الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

قصة قصيرة الثعلب في المغارة- عادل كامل

قصة قصيرة

الثعلب في المغارة











"
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير الأشياء التي تتحدث عنها."
عبد الله القصيمي


عادل كامل
ـ أنا لا أتحدث عن اختلافات بيني وبينك!
   وشرد ذهنه، للحظات، متابعا ً:
ـ بل بيني وبيني...، فانا لست أنا الذي تعرفه! حتى إنني لم اعد اعرف من أكون...، بل وحتى لا أريد ان امتلك تصوّرا ً لأكون عليه.
    توارى الثعلب في المغارة، وقد أغلق بابها، بعد ان طلب من مساعديه، وحرسه الخاص، محو كل اثر دال عليها.
  كانت المغارة مستطيلة، مثل قفص، مظلمة، وباردة، وقد وجد لذّة بسبب نعومة التراب، ممتزجة بالصمت.
ـ فأنا لا أشبه نفسي...
    فلم تكن ثمة مرآة، أو ضوء، أو صدى:
ـ اخبرني ـ أيها التراب ـ من أكون...؟
بشرود سمع من يقول له:
ـ أنت هو أنت!
أجاب ساخرا ً:
ـ اعرف أنا هو أنا، مثلما اعرف: أنا لست ـ هو ـ أنا...، فهل تغويني بلعبة لا يسترها قناع...؟
ـ آ ....، أصبحت تفكر، أيها الثعلب، يا سعادة المدير، بعد سنوات طويلة أمضيتها تصول وتجول...، تأمر وتنهي، تعاقب وتعفو، تنذر...و ..
ـ أفكر؟
   ودار بخلده انه ربما يكون قد هرم، أو جنّ، أو أصيب بالداء الذي لم يسلم منه احد، لا النمل ولا الحشرات، لا الفئران ولا القرود، لا الحجر ولا الشجر!
ـ أو بالأحرى لا معنى لوجودي من غير وجودهم!
سمع صداه، فأجاب:
ـ لكن ما الذي جنيته منهم، وما الذي حصلت عليه، سوى الشقاء، والأذى، والألم؟
ـ ها، ها، من أشقى من، ومن أذى من...؟
   راح يحدق في العتمة، ويحفر فيها:
ـ ماذا غير ذلك، فانا أيضا ً كنت أدافع عن وجودي.
ـ ولكنهم كانوا يستغيثون، ويطلبون الرحمة، فلم تترك ظلما ً لم توزعه بعدل عليهم، تارة، ولم تترك عدلا ً لم تسلبه منهم تارة أخرى. كانوا يمكرون فكنت تفرط بمكرك حتى أصبح أعظمهم مكرا ً.
أفاق:
ـ هنا، في هذه المغارة، أنا ـ هو ـ من طلب هذه المحاكمة!
   لم يجد ردا ً. ولا صدى. فراح يتلمس التراب بأصابع مرتجفة، كان باردا ً، ومازال ناعما ً، تاركا ً رأسه ينحني إلى الأسفل، بعد ان فقد قواه:
   وسأل نفسه بشرود:
ـ والآن ماذا افعل لو خرجت...؟ هل ساجد الصراصير تحولت إلى بلابل، أو الضباع غيرت طبائعها، أو الذئاب تخلت عن أنيابها، أو الصقور تنازلت عن مخالبها، أو العقارب تحولت إلى حمامات..، وأنا فشلت في ترويض ثور هائج، أو إخماد غضب خنزير..؟
ـ لم يعد لوجودك، معنا، معنى...، يا سيدي!
ـ سيدك؟ وقد أصبحت بلا حول ولا قوة، فمن أنت...؟
   لم يسمع ردا ً.
ـ فانا هو السبب إذا ً...؟ بالأحرى السبب هو أنا. فانا لست السبب حسب، لأن الأسباب هي التي صنعتني، وكانت سابقة لوجودي، حتى ان الجميع قالوا لي: لا تنظر إلى الخلف!
   شم رائحة الببغاء ـ مستشارته ـ فرفع رأسه:
ـ أنا لم اطلب منك الحضور.
ـ هذا هو عطري...، كم مرة تغزلت به، وقلت لي: طالما أسكرني!
ـ اعرف...، ولكني طلبت منهم ان أدفن كما يُدفن الموتى...، فلماذا هذا العطر؟
ـ هذا هو جزاء أعمالك، سيدي.
   ارتج جسده: من يهزأ بي، حتى إني لا امتلك إلا ان أرى الظلمات، وقد طوقتني من الجهات كلها.
   وسأل نفسه:
ـ الم ْ اطلب منهم حرقي، وذر رمادي فوق أجنحة الحديقة وزرائبها..؟
ـ لا ...، كنت تخاف من النار، وتخاف من الريح، وتخاف من الماء.
قال مذعورا ً:
ـ  حتى ان خزائني امتلأت بالخوف....، فصرت أخاف منها. أخاف من المجد، وأخاف من السلطة، وأخاف من النعيم، وأخاف من الخلود..، وأخيرا ً أصبحت أخاف من الخوف! فالأسد قال لي: يا سيدي، عندما أشيخ تبول الفئران علي ّ...، والفيل قال ان النمل سيلهو به عند الهرم. أما أنا فقلت: لا تدع أحدا ً يراك والحشرات تلهو بجسدك، والذباب يطن فوق رأسك.
   أغلق فمه، لبرهة، مصغيا ً لذبذبات كانت تأتيه عبر ذرات التراب:
ـ على من ينقلبون ...، وأنا بنفسي تخليت عن نفسي! أنا كرهتها، ليس من شدة إعجابي بها، بل بغضا ً لها.
سمع من يهمس في آذنه:
ـ لعبادتك لها، حتى صارت وثنك،  تجهل ان كانت هي أنت، أم أنت صرت خالدا ً، أيها الدكتاتور الطاغية!
فسأل نفسه بخوف:
ـ أكنت طاغية، أكنت دكتاتورا ً...؟
  لم يجد ردا ً، ولا صدى:
ـ إذا كان الكل على صواب، إذا ً  فالكل على وهم!
   ودار بخلده: لا معنى للتراجع، فانا اخترت ان اذهب إلى الموت بنفسي.
ورفع صوته:
ـ الم ْ اطلب منك ذلك؟
قال الموت:
ـ لا!
ـ ماذا قلت، أتنكر، أم تناور، أم تتسلى بمصيري؟
ـ ما ـ هو ـ برهانك انك تخليت عن السلطة، وعن المجد؟
ـ الم ْ اطلب من حرسي الخاص، وفرقي السرية، والتنظيم اللامرئي، صناعة هذه المغارة، هذا المدفن،  في هذا الموقع المجهول...، الم ْ اطلب منهم ان لا يعلنوا ذلك...، لأحد، وان أتوارى، بهدوء، بشفافية، والى الأبد؟
ـ من ْ من تسخر، وأنا اعرف ان الذي يتكلم فيك، ليس هو أنت، الذي تتخيل انك تصغي إليه...، لأنك مهما عملت لن تحصل على الذي ليس هو لك !
ـ طلبت الموت؟
ـ لأنك لم تطلب إلا ذاتك!
ـ وهل باستطاعتي ان أتخلى عنها، كي أكون الذي ابحث عنه...؟
ـ وهل بحثت حقا ً عن الذي لم تجده...، أم انك وجدت الذي عملت كي لا تفقده...؟
ـ ها أنا ..، لا اطلب إلا الموت.
ـ لن تجده.
ـ ها أنا حصلت عليه!
ـ لكنك لم تمت بعد، وإن كنت بعداد الموت، بل بعداد من لم يولد بعد!
ـ اخبرني ...، الم تكن الحياة هي أعلى درجات الموت، وإن الموت هو ذروتها؟ الم اقل ذات مرة ان الصمت هو أعلى درجات العويل، وان العبودية ما هي إلا ذروة الانعتاق، والحرية؟
ـ ها...، كأنك لا تريد ان تخسر هزائمك أيها الثعلب العنيد؟
ـ سأسألك، ببساطة، ماذا تريد مني؟
    لم يجد صدى أو ردا ً.
ـ حتى الموت الذي هربت منه، حتى الموت الذي ذهبت بنفسي إليه...، حتى هذا الموت له طبائعنا، وصار مناورا ً، وماكرا ً، كهذا الشعب!
  عاد يسمع:
ـ انهض.
ـ لا اقدر ان افعل.
ـ فانا سأدلك على الدرب، ألا ترغب أن تذهب إلى الفردوس؟
ـ لا! من قال لك أني كنت ابحث عن جزاء لا استحقه، وهل يجزى  مثلي ـ من غير عمل ـ وهو الذي خلق من وحل هذه المستنقعات...؟
ـ لا تجدف...، ألا تخاف...، فكل كلمة ستشهد عليك، وكل فاصل صمت ما هو إلا وزر، أم ترغب ان اخرج إلى الحديقة...، واطلب من شعبك ان يراك، ويرى ما أنت عليه؟
ـ لا، لا، افعل كل ما ترغب ان تفعله، عدا ان يراني شعبي وأنا في المغارة!
   ماذا قلت؟ دار بخلده، انه ـ ربما ـ فقد المنطق، وغدا يرى نهايته سابقة على يوم ولدته أمه في البرية، في يوم بارد، وتركته وحيدا ً في الدغل! لحظتها رأى الشمس ترسل أشعتها ممتزجة بالغبار، فسمع دويا ً، وضجيجا ً، واستنشق دخانا ً، حتى كاد يختنق، فحملته أمه إلى المغارة، وكانت ضيقة، لا تتسع إلا له، بعد ان لاذ الجميع بالبحث عن ارض آمنة.
أفاق:
ـ ثم وجدت جسدي داخل قفص، فماذا افعل...، سألت نفسي، فأجابت: كن مثل أسلافك. ها ..ها، فذهبت وتدربت عندهم، ليل نهار، حتى انتهت رحلتي...، إلى الحديقة، ثم ها أنا في المغارة. فطلبت الراحة، فاستعصت علي ّ، أبت، تكبرت، تجبرت، كي أذل، ثم جاء الموت ليقودني إلى المكان الذي هربت منه.
   هامسا ً راح يخاطب التراب:
ـ ماذا لو أطعت الموت...، وذهبت معه، فقد لا أموت؟
ـ ها، ها، ها أنت، أيها القائد، استعدت رشدك، وعرفت من هو أنت!
ـ ومن أنا...؟
ـ من غير جهد، ومن غير كد، ومن غير شقاء، ومن غير عمل.....، فمن تكون؟
ـ لا تسكت...، بح لي بالسر.
ـ وأبوح لك بالسر من غير ان انتزعه منك!
ـ وماذا يبقى لدي ّ...؟
ـ مجدك الذي حصلت عليه.
ـ لكني تخليت عنه.
ـ تقصد ...، هو الذي تخلى عنك؟
ـ لا فارق....، كبير بينهما، إن تخلى عني أو تخليت عنه، فانا أصبحت مديرا ً أوحدا ً، وزعيما ً...
ـ للسيرك؟
ـ نعم...، فقد حولت الأسد إلى لاعب امهر على الحبال، النمر صار يرقص كالنعامة، الدب يلعب كما تلعب القرود، وأنا هو من أنهى عصر الفتنة، وأوقف سفك الدماء، وأنا هو من اصدر قرارات المصاهرة، والمؤانسة، والمصالحة، فاستحدثت النوع التاسع، بعد تعديل المراحل السابقة، وإعادة برمجتها، برؤية كلية الاتساع، والمرونة، فصار الحمل يتنزه مع ابن أوى، والغزلان ترعى مع الذئاب، وصارت العصافير تمشي مع الفيلة، والضفادع، والماعز، والجاموس...، أشقاء بالدم، والأصل، والاستحداث...، الم ْ الغ ْ أجهزة التنصت، والمراقبة، ورفت الحواجز والأسوار، ومحوت سلطة المراقب فوق المراقبين، وحرمت التنابذ بالألقاب، والإشارات، فالجنس التاسع يستمد نشوته ولغزه من الفضاءات الكونية، لا يموت ولا يولد، ونقيت المدونات من الشوائب، ومن الأوساخ، وطهرت الحدائق من القاذورات، والعلل، والمجاعات، والخوف، هل تغفل إنني أنا هو من غسل الأسفار من الأصوات، وصارت الأقفاص فائضة، فتم هدمها، بعد ان صهرنا كل عتيق، فاعلنا العيد السرمدي الذي لا يعقبه هلاك، وحرمّنا آثام البغضاء...، الم ْ اجتث الكراهية، وأنظف جينات فقدان الهوية من أوحالها، والهرم من قاعدته، وسمحت للخلايا ان تقاوم ترهلها، وبلادتها، وقلت: من يظلم من...، بعد ان عانقت البحار الصحارى، والسماء بنجومها الأرض، وصار الليل يتجول طليقا ً مع النهار، والجور مع العدل، وصارت الظلمات دليلا ً للعميان في عرس الأنوار، والمباهج...
قال الموت بثقة:
ـ الآن بات من المستحيل ان أدلك على المكان الذي لا منفذ للخروج منه!
ـ آ ....، أنا أيضا ًطالما طربت للمحنة...؛ فتارة تبدو بلا حدود، وتارة تنغلق علينا، كما تفعل الرحمة بنا وهي تمد بعمرنا لنرى كم الظلمات شفافة، وكم الجور جميل!
ـ أصبحت تتحدث كأنك مازلت مديرا ً..؟
   ترك رأسه يتمرغ في وحل المغارة، فالجدران اتسعت، مستنشقا ً رائحة عطنة، رائحة جثث متفسخة، فدار رأسه، وفشل في رفعه، فتركه يغوص، ويغوص، ويغوص.
ـ كفى ...، كفى، فإذا كان قصدك ان تعاقبني..، فلا احد غيري المعاقب...، وهذا لا يليق بك ان تفعله، فانا عندما كنت أعاقب، كنت أنفذ العدالة، ولكن إذا كنت تريد لمعاقبتك لي ان يكون لها معنى...، فلا تدع أحدا ً يرى ما تفعله بي...، لأنها بلا أسباب، ولا مغزى لنتائجها! والآن بدأ الهواء يشح، وينفد، فلا غاية من معاقبتك لي إلا ان تشبع نزعتك بالارتواء من السراب! فمن أنا ـ يا سيدي ـ كي تذلني، ولا تشبع من إذلالي؟  أم ان لغز اللعبة يكمل حلقاتها كي تمتد...، كي تسأل الفريسة مفترسها: ماذا فعلت؟ فيقول الصياد: اذهبي وابحثي عن الذي أمرني...؟
   حدق في الظلام، فراى ما لا يحصى من الذرات مضاءة تحيط به من الجهات كافة: الجهات التي حكمها:
ـ كأنني ولدت ...، في هذه المغارة، في هذه الحديقة، توا ً! كي أشقى واشقي، أذل وأذل، أعاقب وأعاقب، وفي الأخير لا انتظر إلا من يحملني إلى العدم!
وأضاف يخاطب لا احد، بعد ان بدأ بالغياب:  
ـ  لم اعد اسمع صوتي..، ولا صوتي له رنين داخل رأسي، وراسي تحول إلى ومضات، ذرات، والى أجزاء متناثرة، فإذا لم أمت ـ الآن ـ  بهدوء، فلتذهب الحديقة، ومن فيها، إلى الجحيم.
4/12/2015

ليست هناك تعليقات: