أختام *
الختم الثالث
عادل كامل
[ا] المسافة ـ الغائب حاضرا ً
ببساطة: أنا امسك بما أراه
يغيب، لكنني، في الوقت نفسه، أرى هذا الغائب يحدق في ّ. إنها ليست لعبة ـ بحسب شلر في الأقل ـ مع ان
أصابعي لا تكف عن اللعب، إنما هي شبيهة بأداء عمل الدورة: تتوارى الأشياء كي تنبثق. قطعا ً لم ْ اعد
منشغلا ً بما سيقال، وإلا لاخترت أي درب وسلكته غير مكترث لنهايته، فانا ـ كما في
عملي ـ لا امسك إلا بالذي انتزع حريتي وقيدني بقيودها: المسافة التي كلما أعدت
التدقيق فيها أجدها تنبني بالاختيار الذي لم اختره. باستطاعتي ان أجد يقينا ً ما بوسائل غير
(التفكير) لكنها ـ بعد نصف قرن ـ فقدت غوايتها، بمعنى: وهمها. ذلك لأن كل من قيدته
حريته وحررته منها يدرك ـ في سره ـ برغبة العثور على مفتاح لا للدخول ـ ولا
للمغادرة ـ لأنهما العلة التي أكملت بعضها بالبعض الآخر ـ بل لدمجهما والنظر
إليهما كما المح ـ في شرودي ـ القفل نائيا ً. فانا لا أقع في النهار ولا في الليل،
وإشعاع الشمس يعلن لي عن سواد توارى فيه، بمعنى: لا مخفيات هنا ـ ولا هناك. على ان
الحضور، في سياقه، يخفي اندثاره.
ليس لدي ّ إلا القليل من النور
يسمح لي برؤية الحروف فوق الورقة، فالغبار يكاد يعلن عن لغز الأرض في نشؤها البكر:
دخان مركزه جمرة. إنها عاصفة رملية وأنا أكاد المس ـ بروحي ـ حباتها تنتشر من
حولي، فيما جسدي أراه يقاوم موته، بحثا ً عن هواء غير ملوث، وعن تراب لا يتراكم،
بحثا ً عن قطرات ماء بكر! ولكن هذا الذي أتتبع اختفاؤه أراه فاجري ـ بنظري أو
بروحي ـ خلفه، انه ـ مثل تلك اللاحافات التي قيدت موجوداتها بها ـ يسبقني كي اكتشف
أنني أترقب حضوره. لأنه لم يغب إلا وقد
منح غيابي شيئا ً ما منه! هل هذا كل ما تريد الحياة ان تقوله لي، أم هو ما أريد ان
أقوله ـ لنفسي ـ في الحياة، أو ما تقوله الحياة لشخص وجد انه لا يمتلك إلا مسافة
خاتمتها سابقة على مقدماتها بمنطق الدورة: دورة اللازمن، وان يدا ًعابثة صاغت
(الصفر) كي يكون للعدد موقعه معنا في غياب ـ وحضور ـ وغياب المسافات؟
بشرود وليد انجذب إلى رائحة ما
فأتشبث بها، كالطوفان ـ كالطوفان المثبت في الألواح، وفي الأساطير، وفي الذاكرة
الجمعية ـ وقد توارى تاركا ً لنا ـ وليس لي ـ هذه الرمال تهطل مطرا ً ذريا ً جافا
ً لا يشع إلا بالنسبة ذاتها في أشعة الشمس. ما معنى هذا..؟ ولماذا تمتد الصحراء
وتزحف بعد ان غمرها ماء الطوفان الأكبر.؟ ولماذا علي ّ أن أموت غرقا ً، كي أموت،
مرة ثانية، في هذا الجفاف...؟
تحفر أصابعي قبرا ً مزدوجا ً
سأغادره، بعد أداء مراسيم الدفن، فانا فيه، وأنا ناء ٍ عنه. فهو كقبر شبعاد ومن
معها ذهب إلى العالم السفلي، لا وجود له بعد ان شاركنا في المراسيم، وشيدنا ـ بما
يدحض كل احتمال لوجود المصادفة ـ أو لسلاسل المصادفات ـ مأوانا، وقد وجدنا ـ حد
الصهر ـ بين المحو والتدوين، بين نهاية المسافة وأولها، غياب هذا الذي يحفر حضوره
في امتداد المكتمل ـ من مرارات المرض والشقاء ، فالموت ذاته، كالرمال ـ مشفر
بالطوفان، لن يسمح إلا لرفيف ما يلامس من يجد نفسه عثر على سفينة لا مرسى لها، فهي
ذاهبة ابعد من مسافتها، برمال اخفت لغز ما لا يحصى من العناصر، وتحولاتها، لأنه
سيكون هو السفينة، خالية من السفان، والريح لا تجري في الغمر، قبل تكّون الليل
والنهار، وقبل ان تكون للعدم أيامه، وأسابيعه، وأشهره، وقرونه، ومطلقه، فالأخير
سابق على نهايته، ومقدماته سابقة على خاتمته، ولأنه هو السفينة والسفان والمسافة،
فهو يكون وقع ميتا ً عند الذي أعطاه النور: وأصغي إليه ـ من غير صوت/ رآه من غير
صورة/ أدركه من غير تفكير/ حيث عشقه خال ٍ
من الحبيب، فأجد الشيء الوحيد الذي علي ّ ان أراه توارى بما قبل الغياب، وغاب قبل
الحضور، لأن البرهان وحده غدا شيئا ً ما كهذا الذي نراه يدحض سكونه، وما فيه من
ثبات.
ولكنني أعود بما في الغفلة من
ضوابط، لتلمس حدود الموت، داخل هذا الذي اجهله (إن كان رمالا ً أو طوفانا ً أو
كلاهما) وارتب مائدة شبيهة بالشاخص تدل على من فيها، ومن فيها لا وجود له. هل بلغت
لغز ان الموت مكث يحرسني مني وليس منه
تارة، ومنه وليس مني تارة أخرى، كي تأتي الرمال ـ بعد ان غمرنا الطوفان العظيم ـ
بالبرهان ان الشاخص وحده لا وجود له إلا في حدود وجوده العابر، كالذي شيدته، من
اجل استكمال بناء/ هدم ما لا يحصى من المدافن، ونثرها، كأثير، ومثل هذه 0الرمال)
مازالت تحمل طاقة بعثها الأولى: أم تراني ـ في سياق الاستحالات ـ سأستنجد بالخطوط،
والألوان، وبباقي العناصر لإخفاء بلوغ اللغة صفرها الذي بدأت منه؟ لكن اللغة أراها
تراني فألبي لها نداءها بما لا امتلك إلا
ان أنجزه، كاستبدال الكفن بمنديل، واستبدال الراحل بظله، والدوي بما هو اشد منه:
ألا تبدو المقاربة من الختم زيادة تتطلب
التطهر، والحذف، كي لا أرى ـ ولا يرى الآخر ـ إلا ما اخذ موقعه في البرهان: نستيقظ
كي نجد العدم له حافة السكين، وقد كف القلب ان يبقى منجذبا ً إليها! حقا ً ان اللا
متوقع ـ هو ـ وحده من نسج لنا غوايتنا،
لكنه، حقا ً هو وحده كان تاما ً بلا حافات، وقد صاغ منا هذا الذي أبدا ً لن نمسك
به بعد ان امسك بنا، وقيدنا إلى ألتوق:الموت بعيدا ً عن الموت، والاستيقاظ بعيدا ً
عن حافات النهار، وبعيدا ً عن ومضات الليل.
[2] انصهار أم تصوّرات أم عزله؟
من غير إحساس بالصفاء، ومن غير
بياض خال س من مكوناته، ومن غير شرود، لم أجد جسارة ان أعيد بالخطوط ذاتها الأولى:
نسج الأثر الوحيد الذي أدرك انه هو وحده قد قيّدني! هو وحده حماني، كي لا أرى إلا
الذي وحده لا وجود له تماما ً! ليس هو العدم السابق على الوجود، وليس هو الوجود
الكامن في عدمه، وليس هو أية حكمة تدوّنها الكلمات، بالحواس أو بالعقل أو
بالانجذاب والأسر، بل لهذا اللا متوقع وقد شيّد مأواه، كما تفعل المجرات، والنجوم،
ومملكات النمل، ومجاميع الحشرات، والبشر، والأشياء: انه انجذاب مهد نحو داخله،
بالقوة التي لا تقول شيئا ً تصوراتنا عنها سوى الانجرار، فهل الكون يفكر...؟
الكلمات شواخص في مدفن، والمدفن
لا يقع بين ماضيه، وغده، فالميت ليس حيا ً، والحياة، في هذا التتابع، ليست جزءا ً
من الموت، وليست حتى جزءا ً من الكلمات: إنها ـ ببساطة ، لم تستنفد لا أسبابها ـ
عبر الأسباب ـ بعد، ولا وهمها العميق وقد غدا كالحقائق، وإلا لماذا صرت عدما ً ممتدا ً، أو نهارا ً خرج
من الليل؟ هل قلت: كان علي أن لا أجد عذرا ًكي أقول أنني برمجت لحمل هذه الأثقال
كلها، وفي مقدمتها تلك التي لا وزن لها، بمعنى: لا وجود لها إلا عبر انعدام
الحركة، ولكن في ما لا تستطيع الكلمات إلا ان تقوله: هذا الذي وحده الغفران قفله،
وهو مفتاحه الذي توحد فيه!
[3] السكن: دينامية اللغز
قبل
الولادة، وبعدها، لا امتلك قدرة نفي وجود أصابع أدمية غير مشفرة بما يمنح عملها الامتداد عبر الآني. إن النحل ـ
كالنمل ـ وكالطيور، وقد شيدوا مساكنهم لا للسكن فحسب، بل لجعل المستقبل خارج عمل
إرادتها. وأصابع البشر، منذ اشتغلت في
السياق ذاته: الديمومة، بحثت عن مفاتيح لا
تفتح بابا ً، بل لمغادرته. فالأصابع ليست أداة عمل، واكتشاف، وحفر، وبحث، وتعبير،
وتفكير فحسب، بل أداة عبور. فالتاريخي ليس وليد (الدماغ) إلا لأن الأصابع دمجت
الرقص، والعبث، واللعب، بالآخر الذي غدا إمبراطورا ً (مركزا ً) أسير مكوناته. فهي
وحدها لا تؤدي دور الجسور/ المعابر/ نحو الرأس، بل ستمنح الرأس مغادرته حدوده نحو
العالم/ ونحو الكون.
لا
اخفي ان ريلكه، الشاعر الألماني ـ بترجمة فؤاد رفقة ـ سمح لي ان أعيد التجربة. لقد شغلته أصابعه، حتى
ظن أنها كائنا ً غريبا ً، لمخلوق آخر، وقد لصقت بجسده للأسباب ذاتها التي جعلت من
وجوده: لغزا ً.
تلك
الأصابع التي سبقت العقل، بعملها غير التخصصي، لم تكن تلهو! فبعد ان انفصلت عن
النوع، أدركت أنها غير قادرة إلا على ان تتمثل لغز الكون، النمل لم يشّيد اعقد
الأشكال وأكثرها ملائمة لحياته فحسب، بل أرسى قانون التكرار، فقصور النحل لم
تتغير، لا في الغابات ولا في الجبال ولا في المدن، ولا في الحقوا التجريبية. أصابع
البشر، بعد التخصص، منحت معمارها امتيازا أكثر ملائمة لقدرته على التكيف من ناحية،
وقدرتها في الانفصال عن تحويل الواجب إلى حرية.
ولا
اخفي ـ عندما أعيد تأمل أصابعي تلهو بالحجر، والماء، وشقوق الطين ت تذكر طفولة
برمجتها تلك الأصابع، قبل ان تكون بإمرة العقل! فكانت أصابعي تبصر أكثر مما كانت
تشم، وتلامس، وتنشغل بالأسئلة. لهذا كنت احلم ان أكرس حياتي للفيزياء ـ باشتغالي
في تأمل ومضات المجرات والنجوم ـ وكنت ارغب ان أكون جراحا ً، بعد ان تجاسرت وشرحت
جثة ديك مات، اضطرني ان أتتبع شريانيه وصولا ً إلى القلب: لقد لدغته عقربا ً،
وسببت موته، بتخثر الدم! لاكتشف احد أكثر
خواص شخصيتي: تجنب العنف. ولكي ادحض اعترافي، فان أصابعي كانت تأخذني نحو المجهول.
فالرغبة في النحت وجدتها عندما أمسكت أصابعي بالمطرقة (الأزميل) فلم امنعها، مثلما
انشغلت بلذة الصيد! لا انوي الحديث عن طبيعة بشرية مشتركة، لكنني كنت اكتشف ان
أصابعي لم توجد للرقص، بل للاشتباك! فهل حقا ًلم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط !
هذه الرهافة في المحاكمة، حفرت في ّ ذعرا ً مكتوما ً في لحظة مشاهدة جسد قطع ووضع
في كيس. كان قتلا ً بدافع غسل العار، لفتاة
جرجرتها رغبتها فدفعت الثمن، كي لا تضطر للقبول بشقاء ما تبقى من العمر.
الأصابع مزقتها، أصابع الأهل، لكن أصابع شريكها لم تفكر بالخاتمة، فأصابعه اشتغلت
بالعناق!
ربما
ـ هنا ـ اكتشف عبد الباسط النقاش ـ خلال تسعينيات القرن الماضي ـ سر انشغالي
بالنحت، كي ادفن عويلي في الخامات، بدل
إثارة الانتباه.
ها
أنا أراقب أصابعي العاجزة، الواهنة، الحزينة، ولكنها مازالت صلبة، ورقيقة، بل
وأليفة. إنها عقدت معي صداقة سمحت لي بإدامتها، في العمل. لكن ليس كما يفعل النمل،
بل وكأنها تقودني إلى الذروة: اللا عمل. فالعمل غدا مميزا ً لا لبناء مصيره، بل
لترك البرمجة تأخذ انشغالها بما هو ابعد من ماضيه ت وابعد من حاضره.
وها
أنا أدرك ـ بالوعي ـ أنها شاهدة علي ّ: فانا اعرف إنها تعمل عمل العين،لكنها لا
تبصر السطوح، ولا الحركات، بل تذهب نحو المخفيات، والنوايا، والمجهول الذي سكن
القلب ـ والرأس. فهي شاهدة ـ لكنها ضحية
أيضا ً ـ على سلاسل من الأعمال مضادة للحياة في المدفن. فأصابعي عبر سلاسة ونشوة
تمثل عالمها الجنيني وتعبر: عن انشغالات يمكن عزلها عن البرمجة. فإذا كان دور
الأصابع صريحا ً في الحروب، والقتل، فإنها اشد وضوحا ً في أداء دور الصياد، لا في
اقتناص الضحية، بل السكن فيها. فهل الموت وحده يخفي نفيه، كما تختفي النار في
قطرات حليب الأم ـ أو مذاق جسد الحبيبة ؟ الأصابع تشهد، من غير ضوء أو إنارة،
أصابعي تحديدا ً، عن المشهد المزدوج للفناء ونقيضه. ولكنها ستجد حرية مماثلة في
صياغة العقل ذاته عبر الخامات. إن الأصابع تلبي نداء الكون، عبر لغز عمل القلب،
وباقي المتوهجات. لكنني اكتشف ان الأصابع لا تعمل بدافع الإثم، أو البراءة: إنها ـ
كامتداد ترتد إلى مركزها: خلايا بعدد نجوم المجرة! لا حرية لديها إلا ان تبقى غير
قادرة على الاستسلام!
[4] اللغز ـ ممتدا ً
ما
المسافة بين النافع والجميل، وما المسافة بين التخبط وبين من يمتلك نظاما ً له
غايات، وما المسافة بين اللا متوقع ـ والمشروط بعوامل وجوده ـ وبين ألقسري،
والحتمي، والمحدق في المجهول..؟ بالأحرى، كيف حدثت البرمجة من غير غاية ابعد من
وسائلها، اندماج المقدمات بالنهايات من غير انغلاق أوان تصبح خارج الحافات، كما
يراها المحدود، من المجرة إلى الأرض، والى أدق خلايا الإنسان؟ اللغة تقول ـ كما
قال بوذا الحكيم ـ أنا لم اخلق للانشغال
بهذه الأسئلة! وفي حدود معرفتي فاللغة لا تذهب ابعد من نظامها في الاتصال، والرموز،
وان محاولات التأويل ما هي إلا جزء من طاقتها، فهي غير منفصلة عن لا ماضيها الذي
كّون حضورها. بمعنى لا معنى للانشغال بأسئلة لا تبدو اللغة ـ مثل
وسائل الاتصال كافة ـ إلا انشغالا ً لا
يقود إلى الحقيقة. لكن كلمة أو مفهوم أو معنى (الحقيقة) لا يخصها إلا بحدود ما في
الكلمة من حروف، واليات عمل، وضوابط لن تعزل عن الوعي ـ والدماغ ـ أو ما يكمن في
لغز الإنسان نفسه!
ما
الفن اذا ً...ان لم يكن مستحدثا ً بشروط الايكولوجيا الكلية بين الصانع، وحضوره ـ
وجوده ـ في الدورة. فالفن لن يمتلك أكثر من هذا المدى: اللا متوقع ضمن كليته. الأمر الذي يجعل التحولات/ المتغيرات/
والقوانين غير القابلة للتكرار إلا في صياغة نظامها الضامن لغايتها، والمقيد لا
بالمصادفة، بل بنظامها حد ان المصادفة
ليست إلا احد شروط نظامها هذا.
فكما المرئيات ـ وقد أصبحنا جزءا من بنيتها ولغزها ـ ليست إلا احد ظواهر لا مرئياتها، فان اللامرئي
ما هو الا الحاضر الدائم الغياب في حضوره.
ألا
يبدو تعريف (الفن) ـ كتعريف اللغة ـ متصلا ً/ ومنفصلا ً، عن ذلك الذي تقع حدوده
خارج العقل، وخارج التصوّر، أي خارج عمل هذه الوسائط، والوسائل، والتصدعات،
والأقنعة، التي من ضمنها اللغة ـ ومن ضمنها الفن تحديدا ً..؟
على ان هدم التكرار، وان كان شاملا ً، إلا ان
شيئا ً ما سيحدث تحت قوة الغواية: عمل الإرادة بما تمتلكه. فانا أتنفس، وأتغذى،
وأتناسل، لأنني ان لم افعل فسأكون خضعت لنظام آخر، كالفارق بين نظام جسدي ميتا ً
أو وجوده قبل الموت. لكن ما المسافة بين انجازات لم أنجزها، وأخرى تحمل هويتي:
شخصيتي، ضمن ترليونات الأنواع من الفيروسات إلى عادل كامل! لكن ما معنى ان تكون لي علامة ـ مشفرة ـ وما معنى ما أنتجه من أشكال وأفعال
ومواقف وعلامات؟
ان
إرجاعنا لكل نص ـ لا فني ـ إلى صانعه، سمح لنا بالاقتراب من تلك الصناعات غير العامة،
الصناعات التي يقوم بها عدد محدد تتوفر لديه مهارات محددة أيضا ً، مما يجعل الفارق
واضحا ً بين صناعة الطيور لأعشاشها، وبين رسومات رسمها الإنسان الحديث عن رسومات
الرسام الفرعوني أو إنسان المغارات. فالبصمات تعلن عن حدودها: وحدة الغاية
بوسائلها. فالختم ـ وكل نص مماثل ـ دال ـ
وشاهد ـ على صانعه، قبل ان يتحدث عن غايته، ووسائله. لكن هل هناك نملة تشبه نملة
أخرى، وهل هناك سمكة يمكن ان تشبه سمكة أخرى في ما لا يحصى من النوع نفسه، وهل
هناك ورقة في شجرة التوت تتميز عن الأوراق في الشجرة ذاتها ...؟يأتي الجواب: ثمة
اختلاف صريح لا يسمح بوجود التماثل أو التطابق! وفي السياق نفسه فالمثلث الذي وضع
في رأس الرمح، للصيد، الشبيه برؤوس الأوراق المدببة، والحادة، ولكن لا التماثل
يبقى عاما ً، في التعريف، ولا الخصائص الفردية في فرديتها.
ها أنا
لا أبدو كنملة، بين ترليونات النمل، كي يأتي عملي منسجما ً مع نوعي ـ كنملة أو
كانسان ـ وليس مستحدثا ً إلا في حدود الإضافات المتكونة بشروط حضورها في هذا
الوجود. مرة أخرى يبقى الغائب ـ والمتخفي ـ حاضرا ً عبر هذا الذي لا امتلك إلا أن
أكون حاضره الغائب!
فانا لا اصنع فنا ً! أنا أتنفس، وأتغذى، والنظام الرمزي وحده سيشكل حدا ً
فاصلا ً بين الوظائف. فانا أتكلم بنظام الانتقال من عشوائية الأصوات إلى عملها
البنائي، كي اشتغل بالكتابة، ووفق أنظمتها، وثوابتها، ومتغيراتها في حدود هذه
الأنظمة. فالفن ـ هنا ـ ليس مرآة ـ ولا ايكولوجيا سلبية ـ ولا وظيفة كالتنفس، والتغذي،
والتناسل، بل عملا ً للحفاظ على ما لا استطيع تحديد غائيته، ولا أهدافه. فهو أداء منظم لصراع لا خسائر فيه ولا مكاسب
إلا بحدود استحالة أن امتنع عن التنفس. فالمستحدث محكوم بالشروط التي صاغت للتنفس
نظامه، كما صاغت العوامل الاجتماعية أدوات اللغة، وأدوات صنع أسلحة القتل، وفنون
العنف، وباقي مظاهر الرهافة ـ والمؤانسات!
[5]الختم ـ الدافع ديناميا ً
ما أن يكون الختم قد بلغ
نهايته، حتى أكون قد انفصلت عنه، ويكون قد غادرني! هل هذه مشاعر أكيدة، أم لأن
الأختام، كالشاخص، تنتظر من يعيد إليها حياتها؟
لكنني أدرك أنها أصبحت ترسم لي حدودي، تطوقني، لا حماية لي، بل كي أكون
شريكا ً معها في الذروة! لكنني ـ في الوقت نفسه ـ
لا امتلك قدرة التحرر من منفانا المشترك: العمل لأسباب لا تمتلك إلا مبررات
اللا عمل! فمادامت المصائر تمضي، كما ولدت، بما تمتلك من دينامية، أكون مضطرا ً
لاستكمال خاتمة أجد مقدماتها بدأت توا ً... تجرجرني إليها. فاستعين ببصري في المراقبة، كي تكف الكلمات عن
الوساطة، فها أنا ارقب ذرات الغبار، وحبيبات الزمن، وأصوات نائية شبيهة بضربات قلب
لا تعمل بإرادته، اجمعها، بالأحرى هي التي تمسك في ّ، لصياغة هذه الوحدة: غواية
تبلغ استحالة البحث لها عن علل، أو مبررات!
[6] ما بعد الربح/ ما قبل الخسران
ليس ما أراه، من سطوح ومجسمات
وأبعاد إضافية، كالزمن وما يجري داخل خلايا الدماغ، إلا مسافة ـ ابتعد ـ واقترب ـ
فيها من الدافع نحو العمل. أنا لا أؤدي دورا ً أمام المتلقي، ولست حارسا ً شخصيا ً
لأحد، أو مستأجرا ً، أو أقوم بدور القابلة، أو المعالج، أو التابع ...الخ أنا ـ
بما امتلكه من حياة ـ اخترت خسارتي فيها بروح من كسبها! أنا أحدق في ومضات تأتيني
بعد أن تكون قد انفصلت عن أسبابها، إنها مجموعات
أو ذرات أو إيماءات لمغيبات، ولمندثرات، تبلغ درجة الموازنة بين يقين الواقع ومداه
في الامتداد، حلم مائل يعيد تركيب الأصول، والمصادر، ليكف (الفاعل) ان يندرج في
الوظائف، وسلم الترقيات. فانا أحدق في ما يشبه البذور التي تأبى ان تكون فائضة.
بذور في ّ أو نائية عني، لا فرق، إنما الجسر بينهما هو الآخر لا يؤدي الدور نفسه:
كيف أفكر في قضية ما لا وجود لها، كوجود العدم، لو لم يكن اللامرئي ذاته قد اخذ
موقعه في الدورة. إنها ليست فلسفة، في عصر موتها، وفي عصر موت الإنسان وقد غدا
شاخصا ًن لا لعمل مشفرات البذرة فحسب، بل
السياق برمته أدى إلى هذه الخاتمة: هذا الابتداء. فالسلسة مترابطة ومن الصعب معرفة
حد من غير آخر يكمله أو تنفيه.
هذه الومضات، وقد تحولت إلى
ذرات لها سطوح، وأبعاد، ومنحنيات، بما تخفيه من عمل الانجرار إلى داخلها حد الصفر،
تجعلني أرى الحقيقة بصفتها ـ كانت ـ ذات وجود، وليس بصفتها تتكون توا ً، كصانع
لها. لكن هذا الذي يمتد مني إلى الختم، يغيب فيه، كي يأخذ غيابه حضورا ً آخر. حضور
الفن في عصر موته، أو انقطاعه عن الفاعل. فالمضي وحده يمتلك دينامية الغواية في
تحوله إلى امتداد: هذا الذي لا حضور له الا بغيابه، وما يخص من الأسباب التي
جعلتني لا امتلك إلا شرودا ً وأنا افقد تماما ً إلا ضراعة التشبث! (وسأعود إلى
مواقف يتوازن فيها المعنى عن لا معناه بحضور هذا الغائب وهو يتحكم بما فقدت
السيطرة عليه) هل لي وجود سيتم استرجاعه، كما افعل مع عناصر الكون ...أم ان وعيي
برمته ليس إلا بذور لها عملها خارج حدود
هذا الوعي، وان كلماتي، لا تمثل إلا جزءا ً من المعادلة؟
ها أنا لا امسك إلا بما أراه
غدا مندثرا ً. لكن كيف يحدث ان أجد أصابعي تغويني بأداء الأدوار التي طالما أربكت
(صدقي) مع ذاتي، في الفهم، وفي الإدراك؟
أجد أنني أتحمل مسؤوليتي مع هذه البذور، ومع موتها، ومع الآخر الذي اجهل من
يكون وماذا يريد بعد ان بلغ الوعي لدي ّ درجة دحضه؟
هل تراني لا امتلك، في الأصل،
وفي خاتمة السعي وفي ذروة الاستنتاج، إلا الاعتراف بان ما حدث ـ لم ْ يحدث ـ
إلا وكأنه سيحدث بقوة ما لم استطع إلا ان
أنفذها؟
يا للحرية، وقد قلبت، كي تؤدي دور
السجّان، لكن حريتي تسمح لي ان أرى سجاني مكبلا ً ـ هو الآخر ـ بقيود وجودي مندثرا ً، أو قيد المحو، من
ناحية، وبقيود نشترك فيها، خارج جدراننا، من ناحية ثانية. فأي سلوى بلغة المرارة،
هذه الحرية، إلا ان تثمر زوالها بهذا العناد!
- تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن
نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.