الخميس، 21 يناير 2016

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية-إعداد: عادل كامل

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية

وثائق وشهادات

إعداد: عادل كامل
      كالكثير من المشاريع المحكومة بالفشل، أهملت المؤسسات المعنية بالفن، وغير الفن، بالحفاظ على تراث جواد سليم، رغم الكثير من الجهود التي بذلت  بتحويل بيت الفنان إلى (متحف)، والحفاظ على ارثه، أثناء حياة سعاد ونزار ونزيهة، وباقي أفراد أسرته...، أو بعد رحيلهم...، فتناثرت تجاربه الفنية، ومقتنياته، وتوزعت، كما تعرض الجناح الخاص به ـ في مركز الفنون ـ بعد 2003، للنهب، والتلف، والضياع...
   لكن القليل من رسوماته، ومجسماته، لم تغب عن الذاكرة: الشجرة القتيلة، شعار الجمهورية، العلم العراقي، شعار مصلحة نقل الركاب، تصاميم العديد من الكتب، البنّاء، الأمومة، السجين السياسي، إضافة إلى بغدادياته ... الخ
   لكن (نصب الحرية) ـ الذي تعرض لمحاولات عديدة للهدم ـ امتلك اللغز ذاته الذي بحث عنه جواد سليم، ومكث يجد، يوما ً بعد آخر،  استجابة لا شعورية أولا ً، وفنية رمزية إبداعية ثانيا ً، من لدن الملايين التي وجدت فيه: علامة اجتمعت فيها عناصر الإبداع.
   إن جواد سليم نفسه لم يفكر ولم يطمح أن يكون أسطورة، رغم انه استثمر حداثات الفن الأوربي بمنحها سرها المشيد بالرهافة والخبرة، بل عمل على صياغة (علامة) استمد مكوناتها من أحلام أجيال غابت ومكثت تحلم أن تصنع مصيرها بالعمل ـ وبالحرية.
   وبعد مضي 55 عاما ً على إقامة نصب الحرية (1961)، في اكبر ساحات بغداد ـ الباب الشرقي ـ يكون جواد سليم حقق رسالته الفنية/ الأخلاقية/ والجمالية...، فصار النصب: علامة في مدينة، ومدينة في علامة. حتى بات من الصعب تخيل بغداد اليوم من غير نصب الحرية، أو تخّيل نصب بغداد من غير بغداد... فلقد أعاد جواد سليم ـ بعد قرون من الظلمات ـ للفن مكانته في الضمير ـ وفي الذاكرة، وفي المخيال الشعبي النبيل.
    في الوثائق/ الشهادات التالية، تؤكد أن نصب الحرية، ليس من الماضي...
    ولأن النصب، لم يكن علامة منفصلة عن تاريخ وادي الرافدين، وحضارته، فقد ترك أثره، منذ شيّد، في عدد كبير من الذين عاصروا نشأته، وحضوره الإبداعي كأحد رموز العراق الحديث. فالفن، كما تؤكد مدوّنات التاريخ، إن لم يستمد شرعيته من الضمير الاجتماعي، والثقافي، فانه لن يتحول إلى معمار روحي، والى أداه فعّالة في الخطاب المعرفي للشعب، ونخبه الإبداعية. وفي الشهادات، والنصوص التالية، إشارات تلقي الضوء، وقد استمدته من النصب تحديدا ً، حول مفهوم الهوية، وامتدادها، في عصر تصادم العلامات، ولكن، في إطار صيرورتها الخلاقة.


شهادات شارك فيها:
1 ـ  جبرا إبراهيم جبرا
2ـ عباس الصراف
3 ـ شاكر حسن آل سعيد
4 ـ إسماعيل الشيخلي
5 ـ د. شمس الدين فارس
6 ـ د. محمد صادق رحيم
7 ـ عدنان المبارك
8 ـ أ.د تيسير الآلوسي
9 ـ د. خالد القصاب
10 ـ عادل ناجي
11 ـ د. شوقي الموسوي
12 ـ   د.عبد الإله الصائغ


توق للحرية

   " وهذا النصب يتألف من أربعة عشر مجموعة من البرونز، في كل مجموعة منها عدة شخوص وينتشر على إفريز شاهق طوله خمسون مترا ً، وعلو منحوتاته ثمانية أمتار. فهو إذن من اكبر النصب في العالم، وهو أضخم نصب قام بعمله فنان عراقي منذ أكثر من (2500) سنة. ومع ذلك فقد أكمله في سنة ونصف! والسر في ذلك ولا ريب هو تاريخ تطور الفنان وما قام به من رسم ونحت طوال عشرين سنة من حياته، وما واكب من تاريخ قومي كان هو في الغمرة منه، مع انه ـ كما كان يردد ـلا تهمه السياسة في شيء. فالتاريخ القومي هنا عملية مخاض نفسي، أو عملية نمو وإيناع في تربة اكتشفت منذ حوالي خمسين سنة كوامن خصبها. (....) فعزم أولا ً على جعل منحوتاته على الغرار العراقي القديم ـ وهو النحت الناتئ، لا النحت المجسم. ثم أدرك ان عليه ان يجعل العمل كله حلا ً وسطا ً بين الأسلوب الذي يتوخاه الفنان لو كان عمله خاصا ً به وبين ما يتوقع منه الجمهور الذي ينظر إليه في ساحة كبرى. وإذ راح يرتب مجموعاته الأربع عشرة استدرج تجارب سنيه الطويلة وتراكمات الرؤى والرموز التي لم يتح له في الماضي ان يبلورها على مثل هذا النطاق ـ وراح يرتبها، فيما أراه أنا، على شكل بيت من الشعر يقرأ من اليمين إلى اليسار. فكل مجموعة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل الواحدة بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يعبر عنه النصب بأجمعه: توق العراق إلى الحرية منذ القدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها، لكي ينعم أخيرا ً بالسكينة والازدهار والخلق."
جبرا إبراهيم جبرا
الرحلة الثامنة، بيروت، 1967 ص 188ـ 202


بين بوابة عشتار ونصب الحرية


    " البوابة مستطيلة طولها الأفقي خمسون مترا ً وعرضها العمودي ثمانية أمتار وسمكها متر واحد وترتفع عن الأرض خمسة أمتار، إنها جسر مرمري استند طرفاه على قاعدتين وبقي معلقا ً في الفضاء تاركا ً تحته ممرا ً واسعا ً يصل ساحة صاخبة بمتنزه هاديء بسيط.
   باب عشتار محدودة الفكر تروي مراسيم المواكب البابلية والجموع الوافدة على بابل مخترقة ذلك الدهليز المعتم ... وبوابة بغداد كونية كبيرة تحمل ملحمتها على ظهرها تروي للأجيال المتعاقبة صراع البشر مع أقدارهم.
  باب عشتار أنشودة يرددها التاريخ... وبوابة بغداد ملحمة تتحدث عن التاريخ.
   وباب عشتار ممر ضيق يوصل لمدينة سجينة داخل أسوار... وبوابة بغداد بساط شهرزاد السحري محلقاً في الفضاء.
   باب عشتار مظلمة رهيبة يعتليها حراس أشداء يسددون نبالهم وسهامهم للقادمين إليها وتحمل جدرانها حيوانات أسطورية مخيفة ... بوابة بغداد عارية مفتوحة ليل نهار بلا رقباء يعتلي تماثيلها الحمام الآمن فيكسبها حياة ووداعة واطمئنان.
   باب عشتار تلثمها الشمس سويعات من النهار... بوابة بغداد تعانق الشمس عند شروقها وتودعها عند الغروب، ولم يكن ذلك من قبيل الصدف بل قصده جواد وعناه فأراد ان يبعث الحياة في ملحمته فوضعها في خط مسيرة الشمس حيث تطول الظلال وتقصر فتكون الأشكال في حركة دائبة لأنها تستجيب لكل لمحة من الضوء المتغير، وإذا دجى الليل ونشرت المصابيح أنوارها الشاحبة على تلك الهياكل توقف الزمن وتسمرت دون حراك، فترقد في جمود حتى بزوغ صباح جديد، إنها دورة الزمن الأبدية"
عباس الصراف
[جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص137 ـ 138


التجاوز
   " هذا هو أخيرا ً إذن مبدأ (التجاوز) لدى الفنان وقد تقمص كل ذاكرة محاوره. فنصب الحرية محفوف بمخاطر الوقوع في رتابة (التخلف) اذا لم يقترح منذ البداية كل هذه الإمكانيات الواسعة للخروج عن ارض (الذاتية): ذاتية الركون إلى (دغوماتية) التفسير. وجواد سليم يحقق تجاوزه الذاتي في (الرمز) ولكن ضد (المتناقض) الذي ينشد اللا ـ تناقض أو وحدة التعاقب فهناك ما يسمى عادة (بالانقطاع)، وهو ما سينشد بدوره (اللا انقطاع). ان (الانقطاع) في نصب الحرية هو (قدر) الميثولوجي: فما لم يدرك المشاهد ان ثمة لا منطق معين في العلاقات بين الأشياء وأشياء الأشياء سوى تلك النفحة الرقيقة بروائحها الطيبة: روائح الانجاز الجميل فلا (شخصية مركبة). أي ان ما أنجزه جواد سليم بوضوح في رسومه في الخمسينيات (1953) يطالعنا الآن في نحوته الستينية (1961). وهو أكثر أصولية (في علم الأصول) في جوهره. فنحن أبدا ً بإزاء عمل فني يمتزج فيه الرسم بالنحت، بالموسيقى، وبالفن المعماري ـ كما يمتزج فيه الطبيعي بالثقافي وما يخص الفنان وما يخص الجمهور بل وما هو مستقل في إطار (شيئية) الوجود. فمبدأ (التجاوز) في جميع الأحوال إذن يتقمص هذه الأشكال النحتية الهائلة، أي في ان نعيد النظر مجددا ً في كل مرة لما نراه. فليس نصب الحرية إذن هو هذه المساحات والكتل المحددة من البرونز. ذلك لأنه أيضا ً تلك النوبات المرضية والانهيارات النفسية التي مر بها جواد سليم أثناء انجازه لبدايات عمله.. (....) أيكون إذن موته المفاجئ جزءا ً من عمله هذا وهو في صيرورته المستقبلية ؟هنا نستفيق من سبات عميق على حقيقة  ان استمرار العمل الفني بعد موت الفنان هو أيضا ً جزء من سيرورته الجنينية قبل ولادته. فإذا كانت جهود الإنسان تختصر في (زحزحة) الطبيعي إلى ثقافي فان جهود الإنسان الخلقي هي التي اختصرت وستختصر (زحزحة) الثقافي إلى ما فوق الثقافي."
شاكر حسن آل سعيد
[جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991 ص206


انجاز كبير

[ إن نصب الحرية يعد بحق من اكبر الأعمال وأعظمها في النحت المعاصر، حيث حقق جواد في هذا الانجاز الرائع كل ما كان يصبو إليه من قيم فنية لذا فإننا نرى فيه خلاصة ما كان يريد ان يقوله ويعبر عنه منذ ان تأثر بفنون وادي الرافدين ودراسته في باريس مع أستاذه (جانيو) الذي يعد من اكبر فناني النحوت البارزة في فرنسا. ودراسته في كل من روما ولندن بعدئذ حتى انتهت به هذه المسيرة القصيرة من عمره الفني بهذا الانجاز الكبير. يبقى جواد فنانا ً عراقيا ً أصيلا ً ومبدعا ً فتح آفاقا ً رحبة وواسعة أمام الكثير من زملائه وأصدقائه وطلابه في البحث والاستقصاء وإنارة الطريق لهم، وعلى الأخص في استلهام تراث الأمة وتاريخها في إطار من القيم المعاصرة والرؤية المتقدمة وبإعماله تلك دفع عجلة الفن العراقي إلى أمام في فترة كانت تعج في أرواح الشباب المتطلع للمستقبل، ثورة وجدانية وفكرية وسياسية هدفها السير بالوطن والأمة نحو التقدم والدخول إلى معالم الحضارة الإنسانية الحديثة"
إسماعيل الشيخلي
مجلة الرواق ـ وزارة الثقافة ـ بغداد العدد(14) 1983


تعبيرية النصب وجمالياته

   " شيد هذا النصب في ساحة مركزية ذات الحركة الدائرية والتي تلتقي بها ستة شوارع رئيسة. فبصورة جيدة يستطيع المشاهد ان ينظر إلى هذا النصب من أية نقطة في الساحة. فبهذا نستطيع ان نشير إلى ان مكان النصب اختير ايجابيا ً تحقق من خلاله التعامل الصحيح مع المجموعات المعمارية المحيطة به.
     وقد طرح الفنان مضمون هذه الملحمة بشكل قصصي ديناميكي من خلال تقصيه لبعض القيم الجمالية لفن وادي الرافدين القديم، وقد سبكها بروح معاصرة مكونا ً من ذلك خاصية ما تميز به النصب بهيأته التكوينية العامة. ومن خلال ذلك استطاع الفنان ان يتوصل إلى صياغة بلاستيكية موحدة ذات لغة تشكيلية معاصرة تعبر عن واقع موضوعي تحسه جماهير شعبه..."
    " فبغض النظر من ان التكوين الفني للإفريز متكون من أجزاء مركبة من قطع برونزية مخرمة وزعت على الخلفية البيضاء ببروزات متفاوتة فان الفنان استطاع ان يجد بثبات الحركات البلاستكية والانسجام اللوني العام للنصب. ومن الناحية الأخرى فان الفنان استند على بعض القيم الجمالية اللونية للرليف  البابلي لكن جواد لم يعتمد على التراث من خلال المحاكاة وإنما من خلال تقصيه للقيم الجمالية التي أدركها الفنان البابلي. فالفنان جواد لم يستعمل الألوان كما استعملها الفنان البابلي في طلي رليفاته وإنما استطاع ان ينظم الإيقاعات اللونية من الألوان الطبيعية للمواد التي استعملها في بناء هذا النصب من حجر ابيض وبرونز. فالكتل البرونزية ثبتت على الخلفية البيضاء بتفاوت لذلك تكونت ظلال مختلفة تفاوتت درجاتها اللونية وشاركت هذه الظلال مشاركة مباشرة تكوينا ً مع الكتل الأصلية. استطاع الفنان هنا ان يستخلص هارموني بين الألوان الطبيعية للمواد ودرجات الظل والنور المختلفة، وذلك بالحصول على تكوين بلاستيكي عام يعطي قوة تعبيرية ديناميكية للنصب المعماري مع القطع البرونزية الضخمة المتكونة منها شخصيات النصب. فأيادي المناضلين الضخمة والتي تعبر عن الألم والإصرار على النضال جسد فيها الفنان كره الشعب للاضطهاد. ان هذه الشخصيات العملاقة يرمز بها الفنان إلى الشعب البطل المناضل ضد الجوع والفقر. الملاحظ في هذا النصب ان الفنان أجرى عمليات اختزال لبعض الأجزاء وذلك لكي يستطيع ان يؤكد على الأجزاء المهمة التي تبرز من خلالها قوة تعبيرية أقوى، وهذه إحدى الصفات المهمة التي تميز بها الفن السومري القديم."
د. شمس الدين فارس
               [المنابع التاريخية للفن ألجداري في العراق المعاصر] وزارة الإعلام ـ السلسلة الفنية (24) بغداد ـ 1974  ص52 وما بعدها


سيمفونية
    " نصب الحرية في الباب الشرقي لبغداد هو ختم اسطواني سومري مكبر من حيث فكرته , أما اذا أردنا تشبيهه بلافتة في تظاهرة كما يرى مصمم بناؤه وقاعدته (رفعت الجادرجي ) فسنقع بركاكة تجربتنا للشعور بفشل التصميم عموما . إذا أخذنا أي ختم اسطواني سومري ومررناه على لوح من الطين فسنحصل على نحت بارز مستطيل مؤلف من الشخوص والحيوانات والرموز يشبه إلى حد بعيد نصب الحرية هذا هو الذي منح نصب الحرية مشروعيته وأصالته العراقية .. عند النظر إلى النصب من اليمين إلى اليسار نرى كتلة نحتية يتبعها فراغ ثم كتلة نحتية أخرى  وهكذا ...ان هذا الارتفاع والهبوط يفتح آذاننا إلى صوت الطبلة الغجرية العراقية المتفردة من بعيد فهو صوت وفراغ ثم صوت ففراغ، ان هذه الحركة والتوقف والارتفاع والهبوط تجعلنا قادرين على اخذ أي جزء من الملحمة ومعاملته كعمل فني نحتي مستقل , لكن هذا لم يؤثر إطلاقا على النسق الفني التام والعلاقة الوطيدة بين كل أجزاء الملحمة عند النظر إليها كاملة مرة واحدة .. لقد حقق جواد سليم ذلك بقدرة فنية عالية , حيث سلم أجساد شخوصه بعظام غير مرئية عملت كمساند داخلية تعطي حركة وشكلا يميز كل المشخصات بصفة مشتركة تبعث الشعور بذلك النسق الفني المشترك العالي الذي نراه في النصب اليوم . ولهذا نستطيع النظر إلى النصب كاملا لنجد كل جزء فيه يكمل ويغني الآخر بجانبه في تكوين متماسك صلد . كذلك اذا توقفنا أمام نصب الحرية في بغداد لمسافة عدة أمتار عنه، ونسينا لدقيقة واحدة السياج القبيح في الأسفل والروائح الكريهة التي تخدش شمنا لغرقنا في شعور من الرغبة في التحرك والارتفاع والمشي بين شخوص المنحوتة ,, إنها أشكال درامية تحكي قصصا تدعونا إلى لمسها والحركة معها."
  د. محمد صادق رحيم
مجلة الثقافة الجديدة ـ العدد 292


جواد... جواد ... جواد ...

شمس بابل وقباب بغداد ونساء حماماتها
فتح لها كل الشبابيك هذا القادم من درب تبّانة
حين هبط في الرصافة.
كان قد رسم على جدران الزقاق المجاور
الأهلّة والنارجيلات ومويجات دجلة النزقة.
ثم راح الى امرأتنا البغدادية.
رسم هالات ضوء تنبض في الوجه.
جرّاوية الأسطه أراد وضعها على رأس انكيدو،
وانتزاع السهم من صدر اللبوءة.
عمل استراحة  تذكارية ،
وجلس مترنما مع الجالغي والمقام.
أمامه جاي سنكين ،
وفي الفم جكارة مزبّنة ،
وفي الرأس
بضع حكايات من شهرزاد
راح يستمع اليها الواسطي أيضا ،
رغم أنه دخل من زمان ، رواق المقامات
وأولئك الرجال والخيول
 والجدران التي أضاعت  جغرافيتها.
رفع ابن سليم فوق بغداده لافتة من رخام
أضاءتها شمسان -
كونية وتلك البابلية التي كانت قد شبّت في قلبه
 وطافت في كل أزقتنا القديمة.
أما دجلته فوصلت منعطف الزوّية
وهي تردد بحزن شفيف :
جواد ... جواد... جواد...

عدنان المبارك
باندهولم 26-  أيلول 2013


نصب الحرية ببغداد الرمز التكويني الأكثر غنى بين النصب المثيلة عالميا


     منذ لحظة الاشتغال الإجرائي وتجسيد القيم الإبداعية فيه، كان نصب الحرية في بغداد حالة استثنائية وسط غرابة ما تكتنفه المراحل التي مرّت عليه. صحيح أنّ ولادة النصب جاءت مع ثورة 14 تموز التي عبرت عن انعتاق الشعب من بنية مجتمعية شبه إقطاعية ومن حالات التخلف والجهل، إلا أن النصب يوحي لك بأنه قبس من سومريات الحضارة التي شيدت على ضفاف الشطآن الملأى بأمواه الخلق الأولى. أنت تتطلع ممعنا في النصب فتجد تلخيصا لأسطورة الخلق ولأساطير الإنسان السومري يبني وجوده بحكمة عقل متمدن، وبأذرع سمر ارتفعت فضاءاتها مشرعة كصواري السفائن التي تمخر عباب العواصف المتلاطمة وتنتصر عليها منعتقة من أسرها، متحررة من قيودها.. وإذا كان النصب يتميز عن إبداعات أخرى بذات العنوان كونه يقدم كينونته بانوراميا بحكاية أسطورية لمسيرة شعب لم يقبل لنفسه إلا أن يكون مهد حضارة البشرية الأمر الذي ارتقى بوعيه عاليا ليرفض أن يحيا بعبودية لعنف لحظة من الزمن قد تكون استغلت ظرفا لتحاول استعباده لكنها تفشل أمام إرادة من نيران الثورة والثوار يحطمون السلاسل والقيود.. إنّ هذه الميزة ليست ميزة مضمونية كأنها فكرة صماء بلا أدوات تقديم وعرض.. إنها ميزة تميز النصب في بغداد عنه في كل بقاع الدنيا بكونه ملحمة تشكيلية استثنائية لا تتكرر. من هنا صار هذا النصب قيمة جمالية بخصوصية محلية وبأجنحة تنشر مداها على مدى الفضاء الإنساني.. الأمر الذي يحول نصب الحرية ببغداد إلى رمز مفتوح للحرية لا تستطيع حدود أو جغرافيا أن تأسره. وهذا يعني لطلبة الفنون التشكيلية ولعلم الجمال إيقونة ودرسا خالدا سيبقى الفنانون يبحثون عن لحظة للفرجة واللقاء ليتمعنوا في عطاءات بلا حدود، عن دروس بلا منتهى، عن قيم متجددة تعايش الأزمنة والمراحل في كل مرة تثور على معطى المرة السابقة بجديد قراءة في عين مبدع أو عالم للجمالية...إن للعراقيين فخرهم في نصب الحرية كونه ينبوع عطاء ومنهلا مازال يمنح الحياة لقيم الحرية والانعتاق ويثير فيهم قيم الثورة وسيبقى الملتقى الجمالي والفكري الاجتماعي الذي تلتئم حوله الأنشطة بخاصة منها تلك التي تتحدث باسم المقدس الاجتماعي، المعبر عن الصوت الجمعي  الهادر للشعب الذي يأبى إلا أن يتجه في دروب الحرية لأنها دروب السلم والتقدم والحياة حرة كريمة.. ذلكم هو نصب الحرية في ساحة التحرير في العاصمة العراقية بغداد.. ذلكم هو ملخص كل نصب الحرية في العالم وهو ملتقاهم وموئل الدلالات الحافة لنصب الحرية بمختلف العواصم...


 أ.د. تيسير عبد الجبار الآلوسي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا


السيمفونية

في شهر كانون الثاني 1961م، أصيب جواد سليم بنوبة قلبية مرة أخرى، وكان قد أصيب بنوبات متعددة أثناء دراسته في انكلترا وفي ايطاليا، عندما كان مرهقا بعمل نصب الحرية لثورة 14 تموز 1958م، واذكر انه شكا لي من الم في صدره ونحن في سيارتي قاصدين مطعم (الباجة) في شارع الشيخ عمر بعد منتصف الليل.
ادخل جواد بصورة مستعجلة إلى الردهة الثامنة في المستشفى الجمهوري، ولازمته هناك مع الدكتور سالم الدملوجي (صديقنا الحميم وأستاذ الأمراض الباطنية في وقت لاحق). وأجريت له كل ما تطلبه حالته، وكانت زوجته (لورنا) تلازمه طيلة الوقت.
غطوا وجهه الشاحب بقناع الأوكسجين وربطوه بأنابيب طبية متعددة. تحسن وضعه في الأيام الأولى لكنه أصيب بنوبة قلبية ثانية فجلل العرق وجهه ونزل ضغطه وبدا عليه صعوبة في التنفس وعطش للأوكسجين مع حالة من هذيان يصاحب عادة هذه الحالات. قال لزوجته: (تصوري إني أراك الآن ملاكاً .. تصوري أنت لورنا ملاك). ثم علت وجهه ابتسامة ساخرة اختفت فجأة وجمدت عيناه فتوقف كل شيء.
أصابنا الوجوم أنا وسالم ولورنا، ففصلتُ عنه أنابيب الأوكسجين والتغذية وهو بلا حراك، مات جواد ولم يتجاوز عمره اثنين وأربعين عاماً.
وانتقل بذاكرتي إلى غرفة الأموات المظلمة في المستشفى، وجسد جواد مسجى على منضدة (البورسلين) الأبيض، سال من الأعلى خيط نور صغير ليخترق الظلمة ويسقط فوق وجه جواد الشاحب.
وفي ركن الغرفة تجمعت ظلال الأصدقاء تبكي المشهد الكئيب: حافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وسعد شاكر ومحمد عبد الوهاب وباهر فائق وسالم الدملوجي وخالد القصاب. وانبرى النحات خالد الرحال يخفق بيده عجينة (البلاستر) يغطي بها وجه جواد ولحيته ليعمل منها قناعاً لوجهه والدموع تنهمر من عينيه، تكسر القناع عدة مرات لرداءة المسحوق، فأسرع سعد شاكر في الذهاب إلى معهد الفنون الجميلة لجلب مسحوق بديل، فأعاد الرحال عمل القناع مرة أخرى، وهنا أطلق باهر فائق صرخة من قلب الظلام: (خالد لاتخنق جواد)، وانخرط الجميع بالبكاء.
توفي جواد صبيحة يوم 23 كانون الثاني 1961م، وشُيع جثمانه بعد الظهر من معهد الفنون الجميلة في الكسرة بجمع مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة الاعظمية. ركب إلى جانبه بالقرب من التابوت في السيارة التي تحمل النعش فائق حسن واخو جواد سعاد سليم وإسماعيل الشيخلي وفرج عبو.
وسار خلف السيارة مشياً على الأقدام عميد معهد الفنون الجميلة وأساتذته والشاعر محمد مهدي الجواهري والفنانون وطلاب المعهد. وكان شكري المفتي معاون عميد المعهد قد اتصل بشباب الاعظمية لاستقبال الموكب استقبالاً يليق بما يستحقه من احترام.
غابت الشمس الحمراء خلف الأفق، وبقي لحن الكيتار الأخير من أغاني الفلامنكو الحزينة التي كان يعزفها جواد يرن طرياً في أذني، لم يذو مع السنين بل ظل يحكي لي قصة عبقرية نادرة انتهت بعد عمر قصير، ذهبت ولم تعود.
د.خالد القصاب

  العبقرية والأصالة في فن جواد سليم

   تنتابني الرهبة حين أتطلع في نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد ،واسأل نفسي يا ترى كيف بَنت عبقرية جواد سليم هذا الإنشاء النحتي العظيم الذي لا يضاهيه أي نصب رأيته في جميع تنقلاتي وسفرياتي ؟
لو نأخذ كل قطعة على حدة ونفتش بما فيها سنجد ان هناك تكوينات ومحاكاة مدروسة بإتقان شديد وكأن جواد سليم كان يريد ان يقول لنفسه وللتاريخ "سأجعل من هذا النصب العملاق لا مثيل له في الدنيا . وسأجعل منه سيمفونية خالدة كمسلة حمورابي ، ولم لا وأنا عراقي؟ ووطني فيه من كنوز الفن ما يعادل حضارات كاملة" اجزم ان جواد كان يدردش مع نفسه هذه العبارات وهو يضع السكيتشات ( المسودات ) أمامه ويحذف ويضيف ثم يدون ما يجب عمله..ثم يتخيل كيف يكون النصب وكيف ستكون رفع الستارة عن هذا النصب العملاق... جواد كان يحلم وينتشي بتلك الأحلام التي أصبحت حقيقة ، بل أحلامه أصبحت تاريخ خالد.
ولد جواد سليم سنة 1919 في أنقرة- تركيا حيث كان أبوه ضابط متجند في الجيش العثماني. كان الأب هاويا للرسم ويمارس هوايته عند الفراغ . نشأ جواد في تلك البيئة العائلية المحبة للفن فكانت أمه تمارس الفنون اليدوية، و للفنان جواد سليم اخوين سعاد ونزار وهما أيضا فنانان مرموقان في الوسط الفني العراقي، وأخت واحده اسمها نزيه وهي فنانة ومدرسة لفن الزخرفة والديكور في معهد الفنون الجميلة، وقد درستني عام 1965 و1966 حين كنت طالبا في المعهد وكانت علاقتي جيدة جدا معها . انا هنا أتذكر إنها أخذتني إلى بيتها مرتين و (كان موقعه قريب من المعهد ) للمساعدة بنقل بعض الحاجيات الفنية التي كنا نستخدمها نحن الطلبة في دراستنا الفنية، وكان هو نفس البيت الذي عاش فيه أخوها جواد سليم .كانت تلك هي فرصتي التي شاهدت فيها الأستوديو الخاص بجواد وهو بسيط ومتواضع وصغير على ما أتذكره الآن وفيه بعض معدات الفنان التي كان يستعملها .
لقد كانت والدة جواد الدافع الأول في نشأة فنانا العظيم ، فلقد شجعت ابنها على ان ينشأ بين الطين والشمع لصناعة التماثيل الفطرية التي يتلهي بها كل طفل لقضاء وقته بسعادة.
تأثر فناننا الراحل بالفن القديم لحضارات وادي الرافدين ابتداء من الفن السومري حتى الفن الأشوري وهذا ما يظهر جليا في قوة الإنسان العراقي المحطم للقيود في نصبه العملاق نصب الحرية. كما تأثر جواد سليم بالفن الإسلامي وخاصة فن الواسطي .
ان نصب الحرية هو بالحقيقة السيمفونية الأسطورية للفن العراقي المعاصر .فلقد غاص المايسترو جواد سليم في أعماق التاريخ السومري والاكدي والبابلي والآشوري حيث الأنغام الانسيابية والحس المرهف والقوة التي بنى عليها العراق حضاراته المتتالية.
كتب فنانا الراحل ما يلي عن نصب الحرية :"إنني في الوقت الذي أدعو فيه لخلق الفن العراقي الصميم أود القول باني لا أروم تحنيط العقول وتقييد الأفكار المتحررة، إنما أريد النظرة والانطباعة ". أما النظرة فهي ان نرى اللوحة بسذاجتنا وبباصرة أجسامنا، وأما الانطباعة فهي ان نراها بعقولنا وبباصرة تفكيرنا. فأنا مثلا عندما اعرض ما ارسمه على خادمتنا الصغيرة تفهم ان هذا التخطيط لقطة وذلك ( الاسكيتش) لرجل و الثالث لكمنجة هكذا ...وأنا في الوقت ذاته عندما اعرض هذه اللوحات نفسها على شخص تقمص روحية المثقف لما فهم منها إلا الشيء غير الموجود فيها. مرجع هذا ان الصغيرة نظرت لهذه اللوحة بسليقتها وبفطرتها ، أما المثقف فقد شاهدها ببصيرته المفكرة وأفقه الثقافي.
ويضيف في مذكراته أيضا حول نصب الحرية وهو يشبهه بالسيمفونية ويقول : " إنني كثيرا ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي . والمؤلف الموسيقي لايمكن ان يؤلف سيمفونية أو أوبرا الا بطلب حكومي او طلب إحدى الجمعيات الكبيرة، كذلك النحات لا يمكن ان يعمل غالبا إلا للحكومة او للجمعيات. وتشابه القطعة الموسيقية رسالتها النصب الموضوع في إحدى الميادين الذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر".
وهنا اسرد ما ذكره الكاتب عباس الصراف في كتابه الشهير جواد سليم وهو يصف فيه قصة نصب الحرية:
" فرحلتنا الأولي قصيرة... زمانها عشرات السنين من القرن العشرين ،ومكانها ارض الرافدين ، وأحداثها صراع الشعب العراقي مع المغتصب وأعوانه، تبدأ بثورة العشرين، ثورة الفلاحين العراة إلا من أسمال تسترهم ، والجياع إلا من كسرة خبز تسد رمقهم . طال الصبر بهم فتجهمت وجوههم ، وعلاهم الغضب فسددوا نظراتهم بشزر . ديست كرامتهم فانتفضوا ثائرين على خيولهم الجامحة. زوبعة لولبية في بداية النصب قوامها حصان التف بجيده للوراء ورجل التوى ظهره يساند ذلك الحصان ،وقد ارتدى زي الفلاح العراقي، ثم يقابلهما رجلان مسك كل منهما بزمام، واندفعا بحركة مضادة عنيفة، ثم ذلك المحور الثابت الذي توسط تلك الزوبعة متمثلا بذلك الثائر الذي رفع يديه المقيدتين إلى الأعلى بقوة وشموخ محاولا ان يحطم بقيوده شيئا ما. عاصفة هادرة هبت من الريف لتوقظ المدينة فكان لها ما أرادت. فاندفعت الجموع برجالها ونسائها وحتى أطفالها بمظاهرات صاخبة وهتافات غاضبة ترفع اللافتات الصارخة متمثلة بتلك القطع التي علت أيدي الفتى والفتاة. وتتوسع رقعة المعركة وتتلاحم الجماهير فيضطرب الحكام وتحسسون مواقعهم المنهارة فيتشبثون بأقسى الأساليب وأشرس الوسائل في سبيل البقاء فتسقط الضحايا وتنصب المشانق وتمتلئ السجون، ولكن اليأس لم يعرف طريقه الى النفوس فالشعب يستعد بعد كل انتكاسة لجولة أخرى. وهكذا خاض الشعب مظاهرات وانتفاضات ووثبات توجها بثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الجيش العراقي متمثلا بذلك الجندي الصارم الذي حطم قضبان ذلك السجن الكبير فأشرقت شمس تموز بقرصها المنير".
بقي ان نعرف ان بوابة ذلك النصب الذي وضعت عليه سيمفونية الخلود لفناننا الراحل جواد سليم هي من تصميم المهندس المعماري العراقي ذو الحس الفني رفعت الجادرجي. وقد شيدت من الاسمنت المسلح وغلفت من أجود أنواع المرمر المستورد من ايطاليا لكي تقف شامختا ضد العواصف والمؤثرات الجوية. ان عمليات صب القطع البرنزية عملت جميعها في ايطاليا وشحنت إلى العراق. و بقي ان نعرف أيضا ان قياس هذه البوابة المستطيلة الشكل يبلغ 50 مترا ويبلغ ارتفاعها 5 أمتار.
وأخيرا لا بد ان نتذكر ان جواد سليم قد صمم شعار الجمهورية العراقية بعد ثورة 14 تموز وقد أدخلت اللجنة المشرفة عليه بعض التعديلات ،وصمم شعار مصلحة نقل الركاب مقابل ( 15 دينار!) وصمم واجهة المصرف الزراعي عام 1953 بنحت بارز ( ريليف) تمثل الإنسان والأرض. عمل رئيس قسم للنحت في معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يديه خيرة النحاتين العراقيين البارزين ومنهم : محمد غني ،خالد الرحال ، محمد الحسني وهو أستاذي ، وميران السعدي ودرسني النحت أيضا في معهد الفنون وإسماعيل فتاح وطالب مكي وهو زميلي في مجلة مجلتي وجريدة المزمار وكان رئيس الرسامين في المجلة وعيدان الشيخلي ونداء كاظم وعبد الجبار ألبنا.

عادل ناجي
ألذات والامتداد : نصب الحرية

    ان محاولة الفنان العراقي اعتماد الحياة الباطنية الروحية في الإبداع ، هي مثال للديمومة التي تقر ضمناً مبدأ الحرية ، المُشتغل في حياة الصورة الفنية ، دون الاستغناء عن حياة الخارج ... فقد احتوت نتاجات الفنان " جواد سليم "  في النحت والرسم  ، على طاقات التعبير الخاصة بالجسد الأنثوي الخصوبي، الذي اعتبره الفنان رمز لمعنى هذا الوجود الخليقي مما فيه من إشارات للمثال وتعددية في القيم الجمالية والفكرية والحضارية ..؛ فمن خلال تخطيطاته التحضيرية نُلاحظ ان الفنان يمجد النزعة التعبيرية للكلمة والصوت والصورة لصالح الجوهر، لتستوعب مجريات الكيان الاجتماعي في المشهد الفني المشفـّر بالممارسات الإيمائية ؛ بمعنى انه كان مقتنعاً بالوظيفة الاجتماعية والثقافية لفنه ، وعلى وجه الخصوص في عمله الفني الرائع ملحمة (( نصب الحرية )) بتكويناته الاسطورية المُغلفة بالحداثة والذي اصطحبنا معه كالسندباد نحو الحريات ، يُترجم لنا زماننا ، ليسحبنا بعد حين بروحيته الشفافة ، نحو تأملات الصمت والأسئلة النبيلة التي تنتج الهوية ..؛ حيث صور الفنان في هذا النصب عذابات الجسد المنتصر في رحلة البحث عن الحرية ، وفق رؤيته الذاتية الحدسية ،المُشتغلة على الجدل والجدلية بين ثنائيات الوجود ( الأرض والسماء – الجسد والروح – المرأة والرجل – الأسود والأبيض – الحياة والموت ...) ، ابتداءأً من منحوتة الحصان الجامح المعبر عن  يقظة الإنسان المتطلع إلى الآتي ، ومنحوتة الأبطال الثائرين وهم في حركة هائجة باتجاه مركز ثقل العمل الفني ، بجانب الطفل الذي رمز له الفنان بالأمل ، مروراً بالأجساد المتهالكة التي تمثل  الضحايا ( الباكية – الشهيد – الام الولود – السجين السياسي..)  التي مهدت السبيل إلى الحرية المنتظرة ، وصولاً إلى فكرة السلام المنشود .    هذه الجدلية المتصاعدة والمحتفظة بجماليات المكان المتخيل ، قد جعلت المشهد  مُمتليء  بالقيم الإنسانية النبيلة والرموز الفكرية ذات المرجعيات الحضارية ، بجانب امتلاكه لحضوره الثقافي المشروع على صفحات التشكيل العراقي المُعاصر ، فقد صورت الاجساد المتراكبة ( الفتاة – الشهيد – الجندي – الثور – الشجرة – قرص الشمس ...) باسلوب بانورامي يعتمد التسطيح والتحوير لأجزاء المشهد لإحالتها إلى أشكال هلالية متنوعة ومتنامية حركياً عبر التفاعل المتصاعد ما بين المركز والأطراف ... فالفنان جواد مرتبط – على حد قول الأستاذ شاكر حسن آل سعيد – بالعقل الرياضي السومري الذي توصل إلى توطيد العلاقة مع  الحركة المحيطة بالسكون المركزي لأسباب خليقية تأملية بحته .
       فقد كانت لهيمنة الجسد المقدّس ، المستعير لخصائصه الفنية من مملكة الوجود في مشهد النصب ، قد أحدثت تحولاً فكرياً وجمالياً وأدائياً نحو الداخل ، بعد ان  كان الفن سابقاً موجه باتجاه الخارج (النموذج) ؛ اذ طرحت هذه المنحوتات ملامح وعي تشكيلي غير مطابق لايقونية الجسد .. فالجسد هُنا  قد استحضر الثقافة وصار يقود الذات باتجاه الحركة الكونية ، فلم يعد الجمال الحقيقي مُقتصراً على ظاهرية المرئي (الجسد) وإنما تعداه نحو الأعماق (الروح) ، لتكون وظيفة الجسد – على حد تعبير افلاطون – إيقاظ الحب ، الطاقة الكامنة فيه تبعث في الروح قوة مُحركة تسمو إلى المثال ؛ على اعتبار أن الجسد وإحالاته المُشفرّة بالحركة ضرورة داخلية لترجمة ما لم يُترجم .. فالفنان قد استعان بهذا الجسد من أجل الارتقاء بالمرئي إلى مديات بلا حافات ؛ بوصف إن الجميل لا يُرى إلا عندما يتموضع في جسدٍ ما .

     فموضوعة الجسد لدى جواد ، قد أصبحت تمثل نقطة تحول وارتكاز رياضي في فنه أولاً وثانياً في تاريخ الحركة التشكيلية العراقي المعاصرة ، تجعل من ألذات والخيال وجوداً حقيقياً يمتلك جوهر المرئيات قبل الولوج في تمظهراتها الجزئية ...؛ لان فكرة المرئي – على حد تعبير غوغان – هي التي تجعل الجسد ملائماً للرسم والذاكرة لا تحتفظ بكل التفاصيل الجزئية ، بل ما يُثير الروح والقلب فقط .. ومن هنا نلاحظ أن التكوينات الجسدية المتهالكة في هذا النصب ، تنتمي إلى الرمز أكثر من انتمائها إلى المكان ، كونها أطياف كُتب لها البقاء والحضور .
د. شوقي الموسوي

نصب الحرية لافتة

يا جسداً يحتضن الساعةَ أعراسَ الدم ...
ويصفِّقُ للشجرِ الراكضِ في الدرب إلينا ...
الليلةَ يُبعثُ كلُّ الشهداء ...
ينتظمون كراديساً سكرى تتلألأُ في الليل ...
يَطْلُونَ رؤوسهمو المصدوعةَ للذكرى ...
للشطِّ يغنون ... للسلم يغنون
للجبلِ العاصب غيماً بالعطر يغنون
للهور يغنيه بالمطبج
يكظم حيفا إذ يدبك يا اولاد الطاعون
سرّاق الماعون للهور استبدل بالقصب الخاوي
اغصان الزيتون يغنون
 يغنون ...
هشَّتْ في التحرير صدورٌ ...
همدت للنكرات قصور غرقى بالأفيون  ...
الشهداء الشهداء ...
الشهداء انطلقوا صخبين ...
حملوا نصب الحرية لافتة طافوا بشوارع بغداد البصرة اربيل الموصل
 صخبين يغنون ...
يافَرَحَ المنسيِّ أتيت ...
كلُّ جرار مدينتنا رشحت لهبا ...
صارت اسرابُ حمام الزاجل قوساً للنصر ...
والسحبُ السوداءُ شعاراً ثوريا ...
القاتل مقتول والسارق ملعون
فانفجر الإسفلتُ شموعا ...
والفرح المبهورُ دموعا ...
قل رائحة المسلخ تنأى ...
قل حافلة الموتى تنأى ...
وتعال نغن
أشهد أن العشق سلام ...
أشهد أن الموت سلام ...
اشهد أن اليوم القادم أحلى الأيام

  د.عبد الإله الصائغ

* من ديوان هاكم فرح الدماء  1974.

الشريد شاعراً-*ماجـد صالح الســـــــــــامرائي


                                                                     بغداد    1424 ه                                        2004م

بمثابة تقديم

الشريد شاعراً
(تخطيط بالكلمات ـ أو صورة جانبية للحصيري)

*ماجـد صالح الســـــــــــامرائي
(1)
ليس من الصعب، على من يريد، بناء صورة للشاعر عبد الأمير الحصيري أن يبنيها، ذلك لأن "تفاصيلها" محصورة بالشخص في حركة حياته اليومية التي هي حركة تحددت بين "ملاذات" النوم، والمقهى، والبار. فإن كان قد ولد، ونشأ نشأته الأولى في محيط آخر غير هذا، وإن تقارب معه ثقافياً، فإن "حياته الثانية" التي عاشها واشتهر "شاعراً شريداً"، ومات غريباً عنها، هي الحياة التي تعني قلم مؤيد البصام في ما احتفظت به ذاكرته من وقائع من المسارات اليومية للشاعر يدوّنها تدوين محب لهذا الشخص الذي كان يُواجَه بالنفور أينما حلّ أو جلس، من دون النظر إلى قامته الشعرية المديدة.
وبقدر ما كانت "حياته الأولى" حياة مسالمة وهادئة.. كانت "حياته الثانية" حياة صاخبة، كل شيء فيها يُعبّر عن عبث بالنفس ومع الواقع، ويُداخلها الشعور باللاجدوى، ما جعل من ينظر فيها نظرة تأمل يُدرك على التَّو إن الحياة التي مضى فيها، أو كان يمضي عبرها ومن خلالها، حياة أقرب إلى "حالة تتكرر"، وأن "الكائن الشريد" فيها إنما يمضي بنفسه، من خلالها، نحو الموت.. وليس من أجل الحياة...
فهو يوم جاء بغداد، نازحاً إليها من النجف، في آخر سنيّ خمسينات قرنها العشرين، كان أن جاءها بعدّتين:
ـ عُدّة الشعر بما يلزمه من بناء وتكوين فنيين..
ـ وعُدّة الرغبة المشبعة بتفجير ما في نفسه من طاقات الحياة التي كان له أن يختار أكثر وجوهها تعثراً، فاستسلم لضرب مما يمكن تسميته بـ"الصعلكة المنتهكة"...
وبالعدّتين كتب شعراً كان يزهو به، وهو الذي لم يعرف من سُبل الحياة سوى "سبيل التشرّد" الذي مضى فيه، ولم يقطع مساره عليه سوى الموت.
(2)
لو اتخذ "رسّام تعبيري" من الشاعر الحصيري في حياته اليومية "مادة/ موضوعاً"، وعمد إلى تتبعه، رسوماً، في حياته التي امتدت علاقات بالواقع بما فيه من أمكنة وناس، وتشرّداً بين مقهى، وشارع، ومشرب، وحديقة عامة (غالباً ما تكون، في أيام الصيف بخاصة، ملاذاً للنوم) يجعل منها "البديل التعويضي" عن سرير مهتز المفاصل على سطح فندق مهجور إلا منه وممن يندرج ضمن حالته، أو يقع في سياق قريب منها.. و"احتكاك قاسٍ" كثيراً ما يقع له مع الآخرين، تاركاً "آثاراً لونية" في الوجه وعلى اليدين منه، ما يجعل من غير المتعذر على هذا الرسام الوصول "صيغ" و"أشكال" و"ألوان" تجعل مما يُنجز، في هذا الإطار، معرضاً متكامل الموضوع، والأسلوب، والرؤية الفنية...
وأكاد أقول: لم يكن من السهل الإبقاء عليه شاعراً خارج هذا "التكوين"، وهو الذي لم يكن يُحيط نفسه بسياج من "الوقار الكاذب"، كما فعل سواه من الشعراء المتهتكين من الداخل. ولقد كانت "نواة حياته" هذه نفسها "نواة شعره" في ما لقصيدته من تحقق إبداعي متفوّق فنياً.
(3)
ليس الكلام في شعر الحصيري بالسهولة، أو ببساطة الكلام في حياته التي أخذت :نمطها اليومي" هذا. فإن كان قد عاش حياة يمكن اختزالها ببضع جُمل (أو كما اختزلها هو في قصيدته: أنا الشريد)، فإن شعره بخلاف تلك الحياة: سعة رؤية وانفتاح أفق...
وعلى الرغم من أن جانباً كبيراً من الشعر الذي كتبَ ـ وقد كتب الكثيرـ كان يُطلق فيه أصوات الحياة المكبوتة داخله، والمتفجرة حزنا ً لا يُدركه اليأس، فإنه كتب ملتفتاً إلى الوطن، واقعاً وإنساناً، مقابسا ً، في بعض ما كتب، المعاني الكبرى لهما/ فيهما.. ومما جاء في هذا السياق قصيدته التي توقف فيها عند مأثرة وطنية كبيرة: الفنان جواد سليم وعمله الشمخ الخالد تاريخاً: "نصب الحرية". وقد ابتعد في الذي كتب عن التكرار، قولاً ورؤية، وخصّ القول منه بتلك اللغة التي تفردتْ عنده ببنائها المتين بما يستدعيه "معجمه الشعري" من لغة لها خصوصية التجربة التي يُصدر عنها، والتي كانت "تجربة معاناة" أكثر من كونها "تجربة حياة". فهو وإن أصدر في كثير مما قال عن تلك الحياة التي لم يكن الآخرون يرون لها إلا وجهاً واحداً، فإن المعاناة المعبَّر عنها هي العلامة الشعرية الفارقة التي جعلت لقوله أبعاد معناه ـ كما تمثَّلَ في قصيدته "يا باسل الحزن"، وفي قصائد أخرى انفردت بخصوصية موضوعاتها.
(4)
كانت حياته حياة تشرّد يومي بامتياز، وكان في أحيان منها يطوي ليله بنهاره فيها... غير عازم على شيء سوى ما هو فيه.
وأما شعره فيمثل لحظة إبداعية في شعر مرحلة نادرة التكرار: فهو كما كان يعيش تجربته  بحيوية وتفاعل يصلان به حدّ الانقسام على الذات (بين حياة هازلة وشعر جاد)، كان يعيش لغته في تراثيتها التي تتلامس وما له من آفاق ورؤى..
كتب بمعاناة، كما عاش حياته بمعاناة.. ولعله الشاعر الذي جعل للتشرد، و"للحياة ـ العبث" تمثيلاتهما. وكما انثالت صور "الشريد" عليه وهو يتوجع بحالته، تداعت لغته بعفوية تشدّ الانتباه.
(5)
ولكن هناك حالة افتراق بين حياته مساراً يومياً، وقصيدته مبنىً شعرياً، فهي قصيدة محكمة التركيب، متماسكة البناء فناً.. الموقف الذاتي للشاعر هو جوهر الفعل الشعري فيها... بخلاف حياته التي كانت تحكمها "الفوضى اليومية" بكل ما لها من إطلاق. ولعل أجمل ما كتب من الشعر هو تلك القصائد التي كان، هو نفسه، "متنها الموضوعي".
(6)
ليس في قصيدة الحصيري من تفارق بين التشكيلين الداخلي والخارجي.. بل هناك مستوىً موضوعي تتحقق فيه شخصيته الشعرية بحركتها الحياتية اليومية المضطربة، وباضطرابات الحياة اليومية بها.. وإن بمستوى فني عالٍ. لذلك نجد "الحراك السردي" لكل من قصيدته وحياته على توافق وانسجام.
(7)
لا أعتتقد أن "الفطرة" انعقدت لشاعر، حياة وشعراً، كما انعقدت للحصيري. فقد عاش حياته بنفسه، ولنفسه، ومضى مع تلك الحياة بقبوله لها وادمانه عليها ـ من دون أن يأبه لرفض الآخرين لها وازدرائهم بها...
وبالفطرة ذاتها كتب الشعر، وإن كشف شعره عن موهبة كبيرة وثراء لغوي كان يُطوّع التعبير عنده لما يريد من القول. لذلك لا نجد في قصيدته جملة شعرية متلكئة، ولا ضعفاً يشوب التعبير.. بل كان بالغ الرهافة حتى في تعبيره عما عاش من حياة كانت قاسية الوقع عليه، وهو الذي وجد الطُرق تهرب من أقدامه إذا ما عليها مشى...
(8)
وإذا كانت حياته هذه قد جَنَتْ على وضعه شاعراً، إذ غمرت بعدميتها اليومية ما كان لقصيدته من خصائص القول، فإننا اليوم نُقبل على قراءة ذلك الشعر بمعزل عما أحاط بتلك الحياة من صخب، ورافق خطواته حيثما سار، وعلى أي طريق قطع... ذلك أن عبثيته المفرطة كانت في كثير الأحيان تكشف عن لا مبالاته بالحالتين معاً: حالة الحياة التي استسلم فيها إلى "تشرّد نوعي" في سلبيته، وحالة الشاعر الذي لم يكن حرصه واضحاً على أن يكون بشعره/ ومن خلاله، على الرغم من تماسك لحظته الشعرية فيه، والتشكيل النوعي لبنائه الفني، ورصانته لغة وتعبيراً.
وكما كانت حياته "مشهدية الصورة"، كانت قصيدته، هي الأخرى، تعتمد مثل هذا "التكوين المشهدي" الذي يعمل قلم البصام على أن يستجمع بعضاً من تفاصيله، وليس كلها، في الصفحات التاليات.

                                                     
بغـداد: 20 نيسان 2015


الأبيض إكسسوار الروح... والرقص انتشاؤها-مؤيد داود البصام










الأبيض إكسسوار الروح... والرقص انتشاؤها

                                                -  مؤيد داود البصام

  أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

       تعتبر الفنانة أسماء مصطفى، من الفنانين الذين لهم حضور على خشبة المسرح الأردني، وحازت على عدة جوائز لأدوارها، كان آخرها مسرحية ( صبح ومسا) للمخرج غنام، وهي وان عملت مع الفنان المخرج غنام غنام في أهم مسرحياته ، إلا أن لها شخصيتها المستقلة على صعيد الأداء، وإن أختلط الحلم بينهما فناً وحياتاً، وكانت أولى تجاربها لارتقاء خشبة المسرح مع الفنان العراقي المخرج سليم الجزائري،  في مسرحية ساحر أور، ثم قدمت أعمالاً إلى جانب تمثيلها في مسرحيات متعددة ومتميزة،  ففي عام 2009 أخرجت أول عمل مسرحي للأطفال،  وأخرجت عام 2010 أول مسرحية للكبار، وهي مسرحية (سلَيمى ) ، ولم يقتصر عملها على الإخراج،  بل قامت ببطولة المسرحية، وكتبت نصه الذي ولفته من ثلاثة نصوص،  وهي مسرحية (انتيجونا) لسوفكليس الإغريقي، وكتاب (نسيم الروح) للحلاج، ومن ديوان محمود درويش (حضر الغياب)، وخاصة قصيدة ( لاعب النرد )،  لتخرج بنص مسرحية (سليمى )، وهي موضوعنا .
  النص بتحولاته الثلاثة
       الخ.مسرحية انتيجونا لسوفكليس، مساحة واسعة في عروضها العالمية، وأعاد كتابتها الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت، لتعبر عن وجهة نظره، وقدمت برؤى متعددة، ومثلت في سياق تأويل رؤية المخرج الذي يقدمها، ففي الأرجنتين عرضت لتعبر عن الآلام التي تعانيها الأمهات وثورتهن في ميدان ( دي مايو ) وهن يحملن صور أبنائهن الذين اختفوا على يد الحكومة الأرجنتينية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية، وما قامت به من تعذيب وقتل واختفاء لأولادهن،  وبرزَ العمل نضال النساء الثائرات ضد الظلم والقوانين المتعسفة لقهر الشعب، فالمسرحية بما تحويه من أفكار تحمل الصرخات الإنسانية ضد الظلم بصوت انتيجونا،( ولدت لأحب لا لأبغض )، وهي قابلة لان تقدم هذا التفسير في حالة الثورة والتمرد على القوانين الجائرة، والحاكم الظالم في إي وقت وعصر،  فانتيجونا تحدت السلطات ورفضت إن تذعن لها بعدم دفن جثة أخيها، وضحت وذهبت مختارة للموت لإنقاذ روح أخيها، وقدمت المسرحية على خشبة اغلب المسارح العربية برؤى مختلفة، ومنهم من أخرجها كما هي حسب كلاسيكيات المسرح دون إضافة أو تأويل ومنهم من قدمها بتأويل وإخراج حدا ثوي، أما شهيد التصوف الإسلامي الحلاج، (كما سمته وخلدته الأدبيات)، الذي أكتسب شهرة واسعة لأنه حوكم جوراً ونفذ فيه حكم الموت بصورة بشعة، لموقفه من السلطة الحاكمة بصورتيها المدنية والدينية، فقد عبر في أشعاره أو أقواله، عن الوله في العشق الآلهي، والذوبان  شوقًاً للقاء المطلق، ومجد في أشعاره الحب والتوق لحياة الآخرة، مفضلا إياها على حياة الدنيا الفانية،  واقتبست أقواله من كتاب ( نسيم الريح ) ، وإذا جاء التوليف الثالث من أشعار محمود درويش الشاعر الذي شكل مراحل ومتغيرات متعددة في شعره على مدى عدة عقود من حياته الزاخرة بالعطاء، وروح التمرد التي حكمت شعره على كل ظلم، كان آخرها بما أتسمت أشعاره بالرؤية الفلسفية الوجودية للحياة، ومقارباته المبنية على الالتزام الإنساني للمصير البشري، وتجد في إشعاره إلى جانب الرؤية الفلسفية، لفكرة الحياة والموت والنصر والهزيمة، الإيحاءات والإدخالات  للموروث والتراث الشعبي والأساطير، وحسب رأي كاتبة النص والمخرجة فإنها وضعت رؤاها على أساس وحدة المصير الذي ارتبطت به نظرة الشخصيات الثلاث إلى  قضية الحياة والموت فتقول ( من هنا جاءت التوليفة بين تلك الشخصيات وما يربطها من قواسم في فلسفة الحب والحياة وعشق الموت، والثلاث ذهبوا باختيارهم لقدرهم )، وقد اختارت شخصية (سليمى) لتكون بديلا عن انتيجونا، وتنطق بما قاله الحلاج ودرويش، في ثنائيات إنسانية متعددة، الحياة والموت،  الحب والكره، العدل والظلم...الخ .
       الإخراج      
       اتكأت المخرجة في بناء فضاء العمل على التجريد، في محاولة لإعطاء إبعاد الرؤية الفكرية، لرؤى وفلسفة النصوص التي أخذت منها، وجرها على الواقع الذي نعيشه، ضمن مفهوم ( حياة المرء منذ خروجه من رحم الموت حتى رجوعه إليه مرة أخرى )، تبدأ المسرحية بمشهد بصري، يصور خروج الإنسان من الرحم،  (قبره الابتدائي)، وتنتهي بعودته إلى القبر بعد حياة حافلة بالعذابات والتساؤلات من جدوى الرحلة، تبدأ الحياة بصرخة الطفل خارجا من سجنه وتنتهي بصرخة الوداع، " من الموت إلى الموت " ، وبما أن النص يستند أساساً على نص للمرأة  قوة الحضور، اهتمت المخرجة بمنح المرأة هذا البعد الدلالي، الذي هو ثمرة الثقافة الحداثوية، فعالم المرأة عالم الخيال والسحر والأحاسيس الخفية، عالم تتوق فيه المرأة للتمرد على القيود التي تكبلها، فجاء متوازيا مع توق البشرية للتمرد على قيود الجسد للانطلاق نحو المطلق، فأخذت جسد الممثل التمثيلي لتدمجه بالحركة المليئة بالطاقة، كما تأخذ بها الطرق الصوفية وبالذات الطريقة الملوية، التي تجعل الراقص مركز العالم وكل شيء يدور من حوله، وليس كما نتصوره في دورانه، وكأنه هو الذي يدور حول الأشياء، ففي حركته يعزل الجسد، وتتحرك الروح للاتحاد  مع الكون فلا يعود للجاذبية حكم عليه، وفي هذه الرقصة التي تمثل ألتوق للانعتاق وتحقيق النشوة للوصول إلى المطلق، يمثل الرقص الدينامكية المحركة لهذا الشوق، وقد اعتمدت المخرجة هذا البناء في مسرحيتها، وجعلت الكلمة منفصلة تأتي من البعد المادي للمؤدين، وكأنها تأتي من عالم الروح الخارج عن سلطة الجسد، في محاولة لاستكمال العناصر الرمزية التي حاولت خلقها، فكان لحركة الجسد الفيزيائية أهمية كبيرة في خلق هذه الأجواء، كما أنها استخدمت الديكور المعبر عن الرحلة التجريدية للحياة، بان جعلت كل شيئا بسيطا، وأخذت اللون الأبيض لون الروح بشفافيتها ونقائها، لينسجم مع نشوة  الرقص، استطاعت المخرجة أن تقدم عملا ، تحرك فيه روح التساؤل والفعالية الجمالية، وظلت الأسئلة التي تؤرق الإنسان، هي المحور في العرض . أشترك معها في تقديم العمل، (تأليف موسيقي) مراد وجوزيف دمرجيان، موسيقى عبرت عن الفهم للروح الصوفية لحراك المسرحية، كما نجح محمد الرواشده في التواشك بين إشاعة روح النقاء بالبياض والإضاءة البسيطة ولم يغرق السنوغرافيا في ألوان السبوت لايت، وكان  الغناء بصوت مي حجارة، ومحمد طه إيقاعات مع سليمان الزواهرة، إضافة لمشاركة الفنان ياسر المصري الذي سجل إشعار درويش بصوته، حضور واضح في البناء التعبيري الذي عمل عليه الجهد الإخراجي، مع عموم السنوغرافيا .

وجهة النظر في النص والإخراج
       إذا أخذنا النص بتوليفته بشكل عام، فهو محاولة للربط بين عصور مختلفة ولمجتمعات مختلفة، ولكنهم يشتركون في البحث بنظرة واحدة إلى قضية وجود الإنسان، في مسألة الحياة والموت التي أرقت البشرية ولم يصلوا بها  إلى حل، ولكننا إزاء اختلاف وجهات النظر في توظيف هذه الحقيقة بين كاتب وآخر، فإذا كان سوفكليس وظفها لأجل التضحية والإخلاص والتحدي، والوقوف ضد الظلم، مع صرخة انتيجونا "( ولدت لأحب لا لأبغض )، فان الحلاج نظر لها من زاوية مختلفة، هي انعتاق الروح من الجسد للوصول إلى المطلق، لأنه يرى الدنيا زائلة والآخرة باقية، لهذا فان أفعال الروح محكومة بإمكانية قوة الإرادة والإيمان وإلا وقعنا بالخطيئة إن لم نحسن التصرف، والحب الآلهي والتوحد معه هو الذي يجنبنا الانزلاق، وهذا التوحد يغمر الإنسان بفيض، لا يعود للأشياء المادية مكانا لها قي وجوده، حيث يقول " يانسيم الريح قل للرشا \ لم يزدني الورد إلا عطشا \ لي حبيب حبه وسط الحشا \ لو يشاء يمشي على خدي مشى ". في الوقت الذي تتمثل الرؤية الدرويشية المستقاة من وجهة النظر الفلسفية الوجودية للحياة، الفلسفة التي تمجد وجودية الإنسان الفرد، كونه المكون لمعنى وجوهر حياته، ويملك حريته الفردية في تقرير مصيره، وأكدت على قابلية الإنسان على الثورة، لأنه يعيش أزمة عصره، لوجوده في عالم القهر والاستلاب، ولعدم أمكانية أن يخرج من هذا الانغلاق الذي وضع فيه،  فان الثورة ولدت للرد على هذا القهر، ولتوكيد قدرة الإنسان على مقاومة العدم، وهو ما يوضحه الاستشهاد الذي أخذته من الجدارية لدرويش، " هذا البحر لي \ هذه الهواء لي \ لي جسدي المؤقت \ حاضرا أم غائبا \ متران من التراب يكفياني ألان \ التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله \ يلقي عليهم نظرة ويمر" ،  إذن لدينا ثلاث وجهات نظر لمسالة واحدة، وأن كتب المفكر الراحل عبد الرحمن يدوي، بحثا في البرهان لإثبات إن الوجودية هي شكل من إشكال التصوف، بأنساقها التي ظهرت فيها على أكثر من صعيد ومنطق ومكان، وهو ما حاولت كاتبة النص توليفه ليعطي معناً واحداً، ولكن الرؤية المضببة في هذا التطابق،  لم يتحقق على صعيد النص، ولم يستطع النص أن يوصل لنا ما أرادته كاتبته، في قولها، " الحقيقة الوحيدة هي الموت " ، وهي مسلمة لا يختلف عليها اثنان، ولكن ما تعني في منظورها الآني، هل هي دعوة لاستمرار الثورة ضد الظلم، أم أطروحات الرأسماليين وقادة ما بعد الحداثة، بقلب الأمور وجعل نضال الشعوب والأمم إرهاب، وما تقدمه الدول الإرهابية وقادتها القتلة، هو الديمقراطية والحب والسلام تحت مظلة الرأسمالية، فجاءت العبارات متداخلة متباعدة المنطلق، ولم توضح الاتجاه الذي تصب فيه، وهو ما جعل العرض لا يمنحنا الغ الشكل، وهو ما حاولت المخرجة من سد هذه الثغرة بتكثيف حركة الجسد على العبارة المنطوقة وجعلت العبارة، تحاور الفكرة من خلال الأغنية والصوت الخارجي، ولكن البعد الدلالي للحركة الجسدية، حكمته انطلاقتان رؤية الحلاج الانعتاقية الروحانية، وفكرة الثورة ضد الوقائع الحسية لانتيجونا ودرويش، وعلى الرغم مما بذله الراقصين، حنين العوالي، أسامه المصري ,حنين طوالبه، ريما دعيبس، علاء السمان وعبد الله العلان، ألا إن هناك ضعفا في الانسجام في وحدة الحركة بين المجموعة، التي حاولت المخرجة أن تبرزها كنص يمثل وحدة الحال، أو كحركة لتثبت المعنى التعبيري الذي اشتغلت عليه، فعندما بدأت أغنية سُليمى في الدقيقة تقريبا الثلاثين، عادت الفرقة الراقصة إلى نقطة البداية في حركاتها ولم يتغير إلا حركة الممثلة الرئيسية، فما المعنى التعبيري الذي أراده الإخراج، إن لم يلخص لنا ما توصل إليه في نهاية الثلث الأخير للعمل، لفهم الرموز وتطابق المعاني للنصوص، فما هو المعنى الرمزي إذا عادت بالتعبير إلى نقطة البدء ؟ كما أن الممثلة الرئيسية استحوذت على المسرح وأضعفت الممثل المقابل لها (بلال الرنتيسي ) على الرغم مما بذله من جهد ليجاري الممثلة الرئيسية، فهي قدمت جهدا رائعا، ولكنها أخذت من مساحة زميلها .
الخلاصة
      أن وجهة نظرنا في النص والإخراج، لا تحل محل الجهد الرائع الذي بذل في العمل من قبل الفنانة أسماء مصطفى وجميع العاملين في المسرحية، على صعيد النص أو الإخراج أو التمثيل أو الراقصين وبقية مكملات المسرحية، فالعمل جدير بالملاحظة والاهتمام، لان الفنانة أسماء مصطفى طرقت بابا ليس من السهل الولوج إلى داخله ، فالثلاثة الذين أخذت منهم،  يشكلون رؤى إشكالية على صعيد المعنى والرمز، على مدار قرون وعقود كفلسفة حياة، أو معاني رمزية، لوجود الإنسان وصيرورته، وهي النقطة التي يمكن أن تعطي أكثر من معنى ورمز، ومن الصعب حشرها في أفق ضيق، لان فيها أتساع لا محدود .



أسماء مصطفى.الممثلة والمخرجة .

غالب المسعودي - موطا(قصة سُريالية)

الأحد، 17 يناير 2016

أختام*-عادل كامل

















أختام*


عادل كامل
[1] سحر المثلث: التفتت والتجمع
    ليس الفن نزعة فردية، ذاتية، موصدة الباب والنوافذ، أو تعمل بالية لا يمكن عزل الاجتماعي فيها عن البيئي، والكوني، ولا عزل الوظيفي عن اللغز الذي يكمن في ما لا يحصى من علامات الفن أو الشبيهة بالفن، فيه.
   ها أنا أتخلى  عن حساسية الألوان، للهندسة، واجد إني تحولت، تلقائيا ً، إلى: رأس رمح، إلى هرم، والى مثلث. فالإشكال العضوية، غير المنتظمة، المختلفة أو المتوازنة في عشوائيتها، غابت لصالح الهرم/ المثلث.
   أتراني استعيد ـ واستعير، المسمار القديم، لأصنع منه علامة محاصرة بحرية العلامات، ليس للتمييز، بل للاختزال، لكن الهرم قد سبقني بخمسة آلاف سنة: رمزيته ـ وقانونه معا ً. بل هناك من يرى إن شكل الكون، ليس بيضويا ً، أو دائريا ً، أو محددا ً، وهناك من يراه بلا حافات، إنما مثلثا ً.
   ها هو (أنا) ـ أنا تحديدا ً ـ أجد حياتي لا تمتلك ابعد من اختيارها لقيودها: مثلثات متعددة المسافة، بمعنى ما: حرية أن استبعد أي تعريف لللامعقول ـ أو  اللا متوقع ـ فانا انتظم، في كل خطوة، بمثل هذا الاختيار. وعندما قلت: ليس الفن نزعة ذاتية، فقد قصدت  التحدث عن خطوات تواكب اثر القدم فوق الأرض: وجودي بين الموجودات.
   وقد اعترض ـ حالا ً أو بعد حين ـ على هذا التأويل، فالنوع، ومنذ تشكل الوعي (الدماغ) كان الخطاب الهندسي قد غادر اللا احتمال، والعشوائية، وأسس: قراه، طرقه، وأدواته، منها المجسمات/ الرسومات/ الفخاريات. وليس باستطاعتي أن أوعز هذا كله إلى: الوهم. فالأشكال لم تكن سابقة على تشكلها ضمن علاقاتها بالمرئيات، والدوافع، مع إن هناك كويكبا ً هيأته على شكل مثلث، يرجع وجوده إلى بضعة مليارات عام قبل وجودنا البشري. ولكن الأشكال الهندسية لم تصبح عنصرا ً طاغيا ً، بل جزءا ً من الكل. وهنا اكتشف حتمية (اللا ـ شكل)، أي هذا الذي تنقصه الحافة/ الحد. ولا استعين إلا بالنسبية، في إعادة قراءة الأشكال. فالمثلث غدا جزء ً ـ من كل، ضمن الذي لا حدود له، وخارج نطاق الوعي الهندسي، واللغوي، أو أية وسيلة للتبادل، حيث يفقد (لغزه) ويغدو لا فرديا ً، من غير موضوع، ومن غير ذات. فالمثلث رأس بشري، مثلما هو فبر يحتمي الجسد به، انه الطريق إلى الهدف الذي ترك أثره فيما يصبح الهدف محفزا ً لاواعيا ً للقبول بهذا النظام، حتى في حالة العمل على دحضه.
   ليس الموت عدما ً، أو دائريا ً، أو انفصالا ً بين الوعي وما هو ابعد منه، وليس هو خاتمة أو مقدمة، ليس مستطيلا ً كقبر، أو رمادا ً، أو أثيرا ً ...الخ، انه احد أشكال: اللا ـ شكل، بمعنى انه غير القابل للتحديد، وما تم رسمه، ليس إلا مرور (الذات/ الجماعة) بالاتجاه الذي يصعب تحديد مساره، أو غايته.
    ها أنا أبدو إني لم أغادر نسق المركز البكر: ذلك الصياد ـ كما هو لدى النبات ولدى الحيوان ـ وقد شكل نظامه. فأقدم أداة للقتل اتخذت شكل السهم: أيسر أداة للاختراق، اختراق الهواء أو القلب، إنما، وأنا أعيد تأمل مثلثاتي، اكتشف صمتا ً تاما ً غير قابل للاستنطاق، أو التأويل. فحتمية اللا ـ شكل، وبمعنى ما حتمية الزوال، والتحولات، ليست إلا ما لا يدرك، وقد استحال إلى ممر، وعلي ّ، بعد تشذيب الهوس بالرموز أو التصوّرات، رؤية الكل ـ على صعيد المجتمع ـ كجسد تكونه الأعضاء، بوظائفها، وان أكون توازني، وضمنا ً ـ عدم فهمي إلا بحدود الأشكال ـ في اللا ـ شكل، لكن هذا يؤكد نفيه: إن المثلث ليس إلا علامة تتضمن دوافعها، مما يصفها، مرة بعد مرة، في الخطاب بتعددية تأويلاته، وليس بتأويل أخير.
    فالجسد ليس ـ هو ـ مجموع أعضاءه، كي يكوّن المركز (الصياد أو زعيم الجماعة أو القائد) شكله الأبدي. ليس لأن كل عضو يمتلك استقلاله، وأيضا ً: تمرده، كي يعرض المركز للتفتت، والزوال، بل هو اللا ـ شكل، عبر هذا (الظل) كوسيط بين المصدر وبين الأطراف. هو ذا المثلث، بجلاء، كحرف في كلمة، داخل عبارة، في كتاب لا نهاية لصفحاته، مثله مثل الموروثات الهندسية، تؤدي عملها كما تدافع الشجرة عن وجودها بفرز مادة تبعد العدو ـ بالسم أو بالروائح، كي تكمل دورها، من غير ذاتية خالصة، إلا بحدود كونها خضراء، أو لها أشواك، ولها تاريخها في التطور.
     فانا اصنع مادة ما لها هذه الوظيفة، بعد أن غدا الوعي إستراتيجية تستجيب للديمومة، من غير نكوص، وإلا  لتوارى مصدر (الومضات)، وانتفى دور (الختم)، مما يجعل وجود (الأشكال) بحكم العدم. فالمثلث ـ حاضر بين حضورين، وليس خارج أداة الحكم، أو بمنأى عن أدوات الاكتشاف.
   فإذا كانت المجرة (مجرتنا) لها شكلها، كما للشمس، وللأرض، فان الشكل الحقيقي، للكل يصبح يجري بيننا، من أنظمة اتصال، لغة، أو أصواتا ً أو رموزا ً أيضا ً. فالمثلث أخيرا ً حقا ً شرعيا ً لمكونات: الجسد/ الهرم، ولأي نظام آخر من أنظمة الحكم.
   فها أنا استجيب لصناعة شكل محدد تحت مؤثرات عالم تتشكل متغيراته ـ وتحولاته فوق بركان. فليس ثمة، أخلاقيا ً، ما يدعوني اذهب إلى السرير، وأنا على الحياد، فانا كظيم. وفي اليوم التالي ساجد يدي ّ، مثل رأسي، كلاهما يتوخيان تنفيذ هذا: الاحتجاج. فالمثلث، ضمنا ً، كالعضو في اللا جسد: قراءة رماد توارى تاريخه فيه. فهو أداة اعتراض، ولكن ليس للسيطرة، بل للتحرر منها.
* تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

"طرفة بن الوردة" لقاسم حداد.. تجربة فريدة بين الشعري والفنّي-د. حورية الخمليشي


"طرفة بن الوردة" لقاسم حداد.. تجربة فريدة بين الشعري والفنّي
*د. حورية الخمليشي


خاص ثقافات

جعل قاسم حداد من التراث الشعري العربي القديم قاعدة ذوقية فنّية جمالية للقصيدة المعاصرة. فهو ينطلق من محفّزات جمالية يوفّرها التراث للكتابة الإبداعية. وقاسم حداد لا يعود إلى الأصل بقدر ما يجد هذا الأصل في حياته وتجاربه الفنّية، وهي تجربة تشكّل جزءاً من التجربة الإنسانية الكبرى للعالم.
كان طرفة بن العبد مشروع الشاعر قاسم حداد الذي يسعى إلى تحقيقه منذ أربعين سنة وكَتَبه الشاعر في أربع سنوات. يقول الشاعر:"هذا كتاب سعيتُ إليه أربعين عاماً وأنجزته في أربع سنوات، وأخشى أن ذلك كله لم يكن كافياً بعد. وحين تكتمتُ على ما كنت أشتغل عليه في المخطوطة، فذلك لأنني لستُ متيقناً مما كنت أصنع، ولم أزل، لستُ مدركاً تماماً ماذا فعلت. وكنت قد أطلعتُ بعض الأصدقاء، أدباء وفنانين، على جانبٍ مما أصنع، لأتثبّت من مواقع أقلامي."
صدر كتاب طرفة بن الوردة في نسختين مطبوعة ومخطوطة:
نسخة أصلية واحدة بخط يد الشاعر وتتكوّن من اثني عشر كتاباً.
كتابان على ورق " Fabriano fein" الإيطالي.
عشرة كتب مخطوطة بأوراق مُصنّعة يدوياً في دفاتر فنية.
كتاب الفصول ويضمّ: الأناشيد، والتحوّلات، والإشراقات، وكتاب الصحراء والبحر.
يبدأ الكتاب بفصل الأناشيد، ونقرأ تصديراً للكتاب اقتبسه الشاعر من شعر طرفة يقول فيه: "رَأيْتُ بَنِي غبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي". ويوحي هذا التصدير بأن كتاب قاسم حداد هو في الأصل تحية تقدير لموهبة شعرية لم ينل من تقدير قومه إلا الجحود والنكران. وفي هذا الكتاب يرسم الشاعر بالقلم والريشة ما رسمه طرفة بالقلم وتفوّق فيه على كثير من معاصريه.
وكتب أمين صالح مقدمة لهذا العمل بعنوان "مدخل إلى بلاغة التكوين" يقول فيها: "بدأب نقّاش، بصبر ناسك، ببصيرة راءٍ، يمسكُ القلم وفي حنوّ يخطّ على ورق حنون لا يشاكس ولا يتأفف.. ناثراً الحبر، في تناسق، على بياض يخون بياضه أحياناً، كأنه يمزج الليل والنهار في أفقٍ يتدلى كالثوب، أفقٍ لا يحكمه غير شاعر يعرف خبايا الكلمات لكن يجهل سرائر الكائنات، ولا يحتكم إليه–إلى هذا الأفق الذي يربك نفسه بتحولاته الدائمة- غير حالم يبعثر صوره لتكون علامات غامضة يستدلّ بها حالمون غامضون يأتون بعده."
ولعلّ عنوان الكتاب "طرفة بن الوردة" الذي يذكر فيه الشاعر اسم أم طرفة (وردة بنت عبد المسيح)، فيه الكثير من استرداد لحقّ الشاعر ولحقّ أمّه المهضوم من الظلم الذي لحقهما من جفوة الأهل وتخلّي القبيلة وسطوة الأعمام. يقول طرفة:
ما تَنظُرونَ بِحَقّ وَردَة َ فيكُمُ، صَغُرَ البَنونَ، ورَهطُ وردة َ غُيّبُ

ولم يرضخ طرفة بن العبد يوماً للتقاليد ولا لسطوة الأهل رغم خطر الموت الذي يهدّده.فوجد في التحدّي انتصاراً، وفي الحب عشقاً للحياة، وفي الشعر مسكناً وملاذاً لمعاناة الذات. امتاز بنبوغه وجرأته الشعرية التي كانت سبباً في معاناته. إنه الشاعر الذي حمل بيده رسالة قتله. وهو الذي قال:
ستُبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوِّد

ويقول قاسم حداد عن طرفة ين الوردة: "طرفة بن العبد، الفرق بيني وبينه أنه نَـهَـرَ الحياة باكراً، تجرعَ القدحَ الأعظم وذهبْ، فيما لا أزال أتعثر بحضوره الفاتن في كل نأمة ولمعة ضوء. دون أن تكون المسافة الزمنية حجاباً أو حائلاً أو امتيازاً. لم أتمكن من تفاديه لحظة واحدة. ما إن عرفتُ احتدامه مع قبيلته، ما إن شعرتُ بخروجه عن الخيمة إلى الصحراء، وسمعته يكرز في الكون: (وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة) حتى أحسستُ بذلك السر الغامض ينسرب في شرايين روحي وتفاصيل حياتي الباقية، ويبدأ في صياغة مكبوت العديد من قصائدي، التي جَهَرَتْ بتقاطعها الحميم مع «طرفة بن العبد»، كتابة وتجربة، وتلك النصوص التي استبطنته أو تقمصته، أو تلك التي وضعته تعويذةً في الحل والترحال، شعراً ونثراً ومضاهاة. كلما تقدم بي العمر والتجربة، أصبح هذا الكائن الغامض البعيد أقرب إليّ من حبل الوريد، لا أتنازل عنه، لا أنكره، وليس لي سلطة عليه، فيما سطوته الغريبة عميقة ودالّة في روحي وحبري. رافقني «طرفة بن العبد» في الحانة والزنزانة، واقتسمتُ معه النص والشخص، في المتن والهامش والحاشية. لم أنجز كتابةَ إلا وكان له فيها حصةُ القرين. لم يعد ممكناً توصيف الحدود بيننا إلا بالقدر الذي يتسنى للسيف أن يمر على مسافة الروح والجسد بلا دمٍ ولا فضيحة. رفقة تتجاوز الكلمات، رفقة تصقل الحياة."
وقدّم قاسم حداد الأعمال الفنية بخط يده، صور تشكيلية للمخطوطة الفنية، بالإضافة إلى الكتاب المطبوع بخط اليد لكتاب طرفة بن الوردة الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ويضم ديوان طرفة 657 بيتاً بينما تضم المعلقة 104 من الأبيات. ومُعلّقة طرفة بن العبد هي جوهرة شعره التي رفعته إلى كبار فحول شعراء العربية رغم حداثة سنه وقلة إنتاجه لشاعر عاش للشعر وبالشعر. وكانت معلّقته أطول المعلقات. وفضّلها العديد من النقاد على جميع الشعر الجاهلي، بل وعدّوا طرفة أفضل شعراء المعلقات، ومنهم من صنّفها في المرتبة الثانية أي بعد معلقة امرئ القيس. وهكذا ظلّت معلّقة طرفة بقايا وشم ساحر في الشعر العربي. كما سيظلّ كتاب طرفة بن الوردة وشماً ساحراً لمغامرة الكتابة القادمة من المستقبل الشعري لقاسم حدّاد. إنه فضاء مفتوح للقرب من فلسفة طرفة بن العبد في الحياة كرائعة من روائع الشعر الإنساني الخالد والأكثر تأثيراً في المتلقي على امتداد عصور الأدب العربي، لروعتها وقوة تأثيرها التي جعلتها قابلة لتأويلات عديدة. ولعل من أهم ميزات شعر طرفة بالإضافة إلى بلاغة الأسلوب وقوته خاصية التصوير والرسم من خلال وصفه للصحراء والسفينة والفرس والناقة ومجالس اللّهو بالإضافة إلى مظاهر الطبيعة من أمطار وغيوم ورعد وغيرها.
ولنا أن نتساءل عن مصدر إعجاب قاسم حداد بهذا الشاعر العظيم. هل هو وعي الشاعر الجمالي بمدى جمالية الصورة وسعة الخيال عند هذا الشاعر البحريني الذي وجد فيه ابتكار صور جديدة أحيت وشائج المحبة والإحساس بالجمال عند المتلقي؟ أم هي سيرة الشّاعر الشّاب التي لحقها الكثير من الخلاف والاضطراب والتناقض؟ فأراد بذلك قاسم حدّاد أن يعيد كتابة هذه السيرة التي لحقها الكثير من الغموض بعد أن ظلّ طرفة في حياته القصيرة يشكو الجحود والنُّكران. إنه شهيد الشعراء الشباب بتعبير الشاعر. لذلك كتب قاسم حدّاد سيرته من وجهة نظره هو لا كما وردت على ألسنة الرواة.
إن كتاب طرفة بن الوردة دليل على أن الحداثة ليست هي الانقطاع عن التراث، بل هي تواصل مستمر لجمالية الشعر الذي يصدر عن شعريات باذخة في التراث الشعري العربي الذي يمثّله رواد الشعر العربي في أزهى عصوره. وهو أيضاً إثبات القدرة على التجديد دون التقيّد بمعايير جاهزة، والإنصات لصوت الشاعر الذي هو مصدر تفرُّده واستمراريته. وهو ما يتوافق مع رؤية قاسم حداد للحداثة والكتابة. وكتاب طرفة بن الوردة نموذج جديد لتقديم الشعر بشكلٍ مغايرٍ ومختلفٍ لعملٍ متكاملٍ يجمع بين ألق الشعر وفنّية الخطّ العربي والرسم والتشكيل والموسيقى. يقول قاسم حداد في كتاب طرفة بن الوردة في نص "نظام الكلام":
ليس هذا كتاباً،
إنه لغةٌ تشغف كلما حرَّك الله فيها كلاما،
كلما غيَّر إيقاعه في الطبيعة،
لغة كالوشيعة تنهال ألوانها،
كلما نام خيطُ الضباب بها،
كلما اختلَّ فيها نظامٌ،
كل هذا كلامٌ من الله،
يخرج عبر حدود الكتاب"
كتاب طرفة بن الوردة احتفاء بشاعر عربي كبير بما يليق مقام قصيدة طرفة وقيمتها الفكرية العالية. وتبلغ النصوص الشعرية لقاسم حداد ذروتها الفنية في المقاطع التي تضيء الكثير من الجوانب الذاتية والفكرية لحياة طرفة بإعادة كتابة ما لم يتداوله الرّواة من حياة طرفة بصورة مدهشة تُبرز الجوانب الإنسانية السامية للشاعر.
وقد قدّم قاسم حداد كتاب "طرفة بن الوردة" من خلال عمل إبداعي موسيقي للفنّان محمد حداد (ابن الشاعر) لتخليد ذكرى طرفة واستيعاب غيابه بصحبة الكورال مع المزج بين آلة البيانو الغربية وآلة العود الشرقية. وقد نال محمد حداد عن عمله "طرفة" جائزة الموسيقى العالمية، ضمن جوائز (GMA) للموسيقى العالمية،كأفضل عرض لعام 2012م. وقدّمت طفول حداد (ابنة الشاعر) صوراً فتوغرافية ضمّها كتاب "زرقة الظل" في 115 صفحة.
إن القارئ لشعر قاسم حداد يستدعي خبرةً أدبيةً وفنّيةً عميقةً لما تمتاز به جمالية الكتابة عند الشاعر. فهو يكتب بإيقاعٍ فنّيٍّ فريد ومتميّزٍ. ومن يلج حديقة قاسم حدّاد الشعرية يُفاجأ بلوحاتٍ فنّية رائعة لأشكال الأشجار وأنواع الورود والطيور. وقد رسمها الشاعر بالرّيشة قبل أن يرسمها بالقلم، وعاد إليها من أجل تشذيبها وقصِّها وتقليمها بخبرة في فنِّ وإبداع التّشذيب الجمالي للحفاظ على استمراريتها ورونقها من أجل تأهيلها لموسمٍ جديدٍ بعد ضمان نموّها السّليم بحِسٍّ فنّيٍ عالٍ. إن شعر قاسم حداد استغوارٌ للمجهول وتجاوزٌ لكل الأشكال الموروثة. فهو من أكبر الشعراء الذين أدخلوا الحاسّة البصرية بفّنية غير معهودة في نسيج العمل الشعري. فامتازت إنتاجاته الشعرية المتفرّدة والمختلفة بانفتاحها القوي على التّشكيل والصور الفوتوغرافية والموسيقى والكاليغراف والسينما والمسرح وغيرها.
________



[1]  موقع جهة الشعر

*عاش طرفة بن العبد في أسرة عُرِفت بكثرة شعرائها، فقد كان جدة وأبوه وعمّاه المرقش الأكبر والأصغر شعراء، وكان
   خاله المقلي شاعراً وأخته الخرنق كذلك شاعرة.

 [3]  موقع جهة الشعر

[4]  قاسم حداد، طرفة بن الوردة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، ص. 38

5 موقع طرفة بن الوردة

_______________

* ناقدة وأكاديمية من المغرب


التاريخ : 2016/01/14 02:32:53

السبت، 16 يناير 2016

قصة قصيرة مستنقع الضفادع- عادل كامل

قصة قصيرة

مستنقع الضفادع

عادل كامل
     ما ان استنشقت الضفدعة الزرقاء الهواء، حتى صدمت برائحته، فأحست إنها غير قادرة على الحركة، فقالت لزميلتها البيضاء التي مازالت غاطسة تحت ماء البركة:
ـ رائحة الهواء لا تحتمل!
أجابتها:
ـ ارجعي...، الم ْ أخبرك بما حدث لي يوم أمس.
    وروت لها إنها ما ان تنفست الهواء حتى كاد جسدها يتجمد تماما ً، فراحت تصرخ طالبة النجدة، ولم تفق إلا بعد ان عادت إلى القاع.
ـ آ ....، ماذا نفعل؟
ـ وهل باستطاعة ضفدعة، مثلي، التحكم بالهواء؟
     فدار بخلد الضفدعة الزرقاء وهي تغطس:
ـ رائحة مشبعة بذرات بلورية لا مرئية خالية من الملمس كأنها شبيهة بغازات الإبادة التي تعرض لها مستنقعنا!
ضحكت الضفدعة البيضاء، وردت:
ـ لا تدعينا نفكر بما حدث لنا...، فحملات الاجتثاث متواصلة، منذ زمن بعيد...، فلا نحن نجونا، ولا هم محونا من الوجود....، ولكن لا أنا، ولا أنت، باستطاعتنا الفرار.
ـ الفرار؟
ـ لا، لا لن نفعل ذلك...، فالفرار خيانة، والهرب أنانية، والتخلي عن أهلنا نذالة، مع ان البقاء بحكم القبول بالموت. فهناك كلاب الحراسة، بنات أوى، الأفاعي، الضباع، والتماسيح  تملأ الساحل...، وهناك، في الأعلى، النسور، الصقور، والغربان.
ـ دعينا نغطس! فالخطر، في ظلمات القاع، اقل.
فسألتها قبل ان تغطس:
ـ ولكن كيف تراهم يحتملون هذه الرائحة...؟
ـ قد يجدونها عطرا ً! ما أعلمك، وإلا لطردونا من المستنقع، بالقوة، وأخلوها لهم.
ـ ربما.
   غطست، وتبعتها الأخرى، فخاطبتها بالذبذبات، من غير كلمات، ان للمياه الثقيلة، السوداء، الكثيفة، وللظلام، والديدان الحلزونية، والعضاضة، والابرية، وذات الرأس الحاد...، فوائد لا تحصى، في مقدمتها إنها أصبحت بعيدة عن المراقبة، والرصد. أيدتها رغم إنها أبدت استحالة ان تكون، كما اعتقدت، وإلا كيف نفقت آلاف الضفادع، خلال الأيام الأخيرة...، ولم يبق منها إلا عظامها تتآكل تحت الماء؟
ـ لا تدعينا نعرف أكثر من هذا ...، فقد بدأت رائحة الهواء تسري في جسدي..
ـ أتشعرين بالخدر، أو بالرجفة، أم بارتفاع الحرارة...؟
وسألتها بذعر:
ـ أتستطيعين التنفس...؟
ـ لا، بل اشعر ان الكلاب راحت تبحث عنا!
ـ أنا شعرت بذلك، فأين نهرب...؟
ـ نغطس عميقا ً، تحت، في الوحل.
ـ آنذاك نموت كأننا لم نولد! أليس كذلك، فالاستسلام للموت، في هذا الحال، يماثل الخلود!
ـ لا تجدفي، فانا وأنت ضفدعتان مؤمنتان، ونؤدي الفرائض، ولا علاقة لنا باليسار، ولا باليمين...، فعلنا، يا عزيزتي، إدراك ان الياس جريمة عقوبتها تفوق عقوبة الموت، وفقدان الأمل، أقسى منها!
ـ ماذا نفعل عندما نستطيع الفرار...، ولا نجد ملاذا ً حتى في الوحل؟
ـ دعينا نفكر.
ـ آ ......، لا تفعلي، لا تفعلي...، جدي لامي قال ان التفكير يقود إلى الخطيئة، والى الجحيم!
ـ وأنا جدي سمع عن جده النصيحة ذاتها، قال لي: لا تذهبي ابعد من انفك! فقلت له: وهل يسمح لي انفي الذهاب ابعد منه؟
ضحكت:
ـ دعينا، قبل ان نموت...، ان نتسلى!
ـ فكرة طريفة...، ولكن كيف؟
ـ سأخبرك ...، دعينا نستقبل الموت، ونحاوره!
ـ جيد...، فانا سأسأله: ماذا تريد...؟
ـ جميل..، سيقول: جئت اخذ حياتكما!
ـ أنا سأقول له: وهل لدينا قدرة على الاعتراض...، فأنت ملأت الهواء بالجيفة، والماء بالجثث، فلم تبق لنا إلا ان نستسلم لك.
ـ وأنا سأهتف له: مرحا بك أيها المغوار الشهم الباسل العظيم..
ـ أما أنا فسأرقص له، وأهلهل، وابتهج: ما أبهى نصرك المؤزر!
ـ ونتقدم منه: خذنا حيث تريد ...، ولا تدعنا فريسة للكلاب والهرر والجرذان...، ولا تدعنا نتفسخ مع النفايات فوق المزابل، ونلوث الهواء...
ـ سيفكر.
ـ لا ...، الموت لا يفكر، فهو أذكى من يستخدم وسائل الحمقى، والأغبياء.
ـ إذا ً....،  فالموت لا ينتمي إلى الحمى..؟
ـ بل ولا ينتمي إلى العقلاء؟
ـ لا، لا تتزندقي!
ـ بل أنا مؤمنة تماما ً بان موتنا حق!
ـ آنذاك ربما يغفر لنا.
ـ لكننا لم نرتكب ذنبا ً...، ولا خطيئة، عدا ارتكابنا حماقات بيضاء!
ـ الموت لا يميز بين الألوان..، أيتها الزرقاء!
ـ وهل أنا زرقاء...؟
ـ نعم، لأن الماء بلا لون، وأنا بيضاء، فالموت له لون الشمس؟
ـ آ ......، دعيني أفكر!
ـ الم ْ نقرر لعب لعبة للتسلية..
ـ لكننا بدأنا نفقد قرتنا على استخلاص الهواء من الماء الثقيل..
ـ دعينا نكف عن التنفس...، حتى لو غضب الزعيم.
ـ المشكلة إنني استسلمت للموت لكن جسدي لم يستسلم...، فهو يعمل ضد عقلي!
ـ أنا عقلي يعمل ضد جسدي!
ـ هل لديك جسدك؟
ـ  وأنت، هل لديك عقل؟
ـ إذا ً.....، ليس لدينا عقل، وليس لدينا جسد، والموت مازال يبحث عنا....، فماذا يريد؟
ـ وهذا ما شغلني طوال حياتي...
ـ ما الذي شغلك، أيتها الزرقاء؟
ـ بياضك الخالي من العقل ومن الجسد.
ـ آ ....، فالموت إذا ً وجد للبحث عنا.
ـ بحث عن اللاشيء!
ـ ربما اللاشيء هو الوحيد الذي لم نحصل عليه.
ـ إذا ً فالموت لا يبحث عن شيء له وجود إلا بوصفه ليس وجودا ً...، فهو يبحث عن وجود آخر لم نعرفه.
ـ ولكن دعيني أسألك: إذا كان الموت يبحث عن هذا الذي لا نعرفه، فلماذا لا نسأله فقد يخبرنا عنه..؟
ـ ربما ـ هو ـ مثلنا، لا يعرف شيئا ً عنه، وإلا لأخبرنا عنه...، فنعلم منه مثلا ً إننا نستحق الموت!
ـ أو  قد يكون مكلفا ً بعدم الإفصاح عن السر..؟
ـ لا اعتقد ان الموت يحمل سرا ً!
ـ تقصدين انه من المستحيل ان يعرف السر! ولكن هذا لا يستقيم مع المنطق؟
ـ صحيح..، ربما قد يكون المنطق هو السر، وقد كلف الموت بحمله؟
ـ آ ....، كأننا لم نمت بعد...، كأننا أصبحنا نتكلم كالذباب، تارة عن أشياء لا وجود لها، أحكمت قبضتها علينا، وسد منافذ الأمل، وتارة عن آمال تتسلى بنا قبيل الموت؟
ـ لكن دعينا نسأل السؤال الذي لابد ان يُسأل: هل نستطيع ان الاستغناء عن الأسئلة، بالأحرى: هل لدينا قدرة تصور إننا لم نولد، ولم يكن لنا أي وجود يستعدي هذا الانشغال...؟
ـ سأقول لك ِ: نعم! آنذاك سنسأل أنفسنا: لماذا لم نسألها. وهكذا تغدو المشكلة ان الأغبياء وحدهم يصبحون سادة، والأذكياء ينحدرون الى الحضيض. وعمليا ً لا احد يعرف لماذا ينشغل الاذكياء بقضايا الغباء، في الوقت الذي يزدهر فيه مجد الغباء، والاغبياء. انه السؤال الذي شغلنا منذ زمن بعيد: انموت وكأننا حصلنا على الخلود، أم ان الخلود جذبنا ومنحنا لغز الموت، أم إنها ترهات كلمات تتفوه بها أرانب تحولت إلى خنازير، وجمال أصبحت تزأر في حفر الجرذان، أم ان الجاموس هو وحده سيد المستنقعات...؟
ـ ما هذا الهذر..؟
ـ فلسفة!
ـ آ ...، صحيح، لأن اشد الطيور ذكاء ً نراها تستنجد بالزواحف، والأسود بدأت تمشي فوق الحبال، والجرذان بادرت بحمايتنا من الخراب!
ـ آ ...، الهواء أصبح مشبعا ً برائحة الموت، والماء، هو الآخر، ازداد كثافة...، وعقولنا لم تعد تعمل داخل أجسادنا، والأخيرة، أصبحت تعمل بطلاقة من فقد رشده..، فماذا نفعل...؟
ـ إذا خرجنا من المستنقع افترستنا الكلاب، وإذا نجونا منها تفترسنا بنات أوى، وإذا نجونا من بنات أوى فالجرذان باستقبالنا....، فصائل أعدت بإحكام وحكمة وذكاء، أما إذا مكثنا في الوحل فالموت سيأتي وينزل عقابه بنا. فمهما اجتهدنا للخلاص ندرك كأننا في المأزق نفسه. يا لها من حكمة!
ـ إذا ً...، لم يبق لدينا إلا ان نستنشق الهواء...، ونستسلم بهدوء لرحيلنا، بهدوء، ومن غير صخب، أو عويل، أو شكوى..؟
ـ يا حمقاء...، منذ ولدنا كان الموت قد اعد لنا هذه الخاتمة السعيدة!
ـ لا...، أنا اختلف معك، وإلا كيف يكون الزعيم مغوارا ً وبطلا ً وخالدا ً ...، الم ْ ينتصر على الموت، مع انه لا يفتخر إلا بعدد ضحاياه. أليس أعظم العظماء هم أكثرهم احتقارا ً لنا...؟
ـ صحيح...، ملاحظتك بارعة: فالزعيم يحتفل بهذه الحشود وهي ذاهبة إلى حتفها ...، فهو يحتفل بموتها، وكأنها خالدة إلى ابد الآبدين. لأن الزعيم وحده لوي عنق الموت.
ـ ربما يشتغل عنده؟
ـ لا اعرف...، ربما العكس؟ لكن النتيجة واحدة: لأن الموت لا معنى له من غير الزعماء، ولا الزعماء لهم معنى من غير الموت.
ـ بالضبط ...، فالزعيم أمر الموت بأداء هذا الدور: فالموت وحده لا يموت!
ـ ثم تراجع!
ـ لا...، لم يتراجع عن منهجه، ولا عن خطته..، فهو أمرنا بأمر لا طاقة لنا إلا على تنفيذه. فنحن نولد بأمر منه، ونعيش بأمر منه، ونكمل برنامجه بأمر منه أيضا ً. ففي المستنقع ولدنا ولا مستقبل لنا سواه.  
ـ يا لها من خطة..، حتى أكاد أدرك انك، في هذا المستنقع، تعملين على تنفيذها ببراعة، وذكاء...؟
ـ بل ...، حتى عندما لا اعمل على تنفيذها بذكاء وببراعة، فانا ـ لا مناص ـ أنفذها بحذافيرها بغباء نادر.
ـ ولكن الموت لم يأت... للأسف تأخر..، أو ضل طريقه...؟
ـ ربما يكون غادر؟
ـ آ ...، إذا ً فهو مثل الحياة، لا نعرف من أين دخل، ولا نعرف متى توارى. فكم تبدو الحياة سلسة ومقنعة حتى في غياب منطقها وسلاستها؟
ـ المهم إنها أتت....!
ـ آ ...، كأنها لم تأت...؟
ـ رحلت، ربما لم تأت ولم ترحل، ربما ستأتي ولن ترحل، وربما هذا كله حدث ولم يحدث.
ـ تقصدين إنها لم تأت لأنها ستأتي...، أو إنها لم تأت أبدا ً...؟
   اقتربت منها كثيرا ً:
ـ دعينا نعرف ماذا يجري فوق...، في السطح .
ـ أنا لا استطيع الحركة، جسدي ثقيل، مخثر، وقد يكون تحول إلى صخرة...
ـ حسنا ً...، أنا سأذهب واطلع كي أخبرك.
     مكثت تنظر. فدار بخلدها: قلت لها دعينا في القاع نرقد مع عظام أسلافنا، وأجدادنا، وآباؤنا...، لكنها عنيدة...، كأنها تتشهى الموت شهوتي للتشبث بهذا الوحل...؟
    رجعت الضفدعة البيضاء بلون آخر، أشلاء متناثرة:
ـ ماذا حدث لك؟
ـ احتلت الجرذان الساحل، والغربان تحّوم...
ـ عزيزتي لم يعد هناك هواء...، فما ان لمحوني حتى امسكوا بي.
   وبدأت تلملم أشلاء جسدها المتناثرة، قطعة قطعة، حتى أوشكت على جمعها:
ـ ماذا تفعلين؟
ـ أساعدك.
ـ آ ....، أرجوك، دعيني اغطس..؟
ـ لم تخبرني بما حدث بالضبط؟
ـ أنا لا أريد ان اعرف ماذا حدث لي ...، فما فائدة المعرفة يا عزيزتي، وماذا تفعلين بمثل هذه المعرفة...؟
ـ ولكن الموت تأخر كثيرا ً...؟
ـ لم يتأخر ...، نحن تأخرنا عليه.
ـ لكنك قلت انه غادر...؟
ـ أنا لم اقل انه جاء، ولم اقل انه غادر، أو وتوارى، أو غاب. كل ما في الأمر ان الماء أصبح كثيفا ً.
ـ هو .... أم نحن؟
ـ احدنا لم يعد صالحا ً للآخر...، وآن لنا ان نضع حدا ً لحياتنا.
ـ فكرة ..، فكرة جميلة، بارعة، وذكية....، ولكن كيف نحّلق، ونصعد إلى السماوات، وليس لدينا أجنحة...؟
ـ يا للكارثة...، يا للنكبة...، فلم يبق لدينا الا ان نحفر في القاع...، قبل ان يصطادونا، ويرسلوننا الى المحرقة، او يتركون القطط تتسلى بنا..؟
ـ أنا لا اقدر حتى على رؤيتك، فأين أنت، صوتك يصلني كأصداء نائية لا اعرف أهي التي تلامسني أم أنا هي التي تتوهم إنها تلامسها؟
ـ أنا اعتقد إنني ذهبت ولم اعد.
ـ إذا ً فأنت وحيدة مع وحدتك، وربما وحيدة من غيرها، مثلي لا اعرف من منا تخلى عن الآخر. فانا لم اعد اشعر حتى بالوجود الذي فقدته منذ بدأنا نتنفس الهواء، في هذا الفجر.
ـ أنا أبدو غائبة، ولست وحيدة، فحتى الماء لم اعد اعرف أمازال معنا، أم سرق منا، أم هجرنا، أم تبخر وصعد إلى الأعالي، أم ذهب إلى المجهول؟
ـ وماذا نفعل بالماء...، يا عزيزتي، والهواء لم يعد صالحا ً لنا، ونحن لم نعد صالحين للهواء...؟
ـ تقصدين: حياتنا لم تعد صالحة لا للماء، ولا للهواء، وان الماء والهواء تخليا عنا...؟
ـ آ ....، كيف مضى الوهم، كأنه حقيقة..؟
ـ تقصدين: كيف مضت الحقيقة كأنها وهم..؟
ـ لا فارق بين من أتى وذهب، وبين من ذهب وأتى، فلم يعد المستنقع لنا، ولم نعد له.
ـ ها، ها، ها.
ـ تضحكين....، بدل ان تولولي وتذرفي دموعك على ما حصل؟ تضحكين بدل ان تنوحي وتصرخين؟
ـ وماذا حصل لنا...، هل متنا ونحن لم تولد، أم ولدنا كي نموت، ماذا حصل وكأن الذي حصل لم يحصل...؟
ـ صحيح...، فالمستنقع ـ كما سمعت قبل قليل ـ سيختفي من الحديقة، فلا تسليات ولا معاقبات، لا ذئاب ولا برغوث، ولا أعياد ولا تعازي، فأفرح يا قلبي كأنك امسك بلغز الماء، حتى لو كان كثيفا ً كالوحل؟
ـ تخيلي...، حديقة بلا ضفادع..؟
ـ وبلا بعوض..؟
ـ بلا قمل ونمور وبلا تماسيح وبلا غزلان؟
ـ لكن الموت لم يأت...؟
ـ ربما خدعونا...؟
ـ لا، لم يخدعنا احد...، ولكن تخيلي إننا لم نخدع...؟
ـ سؤال دقيق: ماذا لو لم نخدع...؟
ـ الجواب ليس بحاجة إلى عقل، تفكير، روية، ومنطق...، لأن العقل نفسه ليس بحاجة إلى برهان.
ـ لكن لماذا أمضينا هذا الوقت في انتظار لا احد...؟
ـ لم يمض الوقت، أنا وأنت لم نكن بانتظار احد، ولا احد كان بانتظارنا أيضا ً.
ـ كفى ...، دعينا نفر، نهرب..، عبر الدغل، أو عبر الجداول، أو عبر الأنفاق، أو عبر الشقوق، ونبحث عن ملاذ امن ...؟
ـ فكرة عبقرية! ولكن كيف ننجوا من التماسيح، والثعالب، والقطط، والكلاب الشرسة...؟
ـ يا حمقاء..، سندعها تفترسنا، آنذاك نفقد وجدودنا، فلن نفقده أبدا ً. هل تتذكرين كيف نجونا من الحرب..؟
ـ لا، لا أتذكر.
ـ قلت لك دعينا نموت فيها، كي لا نموت مرة ثانية، فمتنا، وهكذا نجونا من فضائح الموت.
ـ آه...، تذكرت كيف متنا وولدنا بعد الموت، ثم لم نمت، ورحنا ننتظره، ولم يأت.
ـ آ ....، فلا احد بعد الآن يقدر ان يمسنا بسوء...، فعندما تبتلعنا التماسيح سنرحل معها، ونفلت من الموت...
ـ صحيح التماسيح لا تموت، فإذا ً نكون عثرنا على الخلود!
ـ ولكن...، يا عزيزتي، لماذا تموت الضفادع..؟
ـ عدنا إلى الأصل: إذا كانت الأفعى خالدة فلماذا لم تنقرض الفئران، ولماذا مازالت الأرانب تتحدى الثعالب ...؟
ـ إذا ً...، لا أحد يقدر ان يمحو الآخر؟
ـ لكن الحقيقة تقول ان الديناصورات ذهبت مع الريح!
ـ مع الريح ....، آ ...، حيث الماء غدا ثقيلا ً كالهواء، والفضاء لم يعد شفافا ً، وقد تكون التماسيح لحقت بها.
ـ الم ْ اخبرك بان النهايات مستحيلة كاستحالة مقدماتها، فمادام الموت لم يأت فانه لن يذهب، وعندما لا توجد اشياء نفقدها نكون لسنا بحاجة لها، وعندما لا يوجد هواء فهذا يعني ان الخسارة فقد لغزها!
ـ اقتربي...، الم تمزق الضواري جسدك...؟
ـ نعم.
ـ من يتكلم معي إذا ً...؟
ـ نسلي الخالد!
ـ آ ....، أيها الخلود، علينا ان نحتفل بك.
ـ لا تكوني حمقاء، الحكاية برمتها لم تحدث...، فبعد ان تكون الحكاية وقد وضعت أوزارها، لا أنا اعرف من أنت...، ولا أنت ِ تعرفين من أنا.
ـ آ ...، صحيح، قبل برهة رأيت في الحلم ساحل المستنقع ابيض مثل جسدي...،  فرحت ارقص، واللعب، واللهو ...، ثم فجأة أفقت...، فإذا أنا سوداء بلون الوحل..؟
ـ وأنا رأيت الحلم نفسه، ولكني رأيت نهايته فأسرعت إلى الفجر، رأيت الغزلان عند الضفاف، بل رأيت الثيران والنمور والخنازير أيضا ً...، ثم وثبت علي ّ أفعى برية متوحشة أمسكت بي وقالت: اغربي عن وجهي! فشكرتها. ثم أفقت...، فإذا أنا لا أرى إلا أشلاء جسدك تتناثر أمامي ...
ـ آ ...، هذا هو التفكيك...؛ أي بمعنى إعادة الصياغة، ذلك لأن اصلب المعادن، هي الأخرى، تستحيل إلى غبار!
ـ جميل...، أين أنت ِ؟
ـ من؟
ـ هذا الذي  غاب، ولم ننخدع به، ولم يخدعنا.
ـ إذا ً ..، لا خدعة، ولا خديعة، ولا أوهام.
ـ آه...، المشكلة إننا تسممنا بالهواء الملوث..!
ـ لا ..، ليس بالماء...، بل جرى اعتداء علينا، لأن الماء يدخل من الفم، ويخرج مع الفضلات.
ـ ونعود نبحث عنه...، نكد ونشقى، ثم عندما لم نجده نضطر للبحث عنه.
ـ  من اعتدى علينا؟
ـ لا اعرف..، لكن عليك الاعتذار.
ـ اعتذر لمن..؟
ـ للماء!  وللهواء أيضا ً...! فهو شبيهة بأحفادنا، يولدون هنا، ويعيشون هنا، ولا يموتون بعيدا ً عن قاع هذا المستنقع.
ـ لا ...، فانا حزينة، وأنت الآن وأنت ِ تلوحين بالمفتاح؟
ـ صحيح...، أنا امسك بالمفتاح، ولكنني لم أر قفلا ً.
ـ جدتي لخالتي قالت ان هذا هو بالتحديد دعوة للبحث عن الباب.
ـ سيدتي، لم يعد لدينا بيت، وأنت تلوحين بالمفتاح؟
ـ آن لنا ان نبحث عن فيل!
ـ جيد..، ولكن شرط ان يكون لونه شفافا ً.
ـ ليكن من غير لون، لأن العبقرية، كما يقول العباقرة، شبيهة بالأحمق الذي يعترض على الحمقى وهم يهتفون لمجده!
ـ اسكتي...، فقد تكون خواطرنا رصدت...، والتقطت ذبذبات أدمغتنا، وتم تحليها...
ـ ها، تقصدين إننا أدينا أدوارنا كاملة، ولم نخف على الريح ما حدث تحت الماء، ولم نخف ما حدث لنا.
ـ لا ...ن قسما ً بالقمل والبرغوث والذباب...
ـ لا حاجة للقسم، فانا أصدقك، لأن الضفادع التي لا تعرف الغش وحدها تذهب إلى الجحيم.
ـ جميل، كم أنت جميل أيها الجحيم، حتى لو كنت لا تخفي، ولا تتستر، ولا تراوغ ...، فقد بحت بما لم يدر برؤوسنا. لقد كانت الحياة عنيدة درجة ان مستنقعاتها تحولت إلى متنزهات، ومتنزهاتها تحولت إلى حدائق. فلا نقيق ولا نباح ولا نعيب ولا فحيح ولا عواء..!
ـ آ ....، ماذا يفعل الخوف بالعقول، لا يدعها تميز بين الأشياء، فيبدو الأسود ابيضا ً، والأزرق متوهجا ً بلون النار!
ـ بالعكس...، يا سيدتي، لولا خوفنا من التعفن، لتعرضت عقولنا للفناء.
ـ جميل، كم كان بودي لو امتلك مفتاح الفناء، بدل ان أزهو متبخترة بهذا العقل الفاسد؟
ـ لا تجدفي...، فلولا الفساد، لسردنا حكاية اقل بلادة ندفع حياتنا ثمنا ً لها.
ـ وماذا فعلنا...؟
ـ لم نفعل شيئا ً...، لأننا لم نولد لكسب هذا الذي جاء مع الهواء، وذهب مع الماء. دخل من الفم وخرج مع الفضلات، ثم عدنا نبحث عنه، وسنعثر عليه! نكد ونشقى ثم لا نجده، فنهرول خلفه، ونمسك به، لنفقده، فيمسك بنا، ليفقدنا. الم أخبرك، إنها حكاية هواء، نسجها فم، مثلما هي حكاية فم كد كي يرى ما غاب في الهواء!
14/1/2016


مسرح مسرحية مواطن اسمه ... التوه في المحنة.-مؤيد داود البصام


مسرح


مسرحية مواطن اسمه ... التوه في المحنة.

مؤيد داود البصام
       عرضت مسرحية المواطن(ه)، تأليف الكاتب حسين نشوان، في أكثر من عرض على المسارح الأردنية، وقدمت أخيرا في مهرجان( عشيات طقوس المسرحية الثالثة، دورة مؤاب)، من أخراج محمد الضمور، وبنفس الكادر من الممثلين الذين قدموا عروضها السابقة، إلا أن المخرج طور الإبعاد التقنية في مسرحيته في الديكور والسينوغرافيا، مما يعني استفادته من الدراسات النقدية التي ظهرت في الصحف أو إثناء مناقشة العمل في الندوة التي أقيمت على هامش مهرجان المسرح الأردني السابع عشر، وهذه نقطة تسجل له، في اهتمامه بالنقد وما يعني الاهتمام بالرأي الآخر، الذي يعني التطلع للتطور والرقي، والتخلص من الأنا والنرجسية، التي تؤدي بالمبدع إلى الفراغ الفكري والإبداعي.
التأليف والإخراج....
       المسرحية لم تنشر كمطبوع،  مما يعني أننا إزاء عمل لا نعرف فيما أذا قام المخرج بوضع رؤاه في النص أو التزم بما جاء في النص، لكن ما أكده المخرج في النقاش، الذي دار في ندوة مهرجان (عشيات طقوس المسرحية الثالثة)، بان بعض التغييرات في المشاهد فرضت نفسها إثناء العمل، أي أنه ألتزم بالهيكل وتلاعب في الجدران، ووضع رؤيته الى جانب رؤية الكاتب، أو حسب فهمه للنص،  مما يجعلنا نناقش العمل دون إن نعطي رأيا، في البنائية التي اختارها المؤلف، لان المسرحية بشكلها التي عرضت كانت عبارة عن مجموعة مشاهد أو محطات يجمع بينها وحدة الموضوع، ولكنها تصنف بصورة عامة ضمن مسرح الفرجة العربية الساخرة، أقام النص رؤاه على مجموعة حيثيات تخص حياة وواقع المواطن العربي عموما،ولم يخصص، لأنه لم يحدد مكانا لما يحدث وتركه مفتوحا ً ، ولكنه حدد الزمن بان جعله واقعنا اليومي الذي نعيش الآن .
      تستند مسرحية مواطن أسمه ( ه). إلى كشف حال المواطن العربي وبالذات المواطنين من الطبقات الفقيرة، وهم الذين يشكلون الشريحة الأكبر في مجتمعاتنا العربية، وتستل حياة مواطن منذ لحظة الولادة إلى صيرورته، عندما يدرك إبعاد وجوده الكوني، وكيف ينشأ على أسس تربوية خاطئة في البيت والمدرسة والشارع، وكيف يتعرض للاضطهاد والتهميش عندما يكبر وينضج، عندها تبدأ الأسئلة تأخذ طريقها في مجمل تفكيره، واستطاع الكاتب حسين نشوان من جمع معظم القضايا التي تهم المواطن والجماهير العربية وتساؤلاتها التي ليس لها مجيب، من خلال تساؤلات المواطن ( ها ) في حديثه عن حقوقه كمواطن، في حق إبداء الرأي في مصيره، وحقه في انتخاب ممثليه، وعن حقوق الإنسان والشرائع الدولية، وكيف ينظر الجيل الجديد للهزائم التي منيت بها الأمة والمهزومين من هذه الأمة، وعلى رأس هذه الهزائم ما حدث في القضية الفلسطينية، ويسخر من الكذب الذي تمارسه القوى الاستعمارية قي دعواتها، بكذبة الديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، التي تضعها في أفواه البعض لترويج بضاعتها، وهي التي أنشئت وجودها على القتل والدمار والاستغلال والاحتكار، واستعمار الشعوب، وأسست لحكومات تتبنى تكميم الأفواه، وتربية المواطن بعدم التدخل في الشؤون التي  تهم شؤونه الحياتية وحريته، ولكن الكاتب أراد إن يغير الطابع السوداوي الذي ناقشه النص، بان غير تجاه المسرحية بحلم جعل الجيل الجديد يحمل لواء التغيير والحرية، عندما أنطلق  مواطنه والفرقة المسرحية يرددون في نهاية المسرحية، قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش ( أيها المارون بين الكلمات العابرة / أحملوا أسمائكم وانصرفوا / واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا.. الخ)، وهو ما يتوافق مع ما أتخذه المخرج بانتهاج اسلوب الفرجة، وسنأتي على ذلك لاحقا ً .
المعالجة الإخراجية...
       وظف المخرج الرؤيا الإخراجية بروح معاصرة،  ولكنه اتخذ من أسلوب الحك واتي التي جاءت من الفرجة المسرحية العربية القديمة، وكما يعرفها د. أبو الحسن سلام، في دراسته سيميولوجية العرض، ( مفهوم الفرجة: الفرجة من الانفراج، وهي نقيض الكبت ونقيض التأزم، والفرجة هي الخلوص من الشدة )، وهو ما اشتغل عليه المخرج لنص يحمل كل أنواع الأزمات والكبت، فحرك العمل لنقل المشاهدين ( من حالة شعورية إلى حالة شعورية أخرى )، لنقل الفكرة التي خاطب بها المؤلف عبر نصه المتلقي، بنفس عناصر الواقع التي تتماشى وعقلية ورغبات المشاهد، ابتدأت المسرحية لفرقة مسرحية تريد تقديم عملا، فتتفق على اختيار موضوعها حياة مواطن رمزت له بحرف (ها)، رمزا ً لعمومية الفكرة لتتحدث عن حياة عمومية لأي مواطن، ممكن أن يكون في أي مكان، ملغيا بهذا تحديد المكان، وانطلق تمثيل الفرقة بما يشبه حلقات المدائح الصوفية، لكل مشهد حقائقه، وأغانيه ورقصاته، وهي إحدى عناصر الفرجة،  في عملية تتابع للحكايات لتترابط الحلقات المنفصلة على أسلوب التضمين في قصص إلف ليلة وليلة، حكاية تتبع حكاية، وحتى يظهر المخرج مدى الخنوع والإذلال الذي يعيشه المواطن بشكل عام، وظف الطفلة، التي مثلتها ( بتول الضمور) وقدمت عرضا ً بعفوية وقدرة إبداعية، وكأنها مدركة لخطورة دورها، الذي رمز للتلاعب بالإنسان بأيدي الجهلة، وجعل الكنترول علامة على اللعبة الشطرنجية في التحكم بمصائر العباد، يتحركون كدمى بحركة الرمودكونترول، واشغل الحيز الخلفي لما بعد الستارة بحركة الدمى المصاحبة لرقص وغناء الفرقة، وذلك باستحداثه  الجدار الرابع الذي أوجدته الستارة الخلفية، وسمح للممثلين باستخدام الحركات والإيماءات والرموز بالكلمة والحركة، ضمن إيقاع الحس الشعبي الذي يشكل بنائية الفرجة الشعبية، وقد حافظ المخرج في العروض التي قدمها على المسرح الدائري أو على المسرح الرئيسي ذو المساحة الواسعة، على طقس الفرجة أو ما يشبه حلقات الذكر الصوفية، مما جعل بؤرة العمل في الحركة المركزية لوسط المسرح، ولم يشتت حركة ممثليه بالدخول والخروج، ولكونه اشتغل على فكرة الفرجة الشعبية، حافظ  على المنظور المكاني للفرجة، بالرغم من عرضه ضمن مسرح العلبة الايطالية، فقد حاول بحركة الممثلين الدائرية من إيجاد هذا التوازن، الذي يلغي إلى حدا ما، الموقعين بين العرض والمشاهد، من حيث جغرافية المكان، ووصل بعرضه إلى حد ما في المسرح الرئيسي إلى إسقاط الحاجز المكاني، بخلاف عرضه على المسرح الدائري، كان أكثر توافقا ً مع السياق بإحاطة الجمهور للفرقة، مما يحقق احد العناصر المهمة في الفرجة، هو الرؤية البصرية التي يفرضها موقع المتلقي، وهو ما يفرض على الفرقة الحركة الدائرية، لتكون الرؤية البصرية لكافة الإطراف والاتجاهات بنفس الابعاد، وهذا ما جعله يحرك المجاميع في نهاية المسرحية، لإيجاد التلاحم وإيصال الخطاب بين المرسل والرسالة والمرسل له، عندما جعل الممثلون يدخلون القاعة بين الجمهور وهم ينشدون قصيدة محمود درويش، وحقق المواجهة التفاعلية بين المشهد المعروض وجمهوره، وكثف من اللوحات الراقصة والممزوجة بالغناء على إيقاعات تتواشج مع كل فكرة طرحها النص، وظل مسيطرا ً على التوازن العام للكتلة في حركة الممثلين وتقديم المشاهد الراقصة والغنائية، لإيجاد المناخ المشابه للفرجة التي تقام عادة في فضاء مفتوح، ساحة عامة أو باحة بيت واسعة أو حديقة عامة، ومن اجل إبراز فكرة النص بانعدام حقوق المواطن في ظل الحكومات التي تحكمه، كان وجود الطفلة وهي تدير المجاميع في حركتهم وتوقفهم عبر جهاز الكنترول، أثره الواضح في فهم المخرج لإبعاد النص وفهمه للواقع السياسي.
السينوغرافيا وبقية المكملات للعرض المسرحي ..
       من أهم عناصر الفرجة، وجود الفرقة الموسيقية الحية مع المغنين والراقصين، وياتي بعد ذلك بقية العناصر المكملة للفرجة المسرحية، من شموع وبخور وأصوات مصاحبة، وقد حققت معظمها تقريبا ومن أجل استكمال إيصال الخطاب، رسمت خريطة الوطن العربي وفلسطين في وسط خشبة المسرح، وجعل الممثل الرئيسي المواطن ها ، الذي مثله الفنان زيد خليل، يتفاعل مع المعروض، عندما أخذ وضع الانبطاح حاضنا الخريطة، وهكذا جاءت الملابس والاكسسوارات مع الديكور ببساطتهم ما يمثل عروض الفرجة، كما أن الاصوات الغنائية التي قدمها يوسف كيوان وعبد الله كيوان اضفت لمسة أبداعية، افرجت عن حالة الاحتقان للمتلقين وهم امام مآسيهم ، وحلت روح الفرجة من حالة الاحباط الى حالة التفريغ عبر الغناء واللمحه، والنقطة المهمة التي عالجها المخرج في تكييف السينوغرافيا بوجود الجدار الوسطي الذي عزل الدمى وهي ترقص مع الراقصين، في لقطة تعبيرية ، لاشك ان علاقة الفهم والتفاهم بين المخرج والكادر المسرحي وبالاخص ، منفذ الديكور والاكسسوار خليل ابو حلتم، أصل الكثير من الخطاب الذي اشتغل عليه الاخراج لاظهار النص بما قدم عليه،