مسرح
سدهارتا والسؤال الفلسفي، مسرحية نارفانا لحكيم حرب.
مؤيد داود البصام
بقى السؤال الأبدي الذي بحث عنه الإنسان، ( أين تكمن سعادته ؟(، وشغل كافة الأنساق في الفنون والآداب والعلوم وفي كل المجالات التي أتيحت له فيها البحث والتقصي للوصول إلى الجواب لقرون عديدة، وظلت الإجابة التي لم يحصل عليها، تحمل تأريخ نضال الإنسان فكرياً وعمليا، فالرجل يبحث عن سعادته في المرأة والمرأة تبحث عن سعادتها في الرجل، العلماء يبحثون عن سعادة الإنسان في إخضاع الطبيعة لإرادتهم ، وبعضهم يرى سعادته في إخضاع ذاته وشهواته للعقل.. وهلم جرا... ولكن كل هذه الأنساق مهما تباعدت واختلفت فإنها تصب في منبع واحد، هو أين تكمن سعادة الإنسان ؟، حاولت الفلسفة أن تجيب عن هذا السؤال عبر عشرات الأسئلة التي انبثقت من السؤال الأول من دون أن تحظى بالإجابة، ورواية الكاتب الألماني هرمان هسه، ( سدهارتا ) واحد من هذه التساؤلات التي طرحها الفلاسفة والمفكرون على مدى قرون، أين تكمن سعادة الإنسان ؟ هذا السؤال وأسئلة أخرى، حملتها رواية ( سدهارتا..) ببعدها الفلسفي وبكل أبعاد الرؤية الفلسفية التي طرحتها، وقد جاء اطلاع كاتبها هرمان هسه على الفلسفة الهندية ومعايشته لروح الفلسفة الهندية عن قرب، وهضمه للحراك الفلسفي في عصره، كونه محسوبا على اليسار الأوروبي المعارض للفاشية والنازية، وذا رؤية وجودية للعلاقة بين الإنسان وذاته، حيث كان وقتها الجدل محتدماً بين فلسفة هيجل التي غزت أوروبا، وبين ظهور نقد المتأثرين بها، مما سمي باليسار الأوروبي، ففي الوقت الذي بنى هيجل فلسفته على أطروحات عقلية صرفة للوجود، كان كيركغارد ينطلق في معارضته من مقولته التي مثلت بداية الفكر الوجودي، الذي سوف يتأثر به الكثيرون ابتداء من مارسيل وسارتر وكامي وآخرون التي يقول فيها، ( الإنسان يختار وجوده، الحقيقة هي موضوع شخصي يعتمد على وجوده الشخصي)، وهو ما تناقشه رواية سدهارتا سردياً، وتناقش هذا الموقف الذي يعبر عنه سورين كيركارد بالقول، ( عندما تفقد كل الأشياء تكون في قمة المأساة، في هذه الحالة تكون مستعداً للإيمان بالله) ،وكيركارد هنا يتفق مع الفكر والفلسفة البوذية والصوفية، وهو ما حاول هرمان هسه أن ينقله عبر بطله سدهارتا، ولكن يأتي التساؤل، كيف أستطاع مؤلف غربي أن يتماها وينجز تواصلا روحيا متوازيا مع الإعجاب بسحر الشرق، ويتحدث بروحيته، كما حدث مع الروائي الفرنسي اندريه جيد والشاعر الروسي بوشكين، والشاعر الألماني غوته الذي أعطى هرمان هسه دفعة معرفية للغوص في فلسفة الشرق وآخرون ظهروا متأثرين بروح الشرق في الغرب، ولكن تماهي هرمان فيه هذه الروح الشرقية في تساميها وبعدها عن المادي، ومن تتبع حياة هرمان يدلنا (إذا قلنا مجازاً ) على نوع التطابق الروحي بين حياة هرمان هسه، التي ابتدأها منذ بواكيرها بالاستقلال عن العائلة، عندما ترك البيت وبدأ حياته بالعمل بوظائف متعددة، واتخاذه البعد النقدي في رؤيته الفلسفية للواقع، مما أثرت على طبيعة تفكيره تجاه الكون والحياة والواقع، وفي دراسة نشرت في جريدة الدستور الأردنية للناقد الصديق ذو الاتجاهات الفلسفية مجدي ممدوح، يتساءل فيها حول عدم نقد أدوارد سعيد لهرمان هسه من خلال الآليات التي فكك بها ادوارد الخطاب الامبريالي، إذ يكتب، (هل كان هسه بارعا في تقمصه الروح الشرقية حد التوحد؟ هل كان مخاتلا للحد الذي صرف أنظار سعيد عنه؟ يبدو الأمر كذلك.)، (20 كانون الأول 2011). تبدو قناعة مجدي ممدوح في تقمص هرمان هسه بروح الشرق متوافقة مع من يطالع رواية سدهارتا، ويطلع على أعمال هرمان الروائية، ( ذئب البوادي ولعبة الكرات الزجاجية ) يشعر بهذا النفس الشرقي الذي يتلبس هرمان هسه والروح الصوفية التي تستحوذ عليه، وهذا يذكرني في بداية السبعينيات من القرن الماضي، في تطابق الرؤية، إذ أهداني صديقي الفنان والموسيقي الرائع عبد الحميد حمام مجموعة من أعمال هرمان هسه الروائية، (وما زلت أحتفظ بها في مكتبتي)، كتب في الصفحة الأولى لرواية ذئب البوادي، (وجدتك في ثناياها وأحببت أن تكون عندك.) وهو ما يؤكد انطباع الناقد مجدي ممدوح أنه تقمص روح الشرق، ولم يعانقه اطلاعا ً من فوق.
النص والإعداد لرواية سدهارتا..
إذا ما نظرنا إلى الإعداد الأولي لمسرحة رواية (سدهارتا) كما أعدها المخرج حكيم حرب باسم (نيرفانا)، والتي قام بالتغيير والتحوير عملياً وليس سردياً، في كل مرة عرضت على خشبة المسرح، فقد رأيتها أكثر من مرة وفي كل عرض أجد شيئا ً جديدا ً، من خلال نظرة حكيم حرب التجريبية، واتخاذه الأسلوب التعبيري في الإعداد والإخراج، لأننا لو حللنا رواية هرمان هسه فسنجدها تقترب من التعبيرية وتتماها معها، وهذا يؤشر لنا أن حكيم حرب حاول أن يجعل النص يتوافق مع رؤيته الفلسفية في الحياة، مكونا ً نصا ً يستقي من الأصل ويضيف رؤيته الخاصة، بإنتاج نصا ً مسرحيا ً، يحمل الدلالات والرموز التي أرادها هرمان هسه في روايته، وأضاف عليها حكيم شيئا ًمما يتذوقه كشرقي ليدعم النص بما يريد أن يجعله رؤية مشتركة، فجاءت أشعار المتصوفة الحلاج والشيرازي وابن الفارض وشعر محمود درويش ذات النفس الوجودي التي أضافها على النص، كونها رؤية صوفية تتوحد مع الفكر الوجودي في النظر إلى الواقع وعالم الشخصية الداخلي، مكملة للطابع الشرقي الذي حكم النص، وقد ساعدت رؤية حكيم للمسرح ضمن مفهوم التجريب أكثر منه للتكريس إلى أبعادها عن الايقونية، من خلال فهمه لما يعنيه المسرح في العصر الحاضر والرؤية الحداثوية في تمثل كل الأنساق دون الوقوف على نسق واحد، فالعالم شئ متجدد لا يمكن اللحاق بما يحدث فيه، ولكن هذا لا يعني أنه خرق الجدار بينه وبين هرمان هسه، فروح هرمان هسه كانت متواجدة في كل العروض، وهذا هو المهم فهو لم يغير وإنما أضاف رؤية معاصرة على رؤية هرمان هسه الشرقية، فقد جعل العرض لوحات متعددة، تكاد أن تكون مستقلة، ولكن يوحدها البطل وهمومه مجسداً جوهر الأشياء دون إظهار خارجها، ليصل في النهاية لتجميع الخطوط، فقد بني العمل على شخصية محورية هي (سدهارتا)، التي تمر بأزمة نفسية وعاطفية، فهو ابن عائلة براهيمية ودرس وتعلم البراهيمية، ولكنه يصل إلى اللحظة التي يجد نفسه مستهلكا ولم يصل إلى شئ، فيتمرد ليبحث عن عالمه في البوذية أو في عالم التصوف على طريقة السامانا، بترك كل الملذات الحسية والعيش بتقشف وزهد، وكذلك يجد أنها لم توصله لما يريد، فيذهب بنفسه للبحث عن وجوده من خلال تجربته الذاتية بمعايشة الواقع والاستمتاع بالملذات الحسية، لكنه يجد أن هذا العالم لم يعطه ما أراد، ليعود إلى النهر من جديد يستقي منه قوة الاندفاع والحركة للتغيير والتبدل، وروح الحياة الدائمة الوجود، وكما ينمي النهر النبات وكل الأحياء فانه يكتشف بابنه الذي خلفه من الراقصة كمالا استمرار للحياة وتدفقها في علاقة الحب بين الأنا والآخر. وهذا هو التمازج بين رؤية هيجل للعالم على أسس ديالكتيكية، في تغير الأشياء حسب وقتها، كما يتغير الإحساس بماء النهر في كل مرة ننزل إليه، مع رؤية كيركارد بعلاقة التواصل بين الإنسان وذاته، وهو ما يؤشر على الرحلة مابين خارج النفس البشرية وداخلها، إن رحلة هرمان هسه في (سدهارتا) رحلة الروح إلى عالم القيم والأخلاق، ومغادرة عالم الغرب التواق إلى المادة فقط. . .
الإخراج والتمثيل...
لم تخرج الرؤية الإخراجية عن روح النص ( الهرماني) وفي كل الإضافات في الحركة والسينوغرافيا، كان هناك تأكيد على إنضاج العرض من دون أن يحدث تغييرا يسقط نصا ً مغايرا ً، فقد حافظ على عملية التواصل الفكرية للغة العرض المسرحي، موجدا حيزا من التواصل بتأكيد أهمية العرض البصري المسرحي، وهذا ما حاول أن يقدمه لنا عبر متابعة والسينوغرافيا في تأثيرها على النص الأدبي، بنقل الحدث إلى داخل قاعة العرض باستخدام جسر ممتد من نهاية قاعة العرض إلى بداية خشبة المسرح، الذي تحرك عليه سدهارتا بالذات للإعلان عن رحلاته أو عودته من رحلاته، محققا تواصل واندماج بين الجمهور وخشبة العرض، إن النزعة التجريبية التي قدمها الإخراج في المزاوجة بين الأساليب والمناهج المتنوعة، فقد دمج المنهج التعبيري الذي صاغ بناء العرض المسرحي عليه، مع الرمزية والتجريدية، وأستطاع أن يقدم لنا الممثل حكيم حرب الذي مثل دور البطل سدهارتا في أطواره المختلفة، بحالته النفسية القلقة والروح المتمردة والمترددة المتسمة بذاك الهدوء والطاعة الذي تضفيه عليه كونه من أتباع البراهيمية ، ليشكل مع ممثل دور كوفيندا صديق سدهارتا وتابعه ( كيمو محمد ) هذا الثنائي الذي أبدع في تقديم عرض شائق للتوافق بين السكون والحركة، بين يقينية كوفيندو وشك سدهارتا، ولعل اختيار المخرج للفنان بكر القباني بصوته ذو النبرات المجسمة، أعطى نكهة تعبيرية في خلق عالم روحي تتجسد فيه روح الشرق ورشاقة حركة الرهبان ونظرة التأمل وسكون حركة الرهبان أمام موقف حاسم عندما يتمرد تلميذ على تعاليم أساتذته، مؤكدا على الحركة الكلاسيكية للجسد، وتأثيرها في مثل هذه المواقف التي تتناقض مع استغلاله لفيزياء الجسد عند كوفيندو وكمالا، وكان لتأثير السينوغرافيا التي اعتمدت على إيجاد علاقة بين التبدلات النفسية والفكرية والألوان في الضوء والموسيقى من قوة دفع لتوضيح المشاهد، وأبدعت الموسيقى التي صاغها الفنان عبد الحليم أبو حلتم في تحريك روحية العمل وجعله متناسق ضمن درجات الاحتدام والسكون، واشتغل على التجريد في الديكور أكثر ما أتاحته الإمكانية لتوضيح العلاقات في العرض المسرحي لربط العناصر ببعضها، خصوصا استخدام قطعة القماش التي أعطت حركتها ما يشبه انسيابية النهر وحركة تموجه، وبالعموم فان جميع الذين اشتركوا لم يألوا جهدا في تقديم أفضل ما عندهم، محمود عوض والطفل قيس حكيم، وهو ما نجده في بقية فروع السينوغرفيا لماجد نور الدين وتصميم الأزياء والديكور لهالة شهاب، وفني الصوت خالد الخلايله،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق