الاثنين، 27 أبريل 2015

قراءة في رواية " فرانكشتاين في بغداد " لأحمد سعداوي-تعويذة سحريّة لبغداد أحمد الحلي



قراءة في رواية " فرانكشتاين في بغداد " لأحمد سعداوي

تعويذة سحريّة لبغداد
أحمد الحلي
                                                                          "تساءل محمود ، فرد عليه عزيز بأن ناهم (مساعد هادي العتاك)
                                                                                 قتل في تفجير بحي الكرّادة مطلع هذه السنة ، ولأن ناهم ليس له صلات
      أوعائلة كبيرة سوى امرأته وبنتيه الصغيرتين ، فقد ذهب هادي إلى المشرحة لتسلّم جثته
، وهناك أصيب بصدمة كبيرة ، حين شاهد كيف اختلطت جثث ضحايا التفجير مع بعض ،
قال الموظف في المشرحة لهادي ؛ اجمع لك واحداً وتسلّمه ، خذ هذه الرجل وتلك اليد
وهكذا ، الأمر الذي تسبب بصدمة كبيرة لهادي ..."

أن تُمسك يداك برواية حقيقة لا يضيع وقتك هباءً في قراءتها وتتبع أحداثها فذلك أقصى ما يمكن للمرء أن يحصل عليه ، بل أن ذلك بمثابة العثور على كنز حقيقي ، وهنا نود أن نتطرّق إلى ظاهرة باتت متفشية في الوسط الثقافي والأدبي تتعلق بالطموح المرضي لدى عدد من الأدباء ولا سيما بين أوساط الشعراء واستماتتهم في كتابة رواية ، من دون أن تتوفر لديهم المؤهلات التقنية والفنية والإحاطة التامة بمداخل ومخارج فن الرواية الذي أرى أنه من العسير حقاً أن يسلس قياده إلا لمن لديه احترافية عالية جداً .. ، وفي حقيقة الأمر لا نعرف ما الذي ينتظره هؤلاء الذين يقحمون أنفسهم وأسماءهم فيما لا طائل من ورائه ، ولكن  مهلاً قد نجد لهؤلاء بعض المسوغات ، أبرزها على سبيل المثال حصول معجزة ما أو لنقل ضربة حظ  لا يمكن أن تأتي قط ...
نسوق هذا الكلام ونحن ننتهي من قراءة رواية " فرانكشتاين في بغداد" للروائي العراقي أحمد سعداوي ، والذي يبدو أنه عمل بجد ومثابرة وأناة قل نظيرها من أجل إنجاز رائعته الروائية هذه والتي نحسب أنها تستحق عن جدارة أن تكون واسطة العقد التي تزين جيد السرد العراقي ...
المفرح في هذه الرواية ، أنها جاءت عراقية صميمة ، نبعت من حيثيات الواقع العراقي وتموجاته الكارثية ما بعد التغيير الذي حصل في العام 2003 ...وإن اتكأت في إطارها الشكلي على ثيمة عالمية  هي شخصية فرانكشتاين التي أبتدعها الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي وصدرت سنة 1818 وتدور أحداثها   عن طالب ذكي اسمه فيكتور فرانكنشتاين يكتشف في جامعة ركنسبورك الألمانية طريقة يستطيع بمقتضاها بعث الحياة في المادة، يبدأ فرانكنشتاين بخلق مخلوق هائل الحجم ) كما أن هناك بعض الامتدادات الطفيفة وخطوط التلاقي مع بعض شخصيات رواية " الحياة هي في مكان آخر" للتشيكي ميلان كونديرا ...
بوسعنا توصيف رواية سعداوي هذه على أنها سمفونية أو نشيج يتم عزفه من خلال مختلف أنواع الآلات الموسيقية ، وكل آلة تعزف موسيقاها ضمن جوقة الآلات في ذات الوقت الذي تنتحي فيه جانباً فتعزف موسيقاها الخاصة ...
ويبرز لنا " الشسمه " ، أو الذي لا اسم له  ، بوصفه العنوان الأبرز والأكثر ديناميكية وفاعلية بين شخصيات الرواية ، وتمثل لنا شخصيته ، وبحسب المفهوم الفرويدي المعادل الموضوعي الأكثر نجاعة  وحسماً في بغداد لما جرى ، وكما يتضح فإن هذا الـ"الشسمه" هو كائن مخلّق على يد شخص يعيش على هامش الحياة اسمه هادي العتاك يعيش في منطقة البتاويين ببغداد ، والذي يفقد مساعده وعضده الذي كان بمثابة ابنه ، فتنطوي ذاته على حقد مرير مدمر على كل من تسبب بهذا الخراب واليباب ...
يقول سعداوي بشأن بطله هذا ؛ " سعيت من خلال روايتي إلى أن أسلط الضوء على مقطع معين من الحياة التي عشناها بوصفنا مجتمعا خاضعا لسطوة العنف و"الإرهاب"، وأردت أن أركز على قدرة الخوف حين يتضخم على صنع أعتى الوحوش سواء كانوا وحوشاً افتراضية لا وجود لها أصلاً على أرض الواقع، أم أشخاصا تحوّلوا بسبب رائحة الدم إلى وحوش في نهاية المطاف ".
وبطريقة غاية في السرية والخفاء يتلاعب سعداوي بأفكار قرائه ويجعلهم يذهبون بهذا الاتجاه أو ذاك ، وكأنه يلعب معهم لعبة " الغمّيضة" الساحرة ، فلا تكاد تعي شرك فصام الشخصيات الذي وضع لك بعناية ...وبالتالي نستطيع فهم أبعاد العلاقة بين الشسمه وبين خالقه وموجده من العدم ، من خلال بعض الحوادث وما يجري بينهما من تحاور ، حيث يتهمه بأنه يقف خلف موت حارس الفندق الشاب " حسيب محمد جعفر الذي بات روحه تحل في جسده .. وبما يشبه العتب المر أو الاتهام يقول له ؛
- لقد تسببت بمقتله ، لو أنك لم تمر من أمام باب الفندق ، لما تقدم الحارس حتى بوابة الأعمدة الحديدية ، لربما بقي بالقرب من الكابينة الخشبية البعيدة نسبياً عن الباب الخارجي ، وأطلق نيرانه على سائق السيارة الانتحاري من مسافة بعيدة ، ربما  يصيبه الانفجار لاحقاً ببعض الجروح أو يرميه العصف بعيداً فيصاب برضوض وخدوش ، ولكنه من المؤكد لن يموت وسيعود في صباح اليوم التالي إلى زوجته وابنته الصغيرة زهراء ، ولربما يفكر ، وهو يفطر مع زوجته الشابة وطفلته بأن يترك هذا العمل الخطر ويعمل بائعاً للحب الشمسي على الرصيف في قطاع 44 ، قال الشسمه مظهراً تصميمه الأكيد على تنفيذ مهمته التي جاء من أجلها هذه الليلة ، تجادل معه هادي مستجمعاً شجاعته للدفاع عن نفسه ، فهو ، بوجه من الأوجه ، بمثابة أبيه ، فهو الذي أتى به إلى هذه الدنيا ، " أليس كذلك " ؟
- أنت مجرّد ممر يا هادي ، كم من الآباء والأمهات الأغبياء أنجبوا عباقرة وعظماء في التأريخ ، ليس الفضل لهم ، وإنما لظروف وأحوال وأمور خارجة عن سيطرتهم ، أنت مجرّد أداة ، أو قفاز طبي شفاف ألبسه القدر ليده الخفية ، حتى يحرّك من خلالها من خلالها بيادق على رقعة شطرنج الحياة .
الشخصية المحورية الثانية هي شخصية الصحفي محمود السوادي الذي تقع على عاتقه رواية ما حدث ، ولاسيما الجانب المتعلق بسيرة الـ شسمه ، وتتماهى شخصيته مع شخصية باهر السعيدي الذي يعمل رئيس تحرير مجلة "الحقيقة" ، يقرأ محمود بإعجاب عمود رئيسه ؛ " هناك قوانين يجهلها الإنسان ، لا تعمل على مدار الساعة كما هي القوانين الفيزيائية التي تتحرك وفقاً لها الرياح وتنزل الأمطار وتتحرك الصخور من الجبال ساقطة إلى الأرض ، وغيرها من القوانين ، هناك قوانين لا تعمل إلا في ظروف خاصة ، وحين يحدث شئ ما وفقاً لهذه القوانين يستغرب الإنسان ويقول إن هذا شئ غير معقول ، إنها خرافة أو في أفضل الأحوال معجزة ، ولا يقول إنه يجهل القانون الذي يحركها ، الإنسان مغرور كبير لا يعترف بجهله أبداً ..."
افترض محمود أن هذه الفقرة تلخص ربما بشكل منطقي فكرة الشسمه ، عن أسباب وجهود وظهوره ، غير أن العتّاك يتمسك بصيغة أكثر خيالية ، فالـ شسمه مصنوع من بقايا أجساد لضحايا ، مضافاً إليها روح ضحية ، واسم ضحية أخرى ، إنه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا وهو مخلوق للانتقام والثأر لهم .
وكان محمود ، وأثناء قيامه بمهماته الصحفية في منطقة البتاويين ببغداد تعرف إلى هادي العتّاك الذي يذيع صيته في المنطقة من خلال حكاياته الغريبة المهلوسة التي يتفق الجميع أنها كاذبة ، ولكن الفضول وحده هو الذي يدفعهم إلى سماع المزيد منها ...
الفضول ذاته ، يدفع محمود إلى التوغل أكثر فأكثر مع حكايات هادي العتّاك عن الشسمه ، محاولاً أن يصل إلى ماهيته ، على الرغم من أنه يساوره الشك في إمكان وجوده أصلاً ، إلا أنه وجدها مادة دسمة تتضمن جرعات جيدة من الإثارة  المطلوبة في عمله الصحفي ، وفي محاولة منه لاستجلاء حقيقة الأمر يزود محمود هادي بجهاز التسجيل الخاص به لغرض أن يقوم بتسجيل حوار أو مقطع من حوار مع هذا الكائن الغريب ذي الإمكانات الخرافية والقوى الخارقة ، فيعرب له عن استجالة تنفيذ مهمة كهذه  ، فهذا الكائن يتمتع باليقظة الخارقة أيضاً ومؤكد أنه سيقتله إذا علم بذلك ، فيقترح عليه أن يكاشفه بالأمر ، وأن من حقه من أجل أن لا تتعرض صورته إلى المزيد من الشوّه أن يبدي رأيه ويعبر عن نفسه للجمهور الذي بات يتسع في  تتبع ومتابعة أخباره ، فبعضهم ناقم وساخط على ما  يقوم به ، وبالفعل يتم تنفيذ هذا المقترح فيأتي صوته عبر جهاز التسجيل ؛
" ليس لديَّ وقتٌ كثير ، ربما أنتهي ويذوب جسدي وأنا أسير ليلاً في الأزقة والشوارع حتى من دون أن أنهي مهمتي التي كُلّفت بها ، أنا مثل هذه المسجلة التي أعطاها ذلك الصحفي المجهول لوالدي العتّاك المسكين ، والوقت بالنسبة لي هو مثل هذه البطارية ، ليس كثيراً أو كافياً ، هل هذا العتّاك المسكين والدي حقاً ؟ ، إنه مجرّ ممر ومعبر لإرادة والدي الذي في السماء أنا مخلّص ومنتظر ومرغوب به ومأمول بصورةٍ ما ، لقد تحرّكت أخيراً تلك العتلات الخفية التي أصابها الصدأ من ندرة الاستعمال ، عتلات لقانون لا يستيقظ أبداً ، اجتمعت دعوات الضحايا وأهاليهم مرّةً واحدة ودفعت بزخمها الصاخب تلك العتلات الخفية فتحركت أحشاء العتمة أنجبتني ، أنا الرد على ندائهم برفع الظلم والاقتصاص من الجناة ...."
وما يتضح لنا من خلال مجريات أحداث الرواية أن الـ شسمه ، لا يعمل لوحده ، فثمة هناك بالإضافة إلى أبيه هادي أتباع ومريدون كثيرون من مختلف المشارب والتوجهات ، هناك المجانين  ؛ الأكبر والكبير والأصغر والساحر والفيلسوف والسفسطائي و" العدو" ، وكذلك الأتباع العاديون ، وكان الجميع يطلق عليه لقب " القدّيس" ، وكانوا يعملون معاً في ما يشبه ورشة عمل من أجل إعادة ترميم جسده بعد كل عملية مواجهة يقوم بها فيتعرّض للإصابة أو فقدان بعض أعضاء بالإضافة إلى أن بعضهم كان يمده بالمعلومات الضرورية حول تحركاته ، نقرأ في اعترافاته أيضاً ؛
" كان الستة ، قد وصلوا بعد نقاشات حامية إلى قرار حاسم ؛ نزل المجانين الثلاثة من العمارة وقطعوا الشارع المعتم باتجاه الساحة التي جرى فيها إعدام الشابين خلال النهار ، سحبوا جثة القتيل ، الذي يبدو أنه كان شجاعاً وتركوا ذلك المتوسل الخائف الباكي ، حملوها حتى العمارة ، وفي غرفة بالطابق الأرضي جرت عملية إعدادها لتوفير قطع غيار مناسبة لي ، تم تقطيع الأجزاء التي أحتاجها ، وضعوها في كيس بلاستيكي أسود وتركوها هناك ، قام المجنون الأكبر بنزع الأجزاء التالفة في جسدي ، ثم تولى المجنون الكبير والصغير خياطة الأجزاء ، ثم حملوني جميعاً إلى الحمّام في الطابق العلوي ، غسلوني من الدماء وسوائل البلازما اللزجة ، جففوني ، أعطاني " العدو" ملابس ضابط في القوات الخاصة الأمريكية مع بطاقات هوية مناسبة ، ثم تولى السفسطائي عملية ترميم وجهي بالمساحيق ، كساني بطبقة كثيفة من الماكياج النسائي وأعطاني المرآة ، نظرت إلى وجهي فلم أعرف نفسي ..."
ويضيف قائلاً ؛ " كان المجنون الأكبر يرى أنني صورة الإله المتجسّدة على الأرض ، وأنه "الباب" لهذه الصورة ، كانت رؤيتي محرّمة عليهم ، لذا حين كنتُ أنزل من الطابق الثالث ويصادفونني في الممرات أو عند السلّم يسجدون على الأرض بسرعة ويغطون وجوههم بأيديهم خشية ورعباً ...
ثم يوجّه نداءه إلى من يصغون إلى اعترافاته " أعرف أن الأمور لم تجري مثلما أحب ، لذا فأنا أطلب ممن يسمع تسجيلي هذا أن يساعدني ، وأن لا يعرقل عملي ، حين أنتهي منه وأغادر عالمكم هذا بأسرع وقت ممكن ، فلقد تأخرت كثيراً ، أعرف أن لديّ أسلافاً كثيرين ، ظهروا ها هنا في هذه الأرض في حقب وأزمان ماضية ، أنجزوا مهامهم في أوقات المحن العصيبة ، ثم غادروا ولا أريد أن أكون مختلفاً عنهم ... " .
بوسعنا أن نلحظ أن أحداث الرواية تتشظى كذلك على مستويات أخرى ، وإن كانت تلتقي جميعها عند محور الشسمه ، فنعرف ، ومنذ بداية الكتاب أن هناك دائرة تعمل في بغداد تحت مسمى " دائرة المتابعة والتعقيب" ، المرتبطة بالإدارة المدنية لقوات الائتلاف الدولي في العراق ما بعد سقوط النظام السابق في العام 2003 ، وأن هذه الدائرة يرأسها العميد سرور محمد مجيد ، وفي مرحلة لاحقة ، وبعد التحقيق بشأن طبيعة عمل هذه الدائرة يتبين أن الدائرة تقوم بعمل هو خارج اختصاصها الذي ينحصر بأمور مكتبية تخص أرشفة المعلومات وخزن وحفظ الملفات والوثائق ، وأنها كانت توظف ، تحت إدارة العميد سرور مباشرة مجموعة من المنجمين وقارئي الطالع ، برواتب مرتفعة تصرف من الخزينة العراقية وليس من الجانب الأمريكي ...
يحاول العميد سرور ومعاونوه جاهدين الوصول إلى منفذي العمليات الإرهابية التي كانت تحصل في بغداد وقتلهم أو زجهم في السجن قبل أن يتاح لهم تنفيذ عملياتهم ، وكان العميد يبتغي من وراء ذلك إلفات نظر المسؤولين إلى العمل البطولي المنوط به ، بدلاً من أن يبقى يتحرّ في الظل ، وكان يخطط ، لإلقاء القبض على هذا المجرم الخطير الذي ظهر في بغداد مؤخراً ، حيث راحت ألسن الناس تتداول أخبار سيرته بشئ غير قليل من الفضول والتعاطف وأحياناً الفزع ، وكانوا يتحدثون عن سرعته وخفّته في تسلق أسطح البنايات والنفاذ من الحيطان وعدم تأثره بالرصاص المنهمر عليه ،
وعن طريق الصدفة تقع عينا العميد على  العدد الأخير من مجلة "الحقيقة" التي يعمل فيها محمود السوادي ، فيقرأ عنواناً أثار انتباهه وهو ؛ "فرانكشتاين في بغداد"  لمحمود نفسه ، فيأخذ  بقراءة التحقيق على محمل الجد ، ذلك أنه تمت صياغته بالاستناد إلى الاعترافات المسجلة بصوت الشسمه الذي سلّمه هادي العتاك لمحمود السوادي ، يدرك العميد أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من إلقاء القبض على هذا الوحش المتربّص ببغداد ، فيرسل مساعديْه لإحضار الصحفي كاتب التحقيق ، ليقف بنفسه على الحقيقة ...
بعد الانتهاء من شرب الشاي الخفيف فاجأ محود وأصابه بالارتباك الشديد والقلق ، فهذا الرجل ، العميد سرور ، إنه  باختصار يمثل السلطة ، وكونه صديق طفولة لرئيسه باهر السعيدي هو أمر ليس له أي وزن في حسابات هذا الرجل ، لقد عرف محمود لماذا كان السعيدي يسخر من العميد سرور ، إنه يعرف هذا الرجل وأمثاله جيداً ، فهو لا يتورع عن ارتكاب الظلم وعن استخدام القسوة المفرطة بأشكالها المختلفة خدمة للسلطة التي يعمل تحت إمرتها ، سواءٌ كانت هذه السلطة هي صدام أم الأمريكان أم الحكومة الجديدة ...
 يقول له العميد ؛ " إنه ليس شاياً ، إنه مزيج نباتي من ورق لسان الثور ولسان العصفور ولسان الخنزير وعدة ألسنة أخرى ، وأنا أسميه اختصاراً " فاتح اللسان" ، لأنه يدفع من يشربه للانفتاح في الكلام وعدم إخفاء شئ ، وها أنت ترى أنني شربته معك .. ، يحاول محمود إخبار العميد بأن المقالة الصحفية التي تضمنت معلومات عن الشسمه ما هي إلا قصة خرافية قام بتلفيقها هادي العتّاك الذي يسكن في منطقة البتاويين ، لم يرغب العميد بكشف أسرار العمل أمام هذا المتهم ، لم يرد إخباره بأن الشسمه الذي يتحدث عنه والذي أسماه في مقالته بـ فرانكشتاين بغداد ، هو شخص حقيقي وليس خرافياً ، وأنه يصرف جل وقته منذ أشهر مضنية من أجل إلقاء القبض عليه ، وأن حياته ومستقبله المهني متعلق بهذا الرجل الغامض الغريب ، وأنه يسعى لكشف وتمزيق هالة الغموض التي يحيط بها نفسه ، وأنه أقسم على أن يُمسكه بيديه الاثنتين ليعرضه في التلفزيون ويرى العالم كله أنه مجرّد شخص تافه حقير ووضيع خلّف لنفسه أسطورة من جهل وخوف الناس وفوضى الواقع الذي يعيشونه لا أكثر ولا أقل ...
وفي نهاية اللقاء أو الاستجواب يخبره العميد ؛ " بالمناسبة أنا أمزح معك ، لا يوجد شاي اسمه فاتح اللسان ، هذا شاي خفيف مع مركب كيمياوي نذيبه معه ليمنع الأزمات القلبية ، وهي أزمات تحدث أحياناً للذين يتعرضون لضغط الاستجواب ، نحن نحميهم بهذا الشراب ونحمي أنفسنا من تهمة قتل المتهمين ..."
وثمة ما يمكن قوله أيضاً بشأن هذه الرواية التي تنفتح على آفاق وخيالات خصبة ، حيث تتشعب أحداثها في قنوات متعددة ، المصائر هنا معلّقة أو متأرجحة في أنشوطة ، ضمن همود الزمن أو تسارع وتيرته إلى حدودها القصوى ، بوسعنا أن نلمس الشغف وشعرية النص والحضور الفاتن لجسد المرأة ، الأمر الذي أتاح للإحداث أن تتصاعد وتتشابك في هارموني إيقاعي متماسك ، وما يحسب لسعداوي حقاً أنه فهم اللعبة جيداً وهو استعمل في روايته هذه لغة صحفية مبسّطة ، ولم يترك نفسه يقع فريسة المتطلبات اللغوية والبلاغية ....
الشئ الأخير الذي نود توكيده هنا  بإصرار ، هو أن الشسمه ، ذا الأنف المزرر ، والذي ابتدعته مخيلة سعداوي وصنّعته لنا من أشلاء الضحايا ، ستبقى كينونته مترسّخة ، بوصفه حارساً أميناً ، تجثم روحه اليقظة عند بوّابات بغداد الأربع ، أو يستوي واحداً من الشواخص الضرورية المضافة إلى نصب الحرية فكأنه استدراك لجواد سليم ذاته على عمله ، شأنه في ذلك شأن الكائنات الخرافية الجاثمة على بوابة عشتار البابلية ....

مرافئ الانتظار-ياسر سعد جودي



مرافئ الانتظار
ياسر سعد جودي
مَخالب اشتياقي إليكِ
تنغرزُ في صدري
صياح الديكِ
يُخبرني بضياع الأمل
عندما اْرى خيبتي
أنادي على طيفك في احلامي
يأتي الصباح ليقودني بسلاسلهِ
الى يوم لا ارغب بالانتماء اليه
انظر الى المرآة فلا أراني
أتكئ على كتف شرفتي
انتظاراً لمجيئكِ
متجاهلاً نسيانكِ الباذخِ
الذي يدفع ثمنه  باهظاً قلبي
ولأني يئستُ من أن تعودي
2
سأبحرُ بين ضباب الغيوم
لكي ارسم لكِ منها قلباً
ألوِّنهُ بلونِ السماء السابعة
بريشةٍ من طائرِ الحبّ الأبيض
منقوعةٍ بقطراتٍ من ندى الورد
معطرةٍ برائحةِ غزالٍ شريد
يعدو في سهول حُبِّنا
يلاحقُ نسماتِ العشق
على انغامِ قلبينا الصغيرين
مصابيحهما نجومُ الليل الفضية
التي يتأرجحُ  بينها قمرٌ وحيد
تركتُ جثث كبريائي
على مشارف الطريق
تركتها هناك
 بعد أن رحلتِ عني
أنهدر قلبي
على ذكرى الوداع
أحرقتني نارُكِ الهادئة
وأختفى صوتي
جمعتُ  ورودِ  العالم
لأبحث عن عطركِ البنفسجي
أتعلمينَ شيئا ؟ً
بعدكِ أبقيتُ شبابيكي وأبوابي مشرعة
بانتظار أن تأتي في يومٍ ما
لعلكِ تعودين
لتعيدي لقلبي الحياة


الأحد، 26 أبريل 2015

ملحمة جلجامش سين ليقي اونيني اللوح العاشر : عند نهاية العالم -ترجمها الى الإنجليزية أندرو آر جورج 1999 ترجمها عن الإنجليزية الى العربية د. أنور غني الموسوي 2015


ملحمة جلجامش
سين ليقي اونيني
اللوح العاشر  : عند نهاية العالم
ترجمها الى الإنجليزية أندرو آر جورج 1999
ترجمها عن الإنجليزية الى العربية  د. أنور غني الموسوي  2015
النسخة النموذجية البابلية لملحمة جلجامش ( هو الذي رأى العمق)


شيدوري صاحبة الخان عند ساحل البحر
هناك تقطن في منزل صغير عند الشاطئ
لديها قدور و خوابٍ ، كلها من الذهب
كان له طاقية و محجبة بحجاب
قدِم جلجامش وهو تائه ...
كان عليه جلد حيوان ، و كان يتهيّب النظر
لحم الألهة في جسده
لكن في قلبه أسى
كان وجهه يشبه وجه من جاء من بعيد
عندما رأته سيدة الخان
تحدثت مع نفسها بكلمات
مسترشدة النصيحة من لبّها
( يبدو  أنّ هذا الرجل صياد للثيران البرية
لكن من أين أتى ليصل عند بابي؟
لذا حينما رأته  أعلقت الباب
أغلقت الباب و صعدت الى السطح
لكنّ جلجامش أصغى الى ...
رفع رأسه ، متوجه بنظره اليها
قال جلجامش لها ، لسيدة الخان
( لماذا يا صاحبة الخان أغلقت الباب حينما رأيتني ؟
لقد أغلقت الباب و صعدت الى السطح
أنا سأهشّم الباب ، و أكسر القفل
قالت صاحبة الخان لجلجامش
أنا أغلقت بابي ....
و صعدت الى السطح..
أعلمني عن رحلتك...
قال جلجامش لها ، لسيّدة الخان
( صديقي إنكيدو و أنا
أتحدت قوانا و تسلّقنا الجبال
عقرنا ثور السماء و قتلناه
هشّمنا خمبابا الذي يقطن في غابات الأرز
قتلنا الليوث في ممرات الجبال )
قالت سيّدة الخان له ، للجلجامش
أذا كنت أنت و إنكيدو من قتل حارس الغابة
و هشّمتما خمبابا الذي يقطن في غابات الأرز
و قتلتما الأسود في ممرات الجبال
و عقرتما ثور السماء و قتلتماه
لماذا وجنتاك غائرتان و وجهك ذابل ؟
وحالك بائس و منظرك هزيل ؟
لماذا يقيم الأسى في قلبك ؟
و وجهك كوجه من قدِم من بعيد
لماذا ملامحك غيّرها الصقيع و لهيب الشمس
ولماذا تجوب البريّة بجلد أسد؟
قال جلجامش لها ، لسيّدة الخان
و لماذا لا تغور وجنتاي ، و لا يهزل وجهي ؟
و لماذا لا يكون حالي بائسا ، و منظري هزيلا ؟
و لماذا لا يقيم الحزن في قلبي ؟
و لماذا لا يكون وجهي كوجه من قدّم من بعيد ؟
و لماذا لا تتغير ملامحي بالصقيع و لهيب الشمس؟
و لماذا لا أجوب البريّة بجلد أسد ؟
صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
 صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
القدر المشؤوم أخذه منّي
ستّة أيام بكيته و سبع ليال
لم أوارِ جسده الثرى
حتى تساقطت اليرقات من أنفه
حينما شعرت بالفزع من أن أموت مثله
صرت أخاف من الموت ، فجبت البرية
ماحصل لصديقي شيء عظيم يصعب تحمّله
لذا أنا في القفار البعيدة أجوب البريّة
ما حصل لصديقي انكيدو شيء يصعب تحمّله
لذلك انا في الطرق البعيدة أجوب البرية
كيف لي أن أبقى صامتا ؟ كيف لي أن أبقى هادئا ؟
صديقي الذي أحببته استحال الى تراب
صديقي إنكيدو ، الذي أحببته ، صار ترابا
هل لي ألا أكون مثله ؟ و أصرع أيضا
فلا أستطيع النهوض الى الأبد )
قال جلجامش لسيّدة الخان
( الآن يا سيّدة الخان ، أين الطريق الى أوتانابشتي؟
ما هي علامته ؟ أخبريني
دلّيني على علامته
أن  حصل ذلك فسأعبر البحر لأجله
و ان لم يحصل فسأبقى أجوب البريّة
قالت سيّدة الخان لجلجامش
( يا جلجامش ، ليس هناك طريق لتمرّ عليه
و لا أحد من قديم الأزمان أستطاع أن يعبر البحر
غير شّمّش  المغوار ، الذي عبر البحر
ما عدا اله الشمس  ، الذي عير البحر
العبور خطر ، الطريق محفوف بالمخاطر
و في منتصف الطريق  ، هناك مياه الموت ، التي تقطع الطريق .
يا جلجامش ، هب أنّك عبرت البحر
 حينما تصل مياه الموت ، ماذا ستفعل ؟
يا جلجامش ، هناك أور شونابي  ، ملاح أوتانابشتي
ومعه  الحجريون ، هو يجمع الصنوبر النقي من الغابة
إذهب اليه و دعه يرى وجهك
إن حصل ذلك إذهب معه
و إن لم يحصل  ذلك ، إرجع أدراجك
جلجامش سمع هذه الكلمات
أخذ فأسه بيده
إستلّ خنجره من غمده
سار قدما ، بسرعة نحو اغابة
و كالسهم وصل اليها
في وسط الغابة كان لصوته صدى
أورشانابي رأى بريقَ ...
أخذ فأسه بيده و .... منه
لكن جلجامش أخذ برأسه ..
امسك يديه ... و اسقطه أرضا
و أصاب  الهلع  الحجريين الذين يديرون القارب
من لم يتأذَ بمياه الموت
.... البحر العريض
عند المياه ... جلس
حطّمها و رماها في النهر
و عاد و وقف فوق أورشانابي
وحينما رآه أورشانابي
قال أورشانابي لجلجامش
أخبرني عن إسمك
أنا أورشانابي ، أعمل عند أوتا نابشتي القاصي
قال جلجامش لأورشانابي
جلجامش هو اسمي
مَن قدم من أور – إينّنا
مَن سلك طرقات الجبال
و الدروب الخفّية حيث تشرق الشمس
قال أورشانابي له ، لجلجامش
لماذا وجنتاك غائرتان و وجهك ذابل ؟
وحالك بائس و منظرك هزيل ؟
لماذا يقيم الأسى في قلبك ؟
و وجهك كوجه من قدِم من بعيد
لماذا ملامحك غيّرها الصقيع و لهيب الشمس
ولماذا تجوب البريّة بجلد أسد؟
قال جلجامش له  ، لأورشانابي ملاح أوتانابشتي
و لماذا لا تغور وجنتاي ، و لا يهزل وجهي ؟
و لماذا لا يكون حالي بائسا ، و منظري هزيلا ؟
و لماذا لا يقيم الحزن في قلبي ؟
و لماذا لا يكون وجهي كوجه من قدّم من بعيد ؟
و لماذا لا تتغير ملامحي بالصقيع و لهيب الشمس؟
و لماذا لا أجوب البريّة بجلد أسد ؟
صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
أتحدت قوانا و تسلّقنا الجبال
عقرنا ثور السماء و قتلناه
هشّمنا خمبابا الذي يقطن في غابات الأرز
قتلنا الليوث في ممرات الجبال )
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
القدر المشؤوم أخذه منّي
ستّة أيام بكيته و سبع ليال
لم أوارِ جسده الثرى
حتى تساقطت اليرقات من أنفه
حينما شعرت بالفزع من أن أموت مثله
صرت أخاف من الموت ، فجبت البرية
ماحصل لصديقي شيء عظيم يصعب تحمّله
لذا أنا في القفار البعيدة أجوب البريّة
ما حصل لصديقي انكيدو شيء يصعب تحمّله
لذلك انا في الطرق البعيدة أجوب البرية
كيف لي أن أبقى صامتا ؟ كيف لي أن أبقى هادئا ؟
صديقي الذي أحببته استحال الى تراب
صديقي إنكيدو ، الذي أحببته ، صار ترابا
 هل لي ألا أكون مثله ؟ و أصرع أيضا
فلا أستطيع النهوض الى الأبد )
قال جلجامش لأورشانابي الملاح
الآن يا أورشانابي ، أين الطريق الى اوتانابشتي القاصي ؟
 ما هي علامته ؟ أخبرني
دلّني على علامته
أن  حصل ذلك فسأعبر البحر لأجله
و ان لم يحصل فسأبقى أجوب البريّة
قال أورشانابي له ، لجلجامش
يداك ، يا جلجامش ، منعتاك من العبور
أنّك حطّمتَ اشخاص الحجارة ، و رميتَ بهم في النهر
الاشخاص الحجارة قد حطموا ، و الصنوبر لن ينكشف
خذ يا جلجامش فأسك بيدك
أنزل الى الغابة و أقطع ثلاثمائة مرديّا
كل منها خمسة قصبات طولا
شذّبها ، واطلها جيدا
و اجلبها هنا اليّ
جلجامش سمع تلك الكلماتك
أخذ فأسه بيده
وأستلّ خنجره من غمده
نزل الى الغابة و قطع ثلاثمائة عمودا
طول كل منها خمس قصبات
شذبها و طلاها جيدا
ثم جلبها الى أورشانابي الملاح
جلجامش و أورشانابي أبحرا بالقارب
لقد أبديا مهارة في ذلك
في ثلاثة أيام ، قطعا رحلة شهر و نصف
ثمّ أتى أورشانابي الى مياه الموت
قال أورشانابي له ، لجلجامش
يا جلجامش خذ أول مردي
 لا تدع يدك تلمس مياه الموت
خشية أن تصعقك
خذ المردي الثاني يا جلجامش ، ثم الثالث و الرابع
خذ المردي الخامس جلجامش ثم السادس و السابع
خذ الثامن جلجامش ثم التاسع و العاشر
خذ المردي الحادي عشر جلجامش ثم الثاني عشر
عند المائة و العشرين دفعة استعمل جلجامش جميع المرادي
عندها حلّ أورشانابي ثيابه
و خلع جلجامش رداءه
ونشر يديه كأنهما شراع
أوتانابشتي رأى جلجامش  من بعيد
تكلّم مع نفسه بكلمات
مسترشدا النصيحة من لبّه
لماذا حجريوا القارب قد هشّموا جميعا
وعلى ظهر القارب من ليس بربّان
من يقدم هو ليس من رجالي
الا انه على اليمين ....
انا انظر ، الا انه ليس رجالي
انه ليس ....
الملاح ...
الرجل الذي ...
الذي ...
*
اقترب جلجامش من الشاطئ
قال جلجامش لأوتانابشتي
... أوتانابشتي ....
.... الذي  بعد المحاورة ...
.... ماذا ....؟
......؟
قال أوتانابشتي له لجلجامش
لماذا وجنتاك غائرتان و وجهك ذابل ؟
وحالك بائس و منظرك هزيل ؟
لماذا يقيم الأسى في قلبك ؟
و وجهك كوجه من قدِم من بعيد
لماذا ملامحك غيّرها الصقيع و لهيب الشمس
ولماذا تجوب البريّة بجلد أسد؟
قال جلجامش له  ، لأوتانابشتي
و لماذا لا تغور وجنتاي ، و لا يهزل وجهي ؟
و لماذا لا يكون حالي بائسا ، و منظري هزيلا ؟
و لماذا لا يقيم الحزن في قلبي ؟
و لماذا لا يكون وجهي كوجه من قدّم من بعيد ؟
و لماذا لا تتغير ملامحي بالصقيع و لهيب الشمس؟
و لماذا لا أجوب البريّة بجلد أسد ؟
صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
صديقي إنكيدو ، الحمار الوحشي في المضمار
حمار الهضاب و  نمر البريّة
أتحدت قوانا و تسلّقنا الجبال
عقرنا ثور السماء و قتلناه
هشّمنا خمبابا الذي يقطن في غابات الأرز
قتلنا الليوث في ممرات الجبال )
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
صديقي الذي أحببته جدا
 و كان معي في جميع المخاطر
القدر المشؤوم أخذه منّي
ستّة أيام بكيته و سبع ليال
لم أوارِ جسده الثرى
حتى تساقطت اليرقات من أنفه
حينما شعرت بالفزع من أن أموت مثله
صرت أخاف من الموت ، فجبت البرية
ماحصل لصديقي شيء عظيم يصعب تحمّله
لذا أنا في القفار البعيدة أجوب البريّة
ما حصل لصديقي انكيدو شيء يصعب تحمّله
لذلك انا في الطرق البعيدة أجوب البرية
كيف لي أن أبقى صامتا ؟ كيف لي أن أبقى هادئا ؟
صديقي الذي أحببته استحال الى تراب
صديقي إنكيدو ، الذي أحببته ، صار ترابا
 هل لي ألا أكون مثله ؟ و أصرع أيضا
فلا أستطيع النهوض الى الأبد )
قال جلجامش لأوتانابشتي
أنا اعتقدت أني سأجد أوتانابشتي البعيد
الذي أخبرني الرجال عنه
وانا جبت في ترحال جميع الأرض
لمرات كثيرة أنا مررت بالجبال المريعة
مرات كثير انا عبرت وعبرت البحار
لم ير النوم وجهي الا قليلا
لقد اجهدن نفسي بالا تنام
لقد ملئت بالحزن
و ما الذي جنيته من تعبي ؟
لم أكد أبلغ  سيدة الخان ، حتى بليت ثيابي
لقد قتلت  الدبّ و الضبع  و الأسد و النمر و الفهد
و الظبي و الوعل و و قطعان الربة
لقد أكلت لحومها  و سلخت جلودها
الأن دع باب الألم تغلق
دع بابه يختم بالقطران و القار
لأجل مقصدي ستوقف الرقص
لأجلي  ، سعيد و مرتاح البال
قال أوتانابشتي له ،  لجلجامش
لماذا يا جلجامش أنت دوما تقصد الألم ؟
أنت يا من جسدك من لحم الآلهة و الانسان
و الآلهة بصورة أبيك و أمك
يا جلجامش هل نظرت يوما الى ما لديك ونظرت الى ما لدى المسكين
انهم ينصبون لك الأريكة  في المحافل و يقولون لك تفضل بالجلوس
المسكين يتحصل على الخمير بدل الزبدة
وعلى النخالة و الحنظة يدل الدقيق الجيد
انه يرتدي الخرق بدل الكساء الناعم
بدل النطاق يتحزم بحبل قديم
و لأنه بلا ناصح يقوده
اموره بلا مرشد
هل فكرت به يا جلجامش
من هو الراعي ...
....
القمر و الآلة في الليل ....
في الليل القمر يتنقل ..
الآلهة تبقى مستيقظة..
مستيقظة لا تنام...
منذ الازمان البعيدة ...
الان اهتمّ ...
بما يعينك ...
يا جلجامش ، ان لم يكن لمعبد الآلهة من يصونه
معبد الآلهة ....
انهم ....، الالهة
....صنعوا ...
هدية ..
سوف يطرحون ...
*
إنكدوا ، قد أخذوه الى قدره
لكن أنت ، أنت تجهد نفسك ، ماذا جنيت ؟
أنت ترهق نفسك باجهاد متواصل
أنت تملأ جسدك بالألم
تعجّل نهاية أيامك
الانسان يتهرأ كما الخيزران في الأجمة
الشاب الوسيم و الفتاة الحسناء
كلهم  سيخطفهم الموت
لا أحد أبدا يرى شكل الموت
لا أحد أبدا يرى وجه الموت
لا أحد أبدا يسمع صوت الموت
الموت قاس ، الذي يصرع الانسان
لا يدوم ما نبني من أسرة
لايدوم ما نبني من بيوت
لا يدوم الاخوة الذين يتقاسمون ارثهم
لا تدوم الضغائن على وجه  الأرض
ولا يدوم علو النهر وما يجلب من فيضان
النوّار تعوم على الماء
فلا تكاد تبصر وجه الشمس
ثم - فجأة - يفنى كل شيء .
المختطف و الميت ، كم هو متشابه مصيرهما
لكنه لن يكون مقدّرا  كالموت
و لا يقابل ميّت انسان بالتحية على الأرض
الأنونكي ، الآلهى العزيمة عقدت اجتماعا
الماميتّم ، من يضع الأقدار صنعت المصائر معهم
كل من الموت الحياة حق
لكن يوم الموت مستور

&&&&&&&&&&&&&&
انتهى اللوح العاشر و يأتي اللوح الحادي عشر


خبايا روح..............!

الجمعة، 24 أبريل 2015

غالب المسعودي - ألأفاعي لا تبتسم (قصة سُريالية)

الكتب الأولى... وغيرها!-عادل كامل




الكتب الأولى... وغيرها!
عادل كامل


هناك عدد من الناس، وبعد سنوات من انتهاء دراستهم، يحتفظون بكتبهم المدرسية: القراءة/ أو الجغرافية/ أو الحساب..الخ وهم يشعرون ـ عند تذكرها ـ بلذّة استعادة تلك السنوات: السنة الأولى في المدرسة.. واستذكار عدد من المعلمين.. وبعض المشاهد المرافقة لها: البرد أو الطريق الترابي أو عاصفة ترابية..
تلك الكتب، بعد سنوات طويلة، تجعل الماضي أكثر قرباً، بل وكأنه حدث: قبل برهة! وليس قبل سنوات. فهي لا تحافظ على نظام المدرسة ـ والأسرة التعليمية فحسب، بل على التفاصيل التي رافقتها: المكان والزمان مع عدد من الصور والرموز والعلامات.. وهو الذي يجعل هؤلاء الناس يتذكرون أسماء مدارسهم في المراحل الأولى، أكثر من تذكرهم للمراحل اللاحقة..
فكم ـ هو ـ عدد هؤلاء الناس...؟ وأية كتب مكثت معهم .. وأي معلم رسخ في الذاكرة أكثر من سواه...أسئلة جديرة بلفت النظر لدراسات يقوم بها علماء في الحقل المعرفي.
لكن الذي لفت نظري.. وأنا أتذكر أقدم الكتب التي اقتنيتها، وأقدم الرسومات، ودفاتر الإنشاء.. وغير ذلك، أني شاهدت ـ وبعيدا ً التعميم ـ أن هناك عددا ً من الناس ـ بعد الانتهاء من الدراسة، في مراحله المتأخرة ـ من قام بالتخلي لا عن كتب الماضي، بل عن كتب الحاضر: وتخلص منها أو تركها للريح..؟
فلم يعد [ الكتاب] ضرورة ! ولم يعد الكتاب مصدرا ً من مصادر المعلومات أو المعرفة أو تجديدها.. في عالم لا مكان فيه لغير المتعلمين...!!
إنها مفارقة لا تكمن بين من يتذكر، ويواصل تطوير معرفته وثقافته .. وبين من يهمل، ويتخلى، وينقطع عن  ماضيه فحسب، بل عن حاضره.. وعن العلاقة مع زمن ينمو، بحلقاته، ويصعب تفكيكه الى أجزاء متناثرة. . أو التخلي عن بعض حلقات هذا الزمن: زمن حب المعرفة، وما رافقها من أوراق وكتب وذكريات لا تجعل الحياة محض استهلاك وأرباح وزوالات!

الأبواب- ليث الصندوق


الأبواب

  ليث الصندوق
                             
من زمن بعيد
أنتم تخرُجُونَ وتدخلون من أبوابي
لم أطالبْكم يوماً بجوازاتِ سفر
ولم أنقِع رؤوسَكم بمحلول الشب
كنتُ أعذرُكُم
فليست لكم أبواب
لو كنتُ قد أغلقتُ أبوابي بوجوهكم
لاتّخذتم من المُجمّدة غرفةً ًللنوم
حسناً .. لقد عزمتُ أخيراً على الرحيل
سآخذ معي أبوابي
لا يمكنني أنْ أستأمنكم عليها وأرحل
لأنكم حين تختلون إلى المِنشار
تنجرونَ عظامَ أمهاتِكم
وتصنعونَ منها ناياتٍ وغلايين

    *  *  *

لقد أصبحتْ أعمارُكم أعياداً
منذ ان اتخذتم أبوابي أراجيح
لذلك حين تخرجون وتدخلون منها
لا تلتفتون إلى من يفتحُها لكم
كنتم تبتسمون لأبوابي
وتعبسون بوجهي
كأني أقتطع سراويلكم بسكين ،
وأوزّعها كالأرغفة على المواعين

    *  *  *
   
سأرحلُ إذن
سآخذ أبوابي معي وأرحل
وأتركُكُم تبحثونَ عمّّّن تطرقون أبوابه
لتخرُجَ منها أحشاؤهُ لاستقبالِكم  
أنتم لستم بحاجةٍ لأنْ تُستقبلوا بالأحشاءِ
أو بالطبول
جلَّ ما تحتاجونَهُ
ان يَفتحَ لكم من تطرقون أبوابَه
لتَتحرّروا عبرَها من أكياس النايلون


     *  *  *

عندما آخذُ معي أبوابي وأغادرُكُم
ستعرفونَ أني كنتُ منفذ َالضوءِ الوحيدَ
في جدران قبوركم
ستعرفون أني كنتُ عيونكم
عندما آخذ أبوابي وأغادركم
ستعرفون ساعتها فقط بأنكم عميان

laithsandok@yahoo.com


عذرا فؤاد التكرلي ......- لمياء الالوسي


عذرا فؤاد التكرلي ......

  لمياء الالوسي

كنا مجموعة من الموظفين  جمعهم إضافة إلى وحدة المكان ذلك الشغف المجنون بالقراءة .. وحب الكتاب .. وخاصة الروايات والقصص القصيرة .. عراقية .. عربية اواجنبية  .. وشغفنا هذا يجعلنا نبحث في القديم والجديد .. في المكتبات العامة أو الخاصة.. وكانت فترة خصبة من حياتنا جميعا .. كنا قريبين فيها من الأدب والأدباء سعيدين.. وأصبحت الكلمة عالمنا الجميل الذي نفخر به .. في تلك الأيام  وجدت رواية الأستاذ فؤاد التكرلي ( الرجع البعيد ) فكانت زادي وزوادي لأيام بعدها رشحتها لتقرأ من قبل المجموعة لكن .. كان الزميل من مصر هو الثاني في قراءتها بعدي .. وكان به شوق كبير لقراءة مؤلفات الأستاذ فؤاد التكرلي حيث كنا  قد قرءنا  المجموعة القصصية (عينان خضراوان ) ومتعتنا كثيرا  لكن وبعد صفحة واحدة أغلق الكتاب ونزع نظارته بأسى  وقال لنا
-         لن أتمكن من إكمال الكتاب .
تعجبنا جميعا ونحن نعرف مدى ولعه بالقراءة فقال
-         لم افهم كلمة واحدة من اللهجة .. العمل متعب جدا .. أن تتكلم اللهجة العراقية صعب لكنه أسهل من القراءة
زميلتنا الثالثة أخذت الكتاب بحذر لأنها تركمانية  ورغم أن دراستها وحياتها عاشتها في مجتمع لايتحدث إلا  اللغة العربية واللهجة العراقية الصميمة  الاانها عجزت هي الأخرى عن إكمال صفحتين أو ثلاثة من الكتاب .
وبالتالي وبالرغم من عشقنا للأستاذ فؤاد التكرلي  وأدبه وان هذه الرواية من روائع الأدب العربي  إلا إن المجموعة لم تقرأ الكتاب  لأنها لم تتمكن من فهم اللهجة العراقية ..
وتذكرت في ذلك الوقت .. إن هناك أكثر من 20 صفحة مكتوبة بأحرف عربية ..ولكن بلغة لم أتمكن من فهمها  كنت أتصور أنها في اللغة الكردية أو التركمانية وبعد السؤال عن ماهية هذه  اللغة .. عرفت إنها لغة الأكراد الفولية
والى حد الآن لااعرف لما كتبت هذه الصفحات بهذه اللغة؟؟..

  تذكرت ذلك كله في إحدى أمسيات  اتحاد أدباء العراق حيث  استضاف الأستاذ موسى كريدي  ( رحمه الله) الأستاذ  فؤاد التكرلي للحديث عن استخدامات اللهجة العامية في رواية الرجع البعيد  .. وكنا قد منينا النفس برؤية أستاذنا الكبير والاستماع إليه .. والتعرف على تجربته الثرية في الأدب والكتابة .. وكنا مأخوذين برؤيته .. وقد ضجت القاعة بالتصفيق لوجوده .. وبعد المقدمة الطويلة  التي ألقاها الأستاذ موسى كريدي والتي أشعرتنا بالقلق  .. إذ ربما ينتهي وقت الأمسية ولا نستمع إلى  الأستاذ فؤاد التكرلي .. فاجئنا الأستاذ الكبير بالقول :
لقد جئت لكي أسمعكم .. واسمع آرأكم حول جدوى استخدام اللهجة في القصة والرواية العراقية
 فاسقط بأيدينا .. وشعرنا بالإحباط .. ونحن نرى عملاقنا الذي عجزنا عن قراءة مؤلفه .. يجلس صامتا، مطرقا ، خجولا،  شفافا
 ويترك العنان لتدفق الأستاذ موسى كريدي .. وعواطفه الجياشة .. ودفاعه المستميت عن أسلوب الأستاذ  فؤاد التكرلي   ويشبه استخدامه لللهجة  العراقية   باستخدام الكثير من الأدباء المصريين اللهجة المصرية  في الكثير من انتاجاتهم  الأدبية دون أن يؤثر ذلك  على المتلقي .. أو يقف عائقا لانتشار العمل الأدبي .. مثل  يوسف السباعي  ..  وإحسان عبد القدوس .. ونجيب محفوظ .. وغيرهم  وهو يعرف (رحمه الله )أن اللهجة المصرية وصلت إلى كل الأقطار العربية قبل أن تصل الروايات  .. وذلك عن طريق الأغاني .. والأفلام السينمائية ..  والمسلسلات وبالتالي أصبحت معروفة ومفهومة  لدى الصغير والكبير  أما الأستاذ نجيب محفوظ فانه لا يكتب اللهجة إلا بشكل يخدم النص   ويكتبها اقرب ماتكون على الفصحى .
ثم عرج إلى فكرة أن رواية   الرجع البعيد ترجمت إلى أكثر من لغة أجنبية وحققت انتشارا واسعا في تلك البلدان  ..و لم يفقدها رونقها .
علما أن  ترجمة الرواية والنتاجات الأدبية للأستاذ فؤاد التكرلي  ستكون من لغة إلى لغة أخرى بدون التأكيد على اللهجة  وبالتالي لن يكون الفارق واضحا . بين اللهجة واللغة العربية الفصحى
استمر الحوار طويلا بين الحاضرين والأستاذ موسى كريدي .. وكأن الجميع كان يجامل .. ويؤنق كلامه  لكي يرضي أستاذنا الكبير .. أو هكذا أحسسنا
كنت ابحث في وجه الأستاذ فؤاد التكرلي عن اجابة .. لكنه بقي مطرقا ينظر إلى المتحاورين بخجل أربكني دون أن يقول كلمة..
تلفت كان حولنا أساتذة الأدب  في العراق .. الأستاذ عبد الستار ناصر و الأستاذ عبد الخالق ألركابي والمرحوم الأستاذ محمد شمسي .. وغيرهم كثيرون  من أدباء العراق  ..   والمهتمين بالأدب  .. فمن أكون  وسط هذه الهالة من الضوء .. ولم أكن إلا مبتدئة في الأدب .. تحمل خجلها القروي الشرقي  على كتفيها .. مما يجعلها مطرقة أبدا لا ترفع عينيها  في وجه أساتذتها .
تذكرت أستاذي العزيز فؤاد التكرلي  
اليوم وبعد هذه السنين .. ونحن نرى .. الاستخدامات الكثيرة للهجات في الآداب عموما  قصة أو رواية  ..  شعرا أو نثرا .. وحتى في المقالات الأدبية..


قصة قصيرة- نهار مزدحم بالضوضاء أو [هكذا قال القرد للحمار]-عادل كامل



قصة قصيرة

نهار مزدحم بالضوضاء
أو
[هكذا قال القرد للحمار]




عادل كامل
ـ كلما أفكر في الأمر، أجد إنني ذهبت بعيدا ً في المتاهة، وفي الظلمات...، فأسأل نفسي: إذا كنت لا امتلك الإجابة، فلماذا هذا الانشغال...، ولماذا هذه الضوضاء، والنهارات أبدا ً لن تسمح لك بالتراجع، أو الارتداد، أو حتى أن تغلق فمك، فتريحهم، وتستريح....؟
فقالت الأم لولدها المشاكس:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: إن العبقرية لا تتمثل بالعثور على إجابات...، بل إنها تعلمك أن تجد الأسئلة التي تدرك استحالة الإجابة عليها....!
ـ غريب؟
ـ ما الغريب...؟
   لم يسألها، فقالت الأم، التي انتخبت مؤخرا ً مديرة لجناح القرود، له:
ـ فإذا كان من الصعب أن تولد إلا شبيها ً بأسلافك، فليس ذلك لأنني لم استطع أن الدك نوعا ً آخر...، بل ماذا سيحدث لو ولدتك غزالا ً..، أو حملا ً ...، أو نعامة...؟
    لن اهرب ...، فالحدائق، مهما اختلفت، تبقى قائمة على الأسس ذاتها. دار بخلده، وهو يبتعد عنها، بانتظار العثور على آخر، آت ٍ من الأجنحة أو الزرائب الأخرى، لمحاورته، وقضاء ما تبقى من ساعات النهار. فقالت الأم له قبل أن يغيب:
ـ اسمع: لقد ولدنا في هذه الأقفاص، وهذه حقيقة لا تقبل الجدل، أو الشك..، وولدنا ونحن لا نمتلك أن نكون نوعا ً آخر...، فلا تتعب رأسك، ولا تحول حياتك إلى جحيم!
ـ اعرف...، فإذا كان وجودي هذا أصبح حقيقة، فموتي هو الآخر  حقيقة، وهو ما يجعل حقيقة وجودنا مسافة لا تذهب ابعد من هذه الحقيقة...، أليس كذلك؟
ـ أنا اقدر عذابك، وما يؤلمك...، فنحن في طريقنا إلى الانقراض...، لأن انقراضنا غدا وحده لا يقبل الدحض، وربما لا يقبل التأجيل...!
     نظر القرد إلى جناح الطيور، ثم أرسل نظراته إلى الجناح الأبعد...، جناح الحمير، والأبقار، والنمور، والخنازير، ودار بباله:
ـ ما دمنا لا نستطيع ان نصبح إلا ما نحن عليه...، لا نرتد ولا نتقدم، فكأن هذه المسافة بين ولدتنا وموتنا لا تسمح لنا إلا بالحفاظ عليها!
ـ وما ـ هي ـ مسؤوليتي، أيها الابن المشاكس، وهل باستطاعتنا أن نفعل شيئا ً...؟
   رد عليها، وتركها منشغلة بمداعبة ولدها الآخر، وقال لنفسه: كي تبقى المسافة هي المسافة بين مجهولين!
    مستعيدا ً ذكرى الغابة التي ولد فيها أسلافه: قبل زمن بعيد...، كانت هناك غابة كبيرة...، مترامية الأطراف...، ثم تم احتلالها، من قبل الأشرار، فمات من مات، وهرب من هرب، واسر من وقع في الأسر....، ومضى زمننا، مع زمن الغابات، ليحل زمن الحدائق!
     قبل أن يقفز بعيدا ً عنها، شاهدها منشغلة بالصغير، فأهملها، بانتظار زميل يمضي الوقت معه.
ـ وها هم الأشرار...، بدل أن يعيدون لنا غاباتنا، وبدل أن يدعونا نعود لها، صنعوا لنا الأقفاص، ووزعونا عليها....، وقالوا لنا: تمتعوا، وتكاثروا، ولتغمر حياتكم المسرات!
   اقترب حمار كان في طريقه إلى بركة الماء:
ـ ها لو ...
   لم يجبه، فنهق الحمار غاضبا ً:
ـ اعرف ما دار ـ ويدور ـ في رأسك...، فلِم َ الحزن، والأسى، الم ْ يقل زعيمنا: لا تغيب الشمس إلا لتشرق...، وما طار فيل إلا وهبط، والأسماك إن غادرت الماء فكأنها تهلك!   الم ْ يقل زعيمنا الخالد إن من يفقد الأمل كمن ارتكب إثما ً لا غفران له! ومن خرج على الدرب تاه، ومن تاه تتلقفه المخالب!
   قال القرد:
ـ ولا تشرق الشمس إلا لتغيب!
ـ صفق.
ـ صفقنا...، هتفنا، عرسنا، لهونا، مجدنّا، وأنشدّنا ألف ألف نشيد....، وهل كان باستطاعتنا أن نفعل غير ذلك...؟
    رد القرد بعد لحظة صمت:
ـ إلا هؤلاء الأشرار...، الأنذال...، فاقدي الضمير، والعقل، والرحمة!
     هز الآخر رأسه وتمتم بشرود:
ـ لا تظن إنهم اقل شقاء ً منا، أو إنهم عرفوا ....، هذا الذي نبحث عنه!
ـ أتدافع عن حفنة أوغاد، حولوا عالمنا إلى أقفاص، وزرائب، وجحور، وحفر، وسراديب، ومغارات، ومجاري...؟
   صمت طويلا ً، ثم أجاب بتردد:
ـ نعم!
    أعاد الحمار قراءة أفكار القرد، فضحك من غير غطرسة:
ـ ونحن لا نختلف عنكم، ولا عن الآخرين: فالكائن يصير نذلا ً استجابة لعمل جيناته! انه لا يولد ورقة بيضاء! فالظلمات هي الأصل!
فرد القرد:
ـ لا...، فانا لم أولد نذلا ً رغم إن جرثومة النذالة قابعة في ّ، بل ولدت قردا ً، ولا أريد ان أموت إلا كما ولدت...، فما هي المشكلة، ولماذا هذا الإصرار...؟
ـ هذه هي سنن الحياة! فهذه البركة، أو هذا المستنقع....، على سبيل المثال، سيبقى كما هو عليه ما ان تحصل تغييرات عليه....، ولكن هل أصغينا إلى .. ضمائرنا؟
ضحك القرد:
ـ قبل قليل سألت السيدة مديرة الجناح، وهي السيدة والدتي، الأم الكبرى كما ندعوها،: هل ولدنا قردة للسكن في هذه الأقفاص، أم ان الأقفاص وجدت كي نسكنها ونصير قردة...؟
ـ آ .....، سؤال مثير رغم سذاجته، وكأنك تسأل: هل الأوغاد الأشرار صنعوا سجونهم، أم السجون هي التي صنعتهم...؟
ـ دعك من هؤلاء الذين اخترعوا الفضائل، للتستر على اشد الحماقات فتكا ً، وخسة، لأنهم هم أساس البلاء! بل واصل الشر!
ـ ليسوا هم ...، ولا نحن...، ولا هذا الذي اسمه جرثومة الحياة ...، ولا العوامل التي كونت ملغزاتها ...، فالكل يأتي للوجود مرغما ً في الحضور...، من غير إرادة حتى بنسبة واحد إلى اللا عدد، وهي نسبة مشوشة للرأس! لأنها تخترع منطقها، بمعنى إنني ادحض الشر المطلق! مثلما قلت باستحالة وجود الفضائل البيضاء! إذا ً فالكل يذهب بالقانون ذاته الذي أخفى مقدماته! وهكذا تدور الدورة وكأنها لم تدر، مع إنها اشتغلت وأكملت كل ما سيبقى على قيد الحركة!
ـ آووووه ...، أنت تفكر! وهذه  بحد ذاتها علامة دنو الساعة!
ـ وأنا أفكر أيضا ً! حتى لو كنت أفكر في التطهر من التفكير! ثم لتأت هذا الساعة!
  تململ، وبعد صمت، قال:
ـ أنا أفكر بضرورة الدعوة لعقد مؤتمر عام نناقش فيه هذه المعضلة ...؟
ـ آ ...، ولكن ما الذي حدث لك...، كي تشغلك هذه الانشغالات ....، من غير حذر، وخوف؟
   سرد القرد:
ـ  بالأمس، قبيل النوم، طلبت من الإله الأعظم، ان لا يدعني استيقظ!
ـ غريب....، لكنها دعوة مردودة، ومخالفة للشرائع، وللذوق السليم!
ـ أرجوك، أيها الحمار، دعني أكمل...، أليست آداب الحوار تشترط الإصغاء حتى انتهي من عرض وجهة نظري كاملة...؟
ـ تفضل...، ارو لي تفاصيل الحلم، مع إنني رأيتها أنا أيضا ً، ليلة أمس! فالحلم ذاته حلمت به!
ـ غريب؟
ـ ما الغريب...؟
ـ يبدو انك تعرضت للمأزق ذاته الذي تعرضت له ...؟
ـ في الحلم؟
ـ وهل باستطاعتك ان تميز...، إن كنا ننتقل من حديقتنا إلى أحلامنا، أم من أحلامنا إلى هذه الحديقة؟
ـ  أأروي أنا...، أم ادعك تروي حلمك أولا ً...؟
     تأمل القرد البركة، منشغلا ًبرؤية سطح الماء الأزرق الداكن كلون السماء تماما ً، وقال:
ـ وأنا اقفز بين الأغصان، ألهو، امرح، فجأة هجمت على مجموعة من النمور، الأسود، التماسيح، الضباع، وسواها من كائنات هذه الحديقة، واقتربت مني من الجهات كلها، دون ان أنسى النسور والصقور والغربان، وكان هناك أفراس النهر تحلق بأجنحة معدنية أيضا ً!
ـ وأنت تلهو، وتلعب، وكأنك كنت ذاهبا ً إلى السيرك، أو في نزه...؟
ـ تماما ً! فقد كانت لتلك المخلوقات أجنحة، ومخالب آلية، وأنياب امتدت خارج أفواهها، وأذناب فولاذية تعمل بالحواسيب الفائقة الذكاء!
ـ فهمت!
ـ فدار بخلدي: انتهى عصر القرود، وأصبحنا من الماضي، إلى جوار أسلافنا الديناصورات...، فبموتي سننقرض، لأنني كنت آخر قرد في الحديقة! فحاولت ان افهم ما يجري...، قال كبير المهاجمين وهو من مخلوقات ما بعد الأساطير: آن لنا ان نصنع منك وليمة...، فسألته: ماذا فعلت؟ أجاب الثور البري المتوحش المتعدد القرون، والأجنحة: لسنا بحاجة لمعرفة ماذا فعلت، وماذا ستفعل. فقلت: أنا لم ارتكب ذنبا ً بإرادتي، لأنني في الأصل لم اختر وجودي...! فضحك الكوسج: ملعون...،  تعرف كيف تتنصل من دورك في المؤامرة! فكدت افقد الوعي، أو ما تبقى منه، فأجبت: وضد من أتآمر؟ قال النمر الأسود مكشرا ً عن أنياب بلورية حادة النهايات: ضد الأشجار...، وضد الهواء، كما انك تصدر أصواتا ً طالما أربكت أحلام العصافير في نومها، وزعزعت مرور الغيوم. فصرخت: اقسم لكم إنني سأغلق فمي، وسأغلقه إلى الأبد! فقال الفيل الأبيض: هذه هي المشكلة! سألته في الحال: وهل هناك مشكلة سيدي؟ أجاب وحيد القرن: ما الفائدة من هذا التمويه مادامت السماء لن تسمعك حتى لو مكثت تصرخ ليل نهار، ومادامت الأرض تتسلى بصراخك أيضا ً! اقتربت منه وسألته: كيف عرفت، سيدي؟ أجاب: اتبعني. فقلت له: أنا لا انتمي إلى فصيلكم الجميل، فليس في رأسي قرن، وليس لي ذنب حلزوني! لكن ابن أوى الماكر قال: تفعل. ففعلت. فسألتهم: أتخلون سبيلي؟ قالت الزرافة بصوت ناعم: يا ولد، إننا نمزح معك! لكني وجد قرنا ً نبت في رأسي. فقلت: ماذا افعل بهذا القرن، اهو هديتكم لي؟  قالت النعامة: لتصد هجمات العدو! فرحت ابكي وأتضرع للصقر الذي امسك برأسي: أنا لا أعداء لي ....! لكن كبيرة النمل، بجسدها الخرافي، راحت تنهش بلحم جسدي الطري، وتمزقه. فقلت للحصان: لا تضحك، أنا أموت، وأنت تسخر. فقهقه البعير حتى سقط أرضا ً. فقلت له: حتى أنت يا جمل؟ لم يجب الحصان، ولا البعير، ولا كل من كان يواصل الضحك. فاقترب مني الدب الأزرق وقال: يا حمار هذا ليس فرسا ً ولا جملا ً ...
   اعترض الحمار:
ـ حتى في أحلامك تشتمني، وتنشع بي....؟
ـ اسكت...، تريث، حتى تأتيك الخاتمة.
ـ أكمل، فالشر يتطاير منك ...!
ـ فقلت له:: قبل ان نصبح قردة كان أسلافي يعيشون في هذا المستنقع...، ولم نكن حميرا ً...، فلماذا لا تميز بين القرد والحمار، أو بين الحمار والقرد..؟  ضحكت الجماهير حتى لم تعد غاضبة علي ّ، فسألت نفسي: ربما ارتكبت هفوة لسان، زلة، أو أبدعت بدعة، أو أفريت فرية، أو إنني لامست حافة من حافات المحرمات، أو بحت بسر  ما من أسرار حديقتنا الخالدة؟ عوى الذئب في وجهي: لا تكترث ...، فأنت الآن لم تعد قردا ً، ولا حمارا ً...، لهذا سنعاقبك كما سنعاقب هذا القرن الوحيد...، فقلت أتضرع للسيد الآخر: سيدي وحيد القرن ...، أنا أصبحت وحيدا ً! فضحكوا بأصوات اعلي، خلخلت فجوات الفضاء، وأربكت نظام الفراغات، والامتلاء...، فخفت ان يتهدم الكون فوق رؤوسنا! فقلت مع نفسي: أكمل أكمل ولا تدع الحلم يسبقك!
اعترض الحمار:
ـ لا ...، الحلم لم يدعك تستيقظ...، فالحلم لم ُيكمل دورته بعد!
     هز القرد رأسه:
ـ  فرحت ألهو، العب، أراقص الديناصورات...، وأنا اغني، واثب، وأتمايل، شارد الذهن، مذهولا ً فرحا ً ....، حتى وجدت جسدي برمته داخل فم بعوضة. فصرخت في ّ: أمسكت بك. وبدأت تقضمني. فقلت لها: بهدوء، أسرعي بهدوء! متابعا ً: أسرعي بهدوء! لأنني لم اعد أميز الفارق بينهما، فانا لا أريد ان استيقظ! لأنني لا أريد ان أعود إلى قفصي،  ولا إلى أمي ولا إلى حديقتنا الأبدية! فقال: آن لك أن تكون من ممتلكاتي، ومن كنوزي، أثرا ً نادرا ً اظمه إلى ثرواتي! وأضافت: فلا تحزن أيها العجل! بكيت: أنا قرد، سيدتي البعوضة أنا قرد! قال النمر: كيف تبرهن انك قرد؟ فسألته: سيدي، وكيف تبرهن انك لست خنزيرا ً بريا ً؟  ساد الصمت، وامتد، فقد تحول الجميع إلى تماثيل...، وكأنها رصت عند بوابة حديقتنا. ثم رأيت الشمس تشرق، والغيوم تزحف، فسألت نفسي، أو ما تبقى منها: أ آن لي أن استيقظ...؟ لا اعرف من صرخ في ّ: وهل تستطيع ان تستيقظ بعد هذا اليوم؟
    قال الحمار مذعورا ً:
ـ أنا لم أتحول إلى صنم...، ولا إلى تمثال، ولا إلى حجر، ولا إلى دمية! بل سمحوا لي بالعودة إلى الإسطبل، بجوار جناح النعاج.
ـ وأين كنت؟
ـ في رحم أسلافي!
ـ يا حمار...، هناك رأيتك، وأنت هو من سألني: لِم َ لا تعترض؟ فقلت لك: وهل سأختار ان أكون سمكة، أو عقربا ً، أم أولد شاة أو اختار فصيل الإنس...، فالمحرقة هي المحرقة وقد أعدت لنا قبل ان نولد ومن المستحيل تخيل إنها ستزول حتى بعد زوالنا، فالنار وحدها أبدية! وما هذا الحطب إلا هو الطيف يمر كما تمر الأحلام في رأس ميت مات قبل ان يدركه الموت!
ـ عن أية محرقة تتكلم...، وكلانا جاء في هذا الصباح ليرتوي قليلا ًمن ماء هذا المستنقع الشفاف؟
ـ انظر ....، إنها الضفادع، والحيتان، والتماسيح، وما لا يحصى من الجرذان، والبرمائيات العجيبة......، بانتظارنا!
ـ إذا ً...، دعنا نهرب، ونلوذ بالفرار، فالهزيمة، في هذا الموقف، هي أعلى درجات البطولة، والمجد!
ـ وهناك الأقفاص إن نجونا منها، فهناك الجدران فان فلتنا منها، فهناك الأسوار، وهناك الحيطان العالية، وهناك الحرس، وهناك الأسلاك المكهربة، والكاميرات، والأقمار، والذبذبات، وهناك، تلك العقول الآلية التي تعرف ما يدور في فينا حتى قبل ان نولد....، فأين نفر، وأين نهرب، وأنت تحدثني عن النجاة؟
ـ إذا ً...، لم يعد لدينا إلا ان نرجع إلى أجنحتنا!
    صاح كبير البرغوث:
ـ ماذا تفعلان ... هنا؟
    رد القرد:
ـ جئنا نقدم النذور للسيد أميركم..!
     هز البرغوث رأسه، وقال للحمار:
ـ وأنت؟
ـ مثله، فانا وهو ننحدر من أصل واحد! فكلانا خرج من الجرثومة نفسها!
ـ هو قرد...، فهل تود ان تصبح قردا ً...؟
ـ وهل تستطيع ان تحولني إلى طير؟
ـ ملعون .....، كي تهرب...، لكن إلى أين؟
     همس القرد في اذن الحمار:
ـ الآن عرفت لماذا خسرنا الحرب؟
ـ أية حرب، وهل حاربنا كي نخسر الحرب؟
ـ اقصد لماذا من المستحيل ان نحارب!
ـ دعك من اليأس...، وفقدان الأمل...، دعك من الخيبات، والخذلان، والهزائم...، فالرجاء هو ان تمتلك الرجاء حتى لو كان بلا وجود ...! وهذه هي العبقرية، كما قال جدي لنا قبل ان يدوّن وصيته، ويرحل إلى قاع المستنقع، ويفلت من العقاب: ان تجد الحل قبل وجود المعضلة!
رد القرد:
ـ أنا الآن سأعود إلى جناحي!
ـ ها...، يا حمار.
ـ أنا قرد!
ـ وخالق هذا المستنقع لم اعد أميز الفارق ولا الاختلاف بين الحشرات وبين الزواحف....، ولا بين الظلمات ولا بين الأنوار، فالليل نهار مقلوب، والنهار تمويه للظلمات، فهل لدي ّ قدرة ان اعرف هل أقفاصنا هي التي أعدت لنا، أم إننا صنعناها هدية نقدمها لأحفادنا الأعزاء...؟
ـ آ ....، دخلنا في النفق المفتوح...؟
ـ أغلقه!
ـ هنا، صديقي، تكمن المعضلة، فكلما أفكر في التحرر والحرية والخلاص أجد المحرمات تتكدس فوق رأسي، حتى قلت: تبا ً للحرية إذا كانت لا تورثنا إلا  الخوف والذل والفزع والخسران والمرض ثم الموت. لكن سرعان ما أجد ان الظلمات لا تتركنا بقبضتها، فتقذفنا بالحريات...وبهذا القليل من عطر المستنقعات!
ـ تقصد ترجعنا إلى حديقتنا الغنّاء؟  لكن اخبرني: ماذا كنا سنعمل لو كنا ولدنا في البرية، أو في الغابات، أو في الوديان ...؟
ـ يفترس الأقوى الأقل قوة، والأشرس يمزق لحم الأقل شراسة، ويتربص الضعيف بالأكثر ضعفا ً....، ولا ينجوا منها...، في الأخير، إلا من هو ليس بالضعيف درجة المحو، ولا القوي درجة القهر! فالموت اعدل العادلين!
ـ آ ....، عرفتك، أيها الحمار...، أنت هو الموت إذا ً...؟
ـ أنا أيضا ً كنت أظن انك هو الموت....، وإلا كيف اجتزت الزمن الذي لا بوابات له...، وإلا كيف بلغت مشارف الزمن الذي لا حافات له...، ومع ذلك، أنت ولدت حمارا ً، وأنا أمي لم تنجبني إلا قردا ً؟
    قال الحمار:
ـ يا شريكي في المحنة، لو تأملت الموت، لوجدته هو وحده أكثر الخاسرين....، فهو وحده لا يعرف ماذا يفعل....، لأنه بلا إرادة، يأخذ أرواحنا ثم يواصل متابعة اخذ أرواح الآخرين...، فلا احد يفلت منه، فهو يكد ويشقى كي لا يربح إلا هزائمه، فهو الخاسر الوحيد في نهاية المطاف!
ـ اسكت...، فانا وأنت بين يديه، وربما تحت قبضته؟
ـ أتحداه ان يفعل شيئا ً من غير أمر! فهو لا يقدرـ كالشيطان ـ أن يكون حرا ً، أو يتصرف تصرف الأحرار!
ـ اسكت، أرجوك، اسكت ...، يا شريكي في المحنة، فهو لا يستطيع ان يمحونا من الوجود، مع انه أباد المليارات المليارات المليارات المليارات إلى ما لانهاية من المليارات من النمل والشجر والخراف والبشر والنمور والقرود والبغال والصراصير والزعماء والجنود والقوادين والقوادات والحشرات والزواحف وغيرهم كثير....، إلا انه لم يستطع ان يمحو نفسه وينجو!
ـ ربما يكون ارتكب ذنبا ً...، ولهذا فهو يقضي فترة عقوبته...؛ يقتلنا، ثم يعيد قتلنا، فهو غير قادر إلا على قطف أرواحنا وإذلال أجسادنا وإنزال شتى الدناءات فينا، فهو يستحق الشفقة، بل ربما لا يستحق إلا الرحمة أيضا ً!
ـ للمرة الأخيرة أقول لك: أغلق فمك! بدل أن أقول: اخرس! فلقد اجتزنا قوانين حديقتنا الغناء وأعرافها!
ـ صحيح...، آسف، فلولا هذه الأقفاص الفولاذية، ولولا هذه الجدران، وهذه الأسوار....، ولولا هؤلاء الحرس والمشرفين على صحتنا، وغذائنا، ورفاهيتنا، ماذا كنا فعلنا..؟
ـ لا شيء...، لكنا مثل أسلافنا وأجدادنا وآباؤنا الذين أهدروا، وأضاعوا أزمنتهم في المتاهات، واللغط، والصخب، ومن ثم أصبحوا من الماضي، بلا ذكر وبلا اثر...، فهل يتحتم أن يكون مستقبلنا نسيا ً منسيا ً..؟
ـ آ ...، إذا ً، حتى الموت، في نهاية المطاف، يفقد شفافيته، ومعناه، بل وحضوره!
ـ نعم، عندما نغيب، يغيب معنا، وعندما نولد...، نراه يتربص بنا مسرورا ً حد النشوة، والبذخ!
ـ ملعون ....، لقد اختار مهنة نذلة!
ـ كباقي المهن...، فهو لم يخترها، مثلما لم تختر أنت إن تصبح حمارا ً، ولا أنا قردا ً ...
ـ ولكن الملائكة كانت تعرف سر اللعبة...، لهذا تذمرت (جاري ألحصيني كان يقول: دردمت!) من خلق هؤلاء عديمي الرحمة، قساة القلوب، فاقدي الشرعية!
ـ هؤلاء الذين يشرفون على تغذيتنا، صحتنا، سلامتنا، وتسليتنا أيضا ً...؟
ـ لا ترعبني! أأنت جاسوس، وكأنك تحاول إغوائي كي يزل لساني وتوشي بي...؟
ـ سيدي، كلنا جواسيس! الكواكب، الشجر، الحجر،الحشرات، الأسماك، وكل ذرة أحادية أو مركبة، وكل خلية، الكل جواسيس: القوادون والقوادات، أمراء الحرب، ومن يعمل ضد الحرب، الحكماء، الشعراء، كتاب العرائض، وأصحاب المهن الحرة، العاهرات، الزانيات، الصالحات، وكل ضحايا التعسف، والعنف، والعنف المضاد، ورسل المحبة، وصانعي الكراهية، والبغضاء،  والقائمة تطول...، سيدي، كلنا جواسيس حتى لو كنا من دعاة مكافحة الجاسوسية، والتجسس، لأن ذلك لا يرجع إلى الكيانات، بل إلى الجرثومة ذاتها القابعة في لغز بذرة الخلق! ثم إن عملها أصلا ً فضّاح، بثّاث، ومضاد للتستر، والكتمان! وإلا لماذا خلقنا...؟
ـ لم تبق أحدا ً خارج القفص؟
ـ وهل اقدر أن اعرف ...، وهل لدي ّ لمعرفة ابعد من حدود هذه الحديقة، كي تطلب مني أن ارتكب مخالفة ضد الوصايا، ضد البياض..؟
ـ وأنت...؟
ـ سيدي، أنا الآن عرفت تماما ًلماذا لا استطيع أن أكون أكثر مما أنا عليه! فخلايا الرأس لا تعمل خارج حدود عمل خلايا الكون وذراته...، وخارج عمل فراغاته وأثيره، فكل دابة، وكل حبة رمل، وقذيفة، انشطارية أو ذاتية التدمير، نووية، أو ما فوق ذلك، ناعمة أو مخربة، لا تعمل إلا بالشروط التي تجعلها لا تعمل إلا بحدود عملها... ، ففي رحم القيود تتكون وتولد هذه الانشغالات كي تكمل ديمومة هذا الذي لا أنا، ولا أنت، نقدر على دحضه!
ـ ها أنت لم تبق لنا حتى ذرة أمل؟
ـ وماذا تفعل بالأمل...، وأنت تعرف إن الذي يعرف لا يكترث لمعرفتك؟
ـ من؟
ـ آ ....، لو عرفته، لقلت له: لتدم مسرتك...، فالشقاء وحده كان المعضلة التي حرصنا على بقائها مزدهرة طوال الوقت!
ـ لكن ربما كان شقاؤنا هو المسرة الوحيدة التي أضعناها، ولم نقدر عظمتها، ولم نجد اقتناصها...؟
ـ وهل سمحوا لنا...؟
ـ من لم يسمح لك...؟
ـ الجميع ـ يا سيدي ـ لم يسمح للجميع، إلا بما حصل...!
ـ آ ....، ها أنت تجعل مستقبلنا أكثر متاهة من ماضينا...، فانا اشعر بالرثاء...، والعار، والأسى، والندم.
ـ على من...؟
ـ على هذا الذي قيد الموت بأكثر الأعمال تسلية!
ـ وماذا كنا نفعل لولاه...، لا يدعنا نواجهه أكثر من مسافة إنهاء المسافة.
ـ وداعا ً...، أيها الحمار العزيز..، ماذا كنت سأفعل لو لم أجدك؟
ـ الم أخبرك....، فقد شغلتني حتى كدت أنسى إنني سأصبح وليمة لأكثر البهائم خمولا ً...، وللحق، هذا وحده يحزنني، إن العاطلين عن العمل يتلذذون بلحمي...، وبفكري، وبحكمتي؟
ـ ولم يحزنك الموت؟
ـ انه، يا صديقي، سعادتي الوحيدة التي لم اسبر أغوارها بعد، ولم أتذوقها!
ـ أنا الآن سيرسلونني إلى السيرك.
ـ جميل!
ـ ما الجميل، يا أحمق...، عندما لا أجد حمارا ً لا يدعني اعرف ما أنا عليه!
ـ لا تكترث...، فانا سأتضرع للموت ألا يدعك تلعب طويلا ً على الحبال!
    تمتم الحمار يردد كلمات القرد التي سمعها في بدء اللقاء:
ـ كلما أفكر بالعثور على قليل من الضوء، لا أجد الظلمات إلا وقد امتدت ولم تعد هناك حافات تضع خاتمة لحافاتها..! وهكذا أصبحت أجد أسئلتي تتعثر وأنا لا اعرف أكانت تهرب من قدرها أم أن قدرها كان قد سمح لها بهذا القليل من ....، الضوء؟! أكان ضوءا ً...؟
22/4/2015