الأحد، 14 فبراير 2016

أختام*-عادل كامل

















أختام*


عادل كامل

[11] من الصخرة إلى الرأس: الدائرة ـ مثلثا ً
     قبل أن تأخذ السلطة علاماتها، كان الرمح، رأسه، قيد الاختبار. انه أداة الحفر عند الجسد: الرأس/ المثلث، عدا الأصل المحور عن الدائرة/ الصخرة/ القلب/ الكرة/ وقبضة اليد. انه ليس تحولا ً عفويا ً، جرى بمحض المصادفة، من الصخرة إلى المثلث، بل كان تدوينا ً لحقبة زمنية تحولت فيها أدوات الدفاع إلى أدوات: غزو. فالصخرة صقلت، كي تأخذ شكل الناب، نموذجا ً لرأس الشوكة، المنقار، فالعين في أصلها أداة استطلاع، وليست أداة قتل. على إنها ستبقى مزدوجة الأداء، كي تحافظ على مرونتها، وغايتها، ولغزها في الأخير.
    فما الذي حدث، وكأن سيناريو الموجودات يحدث ببرمجة لن تقبل الميلان: إن الأصابع راحت تصنع ـ إن لم اقل تجد كما كان يعثر ما يكل أنجلو على تماثيله مخبأة داخل الخامات ـ المثلث في الصخرة، وتستخرجه، حادا ً، كأنياب الذئب أو التمساح، ليؤدي الدور نفسه: دحر الآخر، كي تصبح الطريدة ضحية، وكي تتوارى في المثلث قواه الخفية.
   هكذا أصبحت السلطة هرما ً في مواجهة لا نهائية الصحراء، ولا نهائية الموت، وهكذا تحول القتل إلى: سلطة. فالهندسة عدلت العشوائية، ورأس الرمح، كالهرم، كلاهما ممر لعبور اللغز، تحديا ًبانتظار الذروة.

   ها أنا أعيد نحت المثلث، ولكن بمعنى أن المثلث يشهد دفنه، في مأوى مقيد، فهل استعرت ـ ضمنا ً ـ آليات عمل البذرة: لا يكمن لغز بعثها إلا بعد الدفن؟
    ولكن المثلث سيؤدي دور الصوت الجمعي، عندما يصيح هرما ً: لأن السلطة لم تعد رمزا ً للميت المبجل، الفرعون، كحاصل خبرات مركبة للطب، الفلسفة، الهندسة، والثروات، والقوة فحسب، بل تحديا ً للموت: علامة اكتملت بقصد تجاوز مفهوم سلاسل التحديات، كي يعادل الخلود نقيضه، باستحالة الفناء، ولكن بديمومة غير قابلة للدحض.
    ومع إن الهرم امتلك مقومات السلطة ومكوناتها، إلا أن الآخر ـ اللا ـ كل الذي بدا موتا ً أو فضاء ً أو زمنا ً ـ لن يدعه يتمتع إلا بمظهر المرور، مادام، في النهاية، يدخل في صميم عدمه.
   يا لرأس الرمح، الذي سكن الصخرة، أكان وسيلة لغاية، أم كان غاية استخدمت للمرور...، وقد أفضى إلى صناعة حكاية لم تدم أكثر من ديمومة صانعها، وقد سكن زوالها...؟
   أيا ً كان هذا الاختراع، وأسبابه، كالدواة قتل (من حافات أوراق النباتات الحادة إلى أسنان الذئاب، والى أسنان السلاحف، والجرذان، والبشر)، بوصفه رمزا ً للسلطة الهرمية، من الرأس إلى القاعدة، فانه سيعيد أداة الحفر، وهي أداة الكتابة أيضا ً، لإعادة دفن الملغز، داخل أشكاله، وعلاماته، من غير إضافات ذات شأن عدا التي تغذي ذهابه ابعد من حضوره الوجيز.


[12] فجوة
     كيف أستطيع أن أصل إلى نهاية أنا نفسي اعرف إنها بلا حافات...، بمعنى: ما القوة التي سمحت لي ـ وقد تحولت حجرتي إلى حبة رمل/ وإن عدد المجرات التي أراها اليوم هي أضعاف أضعاف حبات الرمال في سواحل محيطاتنا ـ أن أقع في غواية ما، واصدق ـ حتى لبرهة ـ إنها اللامبالاة الأجمل؟!
    هو ذا المشهد يكتمل: انك أما مع النهار ضد الليل، أو مع الليل ضد النهار، وليس لديك قدرة أخيار احدهما أو دحضه....؟ فانا أسير منفاي ـ مثلما الشكل أسير دوافعه وعناصره ـ وعندما لا امتلك إلا غواية اختيار هذا المنفى، وليس سواه، فان الاختيار ـ ذاته ـ ليس أخيارا ً، فأي سراب أغواني، ومنح أصابعي أن ترى ما لا يراه القلب، بعد أن تحولت الكلمات إلى حجابات، والى جدران معزولة داخل منفاها؟
   لقد أمضيت حياتي ابحث عن ملاذ...! فهل حقا ً أصبحت اصدق نفسي، بالسكن أم بالمتاهات...؟
[13] الفراغ ممتدا ً
   هناك مسافة ما (فجوة) بين ظهور الكلام ـ الكتابة، ونهايتهما: فجوة الكلام/ الكتابة التي اقترنت بالإنسان المخلوق الأرقى في الحفاظ على الجهد المبذول خارج وعيه ـ ووعيه طبعا ً، بمحاولة الحفاظ على كل ما يراه يذهب، مثلما ولد: منفيا ً وزائلا ً معا ً..؟ هذا هو ما أطلق عليه بالتاريخ، تصنيفاته، بحسب أدوات الإنتاج، ومنها: التصوّرات، المثل، الأفكار، والأنظمة الاجتماعية/ الثقافية، بمختلف صنوفها ـ وأشكالها.
    وها أنا أصل إلى الذروة: إنني لا امتلك حتى الحد الأدنى في دحض مثل هذا الاختيار، لكائن اشتبك في عراك مع الخارج، بحثا ً عن مأوى، لا امتلك حتى نفي قدري على النفي، فكيف أغري ـ اغوي ـ اخدع ـ إنني املك واحد بالمليار من الصدق؟
    وها أنا أصدع، اخدش، أشوش، مثل هذه القناعة، ومثل هذا الوهم، فأدرك إن هذه الحقبة لا تمتلك معيارا ً للحكم، وإن النسبية، برمتها، لا تختلف عن السراب، لكن الماء، في الأصل، تتوارى فيه أللغاز كلها، النائية إلا عبر وهمنا بالوصول إليها. لأن المشتغل في تفكيك الكتابة ـ الكلام،  لا يجد لغزا ً ما غير خاضع للتفكيك، كي تكون الخاتمة: إن شيئا ً ما وثب من حقبة ما قبل التاريخ ـ إلى حقبة ما بعده!
     يا لها من غواية اخترعت ممنوعاتها: تابواتها: ممنوع الموت، لكن ثمة مبررات لا تحصى للقتل. إنها حقبة الكتابة القائمة على إرادة لم يخترعها أحدا ً، بل استحدثها، وهي حقبة، قياسا ً بزمن الديناصورات أو السلاحف أو الحيتان أو الفيروسات، تعد، لحظة عبور من المجهول إلى ما هو ابعد منه.
   فما ـ هو ـ شأني بحياة أخرى لا علاقة لها بوجودي ـ بهذا الوعي ـ عندما لا امتلك إلا هذا الوهم: أما أن لا اقتل، وأما أن اقتل...؟!
     هل ثمة حضارة لا نجد في أسسها براءة لم تنتهك؟ أقول حضارة ـ وكان علي ّ أن أجد كلمة أخرى ـ  لأنها، تنتمي إلى الكتابة، تميزا ً، عن الأجناس ذاتها التي مصائرها قائمة على ديمومة كل هذا الذي لا ديمومة له.
    لم ْ نولد كي نؤسس حضارة، تلك قناعة فرويد، ولكن ماذا عن تاريخ التطور، عبر السياق ذاته، كي نرى، على نحو أدق، ما خلفته المعتقدات من مبررات لسفك الدماء، وبصياغة أقنعة تؤدي دوري الغواية/ التمويه، والخداع...؟
     ربما لا براءة لأحد إلا للذي لا وجود له في الأصل، وهذا ـ بحد ذاته ـ اعتراف  يؤكد استحالة وجود براءة أصلا ً! فعندما يغيب المعيار، ما معنى الحكم؟
    فهل استطيع التقدم في فراغ مشغول بمثل هذا العدم الممتد، وأنا كيان لغوي بين أنظمة لغوية بالكاد بدأت أفك الغاز دويها، وتصادماتها، السابقة على وجود (مجرتنا) و (مجموعتنا الشمسية) و (كوكبنا الأزرق)، وكياني ـ هذا الأقل من حبة رمل ـ في نهاية المطاف؟

[14] القلم
    على إن أداة الكتابة السومرية، كجزء لا يتجزأ من بنية الكتابة المسمارية، قبل 5 آلاف سنة، ترجعنا إلى عصور المغارات، وربما، بحسب الآثار الأقدم، إلى عصور أقدم. . فالقلم هو الأداة الأقدم لمشروع الانتقال من عصر الاقتصاد البري إلى عصر النار. وثبة دخلت فيها المعادن عنصرا ً للمشروع الذي مازالت تتوارى (غائياته)، إن كانت شبيهة بحدود تاريخ نوعنا، أو كلية، بما يخص الكل ـ باتجاه: استحالة تحديد غائياته.
   على إن أداة الكتابة ليست هبة؛ بل هي حصيلة اشتباك بالأيدي، وبالجسد، ضد الخطر المنظور، وصولا ً للعثور على مناطق اقل تعرضا للأذى، والتلف، والزوال: مناطق محصنة، لا مرئية، قائمة وراء الجدران، وكاتمة لأقدم فعاليات السر، والأسرار.
    كانت أداة الصيد، عمليا ً، قد استبدلت الطريدة بالإشارة، والصورة ـ بعناصرها الأولى: الخط/اللون ـ لبناء برنامجه السحري. فالفعل ليس مسليا ً إلا بحدود منحاه التوليدي: الهيمنة. فالرسومات الأولى ليست مشروعا ً فنيا ً، أو تعبيريا ً، أو جماليا ً إلا بوصفها تحديا ً للآخر، في مشروع الصراع ضد الغياب. فالجانب العملي حتم أن يذهب ابعد من الانتصار، على الضواري، وعنف الطبيعة، وضمنا ً، الجماعات البشرية في عراكها من اجل الموارد، والأرض.
   فتلك الأدوات الحادة، التي حفرت فوق العظام، والخامات الأخرى، وصولا ً إلى الطين، كانت شبيهة بالمسمار: رأس الحربة، الرمح، السكين...؛ أداة استبدلت تخصصها من القتل إلى النقش.   فهل تضمن ذلك خروجا ً عن الأصل، أم إخفاء ً له؟
    فإذا كانت تراتبية الأنظمة الجمعية، من القاعدة إلى القمة، لم تتغير إلا عبر أشكالها التمويهية (الأيديولوجية والافتراضية)، فان الكتابة لم تصر فنا ً مستقلا ً أو معزولا ً عن هذا البناء، بتعددية عوامل ديمومته، كصراع محكوم بزمن دورته، تاريخه، وليس نتيجة التصوّرات، الاحتمالات، والبناءات الشكلية.
   فهل ثمة كتابة من اجل الكتابة، تذهب ابعد من اقترانها بفلسفة: أبدية التحولات، لكنها واقعيا ً ليست خالصة. لأن الأشكال ليست قبلية حسب، بل لأنها تولد بنفيها. ولأن النسبية تدلنا على الاختلاف، فإنها لن تصبح مطلقا ً.
     فانا لا اعرف، ليس عدم معرفتي، بل أن أتوغل ـ كلما تعلمت وتقدمت في المعرفة ـ إن الذي اجهله وحده خارج أدواتي. فانا محكوم بعدم المعرفة، وما أنتجه ليس إلا درجة لن تقودني، بعملي الحثيث، إلا بما ينقلني من كائن أصله ينحدر من العفن، المجهريات، والاميبا ..الخ، ونظامه مازال مشفرا ً بالزواحف، والثدييات، فان كلماتي، ضمنا ً، تحجب عني رؤية هذا الذي أسعى لمعرفته. وحتى موتي، في هذا السياق، لن يستقل بذاته، ليس لأنه جزء من كل، بل لأن احتفاظي بهذا التوتر، علامة له.
    هكذا، ببساطة ستكون النقطة أول الدرب. وسيكون الألف، بتراكم النقاط، معيارا ً لباقي الحروف.

    فهل تخفي الكلمات، بنقاطها، حكاية الكائن الحي، وموته، أم أن هذا الذي لم يدمر، منذ تكون خلايا الخلق الأولى، يتحدث عن استجابة لتحديات شكلت لا إرادته المقّيدة بالكل، وليس بهذا الذي لا علاقة له بالتصورات ـ وعلاماتها، إن كانت مجسمات أو رسومات أو حروف أو فخار ....؟
   تحثنا العلوم؛ من الكيمياء إلى الفيزياء النووية، وتحثنا العلوم المثابرة على تحديد: اللا متوقع ـ والمكتشف توا ً، وعلوم البحث في اللا مرئيات، إلى عصر نهاية: الكتابة، ولكن ليس إلى عصر نهاية الحياة. ذلك لأن تطور الأدوات، يهدم الثوابت، مهما بدت محمية بنظامها الهرمي (ثروات/ أسلحة/ أيديولوجيات) فلا احد يمتلك قدرة ماذا سيقال عنا، مثلما لا نمتلك قدرة تحديد لغز نظام الخلية، ومعناها بمعزل عن نسبية أدواتنا، ومعاييرنا، في نهاية المطاف.
    فالأدوات البكر للنقش، الحفر، الحز، لم تغادر مشروعها بالحفاظ على كل ما نراه ينحدر، مع ماضيه، عندما استطيع أن أشاهد، ما لا يحصى من المجرات، وأنا لا امتلك إلا أن أغذي فضولي باليات أنظمتها. ألا  تتشكل لحظة التفّكر، والأمل في مشاهدة هذا الكل المرئي، بما يخفي من امتدادات، دحضا ً لقيود تاريخنا المشترك؛ من المجهريات إلى الزواحف، ومن الثدييات إلى قشرة أدمغتنا، برفقة باقي المكونات الحية، وإنها، في الأصل، لم تمنحنا إلا هذا الذي كلما توغلنا في مدياته ازداد جاذبية، وليس عجزا ً أو وهنا ً، في تنفيذه؟

[15]  اللا شعور ـ الوسط ـ الانجذاب
   على إن رأس الرمح، بين أدوات الصيد الأخرى، شبيه برأس الهرم، فوق الأرض، أو فوق الورقة، كلاهما لا يغادران حدودهما. إنما كل منهما هو جزء من الكل. فالسلطة لا تمتلك هويتها إلا بنظامها المكون من أجزاء، من الشكل إلى لا متناهياته. يضاف إليهما ـ مع آليات نظام المركز ـ سلطة الوسط، لدى الأنثى، في نوعنا.
    ثمة إشارة قد تكون صائبة: إن الاتصال الجنسي، وجها لوجه، غدا تحولاً،  كطفرة في الممارسة، بعد حقبة طويلة مبنية على الامتطاء.  فالنوع ـ هنا ـ يعدل مشروع المداهمة، نحو: التودد ـ الألفة: العناق.
     إنها حقبة وجيزة  ومازالت غير مستقلة عن نظامنا القديم، قدم تكون الخلايا الأولى، قبل ملياري سنة، في الأقل، مع ذلك ليس ثمة ذروة، بل صيرورة، وسلسلة من التحولات.
      ألا يأخذ الوسط معناه بصفته: سلطة..؟ سلطة امتداد ـ وديمومة، يتطابق فيها الشكل مع وظيفته، عبر الوسط كأعلى أخفى ذروته،  فيه، وكأسفل بلغ الوسط، فهو سلطة ستحافظ على وجودها، في مواجهة الاختراق. إلا  إنها سلطة غواية، وإثم.  فالمثلث لم يعد يثير فزعا ً، هنا، كي يكمل عمله كقناص يتتبع انجاز آليات عمله: لفت النظر، بشكله، برائحته، أو بملمسه، أو ربما بما يمثله من باثات، من ثم يؤدي دوره في مشروع: الإخصاب.
    ولعل دفاعات الأنثى، وإحساسها بالخطر، لا يكمن في الرأس، بل في الوسط، مما يتطلب ـ بلا شعور ـ آليات اتخاذ موقف الدفاع. وحتى عند اشتداد الرغبة، كجزء من إرادة حفظ النوع، فان الأنثى لا تبذر بمشروعها إلا لصالح لا وعيها ـ وهدم سلطتها ـ من اجل ديمومة نوعها.
   فها هو ذا: المثلث، وقد أخفى مقاصده، كما أخفاها الهرم، والسهم، كي يمارس طقسا ً للإرادة، إن كانت عمياء، أو أكثر إبصارا ً، أو خارج فعل المعنى ـ القلم والكتابة ـ كمسمار يؤدي دور الذكر فوق الورقة ـ أو في الأرض، أو في الجسد.
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

شكيب كاظم سعودي.. في كتاب المرء يلقى عصا ترحاله..-مؤيد داود البصام

شكيب كاظم سعودي.. في كتاب المرء يلقى عصا ترحاله..


مؤيد داود البصام
حظي الوسط الثقافي العراقي ما بعد تكوين الدولة العراقية في بداية القرن العشرين، وظهور الجرائد والمجلات، وتعددها، بمجموعة من المثقفين والاكاديمين والأدباء، ما أطلق عليهم بالموسوعيين، فأولئك لم يكن عطائهم أحادي أنما تجد الكثيرين منهم، شاعرا ً وقاصا ً وناقدا ً...الخ، ويخوض في أكثر من نسق وموضوع أدبي وفني وفلسفي، وحتى المختصون منهم بنسق معين، تجده يلم بالأنساق الأخرى،  وأن لم يزاولها فهو عارف بإسرارها، وهي حالة تعبر عن استمرار الأسلوب أو النهج الذي كان حاضرا ً في الثقافة العربية والإسلامية للعصور المتقدمة، كالكندي والفارابي وابن سينا ..الخ  وإلى وقت قريب كنت تجد مثل هذه الشخصيات في عصرنا الحاضر، ومثالا ً وليس حصرا ً، على من لهم اختصاص ولكنه ملم بفروع أخرى، الشاعرة نازك الملائكة، ناقدة إلى جانب شغفها بالموسيقى، والفنان جواد سليم، وحبه للموسيقى وعزفه على آلة العود وكتابته الشعر، وهذه أمثلة بسيطة ولكن كان من هو أكثر إيغالا، مثل جبرا إبراهيم جبرا ,وإسماعيل محي الدين، والكرمي، وجلال الحنفي.وإحسان وفيق السامرائي...الخ، هي لم تكن هبة إلهية للعراقيين وحدهم، وإنما بقايا أثار الحضارات القديمة والأقرب حداثة بما كان فيها من بانوراميين أفذاذ في كافة أنحاء العالم، وأخذت هذه الإبداعات بالانحسار التدريجي، أمام موجة تخصص التخصص التي وضعتها مناهج الحداثة وما بعد الحداثة في النصف الثاني للقرن العشرين، ولكن ظل في العراق والوطن العربي من يتسمون بهذه السمة، ومنهم الناقد شكيب كاظم السعودي، فقد استثمر جهده المعرفي الموسوعي ليتحفنا بمجموعة كتب في الثقافة والتوثيق والتاريخي إلى جانب النقد الأدبي ،  وكتابه ( والمرء يلقي عصا ترحاله قراءات في كتابات ) الصادر عن دار فضاءات في عمان، ب168 صفحة من القطع المتوسط، جاء في ( 25 )   فصلا ومقدمة، وجاء  فصله الأول: جبران منشئا رومانسيا وليس سياسيا. يتحدث السعودي قي هذا المقال عن جبران الكاتب والفنان، وليس كما يراه من كتب في نقده لجبران، وينحاز السعودي لجبران الفنان والكاتب.وهكذا يتسلسل في الفصول الباقية، متخذا من العناوين الباب الذي يدخل فيه لا عطاء راية في  القضية أو الحادثة أو الشأن الثقافي، ومحاولا في بعضها تصحيح الخطأ إذا كان تاريخيا بناء على ما وصل إليه من خلال بحثه الدءوب للوصول إلى الحقيقة، أو أعطاء رأيه النقدي أذا كانت الموضوعة تخص الثقافة، فهو كتب عن موضوعات مختلفة ليس هناك لها وحدة موضوعية سوى وضع بعض الآراء أو الإحداث أو الكتابات على المحك وتحت المجهر، واستنتاج ما كتم وما ظهر، ووضع استنتاجاته وآراءه وأخطاء الكتاب  والرد حول المفاهيم التاريخية المخطئة، أو الحوادث التي كتب عنها من غير توثيق وإنما اعتمادا ً على الأقاويل والإشاعة، وهو في رده وضع التوثيق من المعلومة جهد المستطاع، لتصحيح ما وقع فيه الآخر من خطأ، وما أصاب المكتوب عنه من حيف، وهو عمل ليس من السهل الولوج فيه وفي دهاليزه المعتمة بعض الأحيان، وما كتبه الأستاذ شكيب في مقدمته، من إنه سوف يتخلى عن مزاولة هذا الفن من الكتابة، يعتبر بحق خسارة كبيرة للثقافة العربية والعراقية في هذا الوقت الذي تشيع فيه ثقافة الانترنيت، التي سهلت عمليات السرقة والانتحال، لعدم وجود الرقيب الذي كنا نجده حاضرا ً دائما ً، ولهذا يقول فيما كتب." هذا لون من ألوان الكتابة، لم يتوله إلا قلة من الكتاب، لان من يتولاه ويكتب فيه يصيبه شئ من وجع الرأس والنفس ، وبعض أذى لأننا جبلنا على كيل الثناء والمديح، ,أصبحت تلك ثقافة شائعة فينا، لكني آثرت الكتابة فيه – لا رغبة في إثارة الضغائن والخصومات، لكن بحثا ً عن الحقيقة أو ما أراه حقيقة، وجعلتها الهدف الذي أرنو. " المقدمة ص 9،  وإذ يكتب عن تجربة الروائي الجزائري محمد ديب، نجده في الفصل الثالث أو المقالة الثالثة إذ جاز لنا القول، يكتب ذكريات يونس الطائي الذي شهد اللحظات الأخيرة لعبد الكريم قاسم، وهكذا نجد أنفسنا نطالع مجموعة مقالات ودراسات مختلفة في شؤون وانساق متعددة في آن واحد بين دفتي الكتاب، تارة ينتقد وتارة يصحح، وتارة يطلعنا على تاريخ ما ضاع من حادثة من الحوادث، مما يجعله كتابا ً جامعا ً يستطيع القارئ من إيجاد موضوعه الذي يخصه أو يرتاح له، دون العناء في البحث بعدة كتب للوصول إلى المعلومة، فيه هذا الشكل من الإمتاع والمعرفة، والدخول إلى عوالم متعددة، كتبه بأسلوب السهل الممتنع، ليكون في متناول الطبقات كافة، من أعلى سلم الثقافة إلى أدناها، فلم يدخلنا في متاهات التقعر اللغوي، ولا وضع جملا ليبن قدراته، إنما كتبه بأسلوب يروق للجميع.   



قلق الكتابة.. اقتصاد التأليف

قلق الكتابة.. اقتصاد التأليف: استرعى انتباهي قبل أيام خبر في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية عن كاتب بريطاني ينسحب من مهرجان أدبي تقيمه جامعة أكسفورد، وهو كاتب يتمتع بشعبية واسعة ومكانة رفيعة أهلته ليكون راعًيا لذلك المهرجان على مدى الخمسة أعوام الماضية. ما استرعى انتباهي كان السبب، فعلى غير المعتاد، لم يكن ذلك السبب خلاًفا فكرًيا أو أدبًيا أو قانونًيا، وإنما

السبت، 13 فبراير 2016

7 كتب في الفن من ألشفاهي إلى التدوين- عادل كامل

7 كتب في الفن
من ألشفاهي إلى التدوين



1 [ رافع الناصري/ النهر وأنا.. عشق على مر السنين] مجموعة كتاب
2ـ يا باسل الحزن ـ مؤيد داود البصام
3ـ [الفن الحديث] تأليف: ماريو امايا، ترجمة:د. نوري مصطفى بهجت.
4 ـ [ التصميم الكرافيكي ـ دراسة تحليلية] ـ معتز عناد غزوان.
5 ـ[تنمية التذوق الفني التشكيلي ـ دراسة تجريبية] د. ماضي حسن
6ـ [تناصات المرئي] د. جواد الزيدي.
7ـ [محطات بين الطب والفن] تحرير: معتز عناد غزوان.




عادل كامل
إشارة: 

    مادام التمييز بين مفهوم التقدم/ التطور، من ناحية، والتدهور/ الارتداد، من ناحية ثانية، خلال الألف وخمسمائة عام الماضية، شاخصة في الذاكرة، لكنها لم تقدر على محو عمل الموروثات الأقدم، خاصة في بيئات مكثت خاضعة للاقتصاد البري ـ البدائي ـ رغم نشوء مدن عربية كبرى، مثل: مكة، دمشق، الكوفة، البصرة، بغداد، القاهرة .. الخ، فان عوامل الانتقال من الصوت إلى الصورة، ومن ألشفاهي إلى الكتابة، هي الأخرى، لم تؤثر كثيرا ً في إرساء قوانين التقدم/ التطور، إزاء حقب الدوران والتراجع، وكأن حقائق التراكم ـ ومجموع الخبرات والثروات ـ قبض ريح! 
   وبإمكان المتلقي، المتابع، اليوم، أن يعيد قراءة حقيقة أن العرب، قبل الإسلام، دونوا/ نسجوا، المعلقات الشعرية بالذهب، بوصفها أقدم علامة عززت مكانتها بماضيها، وعملت على تترك المستقبل مفتوحا ً...، لأن الانتقال من الإشارة إلى النقش، ومن الصوت إلى الحرف، له دلالة العبور  من حقبة الرعي/ الفضاء المفتوح، إلى المدينة، الاستقرار، ومن التشتت إلى المركز/ التحضر ـ والحضارة. ولكن ـ بعد قرون ـ وخلال العقود الأخيرة، فان ظاهرة (الصوت/ والشفاهي/ حد الخطابات التحريضية) في الشوارع، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، والفضائيات الأخذة بالزيادة بحسب خارطة الفوضى، والعشوائيات ..الخ، أعادتنا إلى عصر ما قبل المعلقات، حيث النص المدوّن، المعد للقراءة، بات خارج مجاله في عمليات البناء، إن كان تقدميا ً، أو مطالبا ً بالعودة إلى الأصول: أي إلى ما قبل عصر الكتابة/ وبواكير المعرفة.
   ولعل الصدمات مازالت تشتغل بقوة (الخلع) و (الهدم) و (التقويض) وكأن التقدم/ التطور، يتقاطع مع (الهوية) الايكولوجية/ المعرفية، حيث تؤكد بعض الإحصائيات، أن أمة (اقرأ) تراجعت، ليس قياسا ًبالأمم المعاصرة، وما لديها من فتوحات علمية، ومنجزات معرفية كبرى، بل بماضيها نفسه، في وادي النيل أو في وادي الرافدين، وقبعت في القاع.
    ولا غرابة أن هناك من يرى في هذا التراجع/والارتداد، نصرا ً مؤزرا ً في التخريب، الهدم، والعودة إلى البرية، والى محو كل اثر من آثار الخبرة، العمل، والمعرفة، أي إلى: الصفر، تقدما ً، ولكن إلى أين...؟
    ولأن النخب المعنية بالكتابة ـ القراءة والتدوين والمعرفة ـ هي الأخرى، تراجعت عن أداء دورها المشهود لها في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته انتهاء ً بالستينيات، ليس برغبتها، بعد أن أصبح وجودها (الجسدي/اليومي) مهددا ً، بل لأن التقدم في مجتمعاتها أصبح يمثل خطرا ً، مما سمح لعصر (الفوضى/ وخلط المفاهيم) أن يصدمنا بـ (معلقاته) السوداء، بل وان يتوغل في التفكيك، والتقسيم، واستبدال حقوق الإنسان، بالنهب، الاغتصاب، الاغتيال، التهجير، وتهديد الحياة ذاتها بالعودة إلى عدمها.
   إنها معضلة مصائر...، تزداد تعقيدا ً، بغياب (العقل) وتزداد استخفافا ً حتى بقوانين النبات، الحيوان، بمنح اللا شرعية أولويات تدفع بالمعرفة ـ بكل أشكالها ـ إلى خارج التاريخ.  فهل المنجزات التي حققها أساتذة الماضي، وعلماؤه، والمعلقات التي دونت بالذهب واحدة من ابرز علاماته، سيذهب مع دخان الحرائق، وغبارها...، أم أن الظلمات، مهما تراكمت، فلا مناص من إنها لا تقدر على سلب نظام البذرة من لغز انبعاثها...؟
في عام 2015، وفي بغداد، أن تصدر ستة كتب، في الحقل الفني، أرى إنها تستحق القراءة، أو بالأحرى: لفت الانتباه إلى ما فيها من إصرار على مقاومة الغياب، والارتداد، والتشبث بحياة تنتمي إلى الألفية الثالثة، وليس إلى عصر الأصوات، والى ما قبل التاريخ.

 لمتابعة المقال يرجى الضغط على الرابط ادناه  

http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N





أعمال "التحية" في الفن-د.إحسان فتحي








أعمال "التحية" في الفن

 
د.إحسان فتحي

أعزائي الفنانين العراقيين والأصدقاء في كل مكان
تحياتي.


على ضوء الجدل الواسع الذي سببته مقالتي عن بيع لوحة للفنان الراحل الكبير إسماعيل فتاح، وعن الالتباس الموجود عن مفهوم "فن التحية" أو ما يسمى بالانجليزية والفرنسية  ب( الهوماج) أود أن أبين ما يلي:
1-  ان العمل الذي تم بيعه في مزاد بونامز في اكتوبر 2025 بمبلغ يزيد قليلا على 200 ألف دولار لاسماعيل هو واحد من 3 أعمال "تحية" كان هو قد شارك بها مع الفنانين ضياء العزاوي ولورنا سليم في لندن عام 1989 كتحية لذكرى جواد سليم )راجع البوستر الملحق)
  
2-  ان اعمال "التحية" هو أسلوب معمول به كثيرا في الاوساط الفنية ويقوم به عادة الفنان رسم لوحة بنفس اسلوب وروحية الفنان المراد تحيته (يكون عادة متوفى) وبتوقيع الفنان "الحي" ودون وضع توقيع الفنان الاصلي عادة – راجع الصور الملحقة.  ان سبب الجدل حول عمل اسماعيل كان بسبب وجود توقيعين في ان واحد وحول السعر الذي يبدو انه كبيرا اذا ماقورن بالسعر الممكن ان يحققه عمل جواد الاصلي! فهل من المعقول ان يحقق العمل "التحياتي" اكثر من العمل الاصلي للفنان المتوفى؟ ويبدو ان الجواب : نعم ،ممكن!
  

3-  هناك اتجاهان في أعمال "التحية" الفنية سواء في الرسم او النحت او أي مجال فني اخر: اما ان يقلد الفنان عملا معروفا للفنان الاصلي الذي يكون متوفى عادة مع بعض الإضافات واللمسات الجديدة مع توقيعه وهذا شرط أساسي لأنه بخلاف ذلك سيرتقي العمل الى التزوير: او ان يرسم عملا جديدا كليا ولكن بنفس أسلوب وروحية الفنان الأصلي، وهذا أفضل كثيرا.
 
4-   عندما يكون الفنانان متوفيين، أي الفنان الأصلي والفنان الذي حياه بعمل فني، فيبدو ان "السوق" الفني هو الذي سيقرر ايا من العملين هو الاغلى، وهذه الحالة هي التي تنطبق على قضية عمل اسماعيل.
 

5-  ختاما، فان العمل الفني "التحياتي" هو تقليد جميل ونبيل شرط الالتزام بعدد من الضوابط الاساسية واهمها عدم تقليد توقيع الفنان الاصلي ووضعه في العمل الجديد.



مكابدات عزيز بن عذاب-مؤيد داود البصام

مكابدات عزيز بن عذاب


القادم من سومر..
مكابدات عزيز بن عذاب


محفوظ داود سلمان



1
… ويقال أنكَ قادمٌ من سومر ..
لكن سومرَ غادرت في الريح ، أو دلمون
قد رحلت بعيداً في بحار …
2
ويقال أنكَ سومريٌ حالمٌ …
لكنما أنكيد قد سُكب المساء كخمرة في
حانة منسيةٍ وتحطمت فيها الجرار ..
3
ويقال أنكَ قادمٌ من بابلٍ…
مازلت تبحث عن إله الشمس ، والكلمات
لم تكتبْ على كسرٍ من الفخّار او
مزق الحجار…
4
كانت عذارى النهر تأتي
حاملات جرارهنّ
وكان يقطر من جدائلهنّ نزفٌ من ندى
وتجيء أسراب من الورشان تقفو
خطوهنّ من القفار…
5
ويقال من آشور كنتَ تجيء ، والثور
المجنحّ كان يحمل في جناحيه النجوم ، ويحرس
الاسوار فجراً ، في جبينكَ لم يزل وسمٌ
من الصحراء تعبرها ومن أرض البوار…
6
ويقال أنكَ طالع من ألف ليلة ، إن ليلتكَ
الأخيرة ما آبتدت ، مازال يفتضّ الزنابق
وهي تقطر في البكارة شهريار …
7
والسندباد يغادر المدن الجميلة فوق ظهر الحوت
منتظراً يجيء النجم ، او يأتي المجوس وليس
ثمَّ نبوءةٌ تأتي ولا ومض آنتظار …
8
هل كنت تحمل نخلكَ الدامي صليباً فوق ظهركَ
كنت مشروعاً لتقتل كل يومٍ في الفيافي والوهاد …
9
ما كان غير الله في جنبيكَ ، هذا الفيض
يأتي من دمائكَ ، أو يفيض بدجلةٍ
هذا الرماد …
10
ام كنت قد ضاقت بكَ الكلمات ، لا تكفي العبارة
أو تعبّر عن رؤى ، هل كنت تجمع في المحارق
ماتبقّى من سهاد…
11
هل كنت رباً قد أكلنا تمره جوعاً ، وليس هناكَ
في أجراننا حشف يذوق النمل منه والجراد …
12
ويقال أنكَ قادمٌ من سومرٍ …
تنأى بعيداً ليس من جلجامشٍ يأتي ولا عشب الخلود
13
هل كنتَ ترحل في 
غيوم الأفق ، ام تأتي مع
الامطار ، تهبط ذات يومٍ أنتِ مشتملٌ
وليس هناكَ أبعاد تخبرّ عن مدى أو عن حدود .



مكابدات عزيز بن عذاب وحلم السومري...

     - مؤيد داود البصام

ما بين العنوان وثيمة النص، يضعنا الشاعر محفوظ داود سلمان، في عمق القضية التي دعته لاختيار نصه المشتبك والمختلف وحواره المنبجس من عمق الرؤية والرؤيا التي خزنها عن بطل قصيدته(عزيز بن عذاب )، المنشورة في جريدة الزمان العدد 4766، يقدم القصيدة في البداية عبر عنوانها الباذخ والمجهول، حينما يتقدم اسم الفاعل،(القادم من سومر ) في الافتتاح على الرغم من إل التعريف، إلا انه يبقيه مجهولا، ليظهر لنا الحركة الدرامية التي يخلقها الفعل، وتجعلنا ندير الرؤوس ونتساءل، من القادم من الزمن الغابر ؟،هكذا تنمو مقاطع القصيدة، في ظل الفعل الذي يتسيد مجمل المقاطع ليثبت حركية الانفعال وديمومته، بتشويق متلاحق بين السؤال والجواب والاستفسار، ما يعني أدراك الشاعر أنه يتعامل مع زمنين في آن معا ً، الماضي والحاضر اللذين يتجسدان في استحضار الزمن الماضي إلى الحاضر بشخص (عزيز بن عذاب)، ليجعلنا في لحظة ترقب وتساءل عن القادم المجهول من أعماق التاريخ، من بلاد سومر وأكد وبابل، على وقع أصوات سنابك خيل الغزاة، وصهيل الخيول المندفعة المدافعة بالمقابل عن أرض الإسلاف، منذ بداية التاريخ والحضارة والصراع مشتبك على أرض لم تتوقف الأحداث الجسام على أديمها، قبل أن يدخل في صلب القصيدة، ليبدأ صيغة السرد قبل الشعر، ويعلنها في عنوانه الفرعي ويكشف عن مجهوله القادم، أنها (مكابدات عزيز بن عذاب ). أذن القادم كشف عنه ولكنه حدد لهو صفة، أنه يحمل مكابدات وآلاماً يخزنها في أعماقه، منذ فجر الحضارة وليومنا هذا.
من هو عزيز بن عذاب وما هي قصته ومكابداته؟
         عزيز بن عذاب بن حسون، خزين الشرود الفلسفي في البحث عن المجهول والحقيقة، وصرخة فيثاغورس (وجدتها)، في عالم أضاع توازنه وراح يبحث عن المخلص، واحد ممن يتبعون عقلهم وقلبهم بآن واحد، ولا يسكتون على ضيم مهما تعاظم شان القائمين على ظلم العباد، من بين هذه الزحمة وتراكم الأفكار وتلاطمها، ظهر وألقت به الرواسي من رحلة آجتاز بها التاريخ والسهول والجبال والوديان ليحط ركابه في بلد الرشيد وحسين مردان وعشرات من الطائعين والمتمردين على أرادة السلطان في مختلف وجوهه وأشكال حكمه، طولها الزمني بمدى تاريخ ارض سومر وأكد وبابل التي تجاور مسقط رأسه (مدينة كربلاء)، فهو أبو بابل وسومر وعشتار، سليل الحكاية التي لم ترو كاملة، عما حدث على ارض كرٍّ وبلاء إلا على ألسنة الرواة بعد ذلك، ونقلتها الألسن وآمنت بها دون أن تراها، إثناء ترحاله في الفترة الزمنية التي غادر مدينته كربلاء، إلى مدن العالم الأخرى  تخلى عن الحج الذي يحني ظهور الكثير، كطقس دنيوي لتقديم الطاعة للعائلة والعشيرة والمدينة والدين والمذهب والفئة والجماعة والحزب والإيديولوجية، وتمثل بالكون كله، وراح يفكر ويتأمل عالما غير عالمنا الضاج بالسوء والنميمة والدمار والاستغلال والكذب والجشع، يرنو لعالم النقاء والإنسان الجديد، ورود تتفتح على أنغام موسيقى عذبة، وشدوا لبلابل يحركها هواء عليل نقي، فتحولت لديه البقعة التي يحبها وتعيش معه ( أرض كر وبلاء ) العالم باجمعه ، هي ليست في رأيه ارض كر وبلاء، وإنما عالم من الفنتازيات والمخيال الجامح الذي نقله من جزء إلى كل، ليحمل مأساة قرون ترزح تحته آلام وأفكار وآراء المأساة التي تعيش في سرير النوم وبين الجدران وعلى الأسطح وفي الشوارع والطرقات والعقول والقلوب، يغفو ويصحو على أصوات عشرات الرجال والنساء والأطفال مثل يوم الحشر، يصرخون ( ياحسين، ويندهون أبا الفضل العباس للخلاص ).
قرء منذ بواكير حياته سارتر وكامو وكانت وسبينوزا، واستمع لرؤى ماركس وانجلز وعبر المصدات والقواطع والحدود المليئة بالجنود المدججين الذين يبحثون عن ثوار (كومونة باريس ) مع لينين والثوريين في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ليصل إلى مونمارتر ودهاليز الفوضويين والسرياليين والدادائيين، ويجالس أصدقاء تازار وبريتون ولويس أراغون، ويشتبك في النقاش والحوار، منذ عقود في درابين الحيدرخانة وطرقات شارع الرشيد الخلفية، وباب الشرقي وشارع أبي نؤاس، وسار يحف الخطى مع صديقه سلام مسافر للحاق بأمير الصعاليك الشاعر عبد الأمير الحصيري قبل أن تفوتهم حفلة الليل النؤاسي، طارد أحلامه مع جيفارا وهوشي منه وثورات الشباب في كل إنحاء العالم، وكل طرقات حاملي الشعلة التي ما انطفأت إلا على أيديهم قبل أيدي الطغاة، بعد فراق ثلاثة عقود ونيف، يظهر عزيز بن عذاب يجلس على تخت في مقهى حسن عجمي، ويشير صديقي السينارست والفنان طه حسن إلى الجالس أمامه، الذي اكتشفه قبلي حال دخوله المقهى، شاهده جالسا وحده يتأمل قبل إن تطأ قدماي المقهى، وكنت أنا القادم متأخرا في تلك الجمعة، وسألني طه هل تعرفه ؟ عزيز عذاب في تلك اللحظة من الانبهار والدهشة التي قدر لنا إن نعاود اللقاء، بعد سنين من الفراق دام عدة عقود، أجده أمامي واسمع صوته الجهوري، يردد إنا عزيز بن عذاب من عرف كل شئ ورأى كل شئ، ولم يصمت لأني أبن هذه الأرض التي أورقت الحضارة على أديمها وأينعت زهورها، بلدي الذي احتله الأوغاد ودمروا بناءه الحضاري، وشتتوا مثقفيه وعلماءه، والقوا بما تحقق في غياهب المجهول، هو عزيز بن عذاب الجرئ منذ كان في عز الشباب، لم يتوقف عزيز عذاب المتخرج من كلية الصيدلة والذي عاشر مظاهراتها وإضراباتها في السنين الغابرة، عن الدفاع عن عظمة البناء الحضاري الذي تأسس في العراق عبر سبعين عاما ليعيد ألق حضارة وادي الرافدين، ولكنه تهدم برمشة عين، تحت سنابك دبابات المحتلين الذين قالوا إننا محررون، هو من المثقفين الذين أدركوا الكلمة وعاشروها، بكثرة القراءة والاطلاع، فهو قد قرء ما يوزن بالأطنان، وخزنه في كتلة صغيرة، يحملها على كتفيه، أنه حمل مخيف إذا ما انطلق ليتحدث في إي موضوع هو يرغب إن يتحدث عنه، لأنك دائما ما تجده منصتا جيدا يستمع بإذن فار، ولا تفوته شاردة ولا واردة، حتى إني اندهش بعض الأحيان كيف لم ألاحظ قول المتحدث، لأنه يعيد كلامه نصا، ولهذا فهو ودود ومخيف ومرعب في آن معاً، لا يستطيع المقابل إن يفلت من نقده إذا أخطأ، فهو يواجهه بما تحدث فيه بالنص، وكأنه آلة تسجيل، عزيز بن عذاب روح هائمة في حب الثقافة، والثقافة مزروعة في داخله، شخصية مختلف حولها، وينظر له الوسط الثقافي قبل عامة الناس بشئ من الغرابة، لأنه شخصية تحمل ندرتها وفرادتها وقلقها، يحمل هم الإنسان العراقي والإنسان عامة، لم يتخلّ عن الدفاع عن الحق، أينما حل وفي أي موقف كان، من هنا تأتي مكابدات عزيز بن عذاب مع عالم من الكذب والزيف، أنه يتعايش كل لحظة مع آلام شعبه وأمته، يعيش مأساة تدمير بلده أمام عينيه، والحلم الأزلي الذي راوده منذ مطلع الشباب مع كل الوطنيين والثوريين، أن يتشكل عالم أسمه العراق، فكيف تناول الشاعر محفوظ داود سلمان هذه الشخصية الفريدة والقلقة في قصيدته (القادم من سومر ).
(1)
ويقال أنك قادم من سومر
لكن سومر غادرت في الريح، أو  دلمون
قد رحلت بعيدا في بحار
*******
هذا هو المقطع الأول الذي يبتدئ فيه القصيدة، بالتساؤل ويوجه سؤاله إلى القادم حسب رواية الآخرين، وقبل أن يتلقى الجواب، يجيب هو نفسه عن تساؤله، ويشرح المفارقة. لقد استطاع محفوظ داود بشاعريته وقوة إدراكه وتفحصه للشخصية، من التقاط مجسات الموضوع الذي كتب فيه، فهو يحاور شخصية غير اعتيادية، لهذا لا يترك لها المجال للتحدث، إنما ينقل لها هواجسه واستفساراته، وما يقوله الآخرون، فهو ليس الوحيد الذي أكتشف المجهول، وأن كان لا يعرف عنه شيئا، ولكنه يدركه ويعرفه، وهذا هو سر قوة القصيدة، تتحدث بالمجهول وتروي عن المجهول وتجيب عن المجهول. روعة القصيدة أنها تختلف عن كل ما كتبه الشاعر محفوظ داود من شعر سابقا، ففيها ما يمتلكه من قوة اللغة والتلاعب في الألفاظ، وهذه المتعارضات بين السؤال والجواب، وبيان نابع من قوة إدراك وعين ثاقبة، لا تصور الشخصية وتكتب عنها انطباعاً خارجياً من السطح، وإنما ترسم الشخصية، فكريا واجتماعيا ونفسيا من الداخل، وتضعها في إطارها الحقيقي، عبر منظور يسحب التاريخ ويعيد تركيب سرده بما يتناسب وروح الشخصية التي يكتب عنها، ويغوص في أعماقها، ليستخرج كنهها، وتموضعها في الماضي والحاضر.
" ويقال أنك سومري حالمُ...... ويقال أنك قادم من بابل......ويقال من آشور كنت تجئ...... ويقال أنك طالع من الف ليلة، إن ليلتك الأخيرة ما آبتدت.. " .أنظر إلى التحولات في بدايات المقاطع، في اختصار تاريخ العراق، بكل حضاراته التي ظهرت على أرضه، مختصرا إياها في هذه الشخصية، وعبر ضربات تكرر السؤال الذي ينبش في التاريخ ويعيد تركيبه على ضوء ما يراه في عمق هذه الشخصية، ثلاثة عشر مقطعا، ست مقاطع منها ترديد لأقوال الآخرين، وباقي المقاطع، تساؤل الشاعر للشخصية، في هذا النص يتحرك محفوظ عبر التاريخ، ليكشف لنا أن الشخصية التي يروي عنها، تحمل كل هذا الإرث الحضاري ومفاهيمه، وتضع وجود العالم ووجود تاريخها كفة بكفه، وهنا تأتي مناجاة الشاعر لبطل القصيدة ليذكره في نهاية القصيدة، ليقول له انك تحلم، لان كل الأشياء تغيرت وأنت ما زلت تحارب، وان حربك هي مكمن معاناتك ومكابداتك وهذا هو ما وراء النص الذي أراد الشاعر أن يوصله لنا في المقطع السابع عما جاء في كلمة ( مكابدات )، " والسندباد يغادر المدن الجميلة فوق ظهر الحوت منتظرا ً يجيء النجم، أو يأتي المجوس وليس ثم نبوءة ٌ تأتي ولا ومض انتظار "، هنا يكشف الشاعر محفوظ عن السر الذي احتفظ به عبر المقاطع السابقة ليوصلنا إلى حقيقة معرفته بما يحدث. " في المقطع الثامن بعد إن يستنفد الشاعر مقاصده في التعريف ببطله يبدأ الحوار مع الشخصية بالمواجهة عن حاضرها، يذكر لبطله كل ما قيل ويقال، يحاوره مباشرة عن مكابداته وآلامه، ليعرف حقيقة ما جاء عنه الخبر. " هل كنت تحمل نخلك الدامي صليبا ًفوق ظهرك .. كنت مشروعا ً  لتقتل كل يوم في الفيافي والوهاد.." ، يقوم الشاعر باستشعار الأشياء والحوادث، ويضع في داخل كل سؤال قضية ما حدث وما يحدث في العراق، في وطن السومري الذي أجتاحه الجراد، وعاث فيه الفساد، " أم كنت قد ضاقت بك الكلمات، لا تكفي العبارة أو تعبّر عن رؤى، هل كنت تجمع في المحارق ما تبقى من سهاد.." ، أن الشاعر محفوظ في ملاحقته لبطله من أجل أن يصل إلى الحقيقة المخزونة في داخله والتي يحملها كمكابدات تعيش معه، يحاول أن يجيب عن التساؤلات التي سبقت قراءة القصيدة، من بداية الافتتاح بالعنوان، ( القادم من سومر .... مكابدات عزيز عذاب ) ليربط بين هذا القدوم المفاجئ والعجيب، وبين ما يحمله هذا القادم من ارض سومر التي توالت عليها المآسي في كل الحقب، وكل واحدة من هذه الحقب تحمل آلاما ً  ومآسي ما حدث لهذه الأرض، وكأنما يتحدث بلسان عزيز عن الصورة المعاكسة التي يجب إن يكونها وتكونها ارض سومر،  " هل كنت رباً قد أكلنا  تمره   جوعا ً، وليس هناك في أجوائنا حشف يذوق النمل منه والجراد..." ، وهو لا ينسى أن يذكره بالحلم الذي جاء معه من تلك الحقبة الزمنية  وليومنا الحاضر، ولم يتحقق منه شيئ سوى الدمار والخراب، وهذا هو الذي يجعله يكابد، " ويقال أنك قادم من سومر ...  تنأى بعيدا ً ليس من جلجامش يأتي ولا عشب الخلود. " ، وإذ ينهي الشاعر محفوظ قصيدته يكون قد حدد الغاية من كل كتابتها، ويتوجه لسؤال عزيز بن عذاب، وهو يقول له لو لم يكن في هذه الأرض وكنت في أرض أخرى، " هل كنت ترحل في غيوم الأفق، أم تأتي مع الإمطار، تهبط ذات يوم ٍ أنت ِ مشتملٌ .... وليس هناك أبعاد تخبرُ عن مدى أو عن حدود ."



إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً-حميد سعيد

إنجاز إبداعي .. يستدعي حضوراً مؤثراً


حميد سعيد


يعود الشاعر محفوظ داود سلمان،  في مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " إلى الشعر كما ينبغي أن تكون العودة في بهائها، وبها يُعيدُ إلى الشعر بعض بهاءٍ ، ضاع في متاهات لا حدود لها، حتى صارت قراءة قصيدة تنتسب إلى جوهر الشعر وتتوفر على مقوماته ، لا تتحقق إلا في استثناءات نادرة .
كانت بدايات الشاعر في بواكيره، قد لفتت إلى قصيدته الأنظار ، أو هذا ما كان مني وأنا أتابع بداياته، بشغف حقيقي، وأنتظر منه ، إضافة إبداعية إلى القصيدة الجديدة، في مخاضاتها وتعدد توجهاتها وسعة أمدائها وكثرة أصواتها وضجيجها .
غير أن الفتى البصري الحيي ، غاب طويلا ، وكاد صوته أن يضيع ، وربما أنا الذي ضيعه إلى حين، في ما كنا فيه من مشاغل وانفعالات ذاتية ، وقضايا لطالما أبعدتنا عما كان ينبغي أن لا نبتعد عنه.
في السنين الأخيرة ، يفاجئني محفوظ داود سلمان ، بقصائد ، أقرأها، فلا تفارقني، وأُعيد قراءتها فأتوقف عند ما يختار من موضوعات، تتمثل قضايا وجودية ، في محيط شعري ، يتوزع بين موضوع من دون شعر، وبين ما يعده أصحابه شعراً، من دون موضوع .
غير أنه، في ما قرأت له من قصائد في السنين الأخيرة ، ومنها ما ضمته مجموعته الشعرية " خمارة بلقيس " لا تأخذ أهميتها وشعريتها ، من موضوعاتها وإنما من مقوماتها الإبداعية ، فكرية وجمالية .
فهي ، تُغْني شعرية الموضوع ، بلغة شعرية متوازنة ، لا افتعال فيها ولا تمحل ولا تهافت، تكاد تحقق فرادتها، بُنىً ومعجماً، ولا تذهب بعيداً عن معاصرتها ، فإذا قلنا : إن للغة هذه القصائد ، ومن ثمَ لغة الشاعر محفوظ داود سلمان، خصوصيتها في ما تتوفر عليه من خصائص ومواصفات ، فليس في هذا القول ما يخرجه عن موضوعيته .
إن لغة هذه القصائد بقدر ما تمتلك شخصيتها، فإنها تكرس شخصية القصيدة ، ولا تتحقق هذه الشخصية بمعزل عن الإيقاع الداخلي للبنى اللغوية ، وبقراءة جادة ، يمكن أن نكتشف إن إيقاعات القصيدة، داخلية أكثر مما هي إيقاعات خارجية، فالتزام الشاعر في قصيدته ، بالتفعيلات العروضية ، لا يجعل منها مجرد إيقاعات خارجية، بل تدرك كإيقاعات داخلية ، تتكامل مع الفكر واللغة .
ومما تتميز به قصائد " خمارة بلقيس " كثافة التناص ، حيث إن التناص فيها، ينفتح على الشعر قديمه ومعاصره، حتى يكاد يشمل مساحة واسعة ومتشعبة ، ونجد هذا التناص في  مصادر عربية وأجنبية ، ويتمثل أشخاصاً وأحداثاً ورموزاً، ويتداخل التثاقف مع هذا التناص، من خلال مصادر ثقافية كثيرة هي الأخرى، وهذه المصادر تاريخية واجتماعية ، دينية وملحمية وأسطورية، غير أن التناص والتثاقف ، لا يثقلان النص الشعري ، عند الشاعر محفوظ داود سلمان، في قصائد " خمارة بلقيس " ولا يظهران على السطح منه، كما تظهر الملصقات على سطح لوحة تشكيلية، أو كما يظهر التضمين على سطح قصيدة ما، اتكأ شاعرها، على تضمين أبيات من الشعر أو مقاطع لشاعر آخر.
بل تتكامل داخل النص ، كما هو الحال حين ينمو كيان حي، شجرة مثلاً، فتكون القصيدة أكثر ثراءً في شعريتها وأكثر استقطاباً في التلقي، أعمق في مضمونها وأجمل في شكلها.
وهي في كل ، ما حاولت التوقف عنده من سماتها، والإشارة إليه، تتوحد هذه السمات من خلال ما تعبر عنه من موقف، ليس طارئاً ولا شعارياً، بل هو موقف جمالي ووجودي في آن واحد، وهذا ما يكرس الفرق بين الإبداع وضده ، ليس في الشعر حسب، بل في جميع أجناس الكتابة وأنواع الإبداع .
إن كل ما ذكرته آنفاً، ليس سوى قراءة ، لم أحاول خلالها التخفف من إعجابي بالنص المقروء، حتى لو تركت انطباعا ً لدى آخرين، بأنها قراءة متعاطفة، وليس من قراءة صادقة، تخشى التعاطف مع بهاء النص المقروء.
وقد يفصح مثل هذا الانطباع عن ملامح قراءة نقدية أخرى، أو قراءات نقدية أخرى، تختلف كلاً أو بعضاً، مع ما ذهبت إليه في قراءتي هذه، أو تتناقض معها، ومثل هذه القراءة أو القراءات لا تنتقص من أهمية النص المقروء ، بل تكتشفه، فالنصوص الإبداعية هي التي تجعل فضاء القراءات أكثر سعة، وهي التي تهيئ المجال ، لفعل عدد من القراءات، حتى في اختلافها.
إن ما أنجزه الشاعر في قصائده هذه، ليس من مبالغة ، حين يقال عنه، إنه إنجاز إبداعي مهم ، وليس من الوهم أن نتوقع له حضوراً مؤثراً، على صعيدي قراءات التلقي وقراءات النقد .


**

الغياب.. عندما يكون غيابا ً كاملا ً. ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب ..- مؤيد داود البصام

الغياب.. عندما يكون غيابا ً كاملا ً.
ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب ..

                               -  مؤيد داود البصام
من الأسطر الأولى وهي تبوح عبر القصائد لصديقتها الشاعرة والمبدعة بشرى البستاني في مقدمة الديوان، تضعنا بمواجهة الحقيقة المرة، ويحيلنا عنوان الديوان للناقدة والشاعرة والمترجمة مي مظفر الجديد (غياب ) ، الذي صدر بعد خمسة دواوين، إلى لحظة الفقدان التام لما تريد أن تعلن عن وجوده، لأنها تجرد الصفة من إل التعريف، وتجعله صفة مطلقة ٌ، وتضعنا في صلب الموضوع الذي تعيش غيابا ته، حينما تتحدث عن الغيابات وليس الغياب الواحد، غياب كل شئ وعلى رأسه الأرض والأهل والحبيب، وتضع القصائد المتأخرة والمتقدمة في هذا الديوان ما بين 2009- 2014، إلا خاتمة الديوان قصيدة الغريب عام 2007. ووضعت القصائد بفصول ( غياب. تجليات. طيور مهاجرة. ) على ضوء الحالة الشعورية والزمنية، بعد المقدمة والإهداء، لتعبر عن حالة وجدانية متشعبة الأحداث، ولكنها متصلة ببعضها البعض في الرؤية العامة والبعد النفسي والوجداني، تقص عن لوعة الغياب والذي تحكي فيه كيفية حلوله بديلا ًعن الحضور الذي كان يسود حياتها، بمكابدة وجودية صعبة، وما تحملته من مشقة وأناة، على الرغم من كونها تلوذ إلى قوة تحكمها بداخلها لتسكت الآهة في أعماقها ، وتطرح الحزن جانبا ً من أجل أيجاد الموقف الذي يعيد ما فقدته، وهي على إدراك بان لا شئ سوف يعيد ما انكسر من حلم وواقع، عالم يولدُ من جديد في واقعها تتناسل فيه الوحدة والغياب " لا تقصي ما شهدت / لن يبالي بالذي مر أحد / جمعي حزنك وامضي / بين أسراب من الطير المهاجر / واحملي من بيتك المنهار صورة / تؤنس الوحشة في ليل طويل .. لا مسامر. " ص21، أية مأساة ترويها في العلاقة مع الغياب هنا، فيها توحد وجداني مع ذات تنتمي لوجود قائم وعالم ملئ حولها، ولكنها فجأة تجد الغياب بعدم وجود حتى من يشارك ما يخفف من المأساة، فيها وحشة قاتلة، أن ترى كل شئ ينهار وليس هناك من يقف لينظر ويواسي، ( لن يبالي بالذي مر أحد ) أنها لحظة وجودية شاقة ومدمرة، الإحساس بالعدمية، ألا إننا من خلال القصائد المتأخرة ندرك، إن هذه الوحشة التي بدأت مع المواجهة بين الوطن والغاصبين، أخذت مداها ليس كقضية نفسية وحسب، بل الوجود والكينونة، عندما امتدت يد الغاصب لتعصر وطنها وبيتها وحياتها وذكرياتها التي عاشتها. ولم يبقى سوى صورة تحملها لأحلام تؤنس وحشتها، وحبيب يرافق رحلتها. ( كلهم جاءوا: جيوشا ًودروعا ًوأساطيل / ترامت في البوادي والبحار / كلهم جاؤوا ليجتثوا الفراشة من بساتين النخيل.) ص19. يتحدث الديوان عبر قصائد موشاة بالحزن والألم عن وطن ضاع، والأهل والأصحاب في الشتات، وذكريات هدمت، ولكن أملها ظل في الحبيب الذي شاركها الرحيل والمأساة، ( هو لا ينظر في عيني سوايا / وانأ نفسي تماهت في نفوس كبلادي./ أصبحت شتى.. وأهلي / قدم ٌ في هذه الأرض وأخرى / تنشد البحر لتنأى وتجوس.) ص30 . فهي تروي مأساة ما حل في بلادها من خراب، الذي أنطبع على حياتها، تضع هنا المقارنة بين البؤرة التي يتركز فيها تفكير المتبقي من ذاك الوجود الذي دمر، ولم يبقى إلا ما في عيني الحبيب والعلاقة الحميمة التي تبقيها على الأمل، وهي تعيش بين التشتت الذي تعيشه نتيجة تبعثر الأهل والأصحاب في شتى بقاع الأرض، وبين مدينتها التي طبعت ذكرياتها في كل جزء وفي كل هاجس من حياتها.( أحياء بغداد انطوت / لم يبق غيرُ حديقة مهجورة / وصحيفتين بلا حروف في نهار ٍ كلما انتحرت عقارب ُ وقته / أبقت على وهم الرجوع. ) ص35 ، لحظات انطمرت بها مسيرة حياة وسنين، فأية آهة أو ألم سيحمل هذا العبء الثقيل، في انتظار عودة الوطن والحبيب، وكلاهما يشغلان الحيز ويغلقان الفراغ، وألان يمتد الفراغ ليشغل حيز الوجود كله، " في الطابق العلوي من سكن تزلزل واندثر/ دفنت حقائبنا المليئة بالصور / الساكنون تشردوا، وتعاهدوا, / تركوا على الجدران ما أوصوا به. ونسوا هناك حقولهم، / في ملعب الإغراب مرمى أو هدف " ص49.. ولكنها مازالت تحتفظ بالوشيجة مع صديق العمر الذي يشاركها الهم، وتبث له بوحها. إلا أن القدر أراد للغياب إن يكون أكبر مما نستطيع أن نوقف من نزف الجروح. لهذا جاءت القصائد،  أن كانت في الكلام عن فجيعة الوطن والأرض أو الحبيب لتربط هذا الحس الإنساني بفاعلية، من خلال عنوان الديوان بالمتن والعناوين الفرعية، فهي تتواصل بنفس ملتهب حزنا على فقدان أعز الأشياء لديها، وهو ما يجعل حياتها هواجس ولجوء إلى المطلق، بعد أن كانت قصيدة عشق وشوق، أنها تلملم الأشياء بحثا عما ضاع.." أتعبني التحليق / والأرضُ تحتي تشتعلُ / يا إلهي .. / دلني إلى موطن فيه أستريح . " ص78، انه ألتوق للعبور إلى الحضور برفقة الصديق بعد كل هذا الغياب، ولكنه الغياب الذي امتد للصديق والحبيب، وجعل الأشياء محض فراغ.." أيها الطائر المسرعُ نحو المجهول تمهل / ريثما أجمعُ أشتاتي وأتبعك / كلانا معلقٌ بين الأرض والسماء / كلانا مشنوق بفضاء لا متناه ." ص82. هذا الفراغ الذي جعل من الغياب واقع بكل قسوته، ونقل الواقع بكل بهائه إلى لحظة سوداوية تحيط الواقع وترسم خطوط مستقبله، أن ديوان (غياب ) جسر عبور، باحت فيه مي عصارة قلبها وعقلها، لتضعنا في وسط جحيم، ما نعيشه باليوم واللحظة في ترنيمة عشق للوطن والأهل والحبيب. ضمن تجربة ذاتية، شكلت عمق تجربة الجميع. وهي إذ تستفتح الديوان بقصيدة تعيد فيه الغائب حلم وهاجس.. " ملكة ُ الليلِِ / والقداحُ / روائحُ بغداد / دمعُ العين ودمُ القلب / وأنت في كل مكان. " (عمان. 2014) ص14.....تختتمه بقصيدة الغريب، لتعلن غربتها مع الواقع الجديد الذي هي فيه قبل أن  يحدث الغياب ... " غريبٌ أنت في أرض غريبة / تحلقُ عالياً أو تستكين../ غريبٌ أنت عن كل فضاء / فلا تحزن / " إن الغريب من الله قريب " ( عمان. 2007).ص92.

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 3/3 -سعد محمد رحيم



الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية  3/3  

سعد محمد رحيم
الذات والآخر في كتاب ( الأجنبية ):
كتاب ( الأجنبية ) لعالية ممدوح يقع على تخوم ثلاثة أجناس أدبية هي؛ الرواية، والسيرة الذاتية، والمقالة.. ولأن المؤلفة تدرك صعوبة تجنيس كتابها كتبت على غلافه عبارة ( بيوت روائية ). فهو من جهة شذرات من سيرة متماسكة، تحكي عن ثيمة محددة. وهو من جهة ثانية مقالات تتناول الوضع القلق غير المستقر لمهاجرة عراقية عربية تحاول إثبات هويتها الشخصية لممثلية بلدها في العاصمة الفرنسية باريس، وأمام سلطات تلك المدينة. هي القادمة من بلاد العرب حيث "الاسم واللقب... هما نوعان من المعتقل"ص124. وإذا ما جمعنا هذه الشذرات/ المقالات التي ترتبط بعلاقة تتابع ـ تجاور يمكن أن ننعتها مع بعض التحفظ بـ ( الرواية ). طالما هناك شخصية رئيسة تتنقل بين بيوتات الرواية الافتراضية العديدة بحثاً عن بيت آمن يوفر لها الدفء والحميمية والحرية، فضلاً عن شخصيات ثانوية تشكِّل مع الشخصية الرئيسة بأفعالها متناً حكائياً معقولاً.
وثيمة حكاية الشخصية الساردة بضمير المتكلم هي السعي لنيل الاعتراف.. الاعتراف بأنها هي وليست أي شخص آخر!. هي الضحية لسلطة بطريركية ذكورية محمية بقوة القانون، تحاول اجتثاث ذاتها وجسدها من سجن الزوج الذي لا ترغب فيه. الزوج الذي يريد إعادتها إلى بيت الطاعة في بغداد، بعدما استحوذ على جميع أوراقها الثبوتية. فيما هي تروم استعادة كيانها والمضي قدماً ـ هي الناضجة الراشدة ـ من غير وصاية تمسخ وجودها.
يذكِّر هذا الكتاب بعوالم كافكا، لاسيما في روايته ( القصر ).. بذلك الضياع الحارق والمرعب بين أروقة الأجهزة البيروقراطية بمناخها الموحش العدائي، وقلبها البارد، وخطتها المحكمة في السيطرة والتحكم. حيث تحس بأنك مُراقب، مريب، ولا أحد يدلك على ما يجب أن تفعل، وكيف عليك أن تتصرف، وما الكلمة المناسبة التي عليك أن تقولها في موقف ما، وما الكلمة غير المناسبة التي عليك تجنبها فيه.. ثمة فحص حيادي قاسٍ للنوايا والضمير، فحص قد يفضي إلى سوء فهم وسوء حكم، وعبث بالمصير.
الساردة التي لا اسم لها في النص تعيش أزمة علاقة مع زوجها بعدما هربت منه، إلى بلاد أخرى.. هو يريد امتلاكها كتحفة، وهي لا تريد أن تكون ممتلكة على الرغم منها.. هو قادر بحكم الشرع والقانون، وهي مختلفة:
"دائماً تصوّرت أن بمقدوره الوصول إليّ ولو بطوربيد حربي. قلت له هذا في إحدى السنوات فأطلق ضحكة مجلجلة كعادته:
ـ اللعنة، لديك العيوب والأخطاء كلها لكنك لا تعوضين جميع النساء اللواتي في حوزتي"ص19.
هذه اللغة الذكورية النرجسية المتغطرسة تضعها في أفق التحدّي، لتأكيد هويتها، بوصفها أنثى تمتلك وعياً وإرادة على الرغم مما يعتورها من خوف في عالم لا يبالي بأمثالها.. الخوف الذي خبرته من سنين سحيقة؛ "خوف لم يسقط أي شيء من حسابه. إقامته حُدِّدت بين الأمتار ورموش العين، لكن لم تتحدد إقامته بزمن أو تاريخ معين فيظهر بجميع التجليات التي يمكن تصورها"ص23. وليمتد حتى إلى الجمال؛ الجمال الذي لا ينقذ بل الذي يفضي إلى الهلاك. في مقابل إدراكها الاستثنائي الذي يجعلها ترى الجمال في وجود الآخر؛ "لم أكن أفهم ما هو الجمال بالضبط، لكني كنت أعرف امراً بسيطاً، هو أنني حالما ألتقي من سأغرم به فذاك هو الجمال"ص44.
كانت ثمة حدود صارمة، وأحياناً غير منصفة، لكل شيء.. هي هناك؛ حيث تحيا المرأة في عالم مغترب حتى وهي في بيتها ووطنها، بدءا من اغتراب الجسد بين المحرّم والخليع.. بين ما يسمح به وما لا يسمح، وحتى ذلك النوع من الاغتراب الوجودي حيث تشعر بأنها ليست في مكانها الصحيح، ولا في العصر الذي يلائمها. حيث يكون ملاذها الوحيد؛ الكتابة، ففيها يمكن فقط لمن هم في محنة كمحنتها من البحث عن الذات، والرهان ضد الخوف واليأس والموت.. تتحرى عن ماضيها لتتيقن من حاضرها.. لتتأكد من هويتها الحقيقية؟.
يبرز سؤال الهوية في المنعطفات الحادة المؤشكلة من الحياة. وها هي الساردة ترغب في التعرف على هويتها بعدما غادرتها أشياؤها الحميمة، وبعدما تفكك عالمها القديم.
"فقد تكيفت حياتي مع الأسى الشديد وأنا أشاهد حطام بيتي وهو يتفكك حجراً بعد حجر وطابقاً بعد طابق وفرداً بعد فرد كما حصل ويحصل مع بلدي بالضبط" ص39.
محنة الساردة هي اختزالها في أوراق رسمية لم تعد بعهدتها، بعدما استولى عليها زوجها الذي عافته لتكسب حريتها وإنسانيتها.. فما يثبت ( أنانا ) عبر الوثائق أمام الآخرين قد يجعلنا أكثر شكاً بأنفسنا.. هنا تكمن قوة السلطة، سطوتها، قدرتها على التحكم بالنفوس والأجساد.. إن وثائق إثبات الشخصية، في عصرنا التقني المعلوماتي، أهم من الجسد، من العقل، ومن تاريخ الشخص المدون منه وغير المدون..
"أريد ثلاثة شهود يشهدون بأنكِ فلانة بنت فلان وأنك ابنة فلان وفلانة وزوجة لفلان وأم لفلان.. وأن جواز سفركِ العراقي السابق واللاحق هو هو لم تعبث به يد .. أو.."ص113.
إنها الأجنبية.. إنها الآخر الذي يرمي إلى نيل الاعتراف.. الآخر الخائف. هنا تصبح الساردة لا مركز العالم الذي تنظر منه، بل الهامش الذي يُنظر إليه. والنظرة التي تشملها تعرّيها، تحاول فضحها، هكذا تحس؛ إنها نظرة شكاكة، مهدِّدة، لا أبالية بطريقة ما.
ومع سعيها المحموم لاسترداد هويتها من خلال الوثائق تحاول الساردة تعلم اللغة الفرنسية، فهي تعيش منفى اللغة أيضاً.. طاقتها على تعلم اللغة الفرنسية تخذلها، هي الكاتبة العربية في أرض ثقافة غريبة.. ما يذلها الآن هو الخوف أيضاً.. الخوف الذي يسلِّمها للضعف والنسيان.
تخبر عسر الانتقال بين هويتين لغويتين متباينتين.. تفشل في الولوج إلى اللغة الأخرى، في مواجهة الموانع النفسية والاجتماعية والتاريخية. وها هي تتيه بين بلدين ولغتين وثقافتين.. تعيش الاغتراب المزدوج؛ الانشطار الوجودي والنفسي واللغوي والثقافي.. ولا تستطيع امتلاك أي من الاثنين كما تتمنى: "إننا لم نفلح لليوم أن تحبنا بلداننا كما نريد ونشتهي. إجرائياً فشلت في التوقف عن الجري وراءه، وفشلت أكثر في التعرف عليه. الأجنبية كنت هناك وما زلت هنا في فرنسا. كنت أظن أن البلد يصلح أن يكون مادة نصيّة خارقة للعادة، ونعيش على نفقتها وتحت وطأة ثقلها"ص93.
تفتح اللغة مسارب للهوية، وأخرى إلى الهوية مثل شبكة أوردة وشرايين تبقيها، هي القلب المسكون بشغف الحياة، على قيد الحياة.
"كان أدورنو يقول: ( الأوطان مؤقتة على الدوام ). ربما أكثر من هذا. لكن اللغة، أية لغة تفتح ثلمة في جدار وبناء الآخر، وأنا أود بإخلاص الاقتراب من هذا الآخر، فكنت أشعر بشيء من التشوّهات الحقيقية التي تتكفل بها اللغة إن كانت كيت أو كذا وكأنني أحيا بين إقصاء صوتي الأنثوي والإنساني، ضمن صمتي اللغوي؛ العجز عن التحدث بطلاقة أو أو... كما لو كنت أعيش حيفاً أو قهراً ما بين اللغتين"ص69.
إنها تبغي ذاتها؛ ذاتها المحرَّرة من موجبات الهوية/ الهويات التي لم تخترها بمحض إرادتها.. الذات الرامية إلى الاختلاف، لا المطابقة.. إلى الحرية، لا السجن الهووي.. الحرية التي تخفق في نيلها تمنحها لشخصيات رواياتها.. المدينة التي لا تستطيع امتلاكها تملّكها لتلكم الشخصيات. فتتعلم من شجاعتهم وتجاربهم.. يغدو التخييل منقذاً والكتابة مخلِّصة.
"وأنا أحضر شخصيات رواياتي وتصرّفاتها ولا أبددها سدى. باريس برحابتها وعالميتها تدفعني للاشتغال على تدريب كائنات رواياتي على فعل الحرية".ص73.
بين الخوف والتباس القصد وسوء الفهم والشك تتقلب الساردة بين يدي السلطة الممثلة بالآخر.. إنها نتاج تاريخ بعيد وقريب مترع بإشكاليات لا عد لها.. قادمة من بلاد منقوعة بالإيديولوجيا، وتقوِّم البشر على أساس القرابة الإيديولوجية.. بلاد لم تحسم رهانها الحضاري في الحاضر، ولم تثبِّت الحد الأدنى من شروط هويتها.. تواري المشتركات لصالح ما يشعل الفتن، ويُكثر الخنادق.. إنها ألعوبة السياسة أولاً وأخيراً، السياسة بشكلها البربري، الساذج والأعمى، والكاره للحياة. السياسة التي تعرف كيف تقوِّض وتطرد غير أنها لم تتعلم كيف تبني وتأخذ بالأحضان.
"قلتُ، لا بأس، بالكاد يثق الآخر بي ومنشأ ذلك ليس عيباً في شخصياتنا نحن كعراقيين. هي أهوال السياسة، غواية هذا الحزب الـ.. ضد ذاك، لا تسامح هذه الطائفة مع تلك، أو هو عناد الذكورة ضد غنج الأنوثة، لم لا؟"ص117.
هذا القدر من الخيبات والخذلان يضرب بقسوة جارحة.. تشعر أنها لم تعد قادرة على الشغف والغرام.. وحين تخبرها صديقتها هيلين بأن الأوان قد آن للبحث عن عشيق فرنسي تضحك، وهي تدرك أن هذا الحل ليس ممكناً، الآن في الأقل، وأن مثل هذه العلاقة ستكون مؤذية وهي في هذه الحالة من التدهور النفسي، ماكثة بين ثقافتين ولغتين وعالمين، ولكن كما لو أنها في اللامكان. وهي واعية أشد الوعي بأن الهوية حين تنكمش تمسخ الذات وتصادر الحرية، وتشوش معنى الوجود. وأنها بحاجة إلى الآخر، المناظر والضد.. القرين والند.
"إن الهوية، هويات المرء لا نستطيع المكوث داخلها بصورة تبسيطية وروتينية جداً. فهي تبني وتؤسس مشكلة، فلديها مداخل شتى وعليها أوزار لا تحصى لكن هذا المرء يبقى في حالة من التحولات لا تتوقف إلا بالمغادرة عن هذه الدنيا ولا يجوز تصنيفها فقط على هذه الشاكلة أو تلك، فأنا لست أنا وحدي إلا ومعي هذا الغير"ص163.
تسرد كل هذا بروح معذبة لكن ساخرة أيضاً، السخرية تعيد لها توازنها النفسي والذهني، وتخفف عنها عبء القلق والخوف.. وذكرياتها حاضرة ابداً، ولعل هذه الذكريات هي التي تزيد من معاناتها في رحلة البحث عن الهوية، وكأنها تريد تأكيد عراقيتها من طريق المجاز والشعر.. بلاغتها مباشرة مرهفة. وها هي حين تحصل أخيراً على جواز سفرها العراقي الجديد تستحضر صورة جد محلية وهي تصف هذه الهبة المنتظرة بعدما أصبحت أخيراً بين يديها: "جواز سفري العراقي الحديث الطازج والصادر للتو: تموز 2011 يشبه رغيف محلة باب الآغا الشهيرة في بغداد: لذيذ ورخيص وابن أوادم. كاغده صاغ سليم، محبوك بطريقة لا يدخلها التزوير والفبركة والفساد لا من الأعلى ولا من الأسفل"ص185.
تخرج عالية ممدوح من الذات إلى العائلة إلى المدينة إلى العالم ومن ثم تعود إلى الذات، تقرن الخوف بالسياسة والتاريخ، وتدخله في إهاب الأدب.. تحكي عن الكآبة الحزبية في وطنها، عن مآسي المواطن المنبوذ في بلاد العرب مثلما تجسدت في التراجيديا التي صنعها البو عزيزي وهو يحرق نفسه.. وفي مراحل رحلتها هذه كلها تحكي عن الخوف.. الخوف هو بطل كتابها الذي لا يُضارع.
الخاتمة
الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية بعداً عن الوثوقية الصارمة والدوغمائية والانغلاق لأنها، إن أُحكمت صَنعتها، هي كتاب الحياة.. تتشكل في تيار الحياة الحي الساخن، ولذا لا تقبل أن تكون خطاباً جوهرانياً قاراً.. ولن تحتمل تمثيل هويات متمركزة على نفسها، متعصبة، جوهرانية، وسترفض رؤية للهوية، كما يريدها بعضهم، ويصفها جلال شوقي بأنها "كينونة متجانسة كاملة وناجزة في زمان ومكان ما، سكونية غير متفاعلة ولا متطورة، إنها ليست نسيج الواقع الحياتي"(5).
بقي سؤال الهوية الهاجس الأساس للشخصية الرئيسة في أغلب الروايات العراقية حتى وإن لم تفصح عن ذلك بصورة مباشرة.. كان السؤال المحرِّك، الظاهر أحياناً، والخفي في معظم الأحايين: من أنا إزاء نفسي وإزاء الآخر، من أنا في العالم؟. ولأن الهوية ترتبط بمشروع الشخصية، ولأن المشروع قد يتعرض للخيانة أو لسوء الفهم والتقدير، أو للإخفاق، والسقوط، فإن وعي الشخصية بذاتها وهويتها يتعرض بالمقابل للتشوش والالتباس.
واليوم، قد تكون الرواية واحدة من أمضى الوسائل لخروج الإنسان من وحشة المناخات التي تتخلق تحت وطأة صراعات الهويات القاتلة، وهي الهويات ما تحت الوطنية. في مقابل أن انتعاش السرد الفني في فضائنا الثقافي سيقوِّض شيئاً فشيئاً تلك السرديات الكبرى كلها التي تغذي الكراهية والعنف والإرهاب.
يورد الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في دراسة له، هذه الملاحظة اللافتة:
"غيّرت الرواية اليابانية الجديدة النظرة القاصرة إلى الياباني المجنون بالحروب والدم والفعل الانتحاري الطقوسي، من خلال أعمال موراكامي الذي أظهر في كل نصوصه، الشخصية اليابانية المعاصرة التي تواجه مصيرها الإنساني غير المعزول عن بقية المصائر البشرية الأخرى وهاجس الحرية الذي يشكل انشغالها الأول والأخير".
والحقيقة أن موراكامي ليس الوحيد من بين الروائيين اليابانيين من حقق هذا، بل سبقه إليه روائيون يابانيون آخرون، مثل ياسوناري كاواباتا وكنزابورو أوي وكوبو آبي وغيرهم.. ويمكن أن نجد أمثلة من آداب شعوب أخرى عرفت نتيجة خوضها لحروب فتاكة بأنها دموية، عدوانية، فغيرت الكتابة الروائية التي أنجزها مبدعوها هذه النظرة، كما فعل روائيون ألمان مثل هاينريس بول وغونتر غراس وماريا ريماك، بُعيد الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء لم يُدينوا فكرة الحرب وحدها، وإنما قدّموا شخصيات مختلفة عن الصورة المتمثلة في أذهان الآخرين عن الأمة الألمانية والفرد الألماني.
فهل بمستطاع الرواية العراقية أن تضطلع، اليوم، بمهمة تغيير وجهة نظر الآخرين عن الشخصية العراقية والأمة العراقية، تلك التي تشوهت صورتاهما في وسائل إعلام مختلفة وفي أنظار مجتمعات عديدة، نتيجة الحروب العبثية الخارجية منها والأهلية التي أكرهت على خوضها، أو كانت من ضحاياها، طوال العقود الأربعة الأخيرة؟.

الهوامش
(1) ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ) جمع وإعداد د. حاتم بن التهامي الفطناسي.. كتاب دبي الثقافية 77 فبراير 2013. ص66ـ67.
(2) ( الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار ) د. إدريس الخضراوي.. رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ ط1/ 2012. ص145.
(3) ( بول ريكور... الهوية والسرد ) حاتم الورفلي.. دار التنوير.. بيروت 2009. ص35.
(4) ( إشكالية الأنا والآخر: نماذج روائية عربية ) د. ماجدة حمود.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 398 مارس 2013. ص30.
(5) سعيدة بن بوزة ( الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي.. بحث دكتوراه.. 2007ـ2008. ص25.
(6) ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ) مصدر سابق ص18.

المصادر
الكتب النظرية:
د. إدريس الخضراوي ( الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار ).. رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ ط1/ 2012.
حاتم الورفلي ( بول ريكور... الهوية والسرد ).. دار التنوير.. بيروت 2009.
د. حاتم بن التهامي الفطناسي [ جمع وإعداد ].. ( السرد وأسئلة الكينونة؛ بحوث مؤتمر عُمان الأول للسرد ).. كتاب دبي الثقافية.. فبراير 2013.
( إشكالية الأنا والآخر: نماذج روائية عربية ) د. ماجدة حمود.. سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 398 مارس 2013.
سعيدة بن بوزة ( الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي.. بحث دكتوراه.. 2007 ـ 2008.
د. محمد برادة ( الرواية العربية ورهان التجديد ) كتاب مجلة دبي الثقافية ـ مايو 2011.
الروايات:
أحمد خلف ( الحلم العظيم ).. دار المدى 2010
قاسم محمد عباس ( المحرقة ).. دار المدى ـ دمشق 2010
عالية ممدوح ( الأجنبية ) دار الآداب ـ بيروت 2013.
عامر حمزة ( سابرجيون/ دار فضاءات ـ عمّان 2014.
نزار عبد الستار ( الأمريكان في بيتي ).. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت/ 2011.
مهدي عيسى الصكر ( الشاهدة والزنجي ).. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1988.


لا مستحيل يقف أمام أرادة الأنسان-الفنان مرتضى ناجي:







لا مستحيل يقف أمام أرادة الأنسان-الفنان مرتضى ناجي

في زيارتنا انا والفنان جميل الكبيسي لشارع المتنبي يوم الجمعة , متابعة للظواهر الثقافية في اروقة الشارع ,زرنا معرضا شخصيا لقنان واعد فتي يبلغ من العمر سبعة  عشر عاما, هو معرضه الشخصي الاول ,ادهشنا بإمكانياته الرائعة في الرسم ,رغم انشغاله في الدراسة وهو طالب في السادس الاعدادي , من المتفوقين في دراسته, لكن المحزن انه كان مصابا بشلل ولادي في اطرافه الاربعة, لكن عقله كان متوهجا , هذا ما دلت عليه نظراته وقوة شخصيته ,انه اثبت فعلا لا مستحيل امام ارادة الانسان, انه الفنان مرتضى ناجي  , تحية لمن تحدى الاعاقة بمستوى من الاعمال تفوق فيها على الكثير من مدعي الفن والثقافة.