الأحد، 10 يوليو 2016

فلسفة الضحك-*عبدالسلام ناس عبدالكريم



-

فلسفة الضحك

*عبدالسلام ناس عبدالكريم



الضحك والبكاء ثنائية فيزيولوجية المظهر تلخص حقلين شعوريين باطنيين لدى الإنسان هما السرور والحزن، وعليهما مناط تصنيف الكوميديا والتراجيديا على مستوى الاصطلاح الأدبي الموصول بتمييز المشاعر وحالات النزوع الإنساني. 
وقد تفاعلت الثقافة الإنسانية مع ثيمة الضّحك بحسب اختلاف أطياف النّظر وتنوّع السياقات المرجعية لهذه الثقافات، ومدى تأثيرها في إفراز معايير الخلق الفني وتوجيه الحماس الإبداعي. وفي نظري ليست ثمة ثقافة اهتمت بهذا الغرض ونقلته على مستوى الإبداع الأدبي شعرا ونثرا كالثقافة العربية، فاهتم بها الشعر من خلال تجربة شعراء النقائض في العصر الأموي تحت باب الهجاء، وطوّرها شعراء العصر العباسي والأندلسي بأشكال ومظاهر وأغراض مختلفة، بحسب التحولات الحضارية والثقافية. أمّا في النثر فبالإضافة إلى الجاحظ الذي كان مولعا بالسخرية في جلّ ما كتب، ولاسيما في كتاب «البخلاء» و»رسالة التربيع والتدوير»، فهناك كتاب آخرون اهتموا بهذا الموضوع وخصصوا له فصولا مهمة من كتبهم منهم الخطيب البغدادي صاحب «التطفيل»، والحصري القيرواني صاحب «الجواهر في الملح والنوادر»، وابن الجوزي صاحب «أخبار الظراف والمتماجنين»، من دون أن ننسى كتّاب المقامات. 
ومعلوم أن هذه النصوص حول فن السخرية والضحك قد جمعت بين المتعة التي وصفها كتاب الضحك الغربيون بأكسير السعادة كما سيتعين لاحقا، وبين الفائدة العلمية الموصولة بالسياق التاريخي والحضاري وبالواقع السياسي والمجتمعي. وليس قصدنا من هذا المبحث المزيد من استقراء مظاهر الإبداع الإنساني حول هذه الظاهرة، لأن المجال واسع ولا يكفيه هذا المقام. وإنّما غايتنا في الأمر هي ربطها بمبدأ المتعة في عمقه الفلسفي، ووضعها في السياق المعرفي الإنساني والعلمي كما تبلور من خلال أبحاث الفلاسفة والكتاب وعلماء عصر النهضة الأوروبية. يقول نيتشه في نهاية أطروحته «ما بعد الخير والشر»: «سأمضي للمجازفة بتصنيف الفلاسفة وفق رُتبهم في الضحك» أجل، فلقد كان لنيتشه نفور قوي من الفلاسفة الذين جنحوا، بحسب قوله إلى منح سمعة سيئة للضحك، فأعلن توماس هوبز مدانا بهذه الجنحة. وعلى الرغم من أنّ إدانة نيتشه تلك تنطوي على بعض المبالغة، بحيث ترتكز على اقتباس أسيئ تفسيره لما قاله هوبز عن الضحك في الفلسفة، إلاّ أنه كان مُحقّا بدون شك في تأكيد ما قاله هوبز الذي كان متوافقا مع أغلبية مفكري عصره حول بديهة اعتبار الضحك موضوعا يتعيّن على الفلاسفة الاهتمام به جدّيّا. وفي الواقع لقد بدأ هذا الاهتمام يتزايد عبر العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، خاصة من لدن فلاسفة إنسانيين مرموقين من أمثال كاستيكليون في «كورتيجيانو» ورابليه في «بانتاغرييل». وبعد ذلك في نهاية القرن وللمرّة الأولى منذ نهاية العصور القديمة بدأ يتبلور أدب طبّي متخَصّص يتعلق بالمظاهر الفيزيولوجيّة وكذا السيكلوجية لهذه الظاهرة. والرائد في هذا المجال هو لورانت جوبير طبيب مونبيلييه الذي نشر كتابه «علاج الضحك» في باريس سنة 1579. وظل كثير من الأطباء بعده ومنهم سيلسي مانشيسي الإيطالي يتشبثون بهذه المقارنة ويتحمسون لهذا الموضوع باعتباره ثيمة إنسانية بالأساس. وقد خصص ديكارت ثلاثة فصول للمجال الذي يحتله الضحك ضمن المشاعر الإنسانية في عمله الأخير «أهواء النفس» 1648. كما أثار هوبز عديدا من القضايا حوله في كتابه «عناصر القانون»، ودافع سبينوزا عن قيمة الضحك في كتاب «الأخلاق». ودأب على ذلك كثير من مريدي وأتباع ديكارت الذين عبروا عن اهتمام استثنائي بهذه الظاهرة ولاسيما هنري مور في كتابه «حساب الفضيلة». والقضية التي نودّ إثارتها بصدد هذا الموضوع هي بكلّ بساطة، لماذا يجد كلّ الكتاب أنفسهم مهتمّين على نحو جادّ بالضحك؟ وقد يُفضي هذا السّؤال إلى جواب مفاده أنّ كلّ هذا الحشد من الكتاب يتفقون على نقطة أساس هي أن القضية الأكثر أهمية بصدد الضحك موصولة بالمشاعر التي يثيرها. ولعلّ واحدة من بين تلك المشاعر التي يتفق حولها الجميع هي بالضرورة الإحساس بالفرح أو السّعادة. وفي ذلك يقول كاستيليون: «إن الضّحك لا يبرز إلا في الإنسانية وهو دائما علامة على ابتهاج معيّن وانشراح نستشعره في دواخل الرّوح». ومع ذلك يتم الاتفاق على أنّ هذا الفرح والسرور يتعيّن أن يكونا على نحو جدّ استثنائي.
ومن خلال ذلك فإننا سنصل إلى الخلاصة الأكثر تميّزا، ويمكن أيضا أن تكون الأكثر إثارة للحيرة، وهي أن الفرح المُعبَّر عنه من خلال الضحك هو دائما موصول بمشاعر الاحتقار، إن لم نقـُل بالكراهية والمقت. وعند الإنسانيين فإن واحدة من بين أقدم الحجج بهذا الصدد الحجةُ التي قدمها كاستيجليون: «إننا في كلّ مرّة نضحك فيها نقدّم الدليل على أنّنا نسخر من شخص أو من حال معيّن متهكمين وهازئين بالرذائل». ولقد طرح الكتاب المعالجون النظرية نفسها تحت شكل أكثر عمقا. ويعدُّ التحليل الأكثر حذقا حول هذه النقطة لجوبير في كتابه سالف الذكر حيث يقول: «إنّ الضحك كمادّة وموضوع وسياق مقترن بحاسّتين أساسيتين هما السمع والبصر، لأنّ كلّ ما هو مضحك يذكر أو يشار إليه كشيء شنيع لا يستحقّ الإشفاق والرحمة، والأسلوب المشترك لضحكنا هو دائما السّخرية والازدراء». ولقد طوّرت هذه الحجّة بشكل أوسع من طرف الجيل اللاحق الذي أحبّ وصل هذه الخلاصة الإنسانية باهتمامات الأدب الطبّي الذي كان في أوج انبثاقاته. 
والكاتب الذي سعى جاهدا إلى ترسيخ هذه الصلة هو روبير بروتون في نصّه الطريف «تشريح الكآبة» 1621، حيث يقول في مقدمته: «إننا حينما نضحك فإننا ندين الآخر، ندين عالم الجنون، ونضيف أن العالم لم يكن قطّ على هذا القدر من الجنون الذي يتعيّن إدانته، وكذا الأمر بالنسبة لهؤلاء المجانين المثيرين للضحك». وفي هذا الخضم من شعور الذات الضاحكة في تميزها الذاتي إزاء موضوعها، تبرز دائما مسألة التعاظم إزاء الآخر، ومن تجلـّيات الأمر أنهم حينما يضحكون عليك فهم يسخرون منك وينتصرون عليك ويمقتونك. فثمة إذن أمران متلازمان ، ملاحظة النقيصة التي تتحدد من مظهر ضعف، والوعي بها على نحو يثير شعورا بالفرح والبهجة ويشي بقدرة الاكتشاف، باعتبارها قدرة خلاقة وسامية في النفس. وثمّة تشارك مع هذا المنطق البرهاني ينبغي التوقف عنده، وهو أنه بحسب هوبز يتعين رصد التباين الملحوظ بين الضحك والابتسام ومن ذلك ما بينه ميناجير في كتابه «النهضة والضحك» من أن الضحك يعبر عن السخرية، بينما الابتسامة تعتبر تعبيرا طبيعيا عن المتعة، وبشكل خاص عن المودة والتشجيع. فعلى ســـبيل المثال يحيل السير توماس براون، وهو طبيب آخر متشبع بالمعرفـــة الإنسانية على هذه الفقرة التي تشكل لغزا مدرسيا، وهي التساؤل عمّا إذا كان المسيح لم يضحك قط.والجواب من براون أنه لا يمكننا أن نتخيل بأنه أي المسيح لم يبتسم قط، لأنّ الابتســـامة ســـتكون الدليلَ الأكثر يقينا على إنسانيته. 
إنّ هذا التصور عن الابتسام يجعله موصولا بالسّموّ وبالخصوص بالصّورة المسيحيّة عن الجنة كحالة من الفرح الأبدي، ومن ثمّ فإنّ الابتسامات التي نراها غالبا في اللوحات الدينية لعصر النهضة الأوروبي، حسبما يبدو ربّما فُهمت عموما على أنها تعبير عن وعي فرِح بهذه الرِّفعة. وفي العادة في مثل هذه اللوحات يدلوننا من خلال إشارات اليد والنظرات الممتلئة بالرغبة المرفوعة إلى السماء بأن موضوع هذا الفرح هو فعل سماويّ. ولكن في الحالة الأكثر شهرة ضمن هذه النماذج فإن جيوكاندا ليوناردو دافينشي يظلّ منبع الفرح الداخلي للموناليزا المبتسمة يشكل لغزا عصيّ الفهم. وهو ما يمنح للوحة سحرها الأبدي.
____

*القدس العربي

ليست هناك تعليقات: