*د. آمنة بلعلي
مع تسارع أثر الوسائط التفاعلية التي أسفرت عنها وسائل الإعلام والاتّصال الجديدة، خاصّة الإنترنت، ظهر تصوُّر جديد يسمّى التصوُّر الرقمي أو الإلكتروني، الذي يجعل من النصّ مجموعة من الشذرات التي تربط بينها محدّدات رقمية هي ما عرف بـ«الروابط»، وذلك من أجل خلق تفاعل بين النصّ والوسائط وتسهيل التنقُّل بين ثنايا النص، وتوجيه القارئ للتفاعل مع النص بواسطتها، وكان ذلك بتأثير من تحوُّلات الكتابة الرقمية عند الغرب، منذ بداية ستينيات القرن الماضي، والتي تحقَّقت، بصورة واضحة، في تسعينيات القرن الماضي. فاقترحت مفاهيم ومصطلحات جديدة تجاوزت المصطلحات التي روّجت لها الدراسات النصّية مثل النصّ، والتناصّ، والبنية، إلى مصطلحات مركّبة تجمع بين النصّ والوسيط، كالنصّ المتفرّع HYPERTEXTE، وقد تُرجِم بـ«المفرَّع، والمتشعّب والمترابط، والشبكي»، ثم شاعت صيغ أخرى تعبِّر عن علاقة الأدب بالوسيط الإلكتروني كالأدب الإلكتروني والأدب التفاعلي والأدب الرقمي وغيرها. وقد سعى سعيد يقطين إلى شرح مفهوم النصّ المترابط الذي خلق إمكانيات متعدِّدة للقراءة التي يتفاعل القارئ فيها مع النصّ بفضل الروابط، ويعدّه نمطاً جديداً قائماً على الانفتاح(1). ونشهد، اليوم، مع الكَمّ القليل الذي كُتِب حول هذا النمط الجديد ومع التفاعل المحدود من الأدباء معه، مجموعة كبيرة من المصطلحات التي يُرَوَّج لها في الثقافة النقدية العربية، والتي توثِّق العلاقة مع التقنية أكثر من الأدب، من قبيل: الأدب الافتراضي، والأدب الإلكتروني والرقمي، والأدب التوليفي، والأدب التوليدي، والأدب الفرجوي، وغير ذلك.
إن هذا النمط الجديد من الأدب يفرض شروطاً خارج شروط اللغة التي تُعَدّ المكوِّن الأساس للأدب، وعوض التّعامل مع اللغة أصبح التعامل مع الوسيط الإلكتروني، وعوض امتلاك القدرة على التشكيل غير المألوف للغة وعقد علاقات غير طبيعية بين الكلمات لإنشاء صور، وإحداث إيقاع أصبح هناك شرط امتلاك القدرة على الإلمام ببرامج معيّنة ومهارة الإبحار في الشبكة، أو الاستعانة بمن يملك هذه المهارة من مهندسي الإعلام الآلي، وقد عُبِّر عن هذه الحالة بـ«التفاعل» الذي وُصِف به هذا النوع من الأدب، كما أصبح صفة لقارئ هذا الأدب.
والذي يهمّنا هنا هو: هل جاءت العلاقة بالرقمية بنمط جديد في الكتابة، فخلقت بلاغة جديدة نستطيع من خلالها أن نتحدّث عن جنس أدبي جديد؟
لقد طُرِح هذا السؤال في النقد الغربي في البدايات الأولى من هذا التلاقي، وعلى الرغم من أنهم كانوا يبشّرون ببلاغة جديدة،إلا أننا نجدهم لم يتمكّنوا من تبيّن هذه الجِدّة إلا فيما تتميّز به الكتابة من روابط وطريقة بنائها، وتصبح القضية- ببساطة- حديثاً عن تفاعل وعلاقات بين روابط، مقابل تفاعل بين عناصر النصّ الواحد أو النصوص الأخرى، مثلما دعت إليه البنيوية والتناصّية، لكننا نجدهم، فيما بعد، ومع نهاية الثمانينات يضعون القيمة الجمالية والتخييل محلّ اهتماماتهم في معاينة تطوّر العلاقة بين الأدب والوسائط الرقمية.
ولقد تلقّى النقّاد العرب هذا التحوّل الغربي في علاقة الأدب مع التقنية تلقّيهم للفتح العظيم، فربطوا هذا الانخراط بالتحديث وبِرِهانات الثقافة وبالمستقبل؛ حيث ذهب سعيد يقطين، مثلاً، إلى المقارنة بين معرفة التقنية الحديثة، ومعرفة بَرّاية القلم عند العرب القدامى بوصفها وسيلة تقنية من أجل كتابة جيدة، ومن ثمة، فالكاتب المعاصر ليس بمقدوره مساير التطوُّر التكنولوجي وكتابة نصّ جيّد إلا بتعلُّم التقنية لأن «عدم معرفة وظائف الحزمة المكتبية، وكيفية صناعة الروابط من خلالها، أو من خلال غيرها من البرمجيات الخاصة، أو كيفية استخدام برنامج خاصّ بالكتابة الرقمية، لا يمكن أبداً أن يجعلنا قادرين، كتّاباً وقرّاء، على كتابة النص الرقمي وتلقّيه»(2)؛ وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على المتلقّي لكي لا يبقى مجرّد متلقٍّ تقليدي يبحث، فقط، عن المعلومة، وكان سعيد يقطين قد ربط مستقبل الثقافة العربية كلّها بالنصّ الرقمي، في كتابه الأول «النص المترابط والثقافة العربية».
واضح من هذا الموقف أنه تَمّ ربط المعلوماتية والرقمنة بالتحديث، فبالرقمنة يتجدّد فكرنا، هذا في الوقت الذي يحذّر فيه الغرب، اليوم، من الدور الذي لعبته هذه التقنية في تشيئ الإنسان وجعله غير قادر على الإبداع الحقيقي؛ حيث عطّلت قدراته الذهنية والعضوية.
إن الوعي الإبداعي والوعي النقدي لا يمكن أن يكونا رقمَّيين، لأن التقنية تشكِّل جزءاً بسيطاً من الوعي، فسوء التدبير السياسي، والتزمُّت الديني، والتعصُّب للرأي ليسوا من آثار عدم الوعي بالتقنية، وإلا كيف نفسِّر العطاءات الإبداعية وبلوغ التفكير أرقى درجاته في مراحل معيَّنة من الحضارة الإسلامية!؟ وتبقى المناظرة الإسلامية أرقى ما يمكن أن يصل إليه التفاعل الإيجابي في التفكير الذي كان سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية.
لعلّ ما يمكن أن يلاحَظ في تلقّي هذا النوع من الأدب الذي لا يزال مجال إبداعه ضئيلاً، على الرغم من الكَمّ الهائل من الكتب التي أُلِّفت حوله، هو التعامل الرومانسي معه على حساب الأدب الورقي، ويتجلّى ذلك من خلال ربط التطور الفكري بمزيد من الاندماج في الافتراضية التي يفرضها الإبحار الإلكتروني، وجعله سؤالاً مهمّاً من أسئلة الثقافة العربية، وربط الحداثة في الأدب به، إلى حَدّ أن البعض لا يتورّع في وسمه بـ(جنس جديد)، أو حتى (مدرسة جديدة).
صحيح أن الأدب يساير علاقة المبدع والمتلقّي مع متطلّبات التطوّر الحضاري للمجتمع، ويعبّر عن تحوُّل هذه العلاقة، ولكن، هل عبّر الأدب الرقمي ذاته على حالة جديدة، ومنطق جديد في التفكير عند الغرب، أم أنه كان مجرَّد تجلٍّ من تجلّيات التطوّر الفكري للفرد الأوروبي؟ ثم، كيف نفسِّر اعتراض المفكّرين والنقّاد في الغرب أنفسهم، على إمكانية إعطاء هذا الدور للتكنولوجيا على حساب الفرد والإبداع؟ فنراهم يحذّرون من الأخطار التي أحدثتها التكنولوجيات الجديدة في الفرد والمجتمع، وخاصّة أن هذا النوع من الممارسة الإبداعية لم تحقّق ما به يشكّل ظاهرة طاغية، فمازال الغرب ينتج الكتب الورقية، وما زالوا يقروّن بأهمّية الكتاب الورقي، الذي أصبح ضرورة في الوقت الراهن.
يبدو أن سؤال التقنية في الأدب أصبح سؤالاً مركزياً في الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، غير أن هناك من يستبصر رؤية مستقبلية أخرى، تطرح سؤال التقنية على المحكّ، جنباً إلى جنب مع سؤال الإبداع والإضافة والمشاركة في الفعل الثقافي العالمي والحقّ في الاختلاف، مثلما ذهب إليه المفكِّر طه عبد الرحمن، وفي الاتّجاه نفسه نجد محمد أسليم يرى أن مفهوم الإبداع الرقمي بالطريقة التي فُهِم بها سيؤدّي بالأدب إلى الانقراض، ليفسح المجال لشكل من اللعب التفاعلي بين الإنسان والآلة، تزول فيه الحدود بين الإبداع والتلقّي، أو الكتابة والقراءة، بل سيختفي هذان النشاطان مفهوماً واصطلاحاً، وتنشأ منظومة من المفاهيم والمصطلحات التي تعبّر عن تجربة أخرى يفنى فيها مفهوما الكتابة والقراءة(3)، وسواء أعَبَّر هذا الرأي عن نظرة تفاؤلية أم عبَّر عن نظرة تشاؤمية، فإن ما أشار إليه محمد أسليم، ينبّهنا إلى عدم قدرتنا على امتلاك رؤية لما سوف يكون عليه الأدب الرقمي، وأننا لن نشهد سوى انقراضه، ونتلمّس أبعاد هذه النظرة عند الذين نظَّروا وللأدب الرقمي ومارسوه.
ساد الاعتقاد بأن حداثة هذا الأدب ترتبط بالموضوع الرقمي، وهم يعيدون مفهوم الأدب إلى الثنائية التقليدية التي كانت تنتصر إلى المضمون، وتجعل منه معياراً للتحديث، مثلما جاء في ما اصْطََلح عليه محمد سناجلة بـ«الرواية الرقمية الواقعية»، حيث يسحب مفهوم الواقعية إلى العالم الافتراضي الرقمي، وتصبح الرواية نوعاً جديداً؛ لأن مضمونها حديث على الواقع الافتراضي، كما يصبح معيار الجِدّة في الرواية الرقمية، هو التأكيد على «أن الرقمية والعوالم الافتراضية هي بصدد الحلول- حرفياً- محلّ الواقع بكافّة قطاعاته وأنشطته بما يقتضي التعامل معها بوصفها واقعاً، أي أمراً ملموساً وموجوداً، يمكن أن يجلب الفرح للمرء ويسعده ويكافئه، مثلما يمكن أن يجلب له الشقاء والبؤس»(4). وسواء أقَصَد محمد سناجلة التنظير أم لم يقصده، فإن ما يثيره هذا التعريف هو ربط هذا الشكل الجديد بموضوع العالم الافتراضي، فيما يذهب البعض إلى ربطه بالوسيط الإلكتروني بوصفه حاملاً، ونجده عند الذين تستهويهم فكرة التفاعل ربطه بدور الروابط في إحداث التفاعل بين القارئ والنصّ الرقمي، مثلما تذهب إلى ذلك فاطمة البريكي في كتابها «الأدب التفاعلي»، أو زهور كرام في «الأدب الرقمي». غير أن الأمر بالنسبة للشعر الرقمي مختلف عند الشاعر مشتاق معن، الذي يبدو أنه لم يستسغ اصطلاح الواقعية الرقمية، فقال بـ«المجازية الرقمية»(5)، وكأنه يؤكِّد على أن موضوع الشعر الرقمي ليس هو الواقع الافتراضي، ولذلك نلاحظ أن قصيدته الرقمية لا تكاد تختلف، في نصّها اللغوي، عن الشعر الحداثي الذي يكتبه بعض الشعراء الحداثيين الذين يوظِّفون التناصّ كاستراتيجية تجسّد رؤية مجازية للواقع العربي كما تجلَّت له في 2007.
إن مطالبة القارئ أن ينخرط في التفاعلية مع المبدع، تفرض عليه أن يصرف اهتمامه إلى التقنية على حساب النص، وإن المشاركة التي يتحدّثون عنها هي مشاركة شكلية وافتراضية لا غير، ما دامت مجرّد اختيارات للقارئ في تعديل البرمجة وتغيير مواقع النوافذ؛ أي إنه بإمكان القارئ الدخول إلى ملفّات البرمجة والعرض الموجودة في قاعدة بيانات النصّ، وإحداث ما يشاء من إعادة لتشكيل البرمجة بما يتواءم مع ذوقه، دون المساس بالمتن الرئيس للنصّ.(6)
ذلك هو هاجس سؤال التقنية الذي يثيره الحديث عن الأدب الرقمي في الثقافة العربية المعاصرة، سواء ما تعلَّق بالرواية الرقمية، أو ما ارتبط، خاصةً، بالشعر الرقمي، بالإضافة إلى ما ينبغي أن يكون عليه دور هذه التقنية في تحديث القصيدة العربية، وهل تكتسب القصيدة بهذه التقنية بلاغة جديدة؟ وما علاقتها بالتقاليد البلاغية لتحوّلات الشعر العربي، ودور هذا الشعر في عملية التواصل؟ وكيف تسهم في جعل النصّ الشعري يمتدّ إلى وعي القارئ العربي وإلى لاوعيه وإلى تاريخه الشعري الذي شكّل جزءاً كبيراً من مخيّلته، بخلاف الرواية التي هي جنس طارئ في الثقافة العربية؟ وهل يكشف هذا النوع من الشعر عن تغيُّر في مفهوم الشعر ووظيفته وأدواته، أم أن الأمر متعلِّق بحامل مادّي لا غير.
هوامش:
1 - يراجَع سعيد يقطين، «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية (نحو كتابة عربية رقمية)» المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء، ط1، المغرب 2008، ص 59 - 61.
2 - سعيد يقطين، «علينا اتخاذ الوعي الرقمي نقطة تحوُّل في فهمنا للثقافة والسياسة». حاوره: محمد صبح، المرجع السابق.
3 - محمد أسليم، «نظرية الرواية الواقعية الرقمية»، موقع محمد أسليم.
style="text-align: justify;">
style="text-align: justify;">
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق