الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

في ثيمات ( مستقبل الماضي )



 في ثيمات ( مستقبل الماضي )



عدنان المبارك
( مستقبل الماضي ). يذكرني هذا الاسم بنص لأرنست بلوخ بعنوان (هل يوجد مستقبل في الماضي ؟ ). بعبارة أخرى المقصود هنا هيمنة الماضي على الحاضر ، ولربما المستقبل في منطقتنا. وأعترف بأن الكتابة عن مثل هذه الإشكالية – المحيط ليست بالأمر السهل و يصعب أن تنصفها حتى دراسة مطولة. لكن لأحاول مسك الخطوط الرئيسية.
واضح أن الماضي هنا هو التقاليد / التراث من ناحية ، ومن أخرى المواجهة بينها و المعاصرة / الحداثة أو ما بعدها. معلوم أن مثل هذه القضايا هي من اختصاصات العلوم الإجتماعية بالدرجة الأولى. فالتعارض بين التقاليد و الحداثة في الغرب مثلا ، يملك أبعادا أخرى كما يتم طرح طرفي المواجهة على أصعدة مغايرة تماما. فهنا نحن شهود ظواهر تبدو مفارقات صرفة : تقليديون مبرمَجون و أعداء كل جدة لكنهم كانوا من الناحية الفعلية مجددين ثوّروا الفكر و الحياة الاجتماعية. وهناك وقائع تشير إلى أن أنصار الجدة لم يفعلوا في واقع الحال شيئا غير استنساخ نماذج معروفة. إلا أني أخشى التعميم .
هناك من فرّق بين التقليدية المضمونية و الأخرى الشكلية. الأولى يكون جوهرها في أن الفكرة تكتسب مشروعيتها وقوتها القانونية من حقيقة انحدارها من الماضي إذ أنها توكيد واع على ما كان ولأنه قد كان. أما الثانية فتعتمد على أن الفكرة تنحدر حقا من الماضي إلا أنها تقبل أو ترفض بمعزل عن هذه الأرومة.
لا أظن أن أحدا قادر على نكران حقيقة أن معادلة التقاليد و الحداثة أصبحت العتلة الفعلية للتأريخ المعاصر لما يسمى بشعوب العالم الثالث والتي تبحث عن هويتها الاجتماعية – السياسية - الثقافية في ساحة ينتصب فيها واقعان : التأخر القومي و التقدم الكوزموبولتي. وفي الواقع تلقى المعادلة صياغتين : القومية والشمولية ( أي فوق القومية ). الأولى عرفتها أمم أوربا في فجر العصور الحديثة حين تعرض التطور الثقافي ، نتيجة الثورة الصناعية و الكثير من الثورات السياسية ، لإسراع لاسابق له في التاريخ. ففي نهاية القرن الثامن عشر جاء وللمرة الأولى هذا السؤال : هل على المجتمع المولود حديثا أن يكون رفضا حازما للمجتمع القديم ، ( التقليدي )، و إذا حصل هذا الرفض ألا يكون ثمن التقدم باهظا ؟ قد يبدو السؤال من النوع الأصولي. فالعالم ،ومنذ بدء تحوله إلى وحدة تترسخ فعليتها بصورة دائمة ، صار التقدم فيه مرتبطا بعملية الانصهار العشوائي بالنماذج التي خلقتها المجتمعات ( المتقدمة ). وفي مثل هذا العالم صار من المحال التهرب من السؤال ، وكان بالغ الخطورة على روسيا القرن التاسع عشر مثلا : ألا يعني الثمن بالنسبة للشعوب ( المتخلفة ) التخلي عن هويتها الثقافية وأن هذا التحديث محض تمغرب ؟
في الواقع أرتد ( بوميرانغ ) التقدم إلى نحر الغرب ، فهناك ظهرت أولى الأعراض لأولى الأمراض التي كانت جراثيمها في الحداثة ، وفي أوربا نفسها بدأت ميلانخوليا السقوط الحضاري التي أرهصت أسئلة إستثمرتها الكولونيالية فيما بعد ، من نوع : ألا يصعب على إنسان الغرب والمعتاد على وصفته الحداثتية فهم الصلات العضوية بين القديم والجديد في المناطق الأخرى ،مثلا : النزعة النهضوية في الإسلام أو ظاهرة اليابان الحديثة التي أخذت التقنية من الغرب بل الأشكال السياسية لكنها بقيت من نواح كثيرة متباينة عنه. بعبارة أخرى : هناك ضرورة للتخلي عن المسطرة القديمة للحصر والفرز فيما يخص التغيرات . فالمفاهيم القديمة نسبيا كانت تفترض أن التقدم ، ومعه الحداثة ، يتحدد في مجموعة من الظواهر التي تتكامل وتترابط فيما بينها. ووفق النموذج الغربي تكون هذه هي الصناعة و الإعمار المدني و الدمقرطة و التعليم والتخصص و العقلنة والعلمنة إلخ. و رافق الإيمان بهذه الهياكل الظاهراتية الاعتقاد بأن المجتمع كلما غذ السير في هذا الطريق ازدادت سعادة أفراده. لكن التجارب الأحدث كشفت عن أن المجتمع الآخذ بالتحديث يقوم بعملية إنتقاء واعية الى حد كبير كي يحصر أضرار التحديث والتي تلحق بطرز المعيشة و التفكير.
وهكذا أصبحت المشكلة ليس الإختيار بين التقاليد و الحداثة ( التحديث ) بل الأخذ والنبذ . وعلى حد تعبير أرنست بلوخ الماركسي ( المجدّد ) تكون التقاليد أوقيانوسا بلا سواحل ، وأن الإنسان لايعيش ونظره مشدود ، مباشرة ، الى الوراء أو الأمام. عموما نحن لسنا حاضرين في الذكريات ولا في الأحلام عن المستقبل. فالوعي يخص مباشرة الحاضر – الآن حسب. ووفق بلوخ يكون الحاضر مشروع يوتوبيا نزمع تحقيقها. فالمستقبل يخص مرتبة الإمكان أي على العكس من الأخرى : الحياة الكونكريتية التي تعني مرتبة التقاليد. بهذه الصورة يفصل هذا المفكر بين مرتبتي التقاليد و اليوتوبيائية خاصة أن الماضي يعمل على ظهور ما أسماه بأوهام الطمأنينة و النظام . وكان أكبر مثال على هذه النوستالجيا قد جاء به عصر الرومانسية الأوربية في العقود الأربعة الأولى من القرن التاسع عشر. فالسلفيون الفرنسيون وضعوا المعادلة بين الثورة الفرنسية و اليعاقبة و نابليون وبين آل بوربون بعصره الملكي ( الباهر ) من القرن الثامن عشر. و في ألمانيا عاد السلفيون القهقرى الى العصر الوسيط - زمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة الأمة الألمانية ( معروفة هنا صيحة نوفاليس : المسيحية هي أوربا ). بهذه الصورة حوّلت الرومانسية الماضي إلى يوتوبيا من الصنف المفزع. لكن بلوخ يعتبر التقاليد التي كانت تسود في الماضي مرتبطة بما أسماه : المستقبل الممكن في الماضي. و القصد واضح هنا . فبلوخ يجد أن التقاليد تعني جنين ( الصورة ) و ( التقدم ) الذي يظل يولد ويشب في شروط بيئية صعبة . ويضرب مثلا على ذلك بثورة الفلاحين الألمان الفاشلة والذين عادوا مهزومين الى بيوتهم في عام 1525 وهم ينشدون ( نولي مهزومين لكن أحفادنا سيضربون السادة ). وهكذا وفق مسطرة بلوخ تكون التقاليد شيئا لم يحقق نضوجه بعد. ومن المعطف الماركسي يخرج مفهوم آخر يعامل التقدم كتقاليد مطوَّرة أو معدَّلة.
واضح أن مثل هذه الطروحات تخص تلك ( الصيغة القومية ) لمعادلة التقاليد و الحداثة. أما الأخرى الشمولية فلها مجسداتها الكثيرة في العالم غير الأوربي منحدرا ً وحضارة. أعتقد انها صيغة متجانسة للغاية سواء أكانت الصيغة عربية أو أخرى آسيوية أو أفريقية . و الإختلاف يكمن في سبل التجسد. فقبل قرن قال مفكر ياباني ( آسيا هي واحدة ) حين رأى الهجمة الكولونيالية. وجاء حينها التضامن الآسيوي بشيء من الثمار . إلا أن اليابان حين نجحت في التمغرب مارست سياسة التوسع بالأسلوب الغربي ذاته. و اليوم ينادي ياباني آخر ( العالم واحد ). وقصده أنه تحت أنشوطة الأخطار المعاصرة ليس هناك غير عنق واحد – عنق البشرية جمعاء. وفي الواقع يجد هذا الياباني ، وهو الفيلسوف سابورو إيتشي ، أن العالم تعرض خلال قرن الى تغيرات راديكالية أخذت تكتسب شكلا غير طاريء للتكامل. وهنا يعترض على القائلين بالتناقض المحتوم بين التقاليد و الحداثة. لكنه يتكلم عن إن الخيار الوحيد أمام الثقافات غير الأوربية هو صيغة مبهمة من التركيب يفسرها بعضهم بأنها ( تلقيح ) و آخر ب( إستعارة معقلنة ). وبرأي أيتشو جلبت الحداثة لأوربا أشكالا إجتماعية جديدة تمثلت بتطور العلم والتكنيك الذي إختزن في الثورة الصناعية. ويلخص هذا التحول بهذه المقولة : المواصلة الإعتيادية للتقاليد لا تعطي العالم مهندسا واحدا للمكائن الرقمية...
من ناحية اخرى نجده يقول بأن إزدهار العلم في أوربا العصور الحديثة كان بمثابة إحياء واع للتقاليد العلمية من القرنين السادس و السابع قبل الميلاد. ويوصي إيتشو بمراجعة أفكار روسو ولوك، كما يعترف بقيام صعوبات بالغة عند فهم عمليات مثل الإحياء الواعي لتقاليد معينة أو خلق أخرى جديدة. غير أنه يجد المفارقة الكبرى للتأريخ في أن أيّ بلد آسيوي ليس بمستعمَر اليوم من الناحية الشكلية على الأقل ، و أن الهيمنة الكولولنيالية قد صفيت لكن التكنولوجيا العلمية التي جاءت لهذا العالم سوية مع غزو السوق الرأسمالية الغربية قد تطورت الى درجة ان فرعها ( صناعات التسلح ) يهدد البشرية كلها ، ومن هنا ( العالم واحد ) كرد على تحدي التسلح و الفناء الشامل.
يحدد التعريف القاموسي التقاليد بمعتقدات وعادات و أساليب سلوك تنحدر من الماضي وتتناقلها الأجيال. إلا أن مثل هذا التعريف يتجاوز اللحظة الأهم : الناس العائشون في المجموعة و المحرومون من التقاليد يخيم على حياتهم الخوف واللايقين الدائمان مما يدفعهم في طريق الفوضى. وهكذا تلعب التقاليد في شتى المجتمعات الدور المناط بالغرائز عند الحيوانات ، كما أن التقاليد تملك قوة تنظيم سلوك الفرد في المجموعة. و الفارق الوحيد بين التقاليد وتلك الغرائز هو أن الأولى " قابلة التجديد " . وقد لا تكون مناسبة تماما هنا صفة التجديد الذي يمكن أن يكون تمازجا لتقاليد أو تغلغلا لها. و يصنف الباحثون ثلاثة أنواع : التغلغل الآلي لتقاليد ثقافية في أخرى ، وهنا نرى خصائصا قومية و أخرى شمولية ( هي غربية عموما ) لكنها متجاورة ولم تخضع تماما للتركيب أو الصهر العشوائي. و النوع الثاني يكون التركيب ، الوصل العضوي ، وهو متقدم هنا الى درجة يصعب فيها التفرقة بين الخصائص. والنوع الثالث إستعارة الجديد وفق العادة القومية. إلا أن الإشكال الرئيسي يحدده هذا السؤال : أيّ شيء ينبغي أخذه من القطبين : الحداثة و التقاليد وأيّ شيء علينا نبذه أو دفعه الى المرتبة الثانية ؟ لكن ما المقصود بالتقاليد / الماضي / التراث ؟ هناك عدد لا يحصى من التعاريف غير أنه ثمة إتفاق فيما يتعلق بخصائص كثيرة تحدد جوهر التقاليد. مثلا يعود العالم الأميركي ادوارد شيلز الى الكلمة اللاتينية
traditio التي تعني بالضبط نقل العادات و الآراء و المعتقدات من جيل الى آخر . و يجد شيلز أن معيار التكرار الثابت في التقاليد هو أحد المعايير حسب. فالتقاليد هي آراء ذات بنية إجتماعية خاصة : إنها إتفاق في الزمن مما يعني أن كل جديد هو تعديل لشيء كان قائما.
لابد هنا من الإشارة الى إفلاس تصوّر معين عن التقدم كطرد تدريجي لكل ما هو قديم ، وعن التحديث كإنتصار محتوم على التقاليد التي كانت تعيق مسيرته...
فيما يخص إشكالية التقاليد / التراث – الحداثة / التقدم ثمة قوالب تفكيرية كثيرة لطرفيها أي المجتمعات التقليدية و مفاهيم التطور الإجتماعي . من هذه القوالب هناك الإعتقاد بأن تلك المجتمعات هي في جوهرها متجانسة ومتماسكة و ثابتة وأن كل تغيير يعني في المحصلة النهائية تدميرها ولأن ( التقليدي ) هو كل شيء لم يصبح ( حديثا ) بعد ، وهذا يعني أنه كف عن أن يكون ( تقليديا )، أما التطور الاجتماعي فهو عملية محتومة للانفصال عن التقاليد.
في الواقع نلقى هذا الموقف ن في جميع النظريات السوسيولوجية من القرن التاسع عشر و بداية القرن الماضي. بالطبع ليس بمقدورنا تفنيد كل شيء في هذه النظريات بل بوسعنا فقط أن نشير الى إفتقاد الجواب على ذلك السؤال : أيّ شيء في التقاليد يملك فرص البقاء في المجتمع الحديث و أيّ حاجة يلبيها. و الواضح ايضا أنه يعوز هذه النظريات الوعي البيّن بأن كلمات مثل ( الحداثة ) أو ( التقدم ) أو ( التطور ) لا تعني بالضرورة أعراضا للتحولات التي عرفها الغرب.
إن كل هذه الثغرات و النواقص أصبحت أكثر فعلية حين خص الأمر المجتمعات غير الأوربية التي أرادت تحديثا من دون تمغرب ، من دون نبذ هويتها التقليدية. و في الحقيقة يصبح راهنا وضروريا مبدأ ( الوحدة في التنوع ) الذي يروجه الكثيرون من علماء الإجتماع وغيرهم ، مما يعني ، على سبيل المثال ، أن ليس بالضرورة أن تدمر الصناعة الحرفَ ، و العلمُ الدينَ ، و الطبُ السحرَ. فالأشكال الجديدة قد توسع نطاق الخيارات. و الأكثر من ذلك فالعناصر الجديدة و القديمة تلتقي ، و لأكثر من مرة ، في مواقع تبدو بالغة الغرابة لإنسان الغرب المعتاد على وصفة واحدة للحداثة. بعبارة أخرى ليس هناك وصفة حداثتية واحدة للعوالم الأخرى غير الغربية. فالحداثة اليابانية هي أخرى غير المصرية مثلا. و إذا إنقاد واحدنا الى الحس الواقعي فلابد من تسليمه هنا بذلك المقترح الذي ثبتت صحته و مصداقيته أكثر من مرة : ( التطور وليس الثورة
Evolution not revolution ) ...

ليست هناك تعليقات: