أختام *
الختم الثاني
عادل كامل
[10] عودة: جذور التأمل
هل باستطاعتي أن اجري مقارنة بين عدد من المهن ـ بالمفهوم العام ـ كمهنة صانع الأسلحة، أو الأحذية، أو صانع الأواني الخزفية ...الخ بمهنة القاتل أو اللص أو المشتغل بإدارة أعمال لا شرعية ومنها إدارة المواقع الداعرة، أو التنكيلية، أو الخاصة بالشذوذ والغرائب، بمهنة شخص وجد انه مشغول بفك شفرات مقاومته للاندماج، حد المحو، والتلاشي، وتمسكه بفردية لا علاقة لها بالمهن، أو بأي مشروع للتعالي فوق البشر، أو عبادات سحرية سرية، بل، في الغاب، وجد انه غارق في مسار الترقب، وتتبع حلقاته...؟ إن انشغالا ً قديما ً ـ ومتجددا ً ـ يدفع بعدد من الأشخاص للإعلان ـ وللكتمان أيضا ً ـ عن هذا الضرب من الاضطراب، والتكيف، ان كان مرضيا ً، أو مجاورا ً له، نحو موقع صناعة (أشياء) ليست مهمتها لفت النظر، أو سلعا ً للتداول، أو حتى محاولة للاندماج المشروع، والواقعي. لكن هؤلاء المحصنين، والمحميين ذاتيا ً، لا يمتلكون الذهاب ابعد من وظيفة (ما) بين التقسيم الاجتماعي للأفراد: تقسيم العمل، كي لا يجد صانع (الفن) نفسه إلا ـ كالكاتب ـ وفي مجتمعات المنظمات المنغلقة ـ معزولا ً ووحيدا ً. مع ذلك فعدوى الرهافة، في الأصل، تمتلك ديمومتها، وعملها بين الأعمال الأخرى. فالتفرد ـ في الختم/ التوقيع ـ ليس علامة جذابة، ضمن بضائع السوق الحرة ـ أو عبر حرية السوق ـ بل للصانع نفسه. فهو ـ كما في عدد من حالات الشرود/ والتوحد ـ يغدو قوة لمغادرة الانعزال، والضمور. فهذا الذي سيحدث (ويحدث)، في واقع الأمر، شبيه بمن وجد نفسه موجودا ً، كي تتكرر الأسئلة ذاتها المحفورة في النصوص، إن كانت كتابية أو فنية، فالدورة لم تكتمل، وإلا لوجد الفنان مصيره مع الحرفيين، وغدا منسجما ً في أداء عمله، بدلا ً من انتظار الذي ذهب، أو الذي لن يأتي أبدا ً، وإنما الذي له حضور الغائب!
هنا، وهنا تحديدا ً، لم يعد للنبش في المخفيات، الاهتمام ذاته في التوغل خارج حدود الخامات، الأمر الذي يدحض ـ ولكن يكرر ـ انشغالات الساحر القديم: ليس المهم الحصول على الدهشة، بل كيف تبقى تحافظ على لغزها: هذا الانجرار، بطيب خاطر، إلى المتاهة بصفتها لذّة، ومضادة لها، في الوقت نفسه!
[11] ماض ٍـ يتقدم ـ وآخر يثب
فإذا كانت الدهشة قد تجمدت، وكفت أن تكون واقعا ً، وإذا كان الانشغال بعدم الربح شبيه باللامبالاة تجاه المحو ـ أو الخسران ـ فان أمرا ً ما مشتركا ً بين ذاتية الفنان ومحيطه يتحدان لا ضد الرغبة، بل بجعلها أكثر قربا ً من صياد أدرك انه لا مناص الضحية. على أن هذا الذي لا ابحث عنه ـ في أختامي ـ كالجراح لا مناص أبصر موت مريضه، كلانا منشغلان بحاضر سابق على الانجاز! ثمة أزمنة أجدها تستيقظ عنوة: فانا جزء كلما اتسعت مسافتي عن باقي الأجزاء أجد أنها تعمل في ّ: ما لا يحصى من التصورات حول ما بعد الموت، كالتي تراود مخيال الفيزيائي في احتمالات اتساع ـ أو تقلص ـ أو بقاء الكون على ما هو عليه. إن المشترك بينهما يخص استكمال بقاء الماضي ماضيا ً. فهو يزحف، ولن يتراجع، بل يكمل بعضه بالبعض الآخر في المسافة ذاتها.
محنة أخرى تثب، ستوازن بين المرارة وبين لذّات النشوة. فكما يجد العاشق أقاصي المسرة في استحالة لقاء من طلبه، فانا أتلمس في الدوافع شيئا ً ما آخر غير الذي أراه مرئيا ً، ليس ما توارى ـ أو ما هو قيد الاندثار ـ بل هذا الذي امسك في ّ وقيدني في العمل.
الفن شغل، بمعنى: عملا ً مضادا ً للعمل. لكن طبيعة هذا العمل ـ كالحرية ـ لا تعّرف بمفهوم أو بخاتمة. فهو اذا ً وجود ينفي وجوده. وهنا أكون قمت بما يؤديه الدياكتيك (الكلي) باستبعاد أي سبب عن الأسباب الأخرى. فإذا كانت نهاية ما أره يغادر، فان ما هو قيد الغياب سيتشبث بأبدية الثابت، أو ما غدا خالدا ً بحدود معنى الكلمة ـ وحروفها ـ وتصّوراتها.
فالعالم مكث ـ من بضعة كائنات إلى مليارات سبعة من السكان اليوم ـ راسخا ً باستحداث قدمه ـ ومقدماته المكتفية بذاتها. وهنا أجد رهافتي شذبت درجة أنها غابت في ّ. فالأجزاء غير القابلة للإحصاء ـ جزئيات/ ذرات/ كيانات/ مجموعات، وصولا ً إلى لا حافات الاتساع، أو نحو الصفر ـ قد قيدت ودونت في ّ. فانا، مرة أخرى، أجد نفسي بجوار شبيهي: ميتان يتبادلان الموت، لكنهما يعبران من الماضي ـ إليه ـ بعيدا ً عن الموت. فالدوافع تكاد ـ في انفصالها عني ـ لا تمتلك إلا حدود المفتاح وقد دار في القفل. انه المحدود ـ أو النسبي ـ وقد اتسع خارج إمكانية تلمس أي حافة من حافاته. فهل قصد أسلافي ـ في التحول من الشفهية إلى الحفر والى الكتابة ـ هذا الذي أنا أؤديه استكمالا ً لماض ٍ، بحسب قدراتي في التصور، ومن غير خاتمه له؟ لأنه لا يمتد، ولا ينبثق، ولا يرتد، ولا يتماثل، ولا يكتمل. بمعنى ما انه سيحافظ على ما في العمل من قيود، وأنظمة، وضمنا ً، من ارتواء يستدعي مستحيلاته. فالذي يقع هناك، غير منفصل عن التمهيدات التي استحدثته، لكنه سيبقى يمتلك ما يريد أن يؤديه، إنما بما أريد أن أنجزه، وليس بمعزل عني.
[12] ديمومة الغائب ـ الموت حاضرا ً
الأختام مجّفرة ـ مشفّرة ـ بمعنى أنها لا تخفي بصمات حاملها ومخفياته، بل ولا صانعها، لأنها، في ما تخفيه، امتلكت لغز موتها بتمام حضوره. فما دوّن فيها يمكن عزله: القصد والتداول والهوية، فيما اكتشف، بعد عزل الزمن عن حركته، أنها صنعت لتخفي ما لم ـ ولن ـ تعلن عنه. ففي الختم ديمومة علي ّ ان لا أقع في وهمها، ديمومة بدأت اعزلها عن أسبابها النائية. فجأة بدا الختم لي ـ مثل إنانا ـ علامة توارت فيها ما لا يحصى من العلامات. على ان الختم ليس علامة ـ للتداول ـ والتجاور ـ والمنفعة، فالختم قبر.
أعدت قراءة بعض الأشكال، فلم اخف ولم اصدم أنها شبيهة بما أراه في (ما أنا عليه/ جسدي، أو هذا النفس، أو الروح التي لا اعرف كيف آوتني معها فيه) هذا الجسد. فليس مصادفة أنني اشتغلت بالمدافن: مدفن شبعاد/ ومدفن والدي/ ومدفن الجنيد. فقبل عقدين، وفي ليلة شتاء باردة، قبيل الفجر، طلبني شيخي فذهبت إليه (كان معي عدد من الفنانين اذكر منهم هيثم حسن، سلام عمر) فلم أر إلا جسد الأرض: ختمها. لكنني كنت تعلمت ألا أقع في غواية الوهم. فالقبر ـ كالختم ـ ليس شكلا ً أو هيئة، بل ممرا ً من الأرض إلى لغزها. فاكتشف أنني لم اغدر جسدي بعد، إنما استطيع الاعتراف أنني تحررت منه. كذلك القبر لا علاقة له بمن فيه، إلا في حدود الأشكال. فهو مدرج سفر ـ وطيران ـ ولم يصنع للإقامة.
يا للفرحة التي بلغت ذروتها: كم يشبه جسدي القبر، وكم يشبه قبري جسدي! كي أعيد استذكار اللحظات التي عشتها وأنا انزل إلى سراديب قصر شبعاد، في رمال أور، وقد تحولت إلى خرائب. تلك الأختام المبعثرة، مع الحصى، كانت تعلن عن هذا الذي أراه يغادر، كما حصل في الماضي ـ وكما يحصل أمامي ـ أراه تام الغياب.
كم أشبه نفسي! فها أنا استطيع ـ بما يتضمنه الختم ـ أن أوحد بين المتضادات التي غطست فيها، حتى تحولت إلى رحم، أم باستطاعتي مغادرتها، كما تتكون النصوص الشبيهة بالفن؟
ها أنا أتكّون في مساحة اللاحافات. فانا لا اسكن من سكنني، ولكنني لا امتلك قدرة الانفصال عنه. فاستعيد قدرتي على صياغة لماذا كان اسم [إنانا] شبيها بختمها، ولماذا تركت أصابعي تنتج ما نسجته آلهة الحرب/ الحب في ذاكرة أسلافي، وفي ما يدفن في أختامي.
فانا غير معني ـ يا له من اكتشاف ـ بما زال، وبما أراه يتبعثر، أو أراه يأخذ حبيبات الأثير/ والزمن، بما يتجمع. فالختم ليس ما نقش أو ما حفر، بل بما هو قيد الحفر. انه السابق على التجربة ـ وهو الملحق بها. ولأنني مشغول بعدم التمويه أو التضليل أو المناورة، فان التجربة تأخذ أسبابها التي كونتها، ومادامت الأسباب بلا حافات، ولا نهاية لها في وجودها، فإنها لن تعد بحاجة إلى برهان أو نفي. وهنا اكف تماما ًعن الأسباب التي استدعت أسلافي لصياغة رموزهم النائية. لا لأنها محض تصوّرات، بل لأنها مناورة القبر لمن لم يسكنه بعد. أما ما بدا لي خارج ضرورة البرهان فهو شبيه بالمثلث أو المستطيل أو المربع، وككل الأشكال أينما تضعها فإنها لن تذهب ابعد من وجودها كما ظهرت عليه، لأنها، في واقعها، لا تمتلك إلا ما سيشكل مغادرة لحضورها: حضوري وأنا مسبوق بوجود سابق على هذه الأشكال!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق