الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

بمناسبة رحيل عدنان مبارك



عدنان المبارك
[1953 ـ 2016]
من السينما إلى مشفرات السر

عادل كامل

   لا في حياته، كان عدنان المبارك، بحاجة إلى (المدائح)، ولا هو بحاجة إلى الرثاء، بعد رحيله عن عالمنا أيضا ً. وكأني بهذه ـ الإشارة ـ اعزل حياته الشخصية عن دوره في الثقافة، وليس أن اعزز، فكرته المبكرة: رؤية العالم بأدوات الحداثة. فحياته ـ بسلاستها وبساطتها وشفافيتها ـ كرست للأدب، الفن، والمعرفة. فلم تكن حياته أكثر من تطابق مع ما كرسه للحفاظ على مبدأ: التأمل ـ لكن ليس نحو الذات ـ بل نحو العالم، محورا ً الانطولوجيا إلى: وجود يعمل على تحرير الذات، وليس على دفنها.
   خسارتنا لرحيل عدنان المبارك، إشارة لخسارة ثقافية عامة، في حقبة حل (العنف) ـ بأشكاله الأكثر همجية وجورا ً وانتهاكا ً للعقول والضمائر ـ ضد العقل، والمنطق، والبراءة، بديلا ً مروعا ً لمصائر غدت في العراء، مشردة، تائهة، وتستجدي البقاء على قيد الحياة، لا أكثر ولا اقل.
    فقد اجتمعت في المبارك خصال جيل الرواد: التنوع ـ والتخصص، الدقة والمثابرة، الصبر والكد، التجدد والابتكار، من غير قطع الجسور مع مكونات اللاوعي السحيق، والذاكرة المتحررة من مدافنها، وظلماتها، وخرافتها.
      فدرس علم الجمال، في الفنون الجميلة، متدربا ً على مهنة (التحليل) و (النقد) للسينما، بالدرجة الأولى، من ثم لإعادة قراءة المشهد المعرفي في عالمنا المعاصر. لكن (خلق) عدنان المبارك، لم تسمح له بأكثر من الاستزادة، حفرا ً، وبحثا ً، ليس في مشكلات العصر  (التقنية) أو (ما بعد الأيديولوجية) فحسب، بل في التطور المعقد والعام، ونتائجه، ومآزق الدفاع عن عالم تتحكم بحرياته انساق السوق، وما بعد الربح، والحروب الخالية من الرحمة.
  لن اقلل أبدا ً من مئات الكتب والمقالات والدراسات التي ترجمها المبارك، في مختلف الحقول المعرفية، لولا انه كرس، في قصصه، وفي رواياته، وفي لايومياته، الرسالة ذاتها التي نتعرف عليها عند فلاسفة سومر، وبابل؛ تلك التي حافظت على عدم جعل العالم مقبولا ً، بوصفه لا شرعيا ً، وغرائبيا ً في الأقل، أو محكوما ً بنظامه التراتبي، والمهدد بالزوال، في كل صدمة.  انه لم يتقمص دور بناة المدن الفاضلة، ولم ينشغل بالميتافيزيقا، ولم يشرد ذهنه عبر مشفرات الكلمات، ولا وعيها، بل راح يتمسك بالواقعية المتجددة، بكل ما تمتلكه من أبعاد نائية، ولا محدودة.
    ففي رواياته، وقصصه، ثمة محنة إنسان وجد انه متهما ً، كأيوب السومري،  قبل ظهور نموذج كافكا في القضية بستة آلاف عام، بالبراءة التي آمن بها، ليجد مصيره مجهولا ً، إزاء عالم بلا حافات، وقد قيد بأكثر أشكال القسوة، والعنف، بشرعيات ذات أصول مدمرة، وقائمة على الصراح، حد الإبادة، والمحو.
    ولقد اشتركت، في أكثر من (قصة) مع المبارك، برصد: مآزق تتجدد بتجدد القيود، في بلداننا ـ الأكثر تخلفا ً ـ أو في البلدان ـ الأكثر تطورا ً ـ ومصائر ملايين البشر تولد وتموت بوصفها مجموعات من النمل، أو البعوض، وليست كيانات وهبتها الآلهة نفسا ً من أنفاسها، بحسب أساطير وادي الرافدين، المبكرة.
     كانت محنة عدنان المبارك، غير قابلة للتسوية، ولكنه عوضها بالمزيد من العمل. ولأنه اختار (الكتابة) فانه سيمنح الكلمات الأنساق ذاتها لمفهوم الإنتاج: الوعي بوصفه مستحدثا ً، مخترعا ً، وليس هبة، أو مكرمة.
   فحتى آخر يوم في حياته (آخر رسالة وصلتني منه بتاريخ29/9/2016)*، حيث رحل في (5/10/2016)، لم يتخل عن تدوين إشارات تخص الفن، والأدب، رغم اشتداد المرض، بعد سنوات من المقاومة الباسلة، باختيار الثقافة، أداة لغاية تتحقق ـ عبرها ـ ما هو ابعد من الربح ـ والخسارة.
     ولا يمكن إغفال أن المتخصص بالنقد الجمالي، والترجمة، والسرد سيختار الرسم، والتصميم، والتشكيل بتقنيات الكومبيوتر، للإفصاح عن بلاغة (الصمت) بما يتضمنه من أصوات مكتومة. فالوجه الذي راح يراه من الجهات المتعددة، هو الوجه المحاصر للإنسان ـ كحال جلجامش الذي لم يكن يبحث عن الخلود بل لأنه ولد بقلب مضطرب كما اعترفت أمه بذلك في خطابها مع الآلهة ـ  وصولا ً إلى ملايين المنفيين، المهجرين، المخلوعين، المخصيين، والمحتضرين قسرا ً بأدوات حضارة العولمة، وما بعدها، انه وجهنا، الذي يحدق فينا، ونحدق فيه، كي تتكون المرايا التي تتلاشى فيها الأبعاد، ولنصبح، في نهاية المطاف، الفجوات والذرات والمديات لكون بلا حافات.
     ولقد انشغل كثيرا ً في الإشراف على موقع (القصة العراقية) الذي بتوقفه عن الصدور، أصاب المبارك بجرح عميق. فالموقع، غدا الموسوعة الشاملة لتاريخ القصة، والرواية، في العراق، إلى جانب مئات النصوص المترجمة، والملفات، في الفنون، والعلوم، والآداب، والثقافات...، وأنا ـ الآن ـ اجهل مصير هذا الجهد الاستثنائي، بوصفه إبداعا ً ثقافيا ُ، ومعرفيا ً، في عالم تتضاعف محنه، بحروب لا تترك خلفها سوى انبثاقها المخيف، وديمومتها العنيدة.
   ولأنني اكتب وفاء ً لصديق مازالت رسائله، ومنذ العام 2010، تشكل مادة لقراءة نقدية، فانا آمل، لو استعدت صحتي، بنشرها، بما تتضمنه من رؤى، وأفكار، وكفاح مبدع كرس حياته برمتها من اجل عالم اقل رداءة

*  نص آخر رسالة وصلتني من الراحل:
    [عزيزي عادل . أشكرك على الإهداء  لهذه القصص الجميلة. كنت أطول من أسبوع بعيدا عن الكومبيوتر. وأظنها نوعا  من المصادفات أن يصيب العطل حاسوبي  وأدخل نفقا مظلما لأحدى لعنات الصحة.
     نعم ،  الإنسان القاصر عقلا وشعورا لا يتصور السعادة التي تعقب اختفاء اللغة ! ولا أحد كان يقدّر الصمت مثل بيكيت رغم أن كل أبطاله من مواليد الثرثرة !
 أنتهز كل ساعة كي أكتب . وهل تعرف بأني أجهل وحتى عدد القصص التي كتبتها في الصيف الأخير !
       لا أعرف أين أنشر عدا ( أدب فن ). بالنسبة لموقع ( القصة العراقية ) لا أحد يكترث للحال. من طرفي أحاول وأحاول أن أجد مخرجا لكني فشلت لغاية الآن.
       شيء رائع أن مقاومتك للخارج تزداد صلابة. فيا عزيزي ليس أمامنا من أفق آخر ( تذكرت هنا  ما قاله الراحل نزار عباس لذاك الذي لعن بطل سارتر في ( دروب الحرية ) الذي كان " يقف على التل " : ( أخي. أنت لا تعرف هذا المسكين كي تريده أن ينحدر من التل ويطرق باب الآخرين في الجحيم. عفوا ، ليس هو بالمسكين بل المحظوظ إلى أكبر درجة ...).
محبتي وأصدق تمنياتي . 29/9/201


مختارات

في العام 2014 نشرت كتابي [عدنان المبارك: من السرد إلى الصمت/ العلامة ومشفراتها] الكترونيا ً، أدناه مقتطفات ـ من الكتاب ـ  تلقي الضوء على تجربة المبدع الكبير
احتفاء ً بعدنان المبارك في عامه الـ 75
[ممرات الذات من قيود أنظمتها إلى تفكيك حرياتها ]


[1] مداخل لـ: إعادة القراءة

وإن كان لا أحد توقع عما سيحدث للإنسان بعد الموت، خارج احتمالات التأويل، والظن، والتصّور، فإن غالبية الآراء ستجعل عالم الموت، مغايرا ً ـ أو على الضد ـ من مفهوم الحياة. فالثنائيات تيسر عملية إجراء مقاربات، ومقارنات، لكنها، عمليا ً، لن تردم الفجوة بينهما، إن لم تعمل على تغذية انساق العلل، كي تدخل في مجال الوظائف، والمنافع (التداول ـ والاستهلاك)، دون فك طلسمات لغز كلما توسعنا في دراسته نأى وأستحال الى خارج حدود الوسائل، والمدركات.
انني عمليا ً وجدت نفسي في مرحلة نهاية ريادة الحقبة التاريخية لكل ما يُنسب الى (الحديث) في الشعر، أو في الرسم، أو في الرواية، أو الايديولوجيا، لا في التعرف على المنجز، ودراسته، والتعلم منه، ونقده فحسب، بل في التعرف على معظم من غامر في بناء هوية هذا التيار (الحديث)ـ بعد أن كانت الحداثة الاوروبية قد أخلت صخبها لما بعدها منذ عقدين أو أكثر ـ ومحاولة رصد حياة الرواد ـ في الزمن وفي الابداع معا ً ـ وكيف غامروا بخط دروب نجد أن التحدث عنها ـ اليوم 2010 ـ يضطرنا للبحث عن كوكب آخر ـ إنما، وكل في حقله، ناور للامساك بما كان (جلجامش)، أو أصحاب المعلقات وتحديدا طرفة بن العبد، أو (المعري) العظيم، فيما بعد، مع أسماء لا تقل أهمية لها حضورها في عقولنا، وذاكرتنا، وضمائرنا، كما في مدافننا، التوغل في مناطقه النائية، والعصية على الادراك.
أنا واحد من هؤلاء الذين كنت أعد حياتي لدراسة ماذا يعني أو يمثل مفهوم (الحديث) ـ داخل زمنه وخارجه ـ في كل جنس، ومن ثم دراسة العلاقة ما بين الشعر والفنون الجميلة، الى جانب النقد والرواية والمسرح والسياسة والسينما ..الخ كي أمسك بأسبقية أولى ألا وهي: الحرية/ وتحديدا ً بمعنى الحفاظ على استقلالية الهوية، لا إندماجها، أو دمجها. بمعنى: مقاومة محوها.
لقد سنحت للرواد ـ منذ ثلاثينيات القرن الماضي ـ عوامل سمحت لهم بالتعرف على كل ما هو (حديث) نشأ في شروطه التاريخية، ومن ثم، الشروع بمغامرة المحاكاة، والتحاور، والتنصيص، والتركيب، والتلصيق، والانبات في مكان ـ زمان، أخرين!
وأيا ً كانت العقبات التي واجهت أي رائد من هؤلاء الرواد، فانها لم تتحول الى جحيم، بل أصبحت محركا ً لتحديات منحت العديد منم قدرة أفضل على التواصل.
كانت (حرية) التفكير في إعادة قراءة الأسئلة الأزلية / والتاريخية، أتاحت لهم تلمس ما كان يقع وراء الواقع؛ حرية تصنعها الكائنات البشرية لم تعش بعد مآزق: حرب الجميع ضد الجميع، ولم تذق بعد مرارة: الموت الجمعي! فألانا ـ في الغالب ـ لم تعمل على حساب الآخر، ولا من أجل ان تدخل الفردوس لقطف الثمار، والتفاخر بالأوسمة، أو إشباع المكبوتات التاريخية، منفردة. فالمشروع (الحديث) لم يسمح لازدهار نسق: خلص نفسك! أو ليذهب الجميع الى جهنم! أو إلى: تدمير الآخر. ومن يعيد قراءة تأريخ مدن المشروع (الحديث) في العراق: بغداد أو البصرة، الموصل أو كركوك، النجف أو بابل..على سبيل المثال، يضطر أن يتجرع مرارة ان ما قبل (1958) نزولا ً إلى (1920)، ومقارنتها بالعقود التالية، فسيجد أن النظام الملكي، لم يسفك دما ً، كالذي سيتحول إلى حفلات أعراس ومناحات.
بمعنى أوضح كان (الأمن) الاجتماعي، حتى في ظل مناطق مازالت تخضع للإقطاع العراقي، قد سمح للأمن النفسي أن يحافظ على كرامة (ذات/ كينونة) المبدع، ربما باستثناء أيام قضاها الشاعر حسين مردان في التوقيف بسبب ديوان (قصائد عارية)!، فان هذا الجيل أيضا ً، لم يكن مضطرا ً أن يحول مهنة (الكاتب) إلى تابع، أو مؤجر، كي ينضوي تحت اتحادات وجمعيات للـ (الكتبة)! ومادمنا لا نجد مسوغا ً للحديث عن (المعجزات)، فإن الواقع ـ زمانه ومكانه وأرثه وأنظمته ـ لا يمكن أن يستبعد، في استكمال بناء مجتمع سينشغل، سنة بعد أخرى، وضمن الوقائع والإحصاءات والوثائق، بحفر هاويته


[2] من الرهافة إلى نظام الرؤية (ملامح المنهج)

يخيّل إليّ أن حياة الأستاذ عدنان المبارك، ببلورة هويته الفكرية، بدأت بقراءته لتاريخ عصر بواكير التجارب (الحديثة) في العراق، ومنجزها، لكن، بمنهج أتاح له أن لا يستبعد الفلسفة، وبمعنى ما، العقل النقدي، في عمليات التحليل، والتفكيك. وأعتقد أنه ـ ولأن ثمة رهافة ما لا يتمتع بها إلا الفنان كانت ستشكل رؤيته إلى: البشر، والحياة ـ أنحاز لصياغة الأسئلة التي امتدت، عبر العصور، ولم تجد ديمومتها إلا في الاستثناءات، فانه سيتمسك بالبحث (أو المشي في الدرب) بصفته غاية، أو كينونة، وليس تقانة أو وسيلة. فليس ثمة عزل، حتى لو حصل إرباك بين المحركات وأشكالها، أو بين النهايات ومقدماتها، فالغاية بحد ذاتها تنبني بطرائق الحفر، وجمالياته.
أنا شخصيا ً ذكرت هذه الإشارة في كتاب لي ـ قبل ثلاثين سنة ـ استنادا ً إلى ملاحظات عدنان المبارك، في رؤيته الديالكتيكية، وتعلمت منه أن التقنية ليست محض امتلاك (أدوات/ آلات) متقدمة، أو حتى مستحدثة، ومبتكرة، بل إنها تشترط صانعا ً أو صائغا ً يدرك كيف لا يقع في فخاخ غوايات (المستحدثات/ والحداثات)، بل ليجعلها، في الغاية أو في نهاية المطاف، ممهدة لتدشينات حرية قائمة على الدينامية، والتكامل. إن هذا هو ما لفت نظري ـ وأنا أتعثر في مآزق حقبة ما بعد الرواد في العراق ـ في كتبه، حول التكنيك وإشكاليات الفن، والتحولات الكبرى التي حصلت في القرن العشرين، والجماليات، ومتاهات الحاضر ...الخ يكون عدنان المبارك قد منح (الريادة) ما لم أكن قد قراءته عند أحد، بهذا الاتساع، والدقة، والترابط، فالانشغالات لم تعد في حدود (الأشكال)، بل جعلها منهجا ً له في الحفر في (العلل أو في العلل وعللها) كي لا تغدو (الظاهراتية) مثالية خالصة ـ كما بدت لي في الاقل ـ ولم تعد قضايا (الشكلانية) ـ التي تطرق إليها تروتسكي في حديث له مع الشكلانيين الروس المؤسسين لها في عام 1924ـ مضادة للديالكتيك، بل، عمليا ً، ثمرته. فالأستاذ عدنان المبارك، هنا، مكث يحفر (في حقل الكتابة/ ومن ثم الترجمة) في أكثر المناطق رهافة، وحساسية، إنما بالاستناد إلى إبداعات العقل، ومنطق العلوم المعاصرة: ما الذي يستحق أن يُنجز، كي لا يتقاطع مع جوهر الحداثة، بصفتها إنسانية، وليست في إطارها الأوروبي فحسب. انه ـ هنا ـ يجدد نزعة اكتشاف رواد التحديث، في الماضي، قبل أن تفقد بغداد مركزها في الإشعاع، وتتحول إلى أكوام من المخلفات، أي قبل معرفتها بما هو (حديث) بعد نشوء تحولات كبرى، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ودخول العراق في صراعات جديدة.
[3] مفارقات ـ التكرار والأمل
على أن السنوات التي أعقبت قتل الملك فيصل الثاني وتصفية عائلته ـ 1958 ـ كأنها، بشكل ما من الاشكال، غذت لا وعيا ً يرجع الى أساطير دفن (ديمزي) (لأن النصوص الأقدم في رصد الصراع لم تبلغ ذروتها في التصادم بين الراعي والمزارع، لأن ذلك الخلاف انتهى بالصلح ما بينهما، وهو أقدم إشارة الى الرؤية الايكولوجية، فضلا ً عن جوهر الفلسفة السومرية برؤيتها للزمن المفتوح، واستحالة وضع نهاية للتاريخ، لكن إنانا، ستتطهر بإعادة ديموزي من عالم الاموات الى عالم الاحياء، ليرجع لغز الديمومة (الخصب)، كما في أساطير أخرى مماثلة)؛ بمعنى أن حقبة ما بعد 1958، التي كان عدنان المبارك عارفا ً ـ برهافة فنان أو حساسية متأمل ـ بمحركاتها، وقد صاغت سلاسل مروعة من الاشتباكات، والعنف. لقد حدث، للمرة الأولى، بعد ثورة العشرين، غيابا للأمن النفسي، أثر حصول تصدع في البناء الاجتماعي، فضلا ً عن الاضطراب الاقتصادي، بين الوفرة والفاقة، الامر الذي لم يسمح إلا كاستثناء، بالحفر في مشروعات (الحداثة) وتطبيقاتها.
كان جيل عدنان المبارك، منقسما ً حد التناحر في مفاهيم العلامة، والاشكال، وليس في الأسس، وربما كانت علاقتي بالشاعر فاضل العزاوي قد يسرت لي ليس قراءة نتاجات هؤلاء الاساتذة، بل التعرف على خفايا دوافعهم في اختيار مناهجهم، وفي حياتهم، وهو المناخ، والشخصيات، والآثار التي كان عدنان المبارك يراقبها، في مكان، لم يسمح لي بالتعرف عليه شخصيا ً، وإنما سمح لي بالتعرف على فجوات بالغة العمق بين كاتب أو فنان وآخر، فجوات تخص المنهج، والتكوين، والمفهوم (الانساني) للنصف الثاني من القرن العشرين، حيث نسق (الشركات) الكبرى ذهب أبعد من اية محاولة للإشارة إليه، عدا بعض الماركسيين، باشارات كان ماركس قد نثرها في رأس المال؛ إشارات لا تخص (الانخلاع) و (النفي) وتحول البشر الى سلع ـ وأشياء، فحسب، بل إلى مستقبل التصادم ذاته، وما ستؤول إليه بعيدا ً عن ادق مخيال متخصص بالأنظمة، حيث الحداثة أخلت مساحتها (في أوروبا وفي القارات التي مازالت مصائرها رهن الاستيراد ـ الاستهلاك/ بمعنى التي مازالت تتعثر في حسم قضايا كبرى كالتاريخ، والعقل، والحرية) لأنظمة مغايرة، ستلتقي بمشروعات النظام الدولي (الجديد/ بعد 1970) وجعل المجهول، بدل أن يكون مرآة تحدق فيه الاحداق (منذ نيتشه الى هيدجر) طيفا ً يعمل بالخيمياء في أبعد مفاصل الحياة اليومية ـ ومشاهدها المثيرة للقرف ـ والدوار.
كان وعي عدنان المبارك، ككاتب منشغل بالاسئلة الفلسفية، لا كنصوص إنشئت في الماضي، بل كآليات عمل على صعيد المنجز المعرفي، والفني، في (الحاضر/ الذي شغل هيدجر ومن ثم سارتر)، قد جعله يرى كم المسافات شاسعة بين الكائنات! الأمر الذي جعلني بقراءة منهجه النقدي ـ أن أقارن بين: مدن، وحدائق، ومعمار، وطرق، وفنون، وأزياء، وأخلاق، وأفكار، ومدافن، ومستحدثات مختلفة، ..الخ في عالم تتراكم فيه ما كان قد تراكم لدى الصياد الأول: أمير الغابة، أو سيد الجبل، وبين قارات ليس لدى سكانها إنشغالات، في هذه الحقول، إلا على جعل الهاوية بلا قرار! فأية (حرية) ستتيح لعدنان المبارك، أن يختارها، خارج القسر، أو بعيدا ً عن أوهام الاختيار..؟



[4] الذات ـ الحرية وإشكالاتها
"حرية"جد مقننة، منضبطة، وقد صقلها في محاولة أن يمنحها حقيقة أن الذات بالغة الدقة بين قيودها وتحررها منها؛ علاقة الذات مع الواقع، ومع الإرث، ومع المخيال الاجتماعي، الأمر الذي دفعه لاستكمال دراسته العليا لتاريخ الفن ـ دون إهمال فلسفته ومشفراته الجمالية ـ في جامعة وارشو. فبين التاريخ وفلسفته مسافة كالتي سمحت له أن لا يجد شيئا ً يقارن بين محاكاة، واستعارات، وظلال حداثات في المنجز الريادي المحلي، وبين مآزق كبرى لم تهملها حقبة ما بعد الحداثة، خاصة أن الحرب الباردة، في أوروبا، كانت تمهد لعولمة كانت تفرض نظامها على نحو غير مباشر. فالتقدم التكنولوجي ـ ما بعد الصناعي وما بعد المعلوماتي ـ كوثبات، لم يحصل بدافع حب المعرفة، أو بنزعة إنسانية يمكن أن تقترن بماضيها، في عصر النهضة، ولا بالمعتقدات التي كان لها أثرها في القرن العشرين، كالماركسية والوجودية ـ ولم يكن التطرف ظاهرة معلنة كما ستأخذ دورها بعد عقدين ـ كان وعي مبارك (للحرية) قد ولدّته حياته ذاتها بين بلده الغارق في العشوائيات، وبين أوروبا وهي تبلغ ذروة حداثتها ـ وشيخوختها. فالذات لم تتعثر بسبب هذه العوامل (المحلية/ العالمية) كبديهية فحسب، بل باستحالة أن تجد في (اللاحدود) ماهيتها أو إنسانيتها.
لكن ماذا لو كان عدنان المبارك قد أختار استكمال حياته في بلده...؟ أكان سيؤدي دوره كرائد في إعادة صياغة مفهومات متعددة وبرامج متنوعة للتحديث ـ وصولا ً الى العولمة، وهو الذي سيقوم به عبر الكتابة، أم ليحقق آلية ما لا واعية لإشكالية الإنخلاع؟ إن الذات في صياغتها للجماليات ـ بتنوع المناهج وبتعددية الوسائل ـ منحه وعيا ً آخر للحرية ليس بصفتها خلاصا ً،أو كينونة جمالية، أو دافعا ًلبناء عالم أقل تشوشا ً، بل للبحث عن موازنة خفية بين وجود لم ينف أن للمصادفات نظامها،إنما التصّورات، والنظريات، والمعتقدات التي تحكم عالمنا ـ في شماله أو جنوبه ـ لا لتحقق إلا قدرا ً للذات وهي تنفصل (وتؤطر) فيها حريتها، أن ينشغل بالعثور على مغزى ما للجمال، وللقيم، كالمعايير الاخلاقية، في دراسته للفنون كمقاربة لبلورة رؤية ما للذات بصفتها ليست فائضة، مثلما انها لا تمتلك إلا أن تصنع مخيالها المُستحدث، لكن ليس على حساب قطيعة مع ماضيها، إنما المستقبل (والانشغالات بالمستقبليات في تقدم مضطرد) لن يكون سببا ً للاطمئنان.
إن جذور عدنان المبارك الفلسفية، ستبقى تحافظ على عمل اللامرئي في تحوله من الدراسات النقدية، نحو الأدب، أو فن السرد. فالحرية، في الحقل الأول ـ من منظور كائن (منفي) إلى كائن (أوروبي) في الاقامة ـ لم تعد كلمات أو تصورات، أو علامات غواية، بل أصبحت تتضمن اشتغالها بما يستحيل إنجازه بيسر. فالمثنوية (القائمة على التعارضات/ منذ أيوب السومري، والعادل المعّذب الذي يسرد حكايته احد حكماء بابل، وصولا ً الى نصوص المتصوفة، ومعتزلة بغداد) لن يدعها تعمل عملها كمصادفات، حسب هذا المنهج الاوروبي الخالص، ولن يراها مبرمجة (وشغفه بالاطلاع على علوم المورثات وهندسات العصر والمشفرات تؤكد منهجه الديالكتيكي) حد نفيها لكل أمل في تدشين ما لم يدشن. لكن ما الذي باستطاعته (كذات تشبثت بحريتها) أن تفعله بعد أن بلغ التقدم التقني حقبة يصعب على مناهج (الحداثة) أو (ما بعدها) من سبر آليات تحدد أغراضه، غير أن يجد نفسه، والعمر يتقدم، أن يحدق في قفا ـ ومرة أخرى في اليومي المجاور للمجهول ـ مرايا وجود كأن اليد (الخفية) تعمل على زعزعة الصورة، وزاوية النظر، كي يحقق الوجود، بكامل حريته، أحد أكثر غواياته في إدامة كل ما هو غير قابل إلا للاندثار ـ وضمنا ً، استحالة الركون إلى ضمانة قائمة على ما يتركه الأثر ـ أو حتى رمزيته.
1/9/2010


قراءة في قصة (سفر الفناء )



[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة

اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا ان تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها، بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
وبمعنى ما فأنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب ان تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.



[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بالية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة ان العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب ابعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد ان تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: ان العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو ابعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل احدهما الآخر، بل سيكمل احدهما عمل الآخر. انه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال ان (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب واليه يعود، عدا ان (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح ان يذهب ابعد من زواله.
هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له ان يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجهة فنائه.
[3] سِفر الفناء
كما يعمل الختم ( تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب ابعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فان عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح ان يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ ان يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم ، أو حتى للارتداد ، أو للمراوحة. انه ليس العدم ، إلا اذا كان العدم ، بحسب فلاسفة بابل ، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة ان تمنحه وجودا ً. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم تعد حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها إلى ان شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: ان العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين ان يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فانه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا حكم الموت سابق على الولادة ! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في تكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل ان يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات ! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له ، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
فهل يمكن ان ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن أميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك : العدد بين الصفرين!

قراءة في نص تشكيلي

عدنان المبارك من صمت التدوّين إلى دينامية الصو

[1] إشارة

هل أنا إزاء قراءة نص تشكيلي، أم قراءة صانعه، هل أنا بصدد استذكار ما غدا ماضيا ً، أم تتبع ما فيه من باثات، هل أنا بصدد تأويل علامات، تراكمات، انصهرت، وانتظمت كي تسرد، تُوصل، أو تخفي، إلى الأبد، استحالة ذات المحنة الكامنة في كل نص مركّب، مستحدث، ومشفّر، يغادر آليته بالامتداد، أم أنا بصدد قراءة أداء لوظائف عمرها يرجع إلى زمن تكوّن بذرة الخلق، أم أنا أتداول الحضور استنادا ً إلى ما هو قيد الغياب، وأخيرا ً، ما ـ هو ـ موقع النص الفني الذي غادر الرسم، الملصق، التوليف، باستخداماتها نحو عصر يعيد أقدم أسئلته: الموت الجمعي، والموت للجميع، والحياة لصانعي الرماد ـ الحضارة..؟ بمعنى هل الذاتي، غدا معرى، والمستور فضيحة، وهل قصد عدنان المبارك، ببراءة، تدوّين لغز (الآثام)، أم منحه جهده دوافع الاغتسال، كالذاهب إلى عرس، أو إلى معبد، أو كالذي يقوم برحلة من الزمن إلى الصفر، أو العكس..؟
الإجابة التي ستتجمع عندها تأويلاتي ـ كلماتي في الكتابة/ النص الآخر المستحدث ـ كامنة في أن: الوعي ما هو إلا تاريخ سحيق رتبّت الحواس نظامه بالعلامات. فالخطاب ـ إذا ًـ إشكالية، وليس محض تعبير، أو سلعة للتداول، بل سيتضمن ذات المبهمات النائية التي منحت أصابع أسلافنا قدرات الحفر فوق الحجر، العظام، والجدران، بما يتجاوز عمل السحر، ليسكنه، وليكّون ذائقة خاصة بدوافعها ـ المادية، والرمزية، والروحية ـ وهي الجمالية، إنما كأنها تتحرر من المحدود نحو مصيره: المغادرة، بصفتها إقامة؛ حيث النهاية تمتلك لغز تدشيناتها، كالبذرة حبلت بهذا الذي أنجبته، ولا نجده، إلا حاضرا ً حيث السابق عليه يتحقق بالامتداد. انه ليس الوعي مقيدا ً بشروطه، واليات انعتاقه، حسب، بل لأن الانعتاق ذاته يؤدي حضور المستور عبره، بما يميز الرهافة، ويضعها أعلى درجة في الإدراك، والمعرفة ، في بناء الخطاب، بصفته تضمن لغز انبثاقه، وقدراته على الاستئناف.

[2] المتلقي

قبل تبلور مفهوم موت (المؤلف) ـ بل وقبل ان يتحدث هيغل عن موت الفن ـ بزمن طويل، زمن يرجعنا إلى: العدد. فالعالم يتكون من عناصر؛ من ذرات، ومن جزيئات، ومن لا مرئيات أخيرا ً، وهو في تحولات ـ دورات ـ محكمة، تعمل باليات بالغة الإتقان، والدقة، منها ما هو قابل للمعرفة، بحسب أدوات البحث، ومنها ما هو قيد الاكتشاف. إلا ان هؤلاء الذين قسموا الزمن إلى وحدات، ومنحوا الأسفار تاريخها المدوّن، كانوا وضعوا مسافة بين: السحر ـ العلم، وبين: الوهم ـ الحقيقة، وبين: الظن ـ اليقين، بدءا ً بالفيزياء، مرورا ً بعلم العرافة، وليس انتهاء ً بصهر المعادن، وتشفير النصوص كي لا تقارن بالكلام العام، والشفوي، هؤلاء فرقوا بين ما هو مقنن وخاص بالآلهة ـ السابقة على خلق الإنسان ـ وبين الإنسان نفسه، الحاصل على نسبة الثلث منها، وهو ما وهبته كـ (نفس) ليأخذ الطين مداه لكائن تجاوز عصر : الذرات/ النبات/ الحيوان، نحو: الشغف بالمعرفة.
لقد قُتل المؤلف، ولم يمت، والقضية برمتها رمزيا ً تفرق بين المسافة: في الأعلى ـ والأعلى منه ، إلى ما لا نهاية، وبين الكائن المحكوم بالعناصر التي شكلت قيوده ـ وحركته، كي يولد من يفسد في الأرض، بالضوضاء، وفيما بعد بسفك الدماء. انه المتلقي، الخليفة، ممثل الآلهة، وظلها، أي، الفاصل بين اللازمن ـ والزمن.
فالمتلقي وحده، بحسب أدواته، يدوّن ويمحو، يؤسس ويهدم، يحضر ويغيب، فهو يعمل بقانون البذرة، لا تجدد من غير دفن، وديموزي أقدم مثال شعبي له، فالقانون هو (الشيء في ذاته)، نظام البنى والوحدات، والوليد ـ المحكوم بالإنبات ـ هو: المتلقي. وليس مثال جلجامش إلا إشارة لفك العلاقة. فالخلود ليس ـ وهي حكمة الملحمة من ناحية، وهي حكمة كاتبها من ناحية ثانية ـ إلا تتابع مواقف لترتب علاقة (الفاني) بالذي لا يموت، بل بالسابق على الموت أصلا ً.
عدنان المبارك، لا يقتل المؤلف/ الفنان، عبر النص، بل يدفنه: يركبه، يعيد بناءه، يشفره، عبر استذكار علامات ـ إشارات، رموز، كي يغدو النص الفني مرآة مزدوجة: تارة هي التي تحدق في الآخر، وتارة يحدق الآخر فيها. فأين هو (الوجه) ..؟ انه حاصل عملية التذوق ـ التفكيك ـ المعرفة. فالفن ـ على خلاف منطق أفلاطون ـ يمتلك قدرا ً كبيرا ً من التجريب، وهو مسار معقد بين الحتميات/ الموجودات، وبين ما هو قيد التدشين.
فالفنان يدفن، يخفي، كي يسهم ـ في عصر ازدهار جبروت الأنظمة الحديثة ـ ليمنح النص الفني الأسئلة ذاتها التي تتابع عبر الإجابات، لكن كي تعيد سلاسل الصدمة ـ الدهشة. فالموت لا يصبح إلا ممرا ً، مادام قد غدا علامة للحضور.

[3] الخامات والإنشاء

أكانت جدران المغارات، في الأصل، حماية للجسد، أم انها كانت شبيهة بعظام الرأس (الجمجمة)، كلاهما يؤديان دور الحماية..؟ أيا كان الاحتمال فان الرحم مهد لتكرارات لا تحصى سمحت باستحداث ـ للمرة الأولى ـ مفهوم أو نسق: التوليد. فالأصابع التي رسمت فوق جدران الكهوف، مهدت، للدماغ، ان يمنح اليد تخصصات غير تخصصها في الصيد ـ والقتل. فالمخالب شُذبت كي تُهذب لتجري أقدم صيغة للحوار، وللنسق المجتمعي ـ بعد تكّون المجتمعات المصغرة؛ من الكهوف إلى مدن الحداثة الكبرى.
وعدنان المبارك، لم يهدم سطح الجدران، بل وجد حياته مقيدة، أو محكومة، بنظام المدن الحديثة. فالجدران ليست وهمية، بل هي: شاشات، صور، حدود، ومساحات لكنها تتمتع بتدفق، تتابع، تقاطع، وتداخل لا يسمح للسكون إلا ان يتلاشى داخلها: يسكنها. لذا تراه جمع (15) شكلا ً هندسيا ً منتظما ً، إشارة تتجاوز مفهوم التزامن، أي وقوع حدثين في زمن واحد، نحو: حشد من الأفكار، الخواطر، والوقائع، عبرت عنها الأشكال بما يتجانس، يتلاءم، معها. فالتطابق لا يتمثل بجدلية الصورة مع الفكرة، كمفهوم كلاسي، أو تقليدي جدلي، إلا عبر سلسلة من المتغيرات/ الصدمات، أدت إلى بناء نص مركب، يكمل كل جزء الجزء الآخر، ويناقضه، ليقربنا من ـ ويبعدنا ـ عن رسومات الماضي ـ: رسومات عصر الكهوف!
ولعل أداء الأصابع لم يختف حتى لو كان العمل ذهنيا ً، ويجري داخل المنظومة الذهنية، فالأداة (الماوس) ضمن عمل الليزر، لم تصبح منفصلة عن علاقة الدماغ بالحواس، ومنها، حاسة اللمس، بعد حاسة البصر، وباقي الحواس، بالاستجابة وبرد الفعل، والتحكم بالنتائج. فالأصابع لم يتم استبعادها، لا عمليا ً ولا رمزيا ً، وكأن عدنان المبارك يخبرنا بالعودة إلى الأصل: الحيوان ـ الإنسان، لأن الإنشاء استند إلى السرد، لكن ليس على حساب عمل الجسد ـ الأصابع، ولا على ما هو خاص بالذهن، ولغز اشتغالاته العنيدة عبر الديمومة، أو إرادة الوجود.
لماذا بدا النص الفني شبيها ً بالنصوص القديمة؛ نصوص الكهوف، وما بعدها، تجّذرا ًوتحويرا ً، قربا ً وابتعادا ً، صلة وقطيعة ..؟ لا إجابة أدق من التراكم ـ التزامن المركب ـ الصهر، والتحول من الكم إلى النوع ..الخ، لتقليص المسافة أو اختزالها، لردم التناقض، ولكن كي لا يفقد مغزاه. فإذا كانت العشرة آلاف سنة قد تركت لنا تجارب مكدسة، في مساحة واحدة، تكّوم بعضها فوق البعض الآخر ـ من الرسم باللون الواحد إلى تعددية الألوان ـ فوق الجدار، لتحكي مرور الأجيال، والحوادث، والأزمنة، قبل عزل كل شكل أو كل صورة عن الأخرى، لنجد انها في النهاية ـ بعد عشرة آلاف سنة ـ تحكي زمنها الفني، بدمج جهد استغرق هذا الزمن، وتحولاته، كي يبلغ ـ في نصنا الفني المستحدث ـ دخول الحاسوب، وهو يؤدي أوامر الدماغ/ الوعي. فهل التوليف محض انشغال ذهن تصميمي لدحض مفهوم: الإعلان..، والعودة للعثور معادل بين (المعنى) والصورة، أم غدا بحثا ً في تقنيات التعبير، ومنح الخامة (الليزر) ـ وليس أدوات الرسم الأولى: الفحم، والخامات العضوية، والمعدنية ـ معادلها مع ما يدور في الرأس ـ وما يحدث خارجه ..؟
إن إعادة قراءة جدار تراكمت عليه أو فوقه رسومات عشرة آلاف سنة، هي من صنع (النوع) وليس من صنع (الفرد)؛ أي ثمة وعيا ً جمعيا ً قنن دور الذات في إطار تقاليد الرسم ـ والفن التشكيلي عامة. لأن الحداثة البدائية كانت ثمرة آليات مستحدثة دخلت فيها عناصر: النار وكيمياء الألوان وتقنيات حرفية التخطيط والتلوين، ومن ثم التعبير ..الخ، كي يتوازن عمل (الأنا) مع التراكم الزمني، ويدخل في إنشاء النص الفني الجديد: فثمة ما لا يحصى من الأزمنة، والخبر، والمخفيات، اجتمعت ـ ركبت/ تداخلت، في العملية الإنشائية، أو البنائية.
فالعلاقة إذا ً تدحض ـ وتؤكد، سياقا ً يمنح التطور مغزاه في الارتداد إلى الأصول، وفي الخروج عليها ـ وعنها: معه وضده معا ً، مادام النص الفني يواجه المتلقي بحشد يكاد يدحض أي قرار أخير لأي معنى من المعاني، عدا ديناميته، كي نستعيد قراءة مستحدثة لتراكمات أزمنة في نص قديم ـ جديد.
قد يشرد الذهن ـ للمقارنة ـ بالعثور على علاقة مع الملصق الحديث: السياسي او التجاري او الفني، وهي علاقة لم تظهر في الرسم العراقي بجلاء كما ظهرت ابان عقد الستينيات من القرن العشرين، بظهور خبرات تدربت ودرست تقنيات الحاسوب في الفن. على ان عدنان المبارك ـ بمحو اثر عمل الأصابع والخامات ـ يحرر نصه الفني من مفهوم الرسم التقليدي، كي يغدو ذهنيا ً، مع تقنيات الليزر، يمنح المتلقي الإيحاء بالعودة إلى أزمنة أقدم للحفاظ على العناصر والمعالجات المتوارثة. فهو لا يخاتل، بل يمسك بالمعنى في امتداده، من غير وضع خاتمة له. فهو لم يكرس نصه الفني ليؤدي دور (الدعاية) أو ضدها، بل اختار المستطيل، شكلا ً للعمل، ولم يختر الدائرة، أو المثلث، وهذه قضية أخرى تمهد إلى تأويل يستبعد المصادفة في اختيار الأشكال.
وبمعنى ما فان الملصق ـ بتعددية أغراضه ـ كتأثيرات الرسم، سمحت له ان لا يعمل ضد الرسم، بل اختار أشكاله، للحفاظ على مراقبة سلاسل من الوقائع، والمشاهد تواجه المتلقي، وقد اختزلت ـ بتجريد او تشذيب مناسب ـ في مشهد مركب، وهو ذاته الدال على استحالة تحديد معنى ما من المعاني، لكن هذا لصالح الكثافة، وليس لصالح الصفر.
لقد قرأ، وشاهد، وترجم عدنان المبارك عشرات الكتب الخاصة بالحداثة. فهو ـ هنا ـ يذهب ابعد من الحرفة. ولعل الموجة التي نادت بتحرير الرسام من الرسم، وتحرير الشاعر من الشعر، والكاتب من الكتابة، أي ان يصبح كل إنسان رساما ً، مثلما بإمكان أي مواطن ان يمتلك خبرات أسلافه، بل ويتجاوزها، بحسب إشارة لتروتسكي، فانه يكون قد حرر نفسه من الحرفة، وقيودها، كي يمتلك بدائيتها المستحدثة. بمعنى: تقمص ما دفن في (الدماغ) من أزمنة، وتحديات، ومشفرات، تركها تأخذ موقعها في الإرسال. فالخبرة ليست (قبلية) إلا لأنها كامنة، ماديا ً، وقد وجدت تحررها بمعالجات لم تتأطر بشروطها المتزمتة، أو غير القابلة للتطور، والنمو.
فالنص ليس إعلانا ً، إلا بصفته يمتلك تقنيات الملصق الحديث، ولكنه، في الوقت نفسه، استبعد مجاله التخصصي. فهو تجنب مفهوم موت الفن، بتحوله إلى سلعة، ليمارس الدور ذاته الأرواح التي صاغت خطابها فوق جدران المغارات. سحر معزز بالتجريب، وخيال استند إلى الواقعية (البراغماتية)، فهو ليس عملا ً فنتازيا ً، راديكاليا ً، دادائيا ً، استفزازيا ً للذائقة ـ أو للبصر، أو للتقاليد عامة، ولكنه، عمليا ً، كمثل الذي يتكلم بأكثر من لغة، وبأكثر من دافع، ولأكثر من لوعة ..الخ، كي يقربنا من المعنى، وليس كي يكتفي بالعمل ـ من اجل العمل. فمع ان ما سعى إليه (مالاراميه) ـ وتيار الفن من اجل الفن في فرنسا، وجهود الانكليز الجماليين في هذا المجال ـ قصدت الحفاظ على الدلالات الخالصة للفن، وعدم خلطها بمفاهيم التعبير، وسيادة اضطرابات (الأنا)، وكل ما هو مضاد للأعراف (النقية/ الخالصة)، فان مفهوم (الفن للفن) ليس زائفا ً، إلا عندما يتم عزله عن مجتمعه الكلي، أي عن الإشكاليات ـ وليس المشكلات ـ التي عالجتها أقدم النصوص ـ الشبيهة بالفن وصولا ً إلى الفن وما بعده ـ حيث استفاد، واستثمر، وتغذى، عدنان المبارك بمعالجتها تلقائيا ً، متحررا ً من القيود، إنما بمهارة ليست فطرية.
إذا ً، الخامة المستحدثة تبقى ذات صلة بالعناصر ذاتها، لكنها بدل ان تمتلك كثافة، وخواص، الخامات القديمة، امتلكت آليات عمل الليزر، واليات عمل الكومبيوتر، من ناحية، وبمهارات السيطرة على الأشكال، والتحكم بها، والحفاظ على المعالجات الكلاسية (الأسس) التقليدية، المدرسية، والمجربة، من ناحية ثانية. لذا فان ثمة انتقالة من الرسم الشائع إلى الرسم بالحاسوب (الفوتو شوب)، وبالعكس، صاغ معادلا ً يسمح للمتلقي بالعثور على استثمار وحدات بالغة القدم، تقع في المدافن، وفي الطبقات الغائرة من الدماغ، في صناعة حداثة النص الفني، كحاضر غدا ماضيا ً، وكمستقبل قيد الدخول في ماضيه، لكن الإشكالية تحافظ على توترها، إزاء عالم مازالت ثمة جمرات مخبأة تجرجرنا بالنظام ذاته الذي أنتج بذور الخلق الأولى، ومنحها شروط تحديها للاندثار.


[من الوجه الى المجهول . تأملات في بورتريهات عدنان المبارك]


[1]: مكونات، تتابع/ تحولات

لم يكن للبورتريه ـ الرأس تحديدا ً ـ أهمية تذكر لا في تماثيل الآلهة الأم، ولا في رسومات الكهوف ـ بين 100 ـ 20 ألف عام ـ فلم يكن الرأس قد استقل بعمله، كمركز. كان الجسد مأوى اللغز، لغز بذرة الخلق، كتاريخ للعصور اللا تاريخية، وهو اللغز المزدوج: للغذاء ـ وللخصب. فلم تدجن الحيوانات، وتروّض، ولم يتم انتقاء المحاصيل، وتحديد قيمتها، إلا كجز من آلية البقاء. فكيف انبثق مفهوم التدوين من اللا تدوين، والزمن الأرضي من اللازمن ـ أو من الزمن الكوني، أو من العدم..؟ فلا رؤوس للدمى، إلا كعلامة فائضة. وفي رسومات الكهوف، إشارات نادرة لنقاط تمثل الصياد، فالحواس مازالت تؤدي ما عليها من وظائف، ولم يتح التراكم لها ان يتحول الرأس إلى مركز. فكانت العصور البدائية السابقة لعصر التدوين، تدوّين تاريخ (القلب) ـ الجسد/ الدم/ وطقوس القتل ـ من ثم، عندما لم يعد (القلب) وحده لغزا ً، ولا الرحم، تربع الرأس على العرش. انه أقدم شكل للمثلث: الهرم، النظام وقد أعاد للمركز سطوته على القاعدة. ولم يتأسس هذا النظام ـ التشكيل ـ بمحض الخيال، أو بقوة خارجية مستقلة عن (التجريب ـ التاريخ)، بل غدا التدوّين أقدم عمل لقلب الاقتصاد (العشوائي) إلى الاقتصاد المنظم. فالهرم لم يتخذ المثلث علامة له إلا إيجازا ً لنظام: الصياد ـ الطرائد. فالهرم ليس رمزا ً للموت، بل لقوته، وقوة الموت، ـ منذ مقتل ديموزي وانبثاقه، دون إغفال اشتغالات مراثي سومر، ومراثي أكد للنسق ذاته، لكن جمعيا ً، بعد ان كان بحدود الإله الواحد ـ هنا، مستمدة من التركيب المعقد للمتناقضات الخاصة بالرب القدير، وهو يستعين بالعناصر الأرضية في خلق الإنسان، الطين والماء، وفي الأسطورة البابلية، الطين والدم. قوة الهرم تعد أقدم (بورتريه) للوعي الجمعي ـ وآلياته ـ بالتجريد الهندسي. فهو رمز الإله، ولده، وهو الإله ـ الفرعون، الذي لا يموت، وإن مات ـ كجسد ـ فالروح ستعود له. فهو قوة كامنة، قوة دائمة، قوة لا يمكن قهرها. بمعنى غدا (البورتريه) مركزا ً لاواعيا ً للصراع ـ العام والخاص ـ الصراع مع الطبيعة وضواريها وقسوتها، ومن ثم الصراع مع البشر ضد البشر، صراعا ً تطوريا ً لخص تاريخ صنع الأدوات، وتقدمها. تاريخ تبادل السلع من الفوضى إلى حرية السوق. وليست أسطورة (نرسس) إلا مثال يؤكد ان ما رآه نرسس، فوق سطح الماء (المرآة)، ليس محض اكتشاف للرأس، فحسب، بل دافعا ً لمنحه كيانه الجديد. انه ليس أنانية محض، وإفراط في الإعجاب، وغلو إلا للانتقال من (المخفي) نحو المعلن: من الجسد/ الأم، الكهف، البذرة، النواة ..الخ، نحو المفتاح. فإذا كانت تلك الكيانات تمثل القفل، فان انشغاله بالبحث عن المفتاح، سيسمح له بصناعته، وليس بالتنقيب عنه. انه عمليا ً أقدم تعريف لنظرية المؤامرة: القصد المخفي وقد غدا يعمل بالحتميات في مواجهة العشوائية، والاضطراب. على ان نرسس لم يكتشف وجهه في الماء ـ كمرآة ـ بل أصبح الوجه يحمل تاريخ الوجوه منذ تشكلت جرثومة الخلق ـ بما تمثل فيها من إرادة للديمومة ـ وصولا ً إلى لحظة: الدهشة، الصدمة، المعرفة، والمزيد منها. فالهيئة (الوجه) ـ كما الهرم ـ خلاصة أزمنة بلغت ذروتها بالأداة ـ الاكتشاف: البصر أولا ً، ومن ثم الحواس المرافقة، ليعّبد دربا ً ليس هبة ـ كما يهب الجلاد الحرية لضحاياه، وكما يهب القائد أوسمة لأبطاله الموتى ـ بل ضرورة تدحض حواجزها، وحجاباتها، كي يكف نرسس عن الإعجاب بذاته، ولكن ليس نحو الإعجاب بالوجه البشري، بل لتعديله، كي لا يكون حضوره محض وجود حدث مصادفة، أو عرضا ً، بل بما تتطلبه دينامية التدشين، والممارسة، لمنح الديمومة منطقها، وآلياتها، وغوايتها، ولغزها، وجمالها، وكي يغدو الفن ضرورة محركة للحريات؛ حرية تهدم مرآتها، في هذا النسق، كي لا ترتد، أو تنغلق. كان البورتريه، في الماء، وسطا ً بين الأرض والهواء، بين: الأسفل وبين الأعلى، الماضي وما سيولد، المرتد والمتقدم ...الخ، ولكنه سيغدو، عبر الأزمنة، لصيق القوة الأكثر تحكما ً في المصائر، مصائر البشر كافة. فأولى (الصانع/ الحرفي/ الساحر) ـ في النحت والرسم والفخار ـ هذه العلامة، أبعادها كاملة: بورتريهات ملوك، رجال معابد، تجار، قادة، سحرة، كاهنات ..الخ، بما تمثله من هيمنة على الموارد، أي الاقتصاد المنظم، والقطيعة مع العشوائية. على ان التحريم لدى عدد من القبائل، يؤكد منحى مزدوجا ً لرأس المال ـ الثالوث المكون من: الخطاب/ القوة/ الثروة ـ فهو يحافظ على سرية (التراكم) ومنحه لغزه البدائي ـ الماورائي/ المثالي .. الخ، ومكانته العليا أيضا ً. فالتحريم لم يدم طويلا ً، بعد ان غدا (البورتريه/ علامة المركز؛ السلطة) المتحكم بالسياق الجمعي للتراكم. فهو صراع خفي بين القلب، وبين العقل. بين الجسد والصورة، بين المخفي والممكن، وأخيرا ً، بين: الظلمات ـ والنور. فالبورتريه أرخ، عبر النصوص الفنية، وما تبقى منها، اعقد الصراعات، والتحولات، بما يمثله (الرأس) من مكانة في الديمومة، في مواجهة الاندثار، والغياب. فالموت ليس محض ملكية ضائعة، مع انه يمثل الخسران، والفقدان، والتوقف عن العمل (الإنتاج)، بل سيمتلك قوته بلغز ان: الحياة لا تنبثق إلا منه. فلا زوال للملكية، في الأخير، مادامت الشمس ستشرق مجددا ً، ومادمت البذرة، لن تنمو إلا بالدفن. آليات ظاهراتية تمتلك أنساقها مهما استقلت الأشكال عن مكوناتها، كما في الفن الحديث. فالرأس لم يعد (الطاغية) أو (الإله) بل هو الضحية. والأمثلة ناصعة، وفي مقدمتها السيد المسيح، بعد قصة حلم إبراهيم وهو يرى انه يذبح ولده إسماعيل. فالضحية ـ هنا ـ غدا الفعل المقدس: الذي تكمن فيه سرية الديمومة، في مواجهة الفناء. فالاشتغال الرمزي، بواقعيته، خيال صاغته الأسس التجريبية، وخضعت لمنطقها، حتى ان استقلاله ـ بل وعزله عن الجسد/ البدن ـ شبيه بالعملة ـ النقد ـ كقوة دالة على ما فيها من متراكمات، مادية ورمزية ومشفرة، تؤدي دورها كآلية للاختزال، والتحكم بالزمن. فإذا كان البورتريه قد بدأ صفرا ً ـ من غير رأس تقريبا ً ـ في الاقتصاد البري، وصولا ً إلى الحداثة ـ والعولمة، فان هيمنته ستتضاعف، مع تحول العنف، من تلقائية الغريزة ـ إلى تنظيمها، ومن عفوية القصد، وبرمجته، كنظام لا يعرف الرحمة، بعزل الهوى عن العقل، وعزل التبذير عن التراكم، فان المجهول وحده سيأخذ موضوعات الوعي، بالأهمية ذاتها للحياة كاملة. انه السلطة، بتراكم خزينها الطويل. سلطة تراكمت فيها عصور: الزواحف/ الثدييات/ والإنسان الحديث/ مقننة بطبقات الدماغ الثلاث. ومقولة ديكارت: أنا أفكر فانا موجود إذا ً، دالة على ان عصر (الجسد) برهن ان الوعي اقترن بالوجود، وليس بماضيه، ولا بغيابه، ولا بما يتعرض له من تهديدات بالزوال. انه صراع بين عناصر ما تحت النظر، مع عناصر ما فوق النظر: الثقيل/ الخفيف، الكثيف/ الشفاف، الخفي/ المعلن ..الخ، كي يمثل البورتريه التاريخ الذي سيعيد (الرأس) نبشه، ووضعه كقوة للديمومة. ومرة أخرى يغدو الموت مركبا ً من فعله وما ضد هذا الفعل، فالمفكر ـ الذي يدير الإنتاج ويتحكم به ـ آليا ً، ووفق اللاوعي الكلي ـ الكوني، الإلهي، والأرضي، هو الموضوع بتاريخيته، مجده، وأبهته. وهو، في الوقت نفسه، سيغدو: الأثير. فالا صورة، بعد تفكيك الذرة، وصولا ً إلى المناطق اللا مرئية فيها، قوة تماثل اتساع الكون إلى لاحا فاته، كلاهما شكل مكونات (الدماغ) ـ العقل أو ماكنة التفكير ـ بالأشياء لذاتها، وفي ذاتها. وبعيدا ً عن التجربة المعقدة للتصوف، فان قراءة تاريخ البورتريه، بمعنى من المعاني، قراءة لتطور الدماغ، وقدراته على النمو. ومع ان (فوق كل ذي علم عليم) بالغة الدقة بتجريبيتها، فان البورتريه، لن يتخلى عن توثيق ان (الرأس) غدا صورة رمزية للكون، في حضوره الذاتي ـ بل والفردي الخالص. فهو ليس علامة للتاريخ، أو علامة تاريخية، وحضارية، فحسب، بل تمثلا ً للأسرار بانتقالها من المخفي إلى الظاهر، ومن العدم كمفهوم يماثل الصفر في قوته الديالكتيكية ـ قوة تماثل حضور الزمن من اللازمن، والوجود من اللا وجود، ذلك لأن العناصر التقليدية ـ منذ اليونان ـ لم تعد تسد التركيب الذي تقوم عليه المادة. فإلى جانب الزمن ـ كعنصر حاسم ـ هناك المضادات لها، الداخلة في تركيبها، كقوة غير أحادية تتحكم بما رصده (الدماغ) من اكتشافات، فلا العناصر الأربعة ـ الماء/ التراب/ النار/ الهواء ـ وحدها تمد الخيال بما هو ابعد منه، بمفاتيح لا تتقدم ـ عشوائيا ًـ وإنما ثمة عناصر لا مرئية كامنة في كل خلية من الخلايا ـ خلايا الدماغ، ومشفرات الجسد برمته، مع إنها، بما نعلم، تلقي الضوء على ان ألجين الواحد يتكون من ترليونات الوحدات! فالعناصر التي كونت البورتريه، لا تكمن في مواجهة الغياب حسب، بل لتأسيس حضور آخر يبتعد عن (الملكية) والوجود التراكمي للمادة. انه الحضور الرمزي للتشفيرات ذاتها التي ستمنح، كل ذات مفكرة، القوة ذاتها لدى كل من كان له الحضور في الشهادة ، وفي الوجود؟ فهو شهادة غياب استحال إلى مد الحضور بما لم يُدشن بعد.




[ من السرد إلى الصمت: العلامة وباثاتها]

[1] أقدم من الرسم
لن يصبح الأعمى رساما ً، مع أن كبار الرسامين عميان! وهذه ليست مفارقة، أو نية بالتهكم. فبيكاسو قال في ذات مرة: إذا كنت تريد أن تكون رساما ً فما عليك إلا ان تفقأ عينيك! الإشارة الأخيرة ـ وبعيدا ً عن التأويل والاحتمالات ـ ترجعنا إلى الزمن الذي نشأت فيه تقسيمات عمل وظائف الأعضاء، فبعد ان كانت لكل حاسة وظيفتها العملية (المحددة)، في ذلك التحول، ابتكرت ـ لأسباب تستدعي حفريات إضافية ـ الحواس واجبات ارقي، وفي مقدمتها: استحداث الإشارات، وصولا ً إلى العلامات والرموز. فأصابع الصياد ستستبدل عملها ـ بالقنص أو بالدفاع عن النفس ـ نحو الرسم فوق جدران المغارات، فضلا ً عن صناعة أقدم المجسمات والتماثيل، والنقش فوق الأواني الفخارية. وكان دور العين قد تجاوز المراقبة، ليغدو أكثر فاعلية في بناء الروابط الاجتماعية البدائية، فضلا ً عن دور الأصوات ـ ككمات أو موجات ـ وقد تداخل بعمل باقي الحواس، في نشأة الدماغ، وفي انساق العمليات السحرية وتحولها إلى ضرب من ضروب التفكير.
وبطبيعة الحال نضجت حاسة البصر بعد التطورات الحاصلة في باقي الحواس: الشم، اللمس، والتذوق، بعد ان كان السمع قائما ً عند المسافات مع المحيط، بوصفة المجس، والمنبه.
على ان تفكيك عمل الحواس الخمس، بين عليا وأرضية، وكجسور بين الكائن والخارج، نجد البصر، بعد السمع، أكثر ابتعادا ً عن عمل: الشم، التذوق، واللمس، الأكثر صلة بالأرض، لكن هذا التقسيم سينبني داخل آليات عمل الدماغ...، هذا إذا كانت هذه الحواس قد وجدت كأدوات لحفظ الكائن، وهي تتوسع في القراءة، والتعرف على واجبات مستحدثة تماما ً. بمعنى إنها ـ الحواس ـ تشترك في الغاية ذاتها: حفظ الكائن من الغياب.

وقد تكون أقدم صدمة رافقت الإنسان (العاقل) غير معزولة عن الخطر الخارجي: المداهمات، والإبادة، فالإنسان سيكتشف انه وجد في عالم غير آمن، قائم على الخطر، فالموت سيشكل أقدم حافز لابتكار انساق (تعبيرية) للموازنة بين (الغياب ـ والحضور)، ولم يأت تقسيم عمل الحواس إلا بوصفه نتيجة تراكم، وتعديلات، وخبرات استغرقت أزمنة طويلة.
النصوص المتوفرة ـ الشبيهة بالفن والتي مهدت لظهوره والتي توفر مقاربة مع بعض ابتكارات الحداثة ـ لم تذهب مع الريح، كالأصوات، فهل يمكن عزلها عن مخفياتها التي توارت فيها، واندثرت داخلها، حد المحو...؟ فمن كان باستطاعته البرهنة على وجود (الأصوات) قبل تكّون حاسة السمع. لا حاجة للاستعانة بنظرية ...، فالموجودات وجدت قبل ضرورة وجود أي برهان على وجودها...، لكن (الهواء وباقي الإشعاعات اللا مرئية) لا يمكن عزلها عن باقي العناصر ...، فهو جزء من مكونات المخيال، ومحرك للاتساع في المساحات، والتصادم، والامتداد ...الخ، الهواء الذي انتظم ليصبح صوتا ً...، إشارات، رموزا ً، وعلامات تميز كل ناطق عن الآخر، إن كان ذكرا ً أو أنثى، كبيرا ً أو صغيرا ً، معاديا ً أو صديقا ً، مثلما تمنح هذه الأصوات وظيفتها في الأبجدية.
بمعنى ان الدمى، والرسومات، والأواني .....، امتلكت خاصية (المدفن) ـ المتحف/ الدماغ/ الكهف/ الرحم ...الخ ـ فالصمت فضّاح. والعين التي لا تمتلك قدرات الإصغاء، تفقد خاصية البصر، والاستبصار بعد ذلك، فهي مركبات، ككل عنصر مهما بدا خالصا ، فهو نتيجة صهر، وتحولات، فهي إذا ً تحكي الحكاية بفعل القاريء، وبتنوع القراءات، وأزمنتها، فان ما توارى في الأثر يغدو ممرا ً نحو الأصل.
واحد أهم الاستنتاجات تبرهن ان الرسم هو ذروة عمل باقي اشتغالات الحواس، من الشم إلى حاسة اللمس، لأنها جميعا ً مهدت للرسام صياغة أبجديته المرئية بالعناصر ذاتها التي راحت (الحداثات) تجدها، هناك، في البدائيات، وفي الأصول.
على ان (الكتابة)، وإن جاءت متأخرة، إلا إنها ليست حاصل جمع، بل إنها إعادة تفكيك تلك البناءات، وفي مقدمتها الانتقال من المكان إلى الزمن: من المحدود إلى ما هو ابعد منه، ومن الداخل إلى الفضاءات. فالبصر ولد نفيا ً ـ مكملا ًـ لردود الأفعال المبكرة، في المساحات الضيقة، المحدودة، ليتمثل المشهد تعليميا ً، نفعيا ً، من ثم انتقاله إلى مجالات: الرهافة/ الحساسية، مقدمة للفن، ومتطلبات انجازه.
فالأشكال اختزلت إلى: إشارات، وقد اقترنت الأصوات بعدد منها، تمهيدا ً لظهور الحروف. فالكتابة ليست صامتة، بل مصمتة. إنها شبيهة بسطح البحر في يوم ساكن، إنما العواصف كامنة في القاع. فالإشارات التعليمية اكتسبت مجالها السحري، برصد المرئيات، بما تضمنته من تنفيذ مزدوج للوعي ـ المكتسب ـ بالأنظمة الجبرية، التي راحت تشتغل بتأسيس مجالها اللغوي.
والكتابة التصويرية مثال مبكر للتراكم، كأنه ثمة برمجة ستتشكل من غير مبرمج! وكان هذا بحد ذاته صدمة غير قابلة للتفسير ـ كصدمة الغياب مكملة بلغز الولادة ـ مما سمح للمخيال ان يذهب خارج حدود الوقائع. كانت رسوم الكهوف إشارة لحقبة بدء ما يسمى بالتاريخ، ليس لأنها مهدت لظهور (العقل) والتفكير، بل لأن ردود الأفعال، والأفعال، وسعت الحيز المكاني ليشمل موضوعات لم يغادرها العقل، كالحركة، والمحو، والتجدد، وما هو كامن في الزمن، والضوء.
عدنان المبارك، كتب، وترجم، الكثير من الموضوعات التي عالجت هذه المعضلات، بعد ان وجد مصيره مقترنا ً بالمعرفة، الثقافة، في وأرشو ـ بمعنى في أوربا ـ بعد ان استمد مقدماتها من جيلي الأربعينات والخمسينيات، في القرن الماضي، في بغداد. فالكاتب الذي سيجد أصابعه تعمل عمل البصر، مثال نادر لنموذج لم يغب عنه تاريخ الحضارات، أي إعادة تمثله، وفي الوقت ذاته، لم يغب عنه انه كائن انشغل بمصيره ـ مع موجات الحداثة وضدها ـ ليشكل التراكم، المعرفي، المفهوم ذاته الذي كان السومري قد بناه بالجمع بين العناصر المتضادة، المتغايرة، واستقصاء الفجوات، والروابط، والفجوات، بينهما، داخل النص المركب بفعل عناصر التجربة، وبفعل الرؤية التأملية.
إلا ان حضوره كرسام، في وقت متأخر ـ بعد ان أمضى سنوات طويلة في الكتابة ـ جدير بالقراءة، في زمن آخر مقيد بحقبة ما بعد موت: الكتابة، والفن، والإنسان. فبعد ان بذل جهود استثنائية في الترجمة، لموضوعات العصر، والكتابة في معضلاتها، وانحيازه لأكثرها علاقة بالذائقة الجمالية، والحريات، وجد انه لا يرسم بمعزل عن وعيه المعرفي حسب، بل كي تتشكل تجربته تحديدا ً في زمن العولمة، وإشكالاتها، بما يمنحها موقعها المؤثر في بناء رؤيته، وعناصرها، وبكل ما يمثل فعلا ً يتجاوز التعبير، ولكن من غير إلغاءه، نحو الهوية . فالكاتب لا يصمم، وغير مشغول بالحلول التقنية، ولا بالجمالية، بل باللغز ذاته الذي راح يراه يكّون مداه الأبعد: ليس غيابه، بل حضوره العنيد.
بمثابة خاتمة

يبدو الكلام عن بعض التجارب الفنية العراقية يماثل الحديث عن الحركات السرية، كل منهما لا يترك إلا علامات تستدعي الحفر ـ وليس الظن أو الاعتقاد ـ من اجل إعادة التقييم ـ والاستنتاج. ومثل هذا (التوجه) يستدعي جهدا ً نقديا ً موازيا ً لعمل الحداثة وهي تفرض حضورها على المشهد العام لفن القرن العشرين.
فعندما حاولت تقصي تجارب الرسامين، بدءا بنيازي مولولي ـ وليس بجيل عبد القادر الرسام ، في كتاب (الرسم المعاصر في العراق) فقد حاولت عزل العاطفة والتأكيد على المساحة المشغولة من قبل الجميع، وليس عبر عدد من الأسماء الأقل تجاهلا ً، وإهمالا ً، فان إعادة القراءة ـ بذاتها ـ تؤكد إننا إزاء ظاهرة مركبة، ليست خاصة ببلد يتطلع لمواكبة العصر، أو التوقف عند فلسفات (فنية) شكلت معالم القرن العشرين، بل ثمة اعتراف بمدى صعوبة الحديث عن أحكام نهائية، أخيرة، أو غير قابلة للنقض.
كان رحيل جواد سليم المبكر، نهاية رمزية لجيل الرواد، وهي نهاية تماثل خاتمة حياة إبراهيم زاير، للجيل الستيني، فيما كان الفن ـ بعد 1980 ـ يستمد بعض توقداته من هذين الجيلين، محاولة لرسم الصراع بين غياب الفن وحضوره، ليس استنادا ً إلى أسماء المشاركين، وانحيازهم للفن، وإعادة قراءة ما يوازي حقائق ما تحت الأرض، ومعرفة ما يحدث على امتداد عواصم الحداثة فحسب، بل لأن (الأنا) أصبحت في مواجهة عزلة وجودية (انطولوجية) فرضتها المسارات غير الفنية لهذا القرن.
إنها عزلة تتمتع بالتمويهات، فالنخب لم تعد مؤثرة أو قادرة على مواجهة ما يحدث فوق الأرض. وإذا استبعدنا هذه العزلة فان الخطاب الفني برمته سيفقد مقاربته مع ما صاغه، موزعا ً، ومتناثرا ً، عبر مساحة من الصعب الإلمام بأطرافها من غير جهود مؤسساتية، وليست فردية.
وليست تجربة عدنان المبارك، من السينما إلى الرسم، مرورا ً بالكتابة في مجالها الأدبي والنقدي، فضلا ً عن الترجمة، والمساهمة العملية اليومية بردم الفجوات بين بلده والبلدان الأخرى، إلا نموذجا ً لتجارب أخرى تكاد تكون مجهولة، لأسباب في مقدمتها ان العناية بالفن، واجهت إهمالا ً صريحا ً، أو بحدود الندرة أو الاستثناء.
ومثل هذا (الحكم) لم تولده أو تنتجه إشارات تخص، موت الفن، وموت المؤلف، وموت النص، بل موت المتلقي الذي كاد يحقق بعثا ً ـ بحدوده الرمزية ـ للمفاهيم الأقل عرضة للزوال. فالموت الأخير واكبه ازدهار لوسائل الاتصال الأكثر معاصرة، وهي تولد، باللحظات، وليس بالأيام أو الأجيال. فالمتلقي لم يعد يمتلك آليات إعادة الحياة للنصوص الفنية، إلا بحدود تيارات العولمة، واشكالياتها، بل وجحيمها، بهيمنة أيديولوجية (حرية السوق) وما ستتركه من احتمالات مجهولة المصير.
لأن السؤال: أين يذهب الفن ...، في الفضاء المفتوح، أو غير المقيد، وما هي المعضلات ـ الفلسفية/ الجمالية ـ التي سيتبناها المستقبل في الأدب والفن، في عصر (تفكيك) القارات، والأمم، والمؤسسات التي كادت تبدو غير قابلة للهدم ....، أكثر صلة بسؤال يخص دينامية الفن: أين يذهب الإنسان ..، بمعنى: ما هو مصيره..؟
ولا يصدمنا عدنان المبارك، عندما تساءل، في نص أخير (أيلول 2014): من أنا...؟ حد انه دوّن عنوانه لاستلام من يخبره بذلك!
عدنان المبارك، وقد احترف الكتابة، وجد ان الفن ـ الرسم ـ يرجعه إلى المدافن التي لم تنغلق أبوابها إلى الأبد. لقد رجع إلى معضلات: الخلق، وتكون بذرة الحياة! وهو درس في القيم، المعايير، وليس محض محنة آنية. انه سؤال يجد إجابة مؤكدة، لا مجال للغش فيها، عندما يمتلك السؤال لازمنه ـ في الزمن، مثلما يمتلك: زمنه ـ إزاء اللازمن.
هنا يكون الإنسان علامة حياة، كي يمتلك الفن شرعية مغايرة لتاريخ آخر حاولت اللا شرعيات ان تجعله تاريخا ً للشرعية. فالحتميات، بمختلف اتجاهاتها ـ ومنها الفن بوصفه مرآة ـ عملت على منح الافتراضات صلابة القوانين، في الوقت الذي كان الفن يقاوم احتضاره، وتحوله إلى سلعة، والى سلعة تكونها قوانين الأشياء، وليس قانون الحيوات، وأسئلة الوجود.
ألا نرى ان مئات المهجرين، قسرا ً، أو طواعية تحمل الأسباب ذاتها، للمبدعين العراقيين، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا (2014)، تمثل واحدة من انساق القرن العشرين وخصائصه: القرن الأقل ثقة بالمثل، والأكثر رضوخا ً لمسارات التصادم ـ التصدعات، وان تجربة عدنان المبارك ـ وهي في الأصل لا تبحث عن الفن بمعزل عن الموجودات، ولا الموجودات عن الوجود ـ ذات مسار جدير بالقراءة، والتفكير، ليس لأنها تمتلك أسس أقدم أصول للفن/ والكتابة، بل لأن المستقبل لا يتشكل من غير فلسفة لا يتحول فيها الإنسان إلى بضاعة، وأشياء، وإعلانات.
من أنا ....؟ سؤال عدنان المبارك، لا يقذفنا في الظلمات...، مع إننا نتذكر سؤال عميان أفلاطون في الكهف: أيفضلون الانتقال من النهار إلى الليل، أم من الظلمات إلى النور، ولا نغفل معضلة صخرة سيزيف ـ وقد ظهرت صخرة عبعوب بديلا ً عنها في بغداد مع إنها اشد مرارة وفكاهة وفنتازيا ـ مثلما ستتحول مرآة نرسس ـ بفرديتها ـ إلى مرآة كوكب يواجه أزمات يومية، أو محسوبة بأجزاء الثانية....، أقول انه لا يقذفنا في المتاهة، بل علينا ألا نستبعد مصيرنا مادمنا نشهد حتميات التحول تجري في جحيم لا يقارن بجحيم دانتي الذي قد لا يصبح سوى فردوسا ً، ليس لأن الإجابات التي تفتقد إلى المنطق أو العقلانية تضمنها طوفان العنف، وصناعة الإبادات، وما هو أكثر قسوة من الكراهية بين الشعوب، وبين الشعب الواحد، فحسب، بل لأن الأمل بحياة حقيقية غدا رهانا ً لا يعّول عليه كثيرا ً.
إذا ً فانا ـ قبل ان تتعرض ذاتيتي إلى التفكيك والدحض ـ مارست دور المتلقي في قراءة سؤال عدنان المبارك: من أنا ...؟ للمشي من غير ضرورة للحديث عن الدرب، فهو موجود مثلما المسافر لن يعمل على دحض السفر. فالتجربة الإبداعية لدى الكاتب والفنان عدنان المبارك قامت على أسس (الريادة) في العراق الحديث، وقد نضجت في البلدان التي تكونت فيها، حداثة جاورت محركاتها، ومخفياتها، ولم تتخل عن ان تكون مثيرة للجدل، بإعادة تقصي مفاهيم (الأمل)، ليس للفن، بل للإنسان، كي لا تكون العدمية، عمليا ً، قد برهنت إنها هي: الأصل. بل كي تحفر في أقنعتها، بدل ان تصنع أقنعة تحت هالات: المشي بحثا ً عن الذي لا وجود له!




5/12/2016

Az4445363@gmail.com






ليست هناك تعليقات: