال من جديد، إلى العاصمة البريطانية لندن هذه المرة. وأمنية القائمون عليها تتمثل في إمكانية استمرار تنقلها. فلسطين وليفربول والبحرين، أماكن ما تزال قائمة على لائحة أمنياتهم.

يوجد الكثير مما يمكن مشاهدته وقراءته واكتشافه في المعرض، لدرجة أن الوقت يبدو غير كافياً لهذا كله. ويبدو أن الأمر جاء مناسبا،ً إذ إن عدد الخريف من مجلة بدون تتطرق إلى موضوع هذه المكتبة المميزة وتعد بذلك بمثابة نوعا من الفهرسة لهذا المعرض.وهكذا يمكن للزائر القراءة بهدوء في هذه المجموعة فقط، بل وأن يأخذ معه إلى المنزل تحفة فريدة من نوعها. لأن كل نسخة من نسخ المجلة التي يبلغ عددها 500 نسخة تحمل على غلافها صورة فريدة، تخلى عنها جامع الصور والتحف المصري أمجد نجيب من مجموعته مقابل دولار أمريكي واحد لكل صورة. وهكذا تصبح مجلة موضوعها الكتاب، تحفة فريدة في نوعها هي الأخرى.


الأربعاء، 1 يونيو 2016

( هكذا تمرّد ابن عربي ) -المجموعة الشعرية الجديدة للأديب الشاعر والباحث والفنان التشكيلي الدكتور غالب المسعودي

( هكذا تمرّد ابن عربي ) 
المجموعة الشعرية الجديدة للأديب الشاعر والباحث والفنان التشكيلي الدكتور غالب المسعودي
صدرت عن المركز الثقافي للطباعة والنشر
بابل - دمشق - القاهرة 
الف مبارك للمبدع الدكتور غالب المسعودي انجازه الجديد والى المزيد من الابداع والجمال
لوحة الغلاف من اعمال الدكتور المسعودي
يطلب الكتاب من مكتبة المركز الثقافي للطباعة والنشر
الحلة - شارع الامام علي (ع) 
موبايل
07721472444

الثلاثاء، 31 مايو 2016

قصة قصيرة الحمامة رأت-عادل كامل

 
قصة قصيرة

الحمامة رأت

عادل كامل
   ـ أنا رأيت الحلم ذاته: جلس الليل بجوار النهار، في مائدة واحدة، والنمر مع الغزال في مرعى عند ضفاف النبع...
  وأضافت الحمامة تروي للغراب، شاردة الذهن:
ـ  ولما  حاولت الاستيقاظ عرفت أني لا احلم، فما أن أعدت النظر حتى شاهدت النار تحاور الماء، والذئب يرقص مع الحمل، والحديد يتنزه مع التراب، وابن أوى يغني للطيور ...
   هز الغراب رأسه، متسائلا ً:
ـ وماذا بعد..؟
ـ بدأت، مرة أخرى، اشك بأنني مستيقظة، فقد أكون نائمة، أو ذهبت ابعد من النوم...، حتى اختلط الأمر علي َ، فلم اعد أميز بين الشتاء والصيف، ولا بين الأعلى والأسفل، ولا بين الذهب والغبار، الكل غدا فراغات مزدحمة داخل فضاءات بلورية، حتى رأيت الأخيرة تتمايل، وتلعب من غير تصادم، أو عنف...، الألوان لا نهاية لانسجامها ممتزجة بأصوات خالية من الحروف، والاضطراب، والتشوش...
   فسألها الغراب:
ـ وكم امتد زمن الحلم...؟
أجابت من غير صوت:
ـ لم يعد للزمن وجود، كما لم يعد غائبا ً، ولا للمكان حضور  ولا اثر لزواله...، فانا صرت اعرف نفسي بوجود جعلني اجهل، أأنا مازالت احلم أم أن هناك من كان يحلم ويراني في أحلامه...، حتى عندما حاولت استعادة رفيقاتي الحمامات وجدتهن غائبات...، فلم ابك، ولم افرح، لم احزن ولم ابتهج...، فسألت نفسي: أأنا خارج نفسي أم نفسي خارجي، أأنا داخلها أم هي داخلي...، أأنا نور ليس له ظل، أم ظل من غير نور...،  ولكن المشهد سمح لي أن أرى ما وراء الحافات، مثلما كنت المس انعدام الملامس، لا هي ناعمة، ولا هي رقيقة، ولا هي كبيرة، ولا هي خشنة، ولا هي صغيرة...، فقلت لنفسي: ما شأني إن كنت لم أولد بعد أو إنني فارقت الحياة مادمت أشاهد الصقر يغرد كالبلبل، والتمساح يرقص مع الغزلان، والسباع تهرول مع الأفاعي، والجرذان تستحم مع أفراس النهر، فيما الدببة تداعب الأسماك برفق، وشفافية...
ـ وماذا بعد...؟
ـ صرت، كلما حاولت الاستيقاظ، أرى الحلم ذاته، فلم اعد مكترثة إن كنت وقعت في الأسر، أو وقعت في شباك الصيادين، أو أنا في حفرة...، أو أنا في هذه الحديقة!
ـ آ ...
 تأوه الغراب وأضاف:
ـ هذا هو الحلم ذاته الذي رآه جدنا الأعظم ...، الديناصور العملاق...
صاحت مذعورة:
ـ لكني لم أكن اكترث للموت، ولم أكن خائفة، ولم أكن اشعر بالألم، أو بالفزع...!
ـ بالضبط...، هذا ما قاله أيضا ً، لأنه ـ هو ـ تماما ً سلك الدرب الذي لا يعرف نهايته...
ـ ولكني مازالت أراك ـ وربما ـ تراني؟
ـ وهل اعترضت عليك، لأن هذا هو تماما ً الذي حدث لك، يا حمامتي الوديعة، لأنه لم يدم  أكثر من زمن عبوره إلى الزوال، إن لم يكن ولد مسبوقا ً بزواله الخالد!
ـ آ ...، يا لها من مسرة، انك تذهب ابعد منها، من غير الم، وأسف انك فقدتها، بهدوء، ومن غير صخب، أو زيادات!
26/5/2016

دماء كنيسة سيدة النجاة بريشة فنانة عراقية- حاورها/ نهار حسب الله





دماء كنيسة سيدة النجاة بريشة فنانة عراقية

الفنانة التشكيلية حنان الانصاري تتحدث عن تجربتها الفنية:
عشاق الدم.. لايمكن ان يعشقوا ألوان الحياة
لوحاتي تعبر عن قضية المرأة المغيبة في مجتمع مغلق

حاورها/ نهار حسب الله
الفنانة التشكيلية المبدعة العراقية حنان حسين محمد الانصاري، حفيدة أحد رواد الفن ومؤسس جمعية اصدقاء الفن التشكيلي عبد القادر بيك الرسام، والتي شاركت في معارض عدة منها: معارض جماعة افكار، معارض افكار بلا قيود، معرض يوم السلام العالمي، معرض يوم الطفل العالمي، مبدعون بلا حدود مهرجان التعايش السلمي في السليمانية، معرض الرابطة العراقية للفن التشكيلي، معرض افكار بلا حدود، مهرجان السليمانية الشامل، معرض يوم المراة ، المهرجان التشكيلي الجماعي/ الحوار المدني / ثقافة اللاعنف، مهرجان الشباب في السليمانية.. فضلاً عن إقامتها لأربعة معارض شخصية.
تحدثت إلنا عن تجرتها الفنية وكان لنا معها الحوار: 
كيف كانت بداية مشواركِ الابداعي؟
- ابتدأ مشواري الفني بظهوري في أول خطوة فنية تشكيلية وهي إقامة معرض شخصي عام 2004 بعدها انضمامي عضوة في جمعية أفكار للفنون وكنت من المؤسسين لها وهنا يمكنني القول ان لهذه الجمعية واقعاً جميلاً في حياتي الفنية حيث كان لي نشاطات مهمة.. فضلاً عن انتمائي لعدة أنشطة فنية ومن ثم كانت لي حزمة من المشاركات المتتالية ومنها انطلقت في هذا الفضاء الفني.
ما هي العلاقة بين حياة يراد لها ان تموت وفن يراد له ان يحيا؟
- يجب ان ينحني الفنان لتأدية رسالة الفن وهو داخل حياة يراد لها الموت ويهيأ نفسه كمقاتل تماماً لاحياء فنه ذلك ان العلاقة في هذا المضمون ستكون في صراع ما بين حياة يراد لها ان تموت وفن يراد له الحياة ومن المستحيل ان يتواصل إلا إذا كان الفنان مبدئياً.
كيف تشكلت العلاقة ما بين الوان تزهو وموت يحيط بها سواد وبأس؟
- الفنان الحقيقي هو الذي يعبر بريشته حاملاً أفكاراً حالمة تنتقل بشواهد فنية متأملة بأسلوب مميز ومباشر وعليه ان يكون جاداً ويتحدى الصعاب ويتركه حالما يعلن الابحار في عالم الالوان.. تلك الهواجس السوداء وينتقي ما بداخله ليحول كلمة البؤس الى نجاح، وهذا لا يعني ان الفنان يستمد احياناً من البنية تأثيراً سلبياً في خلق لوحة مؤلمة في مضمونها وألوانها ان كان يعيش في حالة بؤس ولكن هو آخراً واخيراً فنان اطلق العنان لريشته ان تتكلم بلغة الألوان والاحاسيس عاكساً تشخيصه لفكرة معينة.
اللوحة إطار وعطاء روحي.. كيف استثمرت هذه الروح الحية في مكان شهد الكثير من نداءات الاستغاثة والتضرع الى الله مثل (كنسية النجاة) فيما اللوحة بوح عن الحرية؟
- لأني اتعامل بروح فنان حقيقي وباحساس الفن ولأن الفن عطاء وجداني كان بداخلي شعور غريب جداً وهو إيصال صرخة استلبت مني للخوض في هذه التجربة لأعلن سرد حكاية أليمة على جدران شهدت صرخات في سماء الله سلفاً فكانت تجربتي في كنيسة النجاة فريدة من نوعها وسابقة لكل تجاربي الفنية، هنا تعاملت بوصفي إنسانة انساقت بتضحية جزئية لتعبر عن وفائها واحسست ان من الضروري خلق رمز اسطوري غامض ومهما يكن السبب وراء خلقه إلا انني يمكن ان اصف لك ان هناك ارادة تمتلكني بالمشاركة والتفاعل بكل إيمان لتؤكد ان الفنان يسري في داخلي حاملاً مشاعر ونزعات ذاتية مجهولة، ذلك ان للفن تأثيرات عديدة وهي الحرية نفسها في اللوحة.. وعندما طلب مني الانظمام لهذا العمل لتقديم جدارية فنية تحكي قصة مأساة ابرياء بدمائهم بدلاً من اغتسالهم بماء الكنيسة المقدس.. ذهبت مسبقاً الى الكنيسة بمفردي، تجولت فيها وكان في مخيلتي كل ما حدث من مشاهد مرعبة ولكني احسست اني سأقدم من الولاء جزءاً وسأترك اسمي وسأكون انسانة وفنانة تحول دماء ابرياء لا ذنب لهم الى ألوان تعزف لحناً حزيناً في عالم الخلود.
هل تعتقدين ان بمقدور اللوحة الفنية ان تتجاوز حالة الاحباط التي تنتاب الانسان وهو يواجه أعمال العنف التي تطال ليس إبداعه حسب وإنما حياته كلها؟
- الاحباط واليأس والقلق والتأثير بالعوامل المحيطة هي امور بديهية وتجاوزها يعتمد على مدى قوة إرادة الفنان، ولا يمكن غض النظر عن ان للفن اجواء خاصة وليس من السهل ان تمارس نشاطاً فنياً ان كانت سماءك ملبدة بالغيوم والحالة النفسية مثقلة بالهموم غير ان الفنان لابد من ان يتجاوز اموراً كثيرة ليس الاحباط حسب وإنما وقع فنه القصير الامد وخصوصاً نحن في بلد صار به ضعف البنية وباتت ملامحه واهنة وانا اتمنى ان يسترد صحته الفنية وان يتجاوز الاخفاقات والاحباط ويلجأ الى التحدي فلا يمكن لاعمال العنف ان تحبط الفنان إلا إذا نفذ ابداعه.
هل ترين ان بمقدور الفن أن يكون رداً سلمياً على بؤر القتل والفساد والتطرف .. هل بمقدور غصن زيتون ان يحول دون اشتعال الحرائق؟
- الخطاب الفني والابداعي بكل اشكاله يحاور المجتمع ويطرح القضايا ومن الممكن ان يكون مدخلاً لحوار سلمي نعبر من خلاله للذين يجهلون معنى الانسانية وتغلبت على عقولهم المقفلة مسألة الفساد والتطرف ولكن من وجهة نظري الخاصة إن تلك الشخصيات السلبية لايمكن ان يكون الفن رداً سلمياً ورادعا حقيقياً لها.. لسبب واحد انهم عناصر لا علاقة لها بالفن لامن قريب ولا من بعيد ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. ان تلك الفئة الشاذة تفتقر للدين وللقيم الانسانية فهل من الممكن تغييرهم من خلال الحوار الفني او من خلال لوحة.. لا اعتقد ذلك.
ألا تعتقدين انك في مكان محفوف بالخطر وبقوى ظلامية تريد إيقاف ديمومة الحياة والابداع معاً؟
- طبعاً انا وغيري في مكان محفوف بالخطر وقوى الشر الظلامية تريد ايقاف ديمومة ابداعي انا وغيري من المبدعين..
بوصفي انسانة مؤمنة بتأدية رسالتي، كان من الممكن ان اتجاوز قوى الشر الحاقدة لقتل الفن والثقافة على الرغم من ذلك ينتابني شعور باننا أنا وزملائي.. نجاهد ونستبسل ونرسم سبلاً للبقاء كما لو كنا نمارس حياة الابداع ونحن تحت اشراف طبي يتخصص بعناية مريض قد يفقد حياته على حين غفلة.. امارس حياتي الفنية وانا اتوسل السماء والعناية الالهية حتى لا يتوقف الامل داخلي وتموت نقطة النهاية التي لم تبدأ بمشواري الفني.
كونكِ حفيدة لأحد رواد الفن التشكيلي العراقي هو الفنان الرائد (عبد القادر بيك الرسام) ما هو اهم درس اخذته من هذا الصرح الفني المهم؟
- لكوني انتمي لسلالة فنية رائدة وحفيدة مدرسة الفن الواقعي الرائد عبد القادر بيك الرسام.. وبحكم الفطرة الابداعية التي تسربت لي من دون ان تكون درساً مباشراً صار ينمو بداخلي الحب الى مدرسة الفن الواقعي وذلك الاحساس المتوارث باللون المتشابه والعنصر المشترك بذات التكنيك كان هذا درس غير مدروس، غير ان العامل الوراثي كان اكثر بكثير من التصريح المباشر.
سبق وان اقمتِ اربعة معارض شخصية فضلاً عن مساهمتكِ في العديد من المعارض والمهرجانات.. ماذا أضافت هذه المساهمات الى فنكِ وهل شكلت لديكِ نقطة تطور؟
- كيف لا.. هل من الممكن ان يكون الفنان فناناً من دون الارتقاء من سلم الى آخر والوصول من محطة الى اخرى.. اقامتي معارض شخصية ومساهماتي ومشاركاتي كانت انتقالات من خطوة ناجحة الى ما هو افضل بعد ذلك.. ومن ثم تحقيق انجازات تضيف لرصيدي في عالم الفن المزيد من الانجازات المتألقة كما ان هذه المحطات الانتقالية تؤهلني الى تجارب ثرية مدروسة للقادمين ولهذا عُرف عني اني اظهر في أعمال مختلفة تحمل مصداقية منفردة في نوعها وغالباً ما ابرز بعمل يثير الجدل.
اللوحة.. لغة الالوان واحساس.. ماهي السبل التي ترينها مناسبة لنشر ثقافة تنويرية عبر الالوان؟
- اللون عالم لكل شيء وخليط من الاحاسيس التي يتعامل بها الفنان على وفق لغة يعبر عنها باللون.. ليست هناك سبل لنشر ثقافة تنويرية من خلال الالوان بل هناك سبل انتقالية لنشر الثقافة الفنية.
عالم الالوان عالم مرن والطرق التي تؤدي لنشر ثقافة تنويرية هي التطلع الى صناعة افكار جديدة تتقبل مساحات خاضعة لمواكبة الفن المعاصر ومن ثم تكون الألوان حديث نجدها من خلال الفكرة وفي نهاية المنجز.
ما مدى تأثركِ بالفن التشكيلي العالمي ؟
- الى حدما تأثرت بالفن التشكيلي العالمي لما تحمله مدارسهم من ابداع اسطوري عريق فهم رواد الاسلوب الكلاسيكي والفن التجريدي والواقعي والانطباعي والتعبيري وغيرها من المدارس وهنا يمكن القول انني من عشاق سلفادور دالي لجنونه المميز في أعماله التي تبصر في خيال جنوني فريد من نوعه.. اما رامبرانت عباقري الفن فيشهد له التاريخ بالتمييز والابداع فهو احد ركائز الفن التشكيلي الاوربي ومونيه والوانه الزيتية للطبيعة فلا وصف لها غير انها حقيقة أخاذة.. هؤلاء اساطير الفن الذي لا يمكن إلا ويكون تأثري بهم الى ابعد ما يمكن وصفه كونهم رموزاً فنية لن تتكرر.
كيف تقيمين الساحة الابداعية العراقية؟
- تشهد الساحة الفنية العراقية خصوصاً في عالم الفن التشكيلي ضعفاً فنياً ملحوظاً.. ربما لان ما يمر به البلد من وهن معيشي وقسوة بيئية حيث ان الفرد صار يفكر بسبل العيش أكثر من اي شيء آخر كما ان هناك عجز فني لعدم توفير الخدمات المطلوبة للفنان ودعمه مادياً ومعنوياً واعلامياً على الرغم من ان هناك طاقات إبداعية حاربت المستحيل لتبرز وتعلن الوجود في الساحة الفنية غير ان ما اراه للاسف وجود الفنان اليوم وهو في حالة ولادة فنية عسيرة وهذا ما يقلق الاجيال القادمة اما ما يقلقني فيكم باصابتهم بالاحباط لقلة الوعي الثقافي الفني في ظل ظروف باتت تهدر ايامنا من دون هدف سوى العيش فقط.
نجد في مجمل لوحاتكِ محاولات لكشف الضغط النفسي عن المرأة.. ما هو السر في ذلك؟
- انا اتناول في أعمالي مواضيع عدة ليست عن المرأة فقط ولكن الغالب في أعمالي طرحها قضية المرأة لانها مغيبة في مجتمعنا وانا احاول ان اسلط عليها الضوء في فلسفة حوارية فنية تثير التساؤلات وتستفز المتلقي لأني افشي اسرارها عبر طرح موضوع اجسده والجأ إليه عندما اقوم بتكون فكرة تحمل قصة انشائية نسوية واشير الى ملاحظة وهي طالما طرحها الصحفيون والمثقفون من انني ارسم ما يحدث في حياتي اجمالاً وهنا اوضح هذه النقطة كما جاء في سؤالك.. انا احاول الكشف عن الضغط النفسي للمرأة بصورة عامة وابراز قضية النساء ولا انفرد بخصوصية تامة في لوحاتي إلا قليلاً وفي حالة تتغلب على الفنان ان يفجر طاقته في حينها.
هل تجدين في لوحاتك خطاباً خاصاً بكِ يمكنك والبوح بكل ما يجول في نفسك؟
- أكيد.. الفن التشكيلي لغة ورؤية فنية خاصة وخطاب يبوح به الفنان في اعماله.. وفي لوحاتي استخدم عناصر مؤثرة معتمدة على ملامح متنوعة من الاساليب تحمل مميزات مختلفة كي احقق الوصول لما اريد البوح بما يصارع داخلي.
يقال ان اللوحة تحتمل التأويل والتحليل لاكثر من اتجاه حسب رؤية ونفسية المتلقي.. ما رأيكِ في ذلك؟
- ربما تحتمل التأويل والتحليل لاكثر من فكرة لكن تبقى مختلفة بهواجسها ومكنوناتها المختزلة لدى الفنان.. البعض من اعمالي اعطاها المتلقي تغيرات عديدة اراها قريبة الى الموضوع او تشكل اضافة وجدلاً استنتاجياً مختلفاً يحمل في طياته شيئاً من المنطقية.. غير ان هناك نقطة لا يمكن الوصول إليها كما تحمل نصاً.
لكل مبدع رسالة.. ماهي رسالتكِ وهل تمكنتم من ايصالها بالالوان؟
- لكل ذوي اختصاص رسالة يقدمها للمجتمع حتى يكون عنصراً له كيان ذاتي وانساني يخدم به الاجيال ولاني والحمد لله تمكنت من اجتياز مراحل في ميداني الفني وذلك من خلال لوحاتي من دون توقف وعلى اني اجعل أعمالي شاهداً تاريخياً يتواصل مع مسيرة جدي عبد القادر الرسام أولاً.. وثانياً انني سأواصل مسيرتي الفنية وساكون على نهج كل فنان ملتزم سيعى لتحقيق الرسالة الفنية وايصالها عبر لغة الالوان.

هل الصور عالمية؟ - ندى الشبوط



هل الصور عالمية؟


ندى الشبوط


يتوقف تفسير الأعمال الفنية على مجموعة من العوامل المرتبطة بتاريخ ومجتمع وثقافة الأعمال ومفسّريها. حتى في عصر يهيمن عليه القطاع المرئي، تبقى الترجمة والتفسير من الأدوات الأساسية، مع أن التعقيدات تلازمهما لا محالة. إننا ندرك حتماً أن معنى الصورة مبني - وأن الكلمة تشكل جزءاً من هذا البناء. وفي حالة الفن الحديث والمعاصر المنتج في الشرق الأوسط، تزداد العلاقة بين المرئي واللفظي تعقيداً بفعل مجموعة من العوامل التي تعيق حالياً النهوض بالمعرفة في هذا المجال.
أولاً، لا بدّ من التوقف عند مسألة المصطلحات المستخدمة لتحديد الفن المنتج في المنطقة. وقد أظهرت الجلسة المكرسة لـ "تحديد منطقة الشرق الأوسط" في مؤتمر "الفن المعاصر في الشرق الأوسط" الذي عقد في تايت في أوائل العام 2009 الطبيعة الحرجة والحساسة للقضايا المطروحة في ما قد يبدو في سياق آخر مشكلة تسميات بسيطة. الواقع أن عدداً كبيراً ممن يعملون في الميدان يجدون أنفسهم باستمرار مضطرين لتبرير وتفسير كل ما يستخدمونه من مصطلحات في غياب أي توافق في الآراء حول هذه المسألة.
إن المصطلح الجغرافي السياسي "الشرق الأوسط" مضلل بطبيعة الحال على الصعيد المعرفي، بما أنه يندرج ضمن ثنائية مبنية متناقضة العناصر تضم الشرق والغرب. وعلاوة على ذلك، يظن البعض أنه كفيل بالترويج لخطاب العدائية. فكيف يمكن للمصطلح أن يمثل ثقافة المنطقة كما يُطلَب دائماً من فنه بحيادية تامة؟ مع أن الخطاب المعاصر يدعو إلى قبول الاختلاف والاحتفال به في الشرق الأوسط كما في أماكن أخرى، يبدو أنه لا مفر من "تجوْهُر" المنطقة، بما يكتنزه الوعي الغربي من تراث خيالي ما زال مقنعاً. وفي وسائل الإعلام الغربية، غالباً ما يصوَّر الشرق الأوسط على أنه كتلة جامدة أصولها متجذّرة في عقائد إسلام "عدواني". وبالتالي، تفيد وجهة النظر الإيجابية للمعرض أو الحدث الثقافي بأن "الشرق الأوسط لا يدل فقط على الرعب والإرهاب". ومن شأن تصريح مماثل أن يُدرج الأعمال الفنية والأحداث فوراً ضمن عالم يبتعد عن الجمالية.

على المستوى المحلي، يشكك الفنانون في المنطقة باستمرار في صحة العلامات الجماعية. فما هي الصفات المشتركة بين الدول العربية وإيران وتركيا وإسرائيل؟ يعدّ السؤال بالطبع مشحوناً لضمّه إسرائيل. وإذا كان من الممكن التسليم ببعض القواسم المشتركة بين البلدان الناطقة باللغة العربية، وتقبّل فكرة أن يكون لتركيا وإيران تاريخ طويل مشترك مع الدول العربية وثقافات متقاطعة ومتداخلة معها، فكيف يمكن تبرير إدراج إسرائيل - مع تاريخها الحديث المرتبط على نحو وثيق بالقوى الغربية؟
إن مصطلح "الفن الإسلامي" المستخدم أحياناً كمصطلح بديل مرفوض بوجه عام بسبب دلالاته السابقة للحداثة. وعادةً ما تجمع البلدان الناطقة باللغة العربية (باستثناء تركيا وإيران وإسرائيل) تحت عنوان "العالم العربي"، ما قد يبرر بدوره استخدام مصطلح "الفن العربي". شخصياً، أرى أن المصطلح صالح لأنه يعترف بالجذور التاريخية واللغوية والثقافية المشتركة بين الدول من دون تقليص الاختلافات بينها. إلا أن عدة فنانين عرب يقبلون بهذه التسمية على مضض لأنهم يفضّلون تسليط الضوء على خصوصيات ثقافتهم الخاصة، ويرفضون صلات المصطلح بالإيديولوجية الناصرية للعروبة.
في النهاية، لا يوجد - في الوقت الراهن، على الأقل - اتفاق حول المصطلح المناسب للإنتاج المرئي للمنطقة. ولعل غياب الاتفاق هذا يطرح مشكلة اليوم في كل المناطق الجغرافية في عصر يسيطر عليه هاجس التصنيف ولكنه يرفض، على الأقل على صعيد الخطاب، مفهوم "التجوْهُر". والواقع أن هذه المشكلة تبدو مضخّمة في اللغة الإنكليزية. ففي الدول العربية، تشغل الفنانين اهتمامات أخرى ويشعرون بالدهشة من الانشغال الغربي بهذه القضية. بنظرهم، إنهم فنانون عراقيون وفلسطينيون ولبنانيون، وعرب أيضاً. إلا أن هذا لا ينفي أهمية الموضوع كما لا يقصره على قضية لسانيات. وإنما يدرج النقاش ضمن الخطاب الأوروبي - الأمريكي، لا سيما أن المعاني المرتبطة بالمصطلحات بُنيَت إلى حد بعيد خارج العالم العربي بأي حال.
بعيداً عن مسألة المصطلحات المشحونة، تطرح التفسيرات الثقافية مزيداً من الإشكاليات عبر استخدام جدلية أوروبية – أمريكية مر عليها الزمن هي جدلية التقاليد مقابل الحداثة في نقاشات الفن المعاصر في الشرق الأوسط. وللتخفيف من وطأة الشعور بالذنب بسبب استبعاد أجزاء واسعة من العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، من الخطابات حول الحداثة، اقترحت حقبة ما بعد الحداثة فكرة "عناصر الحداثة البديلة" طارحةً التعددية مكان المفهوم الثابت والموحد للحداثة. ولكن الناقد والمنظّر الأدبي الأمريكي فريدريك جايمسون اعتبر أن هذا المفهوم يهمل واحداً من الجوانب الأساسية للحداثة يكمن في "الرأسمالية العالمية". [1] وفضلاً عن ذلك، يبدو أن مصطلح "عناصر الحداثة البديلة" يسعى إلى أن يغفر للحداثة عدائيتها. [2] إلا أن توضيح الفرق من خلال هذا المفهوم لا يساهم في إعفاء الحداثة من عدائيتها وحسب، بل يسمح أيضاً باعتبار هذا الفرق على أنه مفهوم مستقل مكتفٍ بذاته، بما أنه يقارَن باستمرار بحداثة غربية عليا. وفي أفضل الأحوال، تحاول الجملة تفسير سبب اتباع بعض التطورات في الشرق الأوسط مساراً مختلفاً عن ذلك المعتمد في الغرب.
تصدر غالبية الكتابات عن الفن في الشرق الأوسط عن أوروبا والولايات المتحدة. من حيث المبدأ - وفي عصر العولمة والتواصل السلس – لا تطرح هذه المسألة أي مشكلة. إلا أن هذه الكتابة الانتقادية المتواجدة خارج المراكز المحلية للإنتاج غالباً ما تكون بعيدة عن التطور التاريخي للفن الذي تصفه. وقليلة هي الدراسات الجامعية التي تتناول الفن الحديث فيما يتوفّر عدد متزايد باستمرار من كتيّبات المعارض الناتجة من ارتفاع عدد المعارض المعاصرة لفنون الشرق الأوسط. وقد عزز الانتقال من فترة الخفاء إلى فترة الاحتفال بكل ما يتعلق بالشرق الأوسط الشعور بالانقطاع مع اعتبار الإنتاج المعاصر على أنه ظاهرة جديدة ومستقلة. ويتردد صدى مسار الإخراج من السياق هذا في نزوح مراكز التفسير عن المنطقة بحد ذاتها إلى خارجها، وهو اتجاه ازداد مع الجالية وتنقلات عدة فنانين معاصرين. وقريباً، قد يثبت الفن في الشرق الأوسط أنه مرتبط من بعيد فقط بالمنطقة.
إن هذا الوضع يؤثر بطبيعة الحال في الإدراك المحلي للإنتاج المرئي المعاصر وتلقيه. وإذا كان معنى الأعمال الفنية مبنياً وفقاً لمنهجيات ومصطلحات ونظريات وخطابات أوروبية - أمريكية، فكيف يمكنه التفاوض أيضاً على الوقائع المحلية السائدة في منطقة الشرق الأوسط؟ وكيف يمكن ترجمة المعرفة المنتجة حول هذا الفن بطرق يسهل فهمها محلياً؟ [3]
تميل الفوارق بين العالمي والمحلي إلى أن تزداد أهمية بفعل المعارض الموضوعية التي تحظى برعاية فنية في الحلقة الأوروبية – الأمريكية يقدّمها قيّمين فنّيين غير محليين مدربين في مجال الفن في العالم الغربي، وقد انتهى بهم المطاف أيضاً ينتجون معظم ما كتب حول هذا الموضوع. ولا يخفى أن غالبية مواضيع المعارض تنتمي إلى ما أسميه بالاستشراق الجديد - شرق أوسط جديد شيّد في الغرب رداً على الاستشراق التقليدي، سواء كرد فعل أو تصويب. وبطبيعة الحال، ترافق تنامي الاهتمام بهذا الموضوع بعدد متزايد من المبادرات الساعية إلى بناء التفاهم. بيد أن معايير معيّنة لا تزال تتحكم بالميدان ومن المرتقب أن تستمر في صياغة المساعي في السنوات المقبلة (مثلما فرضت بعض مظاهر الاستشراق التقليدي نفسها في النقاشات الحديثة على رغم عمل إدوارد سعيد البارز). وتبقى الفجوة قائمة بين القيّمين الفنيّين والعلماء في هذا المجال فيما يمتلك القيّمون النفوذ الأكبر لصياغة الخطاب المطروح.
في النهاية، لا بدّ من الإشارة إلى أن نزوح مراكز إنتاج المعرفة قد أثّر في تطور تعليم الفن وتاريخه في المنطقة. وبصفتي أستاذة مقيمة في أمريكا، أواجه دائماً مشكلة نقص الموارد المتاحة الكفيلة بالمساعدة في تدريس فنون المنطقة. ولا شك في أن هذه المشكلة أسوأ بكثير في العالم العربي حيث يتوفّر عدد قليل من الموارد المتاحة ومعظمها باللغة الإنكليزية أو الفرنسية. إلا أن بعض المبادرات المؤسسية حول العالم العربي كما الأبحاث الجديدة والتفكير الحرج الذي يتسلّح به عدد متزايد من العلماء الشباب تدل على توجهات مبتكرة ممكنة للنهوض بالمستقبل في هذا المجال.
ملاحظات:
1. فريديريك جايمسون، عصرنة فريدة، لندن، 2002، ص. 12.
2. راجع سلافوي زيزك، ""الثورة الناعمة" المستمرة"، كريتيكال إنكوايري، العدد 30، رقم 2، 2003 – 2004،http://criticalinquiry.uchicago.edu/issues/v30/30n2.Zizek.html
3. يبدو النقص الحالي في المصطلحات الموحدة في اللغة العربية جلياً في نسخ المصطلحات الغربية بالحرف العربي بدلاً من ترجمتها. وعلى سبيل المثال، لا يزال المقابل العربي لمصطلح "curator" قيد النقاش لأنه يجدر بترجمة جذره إلى اللغة العربية أن تجد مبررها في المراجع

القاص المغربي أحمد شكر: كل يسعى إلى ترويض أبدية الوجود - حسن البقالي


القاص المغربي أحمد شكر:
كل يسعى إلى ترويض أبدية الوجود

 حسن البقالي


تحت هذا العنوان نود أن نعرف بمن أمكننا التواصل معهم ولقاؤهم على أرض الواقع ضمن لقاء قصصي بمدينة تيفلت، من الأصدقاء والزملاء كتاب القصة. ننطلق في هذا المسعى من نية الاحتفاء بكتابنا وإسباغ الأهمية الضرورية على لقاءاتنا القصصية، كي تتجاوز شكل الحضور العابر والمرتجل في كثير من الأحيان.
ننوه بدءا بأن التقديم قراءة خاطفة لمجموعة قصصية للكاتب (قد تكون المجموعة اليتيمة له، أو المجموعة الوحيدة التي أملكها ضمن مؤثثات مكتبتي الخاصة،أو المجموعة الأخيرة) تقع في منطقة وسطى ما بين التقديم المألوف والقراءة النقدية، ونضع فيها الأصبع على خاصية أو أكثر مما رأينا أنها تسم عمل الكاتب.
نتبع التقديم بسؤال مستوحى من قراءة المجموعة وموجه للكاتب قبل يوم اللقاء والسؤال بورقة الجواب المعدة من قبل الكاتب.و نتبع الجميع بقصة للكاتب ستكون إجمالا هي القصة المقروءة ضمن فعاليات اللقاء، سواء كانت من قصص المجموعة موضوع التقديم أو مجموعة أخرى من اختيار الكاتب.
حسن البقالي
هذا اللقاء مع: أحمد شكر:
التقديم:
قاص لا يجد عن القصة القصيرة بديلا - حتى اللحظة على الأقل - ، ذلك أنها الشكل الأنسب للتعبير عما يود إيصاله ككاتب. ولعله يعيد على المستوى الفردي ما سبق لعبد الله العروي أن طرحه على المستوى المجتمعي..و لا يهمه إلى أين يمضي النهر (نهر الكتابة بالطبع) بقدر ما تهمه الخضرة التي يمكن أن يخلفها وراءه.
صدرت مجموعته الأولى بعنوان أمازيغي جميل "تودة"
والمجموعة الثانية كان للعين الرائية للقاص أحمد بوزفور أثر في تسميتها فإذا "العناصر" تستوي عتبة لها وتستجمع ما توزع من ماء وتراب وهواء ونار ضمن أضمومة.
هناك مدماكان أساسيان تنهض عليهما:
أولهما أن التصفيف النصي للمجموعة جاء مستجيبا لإحدى وظائف العنوان كمبشر بالمحمولات والمتون، مما يجعل من النصوص حزمة سردية موحدة ولو توزعت على أربعة ألوان.
وإذا كانت الدراسات النقدية الحديثة تولي أهمية لكل ما يساعد على إضاءة النصوص من حواش ونصوص موازية ومتخللة وعتبات، فإن عنوان "العناصر" الذي يعلو قمة المجموعة مثل راية حمراء متعذر تجاهله، وأية قراءة للمجموعة لا تنفذ إلى دقائقها إلا من خلاله.
فهنا ربط لسؤال الإبداع بسؤال الكينونة، سؤال النشأة ودهشة البدايات الذي تفرقت دماؤه زمنا بين العناصر الأربعة كإسطقسات متعددة لجوهر واحد هو الإنسان.
ثانيهما الحضور المكثف للسؤال داخل المجموعة، حيث يشكل السؤال المفتتح والاستراحة والمحفز لاستمرار الحكي وانتهاك أي يقين مفترض. إنه إحدى التقنيات الأساسية التي تلح السرود داخل المجموعة على امتطائها منذ أول جملتين سرديتين في أول قصة: "هل ارتاح الجنود يوما؟ ومن أوجد أصلا هذه المهنة؟" وكأن سارد أحمد شكر ذاك الطفل الأبدي الذي ما ينفك يواجه متغيرات المحيط بالسؤال، لولا أنه طفل تجاوز الثغثغات الأولى إلى لغة شعرية ناصعة وأنيقة.
السؤال:
أستاذ أحمد
إضافة إلى هذه الخيمة الرؤيوية التي تغطي فضاء المجموعة ككل، الملاحظ أن لك ولعا بالكتابة الشذرية التي تذري العالم وتنسبه إلى أرقام..
بين الرقم والحرف.. النسبي والمطلق، كيف تبدو لك سيمياء الكتابة: هل هي اقتناص لأرواح الواقع المحلي أم سفر بين العوالم والأكوان والأزمنة؟
ورقة الجواب: شغف الكتابة
كل يسعى إلى ترويض أبدية الوجود من خلال منمنماته الخاصة، ومسلكي الجد بسيط هو الشغف بهذه اللغة المسكونة بحزنها التاريخي.
هناك دائما أسئلة عالقة كالمسلات البابلية الممحوة من شاشة الرؤية العامة كسؤال النهايات وما يدور في الأذهان الشاردة و الماورائيات، لكن علينا نحن أن نعمل بطريقتنا على ترويض لغتنا الخاصة لأنها الضابطة لإيقاع وجودنا وعلامتنا الفارقة، والفاتحة شقا لفهم الصيرورة العامة للحياة.
الكتابة هي محاولة لترويض هذه الغربة التي نستشعرها سواء في المكان أو في الزمان لأنها الفعل الجوهري بالنسبة لنا، سواء في إطلالتنا على العالم أو في تعاملنا معه، وتمثل وتبصم إصغاء الجسد إلى حركة الوجود بكل تدفقه، نغرف من هذا القاموس المرهق والمفتقر إلى التجدد ما استطعنا إليه طريقا كي نطعم معجمنا الذي أصيب بالتخثر والإرهاق.
نقيم في الحدود الدقيقة الفاصلة بين المماهات والخصوصية الذاتية دون أن نتخلى عن هذا الهوس الطاحن بكل الأرواح المستكينة والمتمردة أيضا التي ظلت عالقة بشقوق الأمكنة التي عبرتها و عبرتني،  فتنت حد الهوس بشعرية الأشياء الصغيرة الكامنة في ثنايا الحياة و العلاقات الخفية الرابطة بين المحلي المسرف في ضموره والكوني العابر كل الأزمنة.
المحلي متمثل في ذبذبات الوجود المضاجعة لسمفونيتها الخالدة وكيف تأسرك مشاهد مقتطعة أو في طريقها إلى الانمحاء بكل ألق أرواحها المقيمة هنا وهناك والسفر في عوالم المداد وما يسبغه على وجودنا الفيزيقي من ترحال دائم.  
القصة: كفن عام
صباح ربيعي ندي، عبور منخطف لمتسوقين مستعجلين وانتظار مرهق لفاتح باب الرزق.
زبناء الصباح جديون يشترون دون مغالاة في الشطارة على خلاف زبناء العشية المهووسون بالتفرج وهدر الوقت والجهد.
وقفت بباب الدكان، ملأته بطلعتها التي تشي ببهاء عمُر طويلا في هذا الجسد الذي لا زال صلبا واقفا بتبات وعزة تقطر من كل تقاطيع هيكلها، حتى الشامة الوحيدة الموشومة على الخد الأيسر بلونها الأخضر الباهت تفرد بوابة الخيال لاستحضار تاريخ امرأة باذخة، لم تكن يوما مسرفة في عرض زينتها ولا راكدة وراء وهم الموضة السالفة الناهلة من دم لحظتها.
وأنا أسألها حاجتها منحتها كرسيا لتريح هيكلها الستيني أسلوب اعتدناه لضمان جيب الزبون وسد منافذ الزيغان لديه، استوت على الكرسي وقالت:
- أريد كفنا.
- رجل أم امرأة؟
- امرأة.
هكذا نبست وظلال ابتسامة بهية تهيم على المحيا الدائري.

فردت الثوب الأبيض الناصع ذو الخطوط الخشنة وتناولت المتر بين يدي لتأدية طقس تعودت عليه بكل ميكانيكية، لاحت مني التفاتة لمحياها الذي كان مبتهجا ولا أثر لأية مسحة حزن عليهـا فرددت شفتاي لازمة تعودنا عليها ونحن نقيس: "الله يرزقكم الصبر ألالا"
تألقت ابتسامتها أكثر وهي ترد علي:"هاد الكفن ديالي"
مادت الأرض بي وأنا أستحضر حكاية أمي عن جدتها التي كانت تحمل كفنها في ظهرها كصغير عزيز ترف عليه بكل حناياها، استحضارا منها ربما لحتفها المترصد بها أبدا، وربما هي ندرة الثوب في زمن ظن حتى بالطعام على البشر الذين تهاووا في الطرقات فارغي البطون، ولكن هذه المخلوقة التي يشع نورها في أبهاء المحل تجلس مطمئنة وكأنها غير معنية بكل هذه الأسئلة التي تعتمل في أعماقي والتي أطلقت شراراتها حتى دون أن تستأذن في طرق قدري، وكأنها خبيرة بما يجوس في الأعماق نبست حتى دون أن أنتبه:
- مالك جاك هادشي غريب؟
-لا..لا.
- شوف أولدي، لموت هنا حدا جدارة لودن، باركة ما بعيدة والو.
آمنت على قولها بهزات من رأسي لكنها لم تكتفي بما قالت، بل أردفت قائلة:"سعدات من اهتم بقبرو وصلحو، شوف أولدي، لقبر ظلمة كينغل باللفاع والعقارب، والعمل الصالح هو من يجعل الخوف يذهب والنفس تطمئن لهذه الحقيقة"
لم أجد بما أجيب عليها غير تحريك رأسي بحركات تعضض ما نبست به.
من أين لي جرأتها، اطمئنانها، تجربتها وغناها الروحي، وإيمانها بحتمية نتلفظ بها شفويا فقط ؟

طويت الثوب، ووضعته في كيس بلاستيكي أسود كي يحجب هذا البياض الناصع المخيف.
لم تساوم أو تناقش كما تفعل عادة النساء قبل تأدية ما بذمتهم، نقدت الثمن بكل أربحية ثم أردفت:
-هذا هو الكفن السابع الذي أشتريه، ولا أعرف إن كان لي أم من نصيب امرأة أخرى؟
لم أفهم، ورغما عني أفصحت شفتاي عن حاجة عقلي كي يعرف:
- كيف؟
- كيفاش؟
- هذا كفن عام.
- ما يقفلش عندي عام في الدار وإلا كان من نصيب أول مغادرة.
- في سبيل الله؟
- نعم في سبيل الله ألم أقل لك أنه يجب علينا أن نفرش قبورنا...
وغادرت وتركت لي عشرات الأسئلة التي كانت مزدحمة على تخوم القلب والشفاه.


فينسنت وطيو فان خوخ الفن والأخوة حتى اللحد-*نصيرة تختوخ




فينسنت وطيو فان خوخ الفن والأخوة حتى اللحد
*نصيرة تختوخ
ثقافات

فان خوخ في حكاية قطعه لأذنه أو اعتباره الفنان المجنون رغم صحة التفصيلين في سيرته المليئة بالدأب والإنسانية والتفكير والتأمل العميقين.
إن أي شخص يقرأ رسائل الفنان خاصة لأخيه طيو الذي دعمه وكان له المستمع والمحاور والسند سيلمس ذلك النبل الموغل في روح الفنان والاختلاف مابين الإنسان النمطي والعادي ومن أوتِيَ الموهبة ورقة الحس.
يصف أنطون فان رابارد فينسنت فان خوخ بعد وفاته لوالدته في رسالة فيقول :'' إن من رأى ذلك الوجود الصامت، المصارع، المتألم، لن يشعر باستلطاف الرجل الذي طالب جسده وروحه بالكثير حتى أنهكهما.لقد انتمي للفصيلة التي يولد منها الفنانون الكبار ''.
ينصف فان رابارد صديقه بهذا الوصف الأخير وتشهد مجموعة الرسائل والأعمال المحفوظة للفنان المنتحر أنه كان دقيقا ومحقا فيما صرح به.
يتعثر فينسنت فان خوخ في حياته العملية بداية بالمشوار الديني ثم التجاري وينغمس في الفن تماما دون أن يوفر له المردود الكافي أو حتى مايغنيه عن معونة أخيه المادية لكنه يواصل دأبه بشغف منقطع النظير متابعا في الوقت ذاته مسيرة ونجاحات غيره من الفنانين والأدباء مبديا تقديره وإعجابه بدون عقد تذكر لايمكن إلا أن يكون من خامة الكبار والعظماء إنسانيا.
الانتقال من المناظر الداكنة إلى اللوحات المضيئة وركوب موجة التأثير اليابانية للخروج بألوان وأفكار جديدة ،استكشاف التمازج اللوني وقراءة الألوان في لوحات الغير لم تكن المراحل المؤدية إلى معرض أو صالون كبير لكنها تنقلات الفنان الذي يسعى نحو مايريد تطويره وإتقانه والوصول به إلى الرضا والجديد. 
كان يريد أن يقول في لوحة شيئا مواسيا كالموسيقى ولايستطيع أحد أن ينكر أن التموجات في السماء وشجرة السرو والنجوم المضيئة لا تفتح الكون الساكن من حولها على تناغمها الداخلي ليغيب الرائي في مشهد آخر ويخرج بطقس أكثر جمالا وانفتاحا, أزهار شجرة اللوز تبلسم القلب بودعاتها والمزهرية المثقلة بأزهار عباد الشمس تمارس أُنسها كأي معزوفة تنجح في العبور إلى ماخلف الوضوح.
فينسنت الذي يختم رسالته في 9 فبراير/ شباط 1886 مستحضرا مانز المتحدث عن پول بودري بما يلي :'' لقد اشتغل على تجديد الابتسامة '' يرفع أوجين دو لاكروا عاليا بتساؤله إن كان ليس مناسبا القول أن دولاكروا اشتغل على تجديد الشغف ويرتفع معه بقدرته على الجمع بين الملاحظة والتعبير والنسق وصفاء الروح.
مايستسهل البعض تسميته بتهكم جنونا يمكن أن يليق به توصيف أنسب هو المرض والانفلات من الإدراك صعب وقاس أثناءه وبعد.
الصداقة والإخوة التي جمعت فينسنت وطيو فان خوخ تركت للإنسانية إرثا يشهد على كيان ووجدان الفنان وروعة الرابطة الإنسانية حين تصبح ضربا من الإيمان بالواجب والمحبة والثقة التي لاتهز.
كل لوحات فينسنت فان خوخ في المتاحف العالمية وراءها المجهود والموهبة والإنتباه ومحبة أخ لأخيه ودعمه له ماديا ومعنويا.
كتب طيو لأخته في 13أكتوبر 1885 :'' فينسنت واحد من هؤلاء الذين شاهدوا العالم عن قرب وانسحبوا منه. بقي علينا الآن أن ننتظر أن يظهر إن كان عبقريا فعلا أم لا.
أومن بذلك...عندما يتحسن عمله سيصير رجلا كبيرا. في مسألة النجاح يمكن أن يكون مثل هييردال(فنان نرويجي كان مقيما في باريس) محبوبا من طرف البعض لكن لا يفهمه الجمهور الواسع.
من يهمهم فعلا , ومن القلب, الفنان الذي في جعبته شيء ما و يتبينون ماهو مجرد ذهب زائف سيقدرونه حقا وأظن ذلك سينتقم له بشكل كاف من الاستياء المعلن من طرف كثيرين ''.
بعد وفاة فينسنت في 27يوليو 1890دخل طيو في حالة كآبة صعبة وأدخل لمصحة لعلاج المرضى عقليا توفي في 25 يناير 1891 ونقل جثمانه حسب رغبة زوجته ،التي جمعت رسائل الأخوين ورتبتها وأتاحت للعالم فرصة التعرف عليها
، ليرقد إلى جانب أخيه في أوڤير سور واز Auvers Sur Oise في فرنسا.

الجمعة، 27 مايو 2016

أختام *- عادل كامل























أختام *

 الختم الثاني

عادل كامل
[1] من الظلمات إلى النور
     بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
     هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
     عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
     وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان)  بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
     فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
     هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
     وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها. 
     على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل  عام 1980، عام الحرب.  لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة  بسبب زميل كلفني بعمل  وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
    كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا،  والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
     كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته.  فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة  الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة 




     الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً. 
     ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف  ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
     انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود.  فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً    ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات.  فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال. 
     هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!

تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.